من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

عن النقص ، ويشبّهون خالق السموات والأرض بالمخلوقات العاجزة ، دون أن يكون لهم دليل الّا جهلهم بالحقيقة.

ولو سألتهم كيف تتصوروا بأن لله ولدا؟! لأجابوا إذا كيف يدبّر السموات والأرض؟! ولا يعلموا ان تدبير الله ليس كتدبير البشر بالأداة والوسيلة والوسائط ، بل انما أمره أن يقول : «كن» فيكون.

(إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

عاقبة الافتراء :

[٦٩] وإذا عرف البشر ان الكلام من مسئوليته ، وأنه لو قال كلاما من دون دليل خصوصا فيما يرتبط برب العالمين فانه مسئول عنه ، وأنه يسبّب له الشقاء إذا ما بادر بالافتراء على ربه العظيم.

(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)

والسبب ان الكذب على الله يسبب انحرافا عقائديا وسلوكيا كبيرا. يجرّه الى انحرافات لا تحصى ، وتجعل حياته جحيما لا يطاق.

[٧٠] ثم ان الآخرة تنتظرهم بعذاب شديد.

(مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)

ولا يسع البشر أن يقول لم أعرف ، إذ يقال له لماذا اتبعت جهلك وهواك ، ولم تسمع كلام الحق؟! أو لم تبحث عنه بصدق! من هنا نعرف ان الهدى والضلالة من مسئوليات الإنسان ، ولو عرف البشر هذه الحقيقة ، إذا ما ضلّ كثير منهم

٤٢١

بالاسترسال واللامبالاة. والقول بغير الحق ، والقرآن الحكيم في هذا الدرس وفي دروس أخرى يذكّر البشر بهذه الحقيقة لأن ذلك طريق قريب لهداية الإنسان.

٤٢٢

سورة يونس

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣)

____________________

٧١ [كبر ] : عظم وشق.

[غمة ] : الغمة ضيق الأمر يوجب الحزن.

٤٢٣

نوح يتحدى بالرسالة الكافرين

هدى من الآيات :

تلك كانت محتويات الرسالة الالهية : التذكرة بالعقل ، والتوجيه الى الله ومقاومة الجاهلية التي هي اتباع الظن والخرص ، وهناك محتوى آخر للرسالة الالهية يشهد على أنها حق من رب العالمين وهو توكل المؤمنين بها على الله ، واستقامتهم أمام كل الضغوط ، اعتمادا على الغيب كما فعل شيخ المرسلين نوح (ع ) ، حيث تحدى قومه بكل وضوح فقال : ان كان تذكيري بالله صعبا عليكم فاني قد توكلت على الله ، فاجمعوا أمركم ولملموا قواكم أنتم وشركاؤكم ، ثم لا يكن أمركم بينكم غمة ، تحزنون على تفريطكم في الاستعداد للمواجهة. ثم طالبهم نوح بالمواجهة الفعلية دون تعطيل.

أما إذا توليتم فلن أطالبكم بأجر ، وهذا دليل آخر على صدق الرسالة ، ولن أطالبكم بأن تصبحوا مسلمين لي بل لله. بيد أن قوم نوح كذّبوه ، فتدخّل الغيب الذي اعتمد عليه ونجّاه الله ومن معه في الفلك ، وجعلهم الله ورثة لمن هلكوا

٤٢٤

بالغرق ، وهكذا كانت عاقبة الذين كذبوا ـ الهلاك.

بينات من الآيات :

التوكل سلاح المؤمن :

[٧١] حين نتلو قصة الرسالات السماوية في صراعها مع الجاهلية ، نزداد وعيا بحقيقة هذه الرسالات وايمانا بصدقها ، ولهذا يكرّر القرآن بيان هذه القصة الواحدة في جوهرها ، والمختلفة في صورها ، فهذا نوح شيخ المرسلين يتحدى قومه بسلاح الرسالة وحدها ، متوكلا على الله.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ)

فان كان صعبا عليكم قيامي ضد أفكاركم وتقاليدكم ، وخروجي عن أطار الرسوم والعادات ، بالرغم من أني واحد منكم ، فأنتم قومي دون غيركم ، والأصعب من ذلك عليكم انني أذكركم بآيات الله ، وأحاول ردعكم عن الأفكار والتقاليد التي آمنتم بها ، فان كان كل ذلك عظيما عندكم ولا يمكنكم احتماله.

(فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ)

دون خوف منكم ، ودون اعتماد على قوة مادية دونكم ، بيد أن الله الذي أتوكل عليه قوي عزيز ، لذلك لا أخشى منكم بل انني أتحداكم بصلابة.

(فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ)

أي اجمعوا كل ما تملكون من قوة مادية ومعنوية ، وأضيفوا إليها قوة شركائكم ، دون أن تتركوا شيئا من الاستعداد حتى لا تحزنوا غدا.

٤٢٥

(ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً)

باعثا للغم والأسى.

(ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ)

من حقائق الرسالة :

أي رتّبوا أمركم فيما يخصني ، وضعوا خططكم في مقاومة رسالتي ، وتفاصيل مكركم ضدي بمتانة وإحكام ، ولا تعطوني مهلة أبدا.

إنه تحداهم بقوة الرسالة ، ونابذهم العداء اعتمادا على الله ، مما دلّ على الحقائق التالية :

أولا : ان الرسالة ليست ناشئة الوسط الثقافي والاجتماعي حتى تكون متأثرة به سلبيا ، بل ثورة مباركة ضد سلبيات هذا الوسط.

ثانيا : ان الرسول مؤمن قبل أي أحد برسالته ، ويضحّي من أجلها بكل ما يملك ، ولو كان ـ حاشا لله ـ كاذبا أو ساحرا لما أقدم على التهلكة من أجلها.

ثالثا : أن الرسالة ظاهرة غيبية تتحدى كل العوامل المادية وتنتصر عليها ، والرسول عارف بذلك.

رابعا : انها لا تداهن السلبيات القائمة ، ولا تجري لاصلاحها سبيل التدرج المرحلي ، أو الطرق السلمية ، بل تتحداها جذريا ، لأنها جاءت من عند الله خالق الناس ومالك السموات والأرض ، ولذلك لا معنى للمهادنة ، أو تقديم التنازلات المرحلية ، أو السكوت عن السلبيات.

٤٢٦

صدق الرسالة والرسول :

[٧٢] وأخذ نوح (ع ) ينصح قومه بأسلوب آخر ، حيث أوضح لهم أن هدفه من تبليغ الرسالة ليس أبدا الحصول على مكاسب مادية ، بل رضوان الله وأنه هو أول من يعمل بما يقول.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

وهكذا سائر الرسالات السماوية لا يهدف العاملون عليها والمبشرون بها بلوغ مطامح مادية مما يشهد على صدقهم فيما يخبرون.

[٧٣] والذي حدث في نهاية المطاف دلّ على صدق الرسالة أيضا ، حيث أهلك الله وبطريقة غيبية قوم نوح ونجّاه هو والمؤمنين برسالة الله.

(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ)

الذين أنذرهم الله عن طريق رسوله نوح «عليه السلام» لقد انتهت عاقبتهم بالغرق بسبب تحديهم للرسالة واستكبارهم ، أو ليس ذلك شاهد على صدق الرسالة الالهية؟!

٤٢٧

سورة يونس

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨)

____________________

٧٨ [لتلفتنا ] : اللفت الصرف عن الأمر.

[الكبرياء ] : السيادة والسلطة.

٤٢٨

هكذا يطبع الله على قلوب المعتدين

هدى من الآيات :

ومضت رسالات الله على ذات السنّة ، حيث بعث الله أنبياءه الكرام الى قومهم ، فجاء الرسل بالبينات لهداية قومهم ، ولكنهم رفضوا الايمان كما رفضه الأسبقون ، وذلك لتمرسهم بالاعتداء والظلم.

وهكذا استمرت سلسلة الرسالات حتى جاء دور موسى حيث بعثه الله تعالى وهارون الى فرعون وملأه بآيات الله ، فاستكبر فرعون وكبار المفسدين ممن حوله ، ورفضوا الهداية ومارسوا عمليا الجرائم بحق المستضعفين ، واتهموا موسى بأنه ساحر ، كما اتهموا رسالته الحقة بأنها سحر واضح ، وتميّز موسى غضبا كيف يقولون للحق انه سحر بينما الساحر لا يفلح ولا ينتصر ، ولكنهم عاندوا بالرغم من دحض باطلهم ، وقالوا المهم عندنا البقاء على دين آبائنا ، واننا لا نتنازل عنه ، ولان هدفكم هو السلطة ، واننا لا نؤمن لكم أبدا.

وهكذا تكررت سيرة نوح عند موسى وهارون باختلاف بعض التفاصيل ، ولكن

٤٢٩

بذات المحتوى.

بينات من الآيات :

خط الرسالة :

[٧٤] رسالات الله تشكل خطا مستمرا عبر العصور ، كما ان الجاهلية التي تقف أمام الرسالات تشكل خطا ثابتا في جوهره ، وعلينا البحث عن خط الرسالات الذي يجسد اليوم واقع الرسالات السابقة بجوهرها فننتمي اليه.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ)

كما الرسالات خط ، فالجاهلية خط مستمر معها ، فان قوم نوح كذّبوا رسالته ، وكذّب قوم إبراهيم برسالته لماذا؟

لاشتراكهم جميعا في دوافع التكذيب ومنها الاعتداء الذي هو تجاوز الحقوق ، والإسراف في النعم ، والذي جاءت رسالات الله من أجل إنقاذ البشر منه ، وكما جاء في آية قرآنية أخرى حيث قال سبحانه : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ* وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (٢٥ / الحديد ).

فاقامة القسط والعدالة في الأرض هدف الرسالات الالهية ، كما أن منع الإسراف في الشهوات وتوجيه الغرائز ، وبالتالي مقاومة ما يسمى بالظلم الذاتي هدف آخر للرسالات ، وطبيعي في هذه الحالة أن يقف المعتدون الظالمون للناس أو لأنفسهم أمام الرسالة ، ذلك لأن الظلم ظلمان فظلم في القلب ، وظلم في السلوك السيء ينعكس سلبيا على النفس ، ويحجب عنها نور العقل.

(كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ)

٤٣٠

فالمعتدون تنغلق قلوبهم عن الاهتداء ، وهذه سنة من سنن الله سبحانه.

موسى وفرعون النموذج البارز :

[٧٥] وكمثل على هذه الحقيقة يستشهد به القرآن الحكيم ، ليعطينا رؤية واضحة تجاه ما يمكن أن يكرر يوميا في حياة الناس ، كمثل عليها قصة موسى وهارون (ع ) الذين بعثهما الله برسالاته الى فرعون الطاغوت وملأه ، أي كبار معاونيه المفسدين في الأرض ، ولكن بسبب ممارستهم الجريمة ، والظلم ، والاعتداء ، وبسبب انعكاس سلوكهم الفاسد على فكرهم ، استكبروا عن قبول الرسالة.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ)

[٧٦] كيف استكبروا؟ وهل اعترفوا بالحقيقة وهي أن ظلمهم للناس ، هو سبب استكبارهم وضلالتهم؟ كلا .. بل برّروا رفضهم للرسالة بتبريرات باطلة ، مما يمكن أن يتكرر في كل عصر.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ)

إنهم رفضوا التسليم للحق الذي هو من عند الله خالقهم ، والذي كان واضحا لا ريب فيه ، ونسبوا الحق الى السحر ، والناس البسطاء لا يميزون بين السحر والرسالة ، إذ كلاهما خارق لعاداتهم ولا يعرف الناس مغزاهما ، لذلك تلبّس الأمر على الناس ، وهكذا أضلوا الناس ، وكذلك يمكن أن يتكرر الأمر مع الناس في كل عصر ، فالطاغوت وملأه حين يخالفون الحق لا يعترفون بالدوافع الحقيقة لمخالفتهم من استكبارهم ، وتمرسهم بالجريمة والظلم ، بل يتهمون الحق ببعض التهم التي تضلل الناس البسطاء وتفتنهم ، وتلبّس الحق بالباطل ، وتشبه الرسالة بالسحر ، والثورة

٤٣١

بالفوضى ، والإصلاح بتعكير صفو الأمن ، والمطالبة بالحرية والمساواة بالهرطقة والتمرد على القيم هكذا.

فعلى الناس أن يتسلحوا بالوعي الكافي للتمييز بين الأقوال التي ينطق بها أصحاب الرسالة ، أو أنصار الطاغوت ، ولا يرفضوا الرسالة بالتأثر بالشبهات التي تثيرها أجهزة الطغاة ضدها ، وهذا من عبر القصص القرآنية حول الرسل.

الرد الرسالي :

[٧٧] وكما كانت شبهة الطغاة حول الرسالة متناسبة مع بساطة الجماهير ، فان رد هذه الشبهة من طرف الرسل كان بلغة مفهومة لدى الجماهير الساذجة أيضا ، مما كشف زيف الشبهة لهم.

(قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هذا)

فلقد نفى موسى أن يكون كلامه سحرا ، وأوضح أنه حق ، والحق واضح المعالم بعيدا عمن ينطق به ، فاذا جاءكم الحق سواء عن طريقي أو بطريق آخر ، لا بد لكم أن تقبلوه وتطيعوه ، وربما تشير الآية الى أن الحق هذا كان مقبولا عندهم إذا بقي بعيدا عنهم ، فكل الناس حتى الطغاة منهم يتفوهون بالحق ويعتقدون به ، بل يطالبون الآخرين بتحقيقه ، فمن الذي لا ينطق بالعدالة ولا يطالب بالتقدم والتطوير؟!

ولكن إذا جاءه الحق وعارض مصالحه ، رفضه ونسبه الى السحر ، بينما الحق نفسه لما كان عند غيره كان مقبولا ولا يسمى بالسحر ، أو ليس هذا الدليل البسيط والمفهوم عند الناس كافيا لدحض شبهتهم؟

ولم يكتف موسى بهذا الدليل بل تابع مضيفا :

٤٣٢

(وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ)

مؤكدا انه يرفض مهنة السحر ، بينما السحرة يفتخرون بها ، وهذا وحده كاف للدلالة على أنه غير ساحر ، ثم أن الساحر لا يبلغ أهدافه لأنه لا يتبع الحق ، بل يجري وراء مصالحه وتراه في صف الظالمين والطغاة ، ولا يتسم سلوكه الشخصي بالقيم الانسانية ، بل تجده عادة متوغلا في الرذائل المنبوذة عند الناس ، وبالتالي تجد الساحر بسبب مواقفه السياسية وسلوكه الشخصي مكروها عند الناس ، ولا يقدر على تحقيق أهدافه من أمامة الناس ، وقيادة المجتمع ، بينما الرسول يدعو الى فطرة الحق ، ويقف الى جانب المستضعفين ، ويطبّق تعاليم السماء في توجيه الناس الى الخير ، وسلوكه الشخصي سلوك مثالي ، مما يجعله قريبا الى قلوب الناس ، قريبا الى تحقيق أهدافه منتصرا سعيدا ، وهذا واضح للناس جميعا ، فالناس أنّى كانوا رأوا أو سمعوا المصلحين وفي طليعتهم الرسل ، وعرفوا السحرة انئذ يمكنهم أن يعرفوا الفرق بين هذين الطرازين من الناس ، بأدنى توجيه وتذكرة.

النخوة الجاهلية :

[٧٨] وحين زهق باطل الطغاة ، عاند القوم وأثاروا في الناس نخوة الجاهلية ، والخوف من الإصلاح.

(قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا)

فنحن قوم متحضرون ذو وتقاليد قديمة كيف نؤمن بكم وأنتم ضدها؟!

(وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ)

فأنتما لستما من رسل الحق بل من طلاب المنصب ، وهذه تهمة مباشرة للشخص ، بينما موسى كان يوجه الحديث الى محتوى الرسالة ، وهذا التغيير هو من

٤٣٣

عادة الطغاة ، حيث يحولون الصراع بينهم وبين أصحاب الدعوة الى صراع شخصي بينما هو صراع فكري لذلك.

(وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ)

وكأن موسى وهارون دعوا قومهما بالايمان بهما دون الرسالة.

وهكذا انتهت مرحلة البلاغ ، وجاء دور الصراع السياسي الذي نقرؤه في الدرس القادم بأذن الله تعالى.

٤٣٤

سورة يونس

وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦)

____________________

٨٣ [ذرية ] : الذرية جماعة من نسل القبيلة.

٤٣٥

الفشل عقبى المستكبرين

هدى من الآيات :

وجاء دور الصراع الثقافي والاجتماعي ، وجمع فرعون سحرته الماهرين في السحر وطلب منهم موسى أن يلقوا سحرهم ، فلما ألقوا قال موسى متحديا ومتوكلا على الله ان الله سيبطل سحركم ، لأن الله لا ينصر المفسدين ، وهم السحرة الذين يبتغون الفساد من سحرهم ، وان الله يحق الحق بكلماته ، الغيبية الحقة ، ولو كره فرعون وأمثاله من المجرمين.

وآمن لموسى ورسالته ذرية من قومه من بني إسرائيل ، خائفين من فرعون والمفسدين من أعوانه لكي لا يكرههم على الكفر مرة أخرى ، لأن فرعون كان عاليا متجبرا ومتسلطا على الناس ، و كان من المسرفين الذين يستخدمون كل امكاناتهم في لحظة واحدة.

ولكن موسى الذي تحدى السحرة بعزة الله ، أمر قومه المؤمنين بتحدي فرعون بقوة الايمان ، وسلاح التوكل على الله والتسليم لأوامره ، ولما يستوجب أوامره من

٤٣٦

تضحيات ، واستجاب قومه لهذا الأمر فتوكلوا على الله سبحانه وقالوا «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» تمتحنهم بنا ، فيقتلوننا ويعذبوننا دون أن تردعهم غيبيا لكي تبتليهم ، ودعوا الله أن ينجيهم برحمته من القوم الكافرين.

بينات من الآيات :

ودقت ساعة الصفر :

[٧٩] وحانت لحظة المواجهة ، التي كشفت الخلفية الغيبية للرسالات السماوية والتي تميزها كليا عن الدعوات الاصلاحية أو الثورات الاجتماعية أو الصراعات السياسية ، تلك اللحظة التي وقف فيها موسى (رسول الله ) يتحدى كل أسلحة الطاغوت بإيمان راسخ وعزم شديد.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ)

[٨٠] (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ)

لقد تحداهم موسى لأنه لا يرهب قوة سحرهم ، لا لأنه كان يعرف ماذا سيحدث إذا ألقوا سحرهم تفصيليا ، بل دون أن يعرف ما هو سحرهم بالضبط ، ولكنه كان عالما بالنتيجة عن طريق ايمانه بالله.

[٨١] (فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ)

وعلمه بأن الله سيبطل سحر السحرة كان بدوره نابعا من معرفته بسنة الله في الحياة التي تقضي بابطال الفساد.

(إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)

والسحرة مفسدون ، لا يهدفون إصلاح المجتمع بعلمهم ، والفساد شذوذ ينتهي ،

٤٣٧

وانحراف يزهق ، وباطل لا يدوم ، والله لا يصلحه ، بعكس الرسول المصلح الذي ينشد اقامة الحق والعدل.

نصر الله :

[٨٢] (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)

فالحق ينصره الله ، مرة بكلماته الرسالية التي تفضح الباطل ، وتعطي للمؤمنين بالحق سلاحا إيديولوجيا وبرنامجا ثوريا متكاملا ، ومرة بكلماته الغيبية التي إذا قال لشيء «كن» فيكون ، أما الطاغوت فانه مجرم بحق الناس ، والمجرم لا سلطة له على الحياة برغم التظاهر بذلك.

[٨٣] وهكذا استمر الصراع حتى تبلور في ايمان طائفة من الناس بالرسالة وتجسيدها لمفاهيمها وبرامجها.

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ)

لماذا خشوا من فرعون؟ إنهم خافوه على دينهم حتى لا يفتنهم عن الدين بالضغط الشديد.

(أَنْ يَفْتِنَهُمْ)

ولقد كان فرعون متسلطا على الناس ، مسرفا في استخدام موارد الطبيعة.

(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)

التوكل سلاح الحسم

[٨٤] ولكن بالرغم من علو فرعون وإسرافه ، وبالرغم من قدرته وثروته ، فان

٤٣٨

موسى أمر قومه بالتوكل على الله.

(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ)

وهكذا أمرهم موسى بأن يكونوا مثله في التوكل على الله.

[٨٥] (فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

انما قالوا هذه الكلمة الحاسمة بعد أمر موسى لهم ، وتذكيرهم بأنها شرط الايمان بالله ، وشرط التسليم لقضائه وقدره ، ولكنهم بالرغم من توكلهم على الله ، كانوا يتطلعون الى النجاة من مأساتهم.

ولم يكونوا يهدفوا تعذيب أنفسهم مثلما تفعله (السادية ) أو توحي به بعض المذاهب الصوفية ، لذلك تراهم يدعون الله لكي لا يجعلهم مادة لاختبار الظالمين وابتلائهم ، مما يدل على أن الله يقدّر لبعض المؤمنين الشهادة ولا يمنع عنهم ظلم الظالمين ، امتحانا لأولئك الظالمين ، بالرغم من أنه سبحانه ينصر عباده المؤمنين في عاقبة الأمر ، جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق (ع ) ان معنى هذه الآية : «لا تسلطهم علينا فتفتنهم بنا» (١).

الرؤية في الصراع :

[٨٦] لذلك تضرّع المؤمنون من قوم موسى الى ربهم لكي ينجيهم قائلين :

(وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)

وهذه هي رؤية المؤمنين الى الصراع ، فليست عاقبة الصراع مجهولة ، ولا هي في

__________________

(١) راجع مجمع البيان ج ٣ / ص ٢٢٤

٤٣٩

مصلحة الكفار ، ولكن لا يعني ذلك ان الصراع يكون سهلا وبلا تضحيات ، أو بلا عمل واجتهاد ، والدعاء الى الله هو نوع من العمل.

٤٤٠