من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

سورة التوبة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ

____________________

٢٤ [اقترفتموها ] : الاقتراف اقتطاع الشيء من مكانه الى غيره من قرفت القرحة إذا قشرتها والقرف هو القشر.

[فتربصوا ] : التربص التشبه في الشيء حتى يجيء وقته.

٢٥ [رحبت ] : الرحب السعة في المكان.

١٤١

سورة التوبة

بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)

١٤٢

الجهاد ذروة أولويات المؤمن

هدى من الآيات :

لكي تستعد الأمة للصراع ، لا بدّ ان يخلص انتماء أبنائها إليها باعتبارها تجمعا مبدئيا ، وإلّا يتخذوا أقاربهم أولياء إن فضلوا الكفر على الايمان. ذلك لان أي خلل في الانتماء يبعث خللا في الايمان ، فلو كان الأب أو الأخ أو الزوج أو العشيرة أو المال والتجارة أو المسكن أحب الى الفرد من إيمانه بالله ورسوله ، ومن جهاده في سبيل الله ، فلا بدّ أن ينتظر أمر الله الذي لا يحمل بالتأكيد في طيّه الهداية والفلاح للظالمين والفاسقين.

وكمثل على هذا الخلل واثره السلبي على الصراع ما جرى في يوم حنين. إذ كان اعتماد الجيش على كثرتهم التي غرتهم لا على الايمان ، فلم تغني عنهم من الله شيئا. إذ انهزم الجيش وضاقت عليهم الأرض على سعتها ، ولكنّ الله أنزل سكينته على الرسول والمؤمنين فاطمأنت قلوبهم ، وانزل جنودا من عنده فهزموا الكفار وعذّبوا عذابا شديدا.

١٤٣

بيد ان الهزيمة كانت تجربة صاغت نفسية المسلمين فتاب بعضهم ، فتاب الله عليهم ، (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

ان هذا الدرس يحدد بعض الشروط الاجتماعية للجهاد بينما حدد الدرس السابق بعضا من شروطه النفسية والثقافية.

بينات من الآيات :

المجاهد يتحدى الضغوط الاجتماعية :

[٢٣] الولاء في المجتمع المسلم يجب أن يكون للعقيدة قبل أيّ شيء آخر ، فحتى الولاء العائلي الذي يحبه الإسلام ويعتبر الأسرة الوحدة الاجتماعية الضرورية ، يجب أن يكون في اطار الولاء الايماني لا منافسا له.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ)

وقد كان هذا الانتماء الرسالي الخالص سببا في انتصار الرسالة في عصر الرسول ، يقول الامام علي (عليه السلام ) :

«ولقد كنّا مع رسول الله نقتل آباءنا .. وأبناءنا .. وإخواننا .. وأعمامنا .. ما يزيدنا ذلك إلّا إيمانا وتسليما ، ومضيّا على اللقم ، وصبرا على مضض الألم ، وجدّا على جهاد العدو .. فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر» (١)

وإذا عرفنا مدى أهمية الاسرة في الحياة العربية قبل الإسلام ، نعرف مدى

__________________

(١) نهج البلاغة / خ ٥٦ / ٩١ صبحي الصالح

١٤٤

الخلوص الرسالي الذي بلغه المسلمون ذلك اليوم حتى حققوا الانتصار الكبير.

و قد عبّر الامام أبو جعفر (عليه السلام ) ، عن هذا الخلوص الرسالي ، بقوله :

«(لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) فلا تكونوا مؤمنين فان كلّ سبب ونسب وقرابة ووليجة بدعة وشبهة منقطع إلّا ما أثبته القرآن» (١)

ان كلّ ولاء يجب أن يكون في إطار قيم الإسلام ، وإلّا فان الانتماء الاسلامي يكون ضعيفا أو مرفوضا.

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

[٢٤] ليس الولاء الاسري فقط حاجزا دون الولاء الرسالي ، بل كل صلة تقف حاجزا أمام العلاقة الاسلامية يجب فكها وجعلها صلة ثانوية.

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)

أي من الولاء الخالص لله وللقيادة الرسالية المتمثلة بالرسول في عهده ، وبخلفائه من بعده ، وهذا الولاء يتجسد عمليا في الجهاد وهو بذل كلّما يستطيعه المرء في سبيل تحقيق أهداف الرسالة ، لذلك خصصه القرآن بالذكر قائلا :

(وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا)

وانتظروا فان هذا المجتمع الراكع للضغوط ليس أبدا مجتمعا رساليا ، بل ولا

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٢ / ١٩٢

١٤٥

مجتمع مسلم حقا ، ولذلك لا بدّ من انتظار الكارثة.

(حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ)

وقد تكون الكارثة المتمثلة في الخلافات الداخلية التي تنتهي الى الصراعات الجانبية المنطلقة من المحوريات الذاتية التي تمنع تكون المجتمع الموحّد ، ومن الحزبيات الضيقة التي تفتت الوحدة السياسية الرصينة ، ومن الوطنيات الزائفة التي تحطم كيان الامة ، الواحدة ، ذات القيادة الرسالية.

وكلما ضعفت الامة كلما خسرت معاركها الحضارية مع التخلف أو مع الأمم المنافسة كما نرى اليوم في الامة الاسلامية التي بالرغم من عدد ابنائها البالغ الالف مليون ، فان المحوريات الذاتية تمنع من تكون الوحدة التنظيمية الرسالية ، وبالتالي من تكون الوحدات السياسية الفعّالة ، فعندنا ليس هناك شيء يسمى بالحزب حقيقة إلا قليلا ، بل كلما عندنا ولاءات هشة غير متفاعلة مع الرسالة بقدر تفاعلها مع المصالح والأهواء والقرابة ، لذلك تجد العسكر وهو الأفضل تماسكا في عالمنا الثالث هو المسيطر أبدا لأنه لا يجد امامه كيان سياسي متماسك.

وإذا وجد التماسك الحزبي ـ وهو قليل ـ فانه لا ينتهي الى التماسك الاجتماعي. إذ سرعان ما يتصل هذا الحزب بالغرب وذاك بالشرق ، وبدل ان يتفقا تراهما يتصارعان لمصلحة احدى الجهتين ، وضد المصلحة الاجتماعية المشتركة. المجتمع المسلم لم يعد الإطار الموحد لفاعلية احزابنا حتى يوحد جهودهما ، وما نراه في لبنان أو في شمال العراق أو في غرب إيران ، وما أشبه دليل على ان انتماء الأحزاب الى مجتمعهم أقل فان الوطنيات الزائفة تفتت الوحدة الاسلامية والوحدة القومية ، فاذا بك تجد على كلّ قطعة أرض راية ونظاما يتحاربون بالرغم من وحدة مصالحهم في الإطار الاسلامي الموحد.

١٤٦

والآن نجد الامة الاسلامية موزعة في أكثر من خمسة وسبعين دولة أو دويلة ، وكل يبني جيشه وثقافته على أساس تعميق التجزئة ، وتكريس الانفصال ، لذلك يسهل على الاجنبي أن يبتلعها لقمة لقمة ، ويسهل على غول التخلف الاقتصادي ان يلتهم سعادتهم ورفاههم.

ان مصادر الطاقة والمعادن والاراضي الزراعية ، والموقع الاستراتيجي في وسط العالم ، والتراث الحضاري والالف مليون إنسان كل هذه القوى لم تكن قادرة على بناء حضارتنا في القرن العشرين ، ونخشى أن يبقى الوضع هكذا في القرن الواحد والعشرين. لماذا؟

لأن الانتماء الى الذات أشدّ من الانتماء الى الرسالة وحين يكون الانتماء الى الرسالة ضعيفا فان الرؤية تكون محدودة ومسجونة في جدران الذاتية المغلقة ، ولذلك أكدت الآية الكريمة على أن الانتماء الى الذات والى المصالح الذاتية سيكون سببا للضلالة لأنه فسق.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)

وحين يكون انتماء الفرد الى ذاته ومصالح ذاته ، فان ممارسته ستكون أيضا خاطئة ويكون فاسقا ، وحينئذ يرى العالم بنظارة ذاته فلا يراه على حقيقته فتنزل عليه الكارثة.

دروس من حنين :

[٢٥] وكمثل على هذه الحالة الشاذة يقصّ علينا ربنا قصة المسلمين في حنين ، حيث توكل المسلمون على كثرة عددهم لا على ربهم وتضحياتهم فانهزموا.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ)

١٤٧

مثلا في يوم بدر ، حيث كان المسلم يقتل أباه وابنه لان التجمع الرسالي كان أمتن من الولاءات الاسرية أو الذاتية ، و جاء في الحديث : «ان المواطن الكثيرة كانت ثمانين معركة انتصر فيها المسلمون في عهد الرسول (ص )

» (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً)

لان الكثرة غير المتماسكة لا تغني شيئا. إذ كل فرد يفقد إرادته وعزيمته وخلوصه ، اعتمادا على الكثرة ، وكلّ فرد أو فئة أو حزب أو طائفة أو عشيرة تفكر في مصالحها. تفكر في أن تكون التضحيات من غيرها وتكون المكاسب لها.

وهكذا كانت الكثرة العددية للمسلمين اليوم غير نافعة لأنها كثرة كمية فقط ، وفاقدة للوحدة الحقيقية ، وهكذا تجد الأرض المقدسة في فلسطين بيد الأعداء برغم اهتمام الجميع بتحريرها.

(وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ)

فبالرغم من الكثرة العددية تجد الجميع مغلولين مكبلين لان فاعلية كل جهة موجهة ضد فاعلية الجهة الثانية ، وكأنهم مجموعة سيارات متشابكة في المرور ، كل واحدة منها تمنع غيرها من التحرك ، ولو توحدت لوجد الجميع متسعا من الأرض.

(ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)

وانهزموا بفعل اختلافهم امام عدوهم الأكثر تماسكا منهم ، كما انهزم المسلمون اليوم امام الصهاينة. وهكذا تخسر الامة المفتتة معاركها الحضارية مع اعدائها.

[٢٦] ولكن بقيت مجموعة متماسكة ذات قيادة رسالية ، بقيت صامدة في اطار هذه الكثرة المنهزمة فأنزل الله سكينته عليهم.

١٤٨

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)

فسكنت نفوسهم برحمة الله ، واطمأنت الى نصره ، وهكذا كانت الرسالة هي خشبة الخلاص في زحمة أمواج الهزيمة.

(وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها)

وكان من أبرز واجبات هؤلاء الجنود الذين كانوا من الملائكة .. تثبيت قلوب المؤمنين ، واعادة الثقة والبشارة الى أنفسهم كما في حرب بدر.

جاء في حديث مأثور عن الامام الرضا (عليه السلام ) أنه قال : «السكينة ريح من الجنة طيبة لها صورة كصورة وجه الإنسان فتكون مع الأنبياء» (١). وقد تكون الملائكة المنزلين هي السكينة أو هم حملة السكينة.

(وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ)

فالله لا يتدخل في الصراعات الاجتماعية عبثا ، بل انما في الوقت الذي يكفر جانب ويؤمن ويصمد جانب آخر ، فيجازي الكافر بكفره.

[٢٧] ولكن الهزيمة ليست نهاية أمة بل هي تجربة قد تصقل نفوسهم وتحدد أسباب ضعفهم ، ويتوبون الى الله من ذنوبهم فيتوب الله عليهم وينتصرون.

(ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ / ١٨

١٤٩

سورة التوبة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)

____________________

٣٠ [يضاهئون ] : يشابهون.

١٥٠

هكذا قضى الرب

بنجاسة المشركين

هدى من الآيات :

في الدرس السابق بين القرآن بعض الشروط الضرورية للانتصار ، وفي هذا الدرس يحرض المسلمين على قتال المشركين والكفار ، وعلى طردهم من المسجد الحرام دون خوف من فقر لان الله هو الرزاق ، وأمر الله بقتال أولئك الكفار من أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إيمانا حقيقيا ينعكس على ثقافتهم وسلوكهم ، كما انهم لا يلتزمون بشرائع الله وأوامر الرسول ، ولا يلتزمون بسيادة الدين الحق والنظام الحق ، هؤلاء يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية خضوعا للحق (لا رشوة فيه ) وهم صاغرون.

لقد قالت اليهود عزير ابن الله كما قالت النصارى المسيح ابن الله. قالوا هذا الافك بلا حجة أو ايمان راسخ ، وذلك تشبها بقول الكفار والله يعلن عليهم الحرب بسبب هذه الضلالة التي وقعوا فيها. ذلك لان هذه الضلالة وأمثالها جرتهم الى التسليم لأوامر الأحبار والرهبان واتخاذهم أربابا من دون الله. بينما أمرهم الله

١٥١

بعبادة اله واحد لا شريك له فسبحان الله عما يشركون.

بينات من الآيات :

(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) :

[٢٨] المشركون نجس : بهذه الكلمة فصل القرآن بين الفريقين الرئيسيين الذين يقسم الإسلام البشرية على أساسه ، فريق الهدى وفريق الضلالة .. حزب الله وحزب الشيطان .. المواطنون في الدولة الاسلامية والأجانب ، فما هي النجاسة التي جاءت في الآية؟

جاء في بعض التفاسير :

اختلف في نجاسة الكافر فقال قوم من الفقهاء : ان الكافر نجس العين وظاهر الآية يدل على ذلك ، وروي عن عمر بن عبد العزيز ، انه كتب : «امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين ، واتبع نهيه قول الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)» ، الآية ) وعن الامام الحسن (عليه السلام ) قال : «لا تصافحوا المشركين فمن صافحهم فليتوضأ» وهذا يوافق ما ذهب اليه أصحابنا من ان من صافح الكافر ويده رطبة وجب ان يغسل يده ، وان كانت أيديهما يابستين مسحهما بالحائط ، وقال آخرون : انما سماهم الله نجسا لخبث اعتقادهم وأفعالهم وأقوالهم ، وأجازوا للذمي دخول المساجد ، قالوا : انما يمنعون من دخول مكة للحج. قال قتادة : سماهم نجسا لأنهم يجنبون ولا يغتسلون ويحدثون ولا يتوضئون ، فمنعوا من دخول المساجد لان الجنب لا يجوز له دخول المسجد. (١)

ومن الناحية اللغوية النجس كل شيء مستقذر ويبدو ان للكلمة ثلاث أبعاد :

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ / ٢٠.

١٥٢

الأول : ان الشرك عقيدة باطلة ، والثقافة التي تبنى على أساس الشرك ثقافة فاسدة ، وعلى المسلمين أن ينفصلوا عن المشركين جسديا حتى لا يتأثروا سلبيا بأفكارهم الفاسدة.

الثاني : ان المشركين لا يلتزمون بالنظام والشرائع الاسلامية خصوصا في حقل النظافة الجسدية ، والوقاية الصحية ، فعليهم ألّا يدخلوا البلاد الاسلامية ذات الانظمة الخاصة في الحياة ، وبالذات في حقلي النظافة والصحة والخمر والخنزير والبول والدم أشياء نجسة تحمل معها الأمراض الخطيرة والمعدية ، ومن يباشر هذه الأشياء يطرد من البلد الاسلامي ما دام لا يلتزم بالشروط الصحية للبلد.

الثالث : البلد الاسلامي مستقل اقتصاديا ولذلك يجب ان يسعى نحو التكامل الاقتصادي والاكتفاء الذاتي ، فلا يتعامل مع الأجانب. خصوصا في حقل الاطعمة.

وفي الآية هذه اشارة الى هذه الابعاد دعنا نتدبر فيها :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

والخطاب دليل على الهدف من الحكم التالي ببناء المجتمع المؤمن لا بيان الحقيقة العلمية فقط.

(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا)

فباعتبار المسجد الحرام مركز التوجيه الاسلامي فيجب تنظيفه من آثار العقيدة والثقافة المنحرفة الفاسدة.

(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً)

١٥٣

أي فقرا.

(فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

فباعتبار الاقتصاد الاسلامي يتعرض موقتا لمشاكل بسبب المقاطعة الاقتصادية والاعتزال لذلك وعد الله سبحانه عباده المؤمنين بالتعويض وهكذا نجد ان المسلمين حين منعوا حجّ المشركين الذين كانوا يحملون معهم الى البيت الحرام الطعام والملابس ليقايضوا به مع بعضهم أو مع سلع المسلمين. حينئذ عوضهم الله سبحانه بإسلام أهل نجد وصنعاء وجرش من اليمن ، وحملوا الطعام الى مكة على ظهور الإبل والدواب وكفى الله تعالى المسلمين ما كانوا يتخوفون.

من هم المشركون ، وما واجبنا؟

[٢٩] وكما يجب محاربة المشركين عبدة الأوثان كذلك يجب مقاتلة أولئك الذين يتظاهرون بالدين وهم مشركون واقعا كبعض أهل الكتاب وهم الذين يتصفون بما يلي :

ـ الأول : عدم الايمان الحقيقي.

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)

الثاني : عدم قبول الشريعة الاسلامية كمظهر بارز من مظاهر الايمان الحقيقي.

(وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ)

فكيف يعتبر مؤمنا من لا يخضع لشرائع الله ، وسيأتي في آية تالية : ان التسليم لتشريعات الأحبار والرهبان يسلبهم الايمان بالله ويجعلهم من عبدة الأصنام البشرية.

١٥٤

الثالث : رفض التسليم للنظام الاسلامي والدولة الاسلامية.

(وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ)

الدين هو التسليم النفسي والخضوع القلبي لنظام أو شريعة ، ان هذا الفريق إذا كانوا من عبدة الأوثان فيجب قتالهم حتى النهاية ، ولكن إذا كانوا.

(مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)

كاليهود والنصارى والمجوس ، فان قتالهم ينتهي إذا دفعوا الجزية.

(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)

أي حتى يعطوا الجزية صاغرين استسلاما لقوة الإسلام وقهر الدولة الاسلامية ، إذ ان مجرد إعطاء المال للمسلمين لا يدل على سيطرة المسلمين على الساحة كما تدفع ـ مثلا ـ الدول الغنية اليوم مساعدات مالية للدول الاسلامية الفقيرة بهدف استمالتها.

مظاهر الشرك :

[٣٠] عقائد اليهود والنصارى في الايمان كانت فاسدة ، ومتأثرة بوثنيات المشركين من قبلهم ذلك لان الفلسفة اليونانية التي كانت متأثرة بالشرك من الناحية الثقافية ، وبالطبقية والعنصرية من الناحية الاجتماعية ، وبالسياسية الطاغوتية من ناحية نظام الحكم ، هذه الفلسفة وجدت طريقها الى الديانات بسبب ضعف العلماء ومحاولتهم تبليغ الدين بكل وسيلة ممكنة ، حتى ولو عن طريق تقديم تنازلات للافكار والأوضاع الفاسدة ، لذلك تجد آثار الافلاطونية الحديثة عند علماء هذه الديانات المنحرفة.

١٥٥

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ)

ربما لم يكن عامة اليهود والنصارى يزعمون هذا الزعم الباطل.

(ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ)

فلم تكن فكرة منسجمة مع سائر أفكارهم وعقائدهم ، بل كانت بسبب تأثرهم بالثقافة الغريبة عنهم ، وتسليمهم للضغوط الفكرية والاجتماعية.

(يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)

[٣١] تلك كانت في حقل الثقافة. اما في حقل التشريع والسياسة فان اليهود والنصارى استسلموا للأحبار والرهبان وقبلوا تشريعاتهم دون أن يخضعوا لله ويعملوا بشرائعه.

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ)

الحبر : هو العالم الذي يقوم ببيان العلم وهو عالم النصارى واليهود.

(وَرُهْبانَهُمْ)

الراهب : هو الذي يخشى الله ، ويلبس مسوح العبادة ، وهو عند اليهود والنصارى المتفرغ للعبادة الزاهد في الدنيا.

(أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)

فتركوا تعاليم الدين ونصوصه الواضحة ، الى اجتهادات الأحبار والرهبان التي تأثرت بأهوائهم وظروفهم ، كما تركوا عقلهم وفطرتهم ونصوص دينهم الى الاستشهاد بسيرة المسيح ابن مريم التي كانت مناسبة للظروف الموضوعية السائدة

١٥٦

في عصره.

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

لقد أمرهم الله في كتابه بتوحيده في العبادة والتشريع ، وان يعتبروه وحده مصدر النور والتشريع ، وان يتصلوا به مباشرة ، وان أخذ التعاليم من الأحبار والرهبان حتى ولو كانت متناقضة مع الهام الفطرة والعقل والنصوص الصريحة من الدين يعتبر شركا مهلكا يبعد الناس عن حقيقة الدين وجوهره شيئا فشيئا ، ويجعل الدين دين البشر أي الأحبار والرهبان الخاضعين للجهل والجهالة ، وضغوط الظروف. بينما الاتصال المباشر بمصادر الوحي يمنع هذه المشكلة إذ يصبح المؤمنون جميعا شاهدين على الرسالة أوصياء عليها. وأعين لنصوصها ومنتفعين من عقولهم وفطرتهم في فهم تلك النصوص.

(سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)

الله منزه عما يشرك الناس به ، فوحيه ورسالته وشرائعه لا تخضع للظروف أو للأهواء بل هي كاشفة لحقائق الحياة ، متناسبة مع السنن التي لا تتغير ، ولذلك يجب على الناس الاستلهام مباشرة منها دون الاستسلام للأوصياء عليها من الأحبار والرهبان باسم الدين وترك حبل الرسالة على غارب رجال معينين.

و قد جاء في الأحاديث المأثورة عن عدي بن حاتم ، انه قال : أتيت رسول الله وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي : «يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك» ، قال : فطرحته ثم انتهيت اليه وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) حتى فرغ منها فقلت له : إنّا لسنا نعبدهم فقال : «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرّم الله فتستحلونه» قال فقلت : بلى. قال : «فتلك عبادتهم».

١٥٧

و روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام ) ، انهما قالا :

«أما والله ما صاموا ولا صلوا ولكنهم أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا ، فاتبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون» (١)

واليوم نجد الكثير من أبناء أمتنا الاسلامية تركوا نصوص الدين والهام العقل واستسلموا كليا لبعض أدعياء العلم والدين بالرغم من علمهم بان هؤلاء يحرمون ويحللون حسب أفكارهم وأهوائهم ، والضغوط الاجتماعية التي يتعرضون لها ، أو يتبعون أحزابا ومنظمات اتباعا أعمى ولكن هل يعذرهم الله وهم يهملون أكبر نعمة أسبغها الله عليهم وهي نعمة العقل والتفكير ويحولون أنفسهم الى أنعام ضالة وقد خلقهم الله بشرا سويا. هل يعذر الله والضمير رجلا بصيرا يغمض عينيه ويمشي مكبا على وجهه ، حتى يقع في الحفرة. إن أكبر المآسي البشرية في حقل السياسة والتشريع آتية بسبب التقليد الأعمى لذوي السلطة والشهرة.

__________________

(١) المصدر ص ٢٣.

١٥٨

سورة التوبة

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)

١٥٩

انحراف أهل الكتاب

عن رسالات الله

هدى من الآيات :

لا يزال السياق يبيّن الفساد الذي تسرب الى اليهود والنصارى من خلال تقليدهم الأعمى للأحبار والرهبان. ومخالفة الرسالة التي هي نور الله واحدة من مظاهر الفساد ، ولكن هذه المخالفة الضعيفة لا تستطيع ان توقف انتشار النور ، والله يتم نوره بالرغم منهم.

ان الله أرسل رسوله بكلمتين ـ الهدى ـ أي تكامل البشر عقليا ونفسيا ـ ودين الحق ـ أي سلطة الحق والعدل لا منطق القوة وفي النهاية سوف ينتصر الحق على كلّ سلطة بالرغم من المشركين.

ويبقى سؤال : لماذا لا يجوز تقليد الأحبار والرهبان ، في تعاليم دينهم؟

والجواب :

لأن كثيرا منهم خونة غير أمناء في الأموال فكيف يؤمّنون على الرسالة؟ انهم

١٦٠