من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)

____________________

١٣ [شاقوا ] : الشقاق العصيان وأصله الانفصال.

٢١

الأمداد الغيبي متى وكيف؟

هدى من الآيات :

المؤمنون يتوكلون على ربهم فيجتازون المشاكل بتأييد غيبي ، وتقدير رشيد من الله لهم ، وإليك مثلا من معركة بدر كيف استغاث المسلمون بربهم بعد ان قرروا خوض المعركة صادقين ، وعوضوا ضعفهم المادي بالتوجه الى ربهم لينصرهم فاستجاب الله لهم ، وأمدهم بألف ملك شكلوا خلفية الجيش الاسلامي ودعما له ، ولم يكن الهدف من ارسالهم سوى تقوية نفسيات المسلمين ، وليكونوا مبعثا لاطمئنان قلوبهم ، بينما لم يكن النصر النهائي الا من الله ، وربما من غير طريق الملائكة لان الله قوي قاهر وقادر على نصر من يشاء ، ولكنه لا ينصر الا من يستحق النصر.

وبالرغم من هول المواجهة فان الايمان الذي ازداد بالمواجهة والتوكل برّد افئدة المسلمين ، فاستولى عليهم النعاس ، وجاء ماء السماء يلطف الهواء ، ويطهر الأجواء والأبدان ، ويبشر القلوب بالرحمة فيذهب عنها وساوس الشيطان ، ويعقد المسلمون

٢٢

العزم على الحرب ، فثبتت اقدامهم في المواجهة ، وإذا بالملائكة يثبتون بوحي من ربهم الذين آمنوا ، وإذا بربنا الحكيم يبعث في قلوب الأعداء الخوف ، ويتفوق المسلمون على أعدائهم نفسيا ، فيضربون فوق الأعناق رؤوسهم ويضربون أيديهم ، ولكن لماذا تحيز ربنا ضد الكفار أو ليسوا عبيده؟ نعم ولكنهم شاقوا الله وعارضوا رسوله ، والله شديد العقاب ليس في الدنيا فحسب بل في الاخرة يعذبهم عذابا شديدا.

بينات من الآيات :

التوكل سر الانتصار :

[٩] لو تذكر الإنسان حالاته السابقة ، وكيف احتاج الى رحمة ربه فدعاه بحقيقة الايمان ، فاسعفه وأنقذه من المشاكل ، ولو تبصر الإنسان أوضاع الآخرين ، وكيف تدخلت قوة الغيب في تأييد طائفة ضد اخرى إذا لعرف ان التوكل على الله سر التغلب على الصعاب. ويذّكر القرآن الامة الاسلامية بماضيها ، وابرز المعارك الحاسمة فيه ، والتي تتكرر مثيلاتها أبدا. مثلا في معركة بدر حيث استغاث المسلمون فأمدهم ربهم بألف من الملائكة.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ)

والاستغاثة ـ كأي دعاء آخر ـ تكشف عن ارادة النجاج التي لا تقهرها حتى المشاكل المادية الظاهرة ، كما انها تكشف عن ايمان قوي بوجود المواهب الكبيرة عند الفرد.

(فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)

اي يؤيدونكم من ورائكم.

[١٠] ولكن لا يعني نزول الملائكة انهم سوف يحاربون بديلا عنكم ، كما لا

٢٣

يعني وجود دعم غيبي للمؤمنين ان هذا الدعم يغنيهم عن العمل الجاد كلا .. بل يعني العكس وهو ضرورة العمل الجدي حتى تحقيق الهدف بالاعتماد على الدعم السماوي.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ)

اما النصر فهو من عند الله يقضيه لمن تتوفر فيه شرائط النصر وعوامله ومنها بالطبع ارادة النصر ، والعمل من أجله ، وتذويب الانانيات من اجله. ذلك لان ربنا الى جانب قوته وقهره فهو حكيم لا يهب النصر لمن لا يستحقه.

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

[١١] والملائكة احدى وسائل النصر وهناك وسائل اخرى يوفرها ربنا إذا شاء ، مثلا في حرب بدر كانت الاعصاب متوترة ، والنفوس ملتهبة هلعا والأجسام تثقل بالاوساخ ، فبّرد الايمان والتوكل أفئدة المسلمين ، حتى مالت الى الراحة والنعاس فاستراحت الاعصاب ، واستعدت لمعركة حاسمة في اليوم التالي ..

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ)

حين يتوكل العبد على ربه يستريح في ظلال الثقة به وبتقديره فلا يحرق أعصابه بل يعيش في كنف أمان ربه.

والمؤمنون حقا هم الذين يزدادون ايمانا في ساعة العسرة لان تلك الساعات تكشف جوهر البشر وطبيعته الكامنة.

(وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ)

ذلك لان كثيرا من الجراثيم التي يتلوث بها الجو وتنقل عبر الهواء والماء من

٢٤

شخص لآخر تموت بعد المطر ، فيرتاح منها الجيش الذي تكثر فيه احتمالات الخطر.

(وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ)

وحين يتلطف الجو بماء السماء يسعد الناس ببركات الله ، فتطمئن قلوبهم ويذهب عنها الخوف والتردد ، كما يذهب بالمطر النجاسة المادية التي تؤثر في النفس أيضا وذلك عن طريق الوضوء والعمل.

(وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ)

فحين يرى المسلمون السماء تمطر عليهم يعرفون ان هذا المطر من نعم الله ، فآنئذ يزدادون ايمانا برحمة الله ، وان بيده بركات السماء والأرض وبذلك تطمئن نفوسهم ، وينعكس ذلك على ممارساتهم الحياتية بالاستقامة والثبات.

تثبيت الله تعالى

[١٢] في ساعات الشدة تكاد ارادة المسلمين تنهار امام ضغوط الحياة لو لا الايمان الذي يمده الله عن طريق الملائكة المتواجدين في الافئدة بالثبات والاستقامة.

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ)

ولان الله مع الملائكة ، ويؤيد الملائكة بقوته التي لا تقهر فإنهم أقوى من قوى الكفر المادية.

(فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)

وبما ان الرعب يسبب في تضخيم حجم الأشياء ، وحسبما جاء في المثل المروي : للخوف عيون واسعة. فان الكفار أخذوا يرون قوة المؤمنين أكبر من حجمها أضعافا ،

٢٥

بينما كان الثبات الذي أعطاه الله بملائكته للمؤمنين سببا في الاستهانة بقوة الكفار ، والاندفاع نحو تحطيمها. كذلك تفوق المسلمون على أعدائهم في ساحة القلوب ، وكان ذلك طريقا لانتصارهم في ساحة الحرب.

(فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ)

فجاءت الضربات مسددة في الأماكن الحساسة في الرؤوس والايدي فلم تذهب سدى ، بينما ذهبت ضربات العدو هباء في الأطراف لان قلوبهم كانت مشتته وغير ثابتة ، وهكذا يؤثر الثبات النفسي في الانتصار.

[١٣] لماذا شتت الله قلوب الكفار ، فألحق ببهم الهزيمة؟ لأنهم تمردوا على الله ، وانحرفوا عن خطه المستقيم في الحياة. ذلك الخط الذي سيفرض نفسه بالتالي على البشر طوعا أو كرها ، وانما يملك الناس فرصة محددة من الحرية وأجلا محدودا.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)

حتى المؤمنون الذين نصرهم الله اليوم لو انحرفوا عن طريق ربهم ، فان عقاب الله شديد عليهم أيضا.

[١٤] ولا يكتفي الله فقط بعذاب الدنيا بل في الاخرة أيضا.

(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ)

٢٦

سورة الأنفال

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)

____________________

١٥ [زحفا ] : الزحف الدنو قليلا قليلا والتزاحف التداني.

٢٧

القتال بين الاستقامة والتوكل

هدى من الآيات :

انتصار الله سبحانه للمؤمنين كما ذكر به الدرس السابق لا يعني أبدا تحللهم عن مسئوليتهم القتالية الخطيرة التي يعددها الله في هذا الدرس وهي :

اولا : الثبات في المواجهة وعدم الفرار تحت أي ضغط كان ، اللهم الا تراجعا تكتيكيا للعودة الى الحرب في وضع أفضل ومع جماعة أكبر ، وفي غير هذه الصورة فان غضب الله في الدنيا قد يتمثل في الهزيمة ، وغضبه في الآخرة سيكون جزاء عادلا.

ثانيا : الاتكال على الله والاعتقاد بان النصر من عنده ، وانه حتى الرمي الذي يرميه الشخص انما هو من عند الله ، وان المعركة ما هي الا ابتلاء من الله للمؤمنين ليرفع درجتهم وينمي مواهبهم ، والله سميع عليم ، يعلم من ينجح في الامتحان ، ولمن يعطي الدرجات الرفيعة.

ثالثا : ان الله يكشف خطط العدو ، ويوهن كيدهم ، ويبعث في استراتيجية

٢٨

العدو الثغرات ، ولا تغني كثرة العدو عنهم شيئا ، وان الله تعالى مع المؤمنين.

بينات من الآيات :

الثبات في المواجهة :

[١٥] ايدي المؤمنين القوية هي الاداة الطيعة. هي ارادة السماء ، فالله قد يجعل المؤمنين سيفه الصارم لذلك يأمرهم بالثبات عند مواجهة العدو ، وعدم الفرار أبدا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ)

[١٦] وهناك استثناء واحد لترك المعركة هو ان يكون للعودة إليها بقوة أكبر اما عن طريق اختيار موقع أفضل مثل ترك السهل الى الجبل وترك الساحة الى الخندق ، أو عن طريق اختيار جماعة يتعاون معهم ضد العدو.

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ)

ويبدو ان القرآن يذكرنا بأهمية اختيار الموقع المناسب والجماعة المناسبة لمتابعة القتال ، وعدم الاعتماد على نصر الله فقط.

(فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ)

وغضب الله قد يتمثل في مضاعفة الخسائر ، أو حتى الهزيمة غير المنتظرة. ذلك أنّ الاقدام يعجّل النصر ويقلل الخسائر.

(وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)

الاتكال على الله تعالى :

[١٧] الرمي من المؤمن ولكن الذي يسدد الرمية ويعطيها أثرها في القلوب هو

٢٩

الله ، لذلك كان علينا القيام بعملنا وهو الرمي والقتال ، وبذل كل جهد ممكن في ساحة الحرب دون ان نكتفي بذلك أو نغتر به أو نعمتد عليه ، بل نكتفي بالله ونتوكل عليه.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)

ويبقى السؤال : إذا كان ربنا هو الذي يرمي فلما ذا يتعب عباده ويأمرهم بالجهاد؟

انما ذلك لكي يفجر مواهب المؤمنين ، ويستخرج كنوز شخصياتهم الكامنة ، وينمي كفاءة كل واحد منهم لان المواجهة تدفع الفرد نحو بذل قصارى جهده لتجنب الفشل والهزيمة ، والطاقة التي يكتشفها المؤمنون في أنفسهم في ساحات المعارك ينتفعون بها أيضا في سائر حقول الحياة.

(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

يسمع عن قرب ما يجري في الساحة من الحوادث ، ويعلم خلفياتها. لذلك حين يختبر المؤمنين بالحرب ثم يحكم عليهم لا يحكم غيابيا أو عبثا ـ سبحانه ـ بل بسمع وعلم ، وبإحاطة واسعة ومباشرة للحوادث.

الوهن والانتصار

[١٨] كما يسدد ربنا رمية المؤمنين فأنه يوهن كيد الكافرين ، وذلك بإلقاء الرعب في نفوسهم حتى لا ينفذ كل واحد كل المهام الموكلة به ، فتفشل الخطة الموضوعة عندهم لمحاربة المسلمين ، وتنهار إرادتهم وتنهزم نفوسهم.

(ذلِكُمْ)

٣٠

أي ان هذه الحقيقة التي يجب ان نؤمن بها ونعترف بها.

(وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ)

من هنا كان علينا ألّا نخشى خطط العدو ، ولا نستهين بقدراتنا ، نثق بها وبأن الله يسدّدها ، ولكن دون أن ندّخر قدرة كامنة في أنفسنا إلّا ونفجرها ونوجهها للمعركة.

[١٩] ويخاطب ربنا الكفار ويذكرهم بالفتح الذي أعطاه للمؤمنين عليهم ويقول : هذا الفتح كانّ بسبب اختيار الكفار للحرب ومبادرتهم للقتال وكأنهم هم الذين طلبوه.

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ)

وقيل ان بعض المشركين طلبوا من الله في يوم بدر ان ينصر من كان دينه أحب اليه سبحانه فاستجاب دعاءهم ونصر المسلمين.

(وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)

اي ان تتركوا القتال لان الحرب التي سوف تنتهي بهزيمتكم لا خير فيها.

(وَإِنْ تَعُودُوا)

للحرب والقتال.

(نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)

٣١

سورة الأنفال

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)

____________________

٢٢ [الدواب ] : جمع دابة وهي ما دب على وجه الأرض الا انه تختص في العرف بالخيل.

٣٢

الاستجابة لله : حياة

هدى من الآيات :

استمرارا لحديث الآيات السابقة التي بينت ضرورة العمل والتوكل. يبين لنا هذا الدرس أهم شروط الانتصار وهو الطاعة الواعية للقيادة الرشيدة ، فأمر القرآن بضرورة الطاعة لله وللرسول وعدم ترك الرسول بوعي وصدق وسبق تصميم ، والوعي من عمل الإنسان فعلى المؤمنين ان ينتفعوا بعقولهم فيسمعوا حقيقة كلام الرسول ، ولا يكونوا كالمنافقين الذين يسمعون في الظاهر فقط ذلك لان شر الأحياء التي تمشي على الأرض هم البشر الذين لا ينتفعون بأدوات العلم التي وهبها الله لهم ، ولأنهم لم يكن فيهم خير لذلك تركهم الله وفي هذه الحالة لو هداهم الله لم يستجيبوا لهداه.

والرسول يدعو الناس الى الحياة وعليهم الاستجابة له ظاهرا وواقعا لان الله يحول بين المرء وقلبه ، فيعلم ما ينويه حتى قبل ان يستقر رأيه عليه ، ثم يحشر الناس جميعا أليه فيجازيهم بما عملوا.

٣٣

بينات من الآيات :

طاعة القيادة :

[٢٠] مخالفة القيادة الرسالية بوعي و إصرار من كبائر الذنوب ، ومن ابرز عوامل الهزيمة ، والطاعة الواعية للرسول هي قمة الايمان والتسليم لله وللرسالة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ)

أي في حالة سماع الآيات ومعرفة صدق الرسالة وبلاغ واجبات الدين للإنسان فان مخالفة الرسول من أشد المحرمات ، بل هو فسوق وكفر.

[٢١] ولكن هل يقدر أحد تبرير مخالفته للرسول بعدم السماع الواعي؟ كلا.

لان الله تعالى قد زود البشر بأدوات الوعي ، فعليه ان يستفيد منها ويستخدمها في توعية ذاته وتثقيف نفسه.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)

اي لا تكونوا مثل المنافقين تكتفون بظاهر الاستماع دون التعمق في واقع الوعي.

شر الدواب عند الله :

[٢٢] والسماع الحقيقي هو التفكر والانتفاع بالعقل ، وان شر الدواب التي تتحرك على الأرض هم الذين زودهم الله بنور العقل فلم يستفيدوا منه ، فأصبحوا أشر من الانعام التي لا تملك عقلا.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)

٣٤

انهم يملكون السمع والالسنة ولكنهم لا ينتفعون بهما في الخير ، فهم شر عملا وأضل سبيلا من الدابة التي لم ينعم عليها البارئ بالسمع واللسان.

[٢٣] حين تكون الفطرة البشرية سليمة تنفعها دعوة الحق ، لأنها كماء المطر يهبط على أرض صالحة مباركة. أما إذا مسخت الفطرة ، وحجبت الشهوات والأحقاد وهج البصيرة فان الدعوة ليست لا تنفع فقط ، بل تزيد الفرد كفرا وجحودا.

لذلك يقول ربنا سبحانه :

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ)

الخير هو ذلك الاستعداد الفطري الذي وهبه الله للبشر حين زوّده بالسمع والبصر والفؤاد ، وألهمه فجوره وتقواه ولكن لم يبق في هؤلاء الذين غدوا أضل من الدواب ذلك الخير بسوء أعمالهم. لذلك لا يسمعهم الله ، ولا يوفر لهم فرص الهداية. إذ انه لو أسمعهم الآن وفي وقت افتقادهم حالة الاستعداد للاستجابة إذا لتولوا عن الرسالة ظاهرا وباطنا.

(وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)

رسالة الله دعوة الى الحياة :

[٢٤] ما هي الحياة التي نعشقها ونسعى وراء استمرارها أو ليست هي القدرة والنشاط وتسخير الطبيعة فلما ذا ـ إذا ـ نختار الموت في بعض الأحيان على الحياة .. نختار الضلالة على الهداية ، والجهل على العلم ، والتخلف والكسل على التقدم والعمل .. أو ليست الهداية والعلم يجعلانا نحيط بالأشياء ونسخرها .. أو ليس العمل والحركة أبرز مظاهر الحياة وفوائدها؟!

٣٥

ان رسالة الله هي دعوة صادقة الى الحياة بما فيها من علم وعمل ، من هدى وحركة ، ومن تسخير الطبيعة لصالح البشر والقرآن يذكرنا بان الاستجابة لهذه الرسالة تتناسب وفطرة البشر واعمق مشاعر المحبة للحياة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)

ليس المهم ان تعيش سبعين عاما بل ان تعيش حيا بالعلم والحرية والنشاط. ان المؤمن المتحرر من قيود الشهوات والثائر ضد أغلال المجتمع والذي يسخر الطبيعة لصالحه وصالح الناس بالعلم والقدرة انه يعيش كل يوم عاما ، اما الكافر الذي يصبح جزء من الطبيعة ومن النظام الحاكم عليها ، ويستسلم للآخرين فهو ميت ، ولو نبض قلبه بالدم.

والله يدعونا الى الحياة الحقيقية في الدنيا التي تستمر الى الحيوان في الآخرة حيث تكون الحياة فيها للشهداء والصديقين.

وقلب البشر يبقى يعشق الحياة ويحب الاستجابة لدعوة الحياة برغم كل الحجب والعقد النفسية. ذلك لان الله يحول بين المرء وقلبه فلا يدع شعلة الهداية تنطفئ في قلب البشر حتى يرى الحق باطلا والباطل حقا. كلا .. انه يبقى يميز بين الحق والباطل وعلى أساس هذا التمييز يحاسبه الله غدا حين يحشر الناس جميعا اليه.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

و جاء في الحديث المأثور عن الصادق (ع ) :

«لا يستيقن القلب ان الحق باطل أبدا ولا يستقين ان الباطل حق أبدا» (١)

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧٠ / ص ٥٨ / ح ٣٤

٣٦

سورة الأنفال

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)

٣٧

اتقوا فتنة المال والأولاد

هدى من الآيات :

طاعة الرسول (ص ) والتسليم القلبي لأوامره القيادية تعطي الامة حياة جديدة ..

اما التفرق عنه والاختلاف فانه فتنة تعم نارها كل أبناء المجتمع وان عقاب الله شديد. وعلينا ان نتذكر أبدا مدى اهمية القيادة الرسالية حتى لا يدب الى قلوبنا الوهن في اتباعها.

ان كل مكاسب الامة كانت بالقيادة فحين كنا قليلا مستضعفين نخشى الناس ان يأخذونا مثل أيام مكة الم تكن طاعتنا للرسول هي التي وفرت لنا الأمن والنصر والرفاه أو ليس من الواجب الآن ان نشكر النعمة بالمزيد من الطاعة ، والطريق الوحيد للخروج من الخلافات الداخلية هو تقوى الله ، واتباع مناهجه حيث يعطي الفرد هدى ونورا وقدرة على معرفة الحق وأهله والباطل واهله ، كما يسبب غفران الله والمزيد من فضله.

ان تعاليم هذا الدرس تتصل بما سبق ويأتي الحديث في الدروس الاخرى حول

٣٨

تكريس واقع القيادة الرسالية في الامة.

بينات من الآيات :

مسئولية الامة عند الخلافات :

[٢٥] الخلافات الاجتماعية هي من الذنوب التي يلقي كل فريق مسئوليتها على الآخرين ، لان كل جانب يرى ان عمله انما هو رد فعل للآخرين ، لذلك يكون على الجميع تجنب هذه الذنوب دون انتظار ترك الجانب الآخر لها. ذلك لان بليتها إذا جاءت عمت .. وعموما المعاصي لا يمكن حصر آثارها السلبية في أولئك الذين يرتكبونها ، وهي كالنار إذا اشتعلت في الهشيم تنتشر الى كل مكان ولذلك يقول تعالى :

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)

اي لا تصيب الذين هم في الجهة المباشرة للظلم ، بل تعم الجميع هم والساكتين عن الظلم ، وكذلك الذين قابلوا الظلم برد فعل غير مناسب ، فمثلا : إذا تجاوز فريق من المجتمع على فريق آخر فان واجب الفريق المظلوم هو انتظار امر القيادة دون المبادرة بالاعتداء عليهم قصاصا لان ذلك يضعف القيادة ، وينشر الفوضى ، ويعم أثرها السلبي بالنتيجة كلا الفريقين ، وربما تدل الفتنة على الخلافات الاجتماعية أكثر من الامتحانات الفردية لذلك جاء في الحديث المروي عن الزبير بن العوام :

«لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فاذا نحن المعنيون بها نخالفها حتى أصابتنا خاصة» (١)

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ـ الشيخ الطوسي / ج ٤ / ص ٥٣٤

٣٩

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)

وانه يعاقب بشدة أولئك الذين ينفذون الفتنة ، أو الذين يقفون ضد انتشارها في الحياة الدنيا بالتخلف والهزيمة والفوضى والاقتتال وفي الآخرة يجزى الساكت الذي لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر والذي تمرد على القيادة الرشيدة.

العبرة بالماضي ضمان للمستقبل :

[٢٦] من المهم جدا ان يتذكر الإنسان بعد الانتصار أيام ضعفه لكي لا ينسى عوامل النصر ، فيتعهدها ويحافظ عليها ليبقى النصر ومكاسبه ، ولينتقل من نصر الى نصر ، ولا يقف في مسيرة الزمان الصاعدة.

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ)

انهم كانوا قليلا من الناحية الكمية. مستضعفين من الناحية الاجتماعية وليست هناك قوة تحميهم من الناحية الامنية حتى انهم كانوا يخشون من أخذهم بسرعة ، ولكن الله بدل كل هذه النواحي.

(فَآواكُمْ)

ومنح لكم محلا آمنا .. وهو ابرز شروط الرفاه.

(وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ)

فبدل الضعف قوة.

(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ)

٤٠