من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

ويبين القرآن ان التشريع انما هو لله وحده وليس للشركاء ، وينذر الذين يفترون على الله الكذب وأن الله شاهد على كل كلام ، وأنه مسجل عنده صغيرا وكبيرا (٦١).

وأولياء الله لا خوف عليهم (بعكس أولياء الشركاء ) وان لهم البشرى ، وان لله العزة (وليس للمشركين ) وأن له ما في السماوات والأرض (وليس للطغاة ) وانه هو الذي جعل الليل ليسكن والنهار مبصرا (وليس الشركاء ) (٦٢).

اما قولهم بان الله قد ولد (وهو أحد سخافات المشركين ) فانه ضلال لان الله غني فلما ذا الولد ، وانه ليس الا افتراء لا يفلح صاحبه وان هدف الافتراء ، متاع الدنيا ، وهو قليل ونهاية المشركين العذاب الشديد بكفرهم (٧٠).

كل تلك الآيات تمهد لاعلان البراءة من المشركين ، كما فعل نوح شيخ المرسلين (عليه السلام ) فأغرق الله قومه وخسر المشركون (٧٣).

ولعل هذه الآيات (٧٠) هي غرر هذه السورة الكريمة ، حيث تفصل القول عن تحدي الرسل لطغاة عصرهم وكفار الناس من قومهم وكيف انهم أمروا اتباعهم بالتوكل على الله ، وبالتالي كيف نصرهم الله سبحانه.

ثم بعد بيان قصص الأنبياء عليهم السلام ، يأمر الله بطرد الشك ، في القرآن ، والابتعاد عن التكذيب بآيات الله ، وان الكفار لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم (٩٧) ولكن هل ينفع الايمان ذلك اليوم ، لا ، انما قرية واحدة نفعها ايمانها حين آمنت بالله ، وهي قرية يونس (٩٨).

ولكن هل الايمان من العبد أو من الرب؟

لا ريب ان الله لا يكره الناس على الايمان وهكذا على كل نفس تحدي أمواج

٣٢١

الكفر للوصول الى شاطئ الايمان ، حيث يأذن من الله له بالايمان (١٠٠).

ويعود القرآن ليسفه حالة الانتظار في النفس بل على الإنسان أن يبادر للايمان ، حتى يكون من الذين ينجيهم الله عند العذاب (١٠٣).

ويعلن القرآن على لسان النبي (ص ) البراءة من الشركاء ، وانه يخلص العبودية لله (وبذلك يتحدى المشركين ) (١٠٤).

ويأمره بإقامة وجهه لله حنيفا ورفض الشركاء ، لأنه سيصبح ظالما لنفسه (١٠٦) والاعتقاد بأن الذي يرفع الضر هو الله وأنه إذا تفضل على عبده بخير فلا راد لفضله إلا هو.

وهكذا على المؤمن أن يتحدى الشركاء والمشركين والتمسك بهدى الله لأنه آنئذ ينفعه كما أن ضلالته عن القرآن تضره هو وليس غيره. وأن على المؤمن اتباع ما يوحى الى الرسول والصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين (١٠٩).

وبهذا نستطيع أن نستفيد من سورة يونس روح التوكل على الله ، وتحدي الطبيعة ، والطغاة ، ومقاومة ضعف النفس أمام المشاكل والاخطار.

٣٢٢

سورة يونس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)

٣٢٣

لماذا كذّبوا برسل الله؟

هدى من الآيات :

تلك آيات القرآن الحكيم ، التي ركّبت من ألفاظ وأصوات معروفة كالألف ، واللام ، والراء ، ولكنها اتّسمت بالحكمة البالغة ، فهي تكشف الحق وتهدي البشر اليه والناس لا يصدقون بهذه الحقيقة ، أن يكون رجل منهم يوحى اليه القرآن ، بينما لا عجب في ذلك خاصة وان هدف نزول الوحي إنذار الناس جميعا ، وتبشير المؤمنين بأن لهم قدم صدق عند الله ، فمقامهم عند ربهم ثابت لا يتزلزل ، وبالتالي فالله ينصرهم ويجزيهم الحسنى.

ولكن الكافرين قالوا : ان هذا لساحر مبين ، فهو ساحر لأنه جاء بشيء غريب لا يقدر عليه الآخرون ، وهو واضح الحجة ، قوي البيّنة.

وقد لخّصت هاتان الآيتان كثيرا من توجّهات السياق القرآني في هذه السورة ، والتي سوف يفصلها فيما يلي تفصيلا.

٣٢٤

بينات من الآيات :

معنى الحروف القرآنية المقطعة :

[١] «الر» تلك هي المقاطع الحرفية التي نجدها في كثير من سور القرآن ، والرأي الذي ذكرناه عدة مرات حولها هو : انها إشارة الى ذات الحروف ، وهي بالتالي تشبه كلمة «هذا» والجملة التالية هي خبر لها ، وهناك تفسيرات أخرى لهذه المقاطع والله أعلم. (١)

وهذه الأحرف هي آيات وعلامات تشير الى مجموعة متكاملة وثابتة من العلوم التي تنفع الإنسان في حياته ، فهي آيات الكتاب الثابت والمشتمل على الحكمة.

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ)

إن كتاب الله ثابت يكشف الحق ، فهو متين لا تجد فيه عوجا ولا أمتا ، كما لا تجد فيه تناقضا ولا اختلافا فهو محكم الأطراف.

[٢] ومشكلة البشر مع القرآن مشكلة نفسية ، حيث أنهم لم يرتفعوا الى مستوى الكتاب ، بل تراهم يستغربون منه ويقولون : كيف يصبح رجل منّا حاملا لرسالة الله العظيم التي تحمل الإنذار والبشارة؟!

(أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ)

ولكن بما أن الهدف من القرآن هو إنذار الناس ، فلذلك كان من الحكمة أن يكون واحد منهم حاملا للرسالة فلما ذا التعجّب والاستغراب؟!

__________________

(١) سبق الحديث في سورة البقرة عن مثل هذه الحروف المقطعة / وكذلك في أوائل كثير من سور القرآن.

٣٢٥

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)

القدم الصادقة التي وضعت في مقامها الصحيح وبوعي ، ذلك لأن المؤمن يعرف أين يذهب ، وهو حين يسعى لتحقيق هدفه هذا وهو الوصول الى مرضاة الله يبلغه ، فقدمه عند الله قدم صادقة ، هذا هو محتوى الكتاب الحكيم ، ولكن

(قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ)

تفسير الكافرين بالرسالة لها أنها سحر ، دليل على أنهم لم يستوعبوا واقعها بسبب مشكلة فيهم لا مشكلة مستوى الرسالة ، والاهتداء الى ما فيها من خير ومنافع ولو أن الإنسان اجتاز حاجزه النفسي لوجد أن الرسالة حق لا ريب فيه ، ولكن ذلك الحاجز النفسي يجعله يفتش عن تفسيرات بعيدة لظاهرة الرسالة ، حتى أنه يفسّرها بأنها سحر مبين ، وبتعبير آخر لا يفسّرها بشيء إذ السحر هو كل ظاهرة غريبة لا تفسير لها.

٣٢٦

سورة يونس

إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)

٣٢٧

آيات لقوم يتّقون

هدى من الآيات :

في الدرس الاول من هذه السورة ، وبعد اشارة خاطفة الى السياق العام لها ، يبيّن القرآن الكريم صفة الربوبية اللازمة على الخلق ، والتي تتجلّى في خلق السموات والأرض عبر أيام متتالية ، مما يحتاج الى العناية الدائمة ، ثم استواء ربّنا على عرش التدبير وقيامه بتدبير شؤون الكون ، دون أن يكون له منافس قادر على التدخل في شؤون مملكته الواسعة الّا حسب اذنه وبعد السماح له بذلك.

فهذا هو الرب الذي يأمرنا القرآن بعبادته ، وتلك أيضا وصية عقولنا لو نتذكر قليلا. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) والتقدير الدقيق ، بينما الذين كفروا يجازيهم بشراب حار ، وعذاب مؤلم بسبب كفرهم.

وتتجلى مرة أخرى في تقديره الهادف ، وأنه كيف جعل من الشمس ضياء للناس يتوهج ، بينما جعل القمر نورا هادئا ، وقدره حسب منازله المختلفة بهدف معرفة الحساب ، وليعلم الإنسان عدد الأيام وينظم حياته وفقها. كل شيء خلق

٣٢٨

بهدف وضمن خطة حكيمة ، ولم يخلق شيء عبثا ، وأن القرآن يفصل الحديث ، ويوضحه تفصيليا لقوم يعلمون.

وتتجلى مرة أخرى في اختلاف الليل والنهار ، وكيف نجد كل شيء في الليل والنهار وضع موضعه ، ولتحقيق هدف خاص به.

بينات من الآيات :

الربوبية صفة ذاتية :

[٣] الله هو الرب العظيم ، والربوبية ليست صفة اعتبارية طارئة على ربنا سبحانه ، بل هي صفة ذاتية تتجلى في الحاجة الدائمة للكون اليه ، إنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، وهكذا أركز فيها الحاجة الماسة الى تقديره وقيمومته ، ذلك لأنه أعطاها في كل يوم شيئا جديدا في الخلق ، وبعدئذ لم يتركها لشأنها ، بل استوى على عرش القدرة مهيمنا على أمور الحياة ، مدبرا لها بلا منازع ولا شريك ، الّا من يأذن له وبقدر القدرة المخولة له.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)

فأمور الخلق بيده المقتدرة يدبرها بها ، ويخطّط لكل مرحلة من مراحلها ، ويجري خطته سبحانه ، أما الخلق فهم مخولون للقيام ببعض التدبير في حدود سماحة لهم بذلك ، ولأمد معدود.

فالبشر مثلا قد زوّده الله بالإرادة ، وسخّر له الأشياء ، وخوله بعضا من سلطاته سبحانه ، وسمح له بالاستفادة منها ، دون أن يفقد هو شيئا من سلطاته الذاتية.

(ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ)

٣٢٩

فليس له شفيع أو منافس أو منازع لقدرته ، بل قد يكون غيره قادر ضمن قدرته وفي مجرى قدرته تعالى ، وبعد اذنه سبحانه.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ)

ذلك لأن قليلا من التذكر والعودة الى المقاييس العقلية يكفينا معرفة بأن الرب الحقيقي هو الله ، وليست السلطات الجائرة التي تفرض نفسها على الشعوب بالقوة.

[٤] ومن مظاهر ربوبيته وآياته الواضحة : أن الله سبحانه هو مرجعنا الأخير ، وغدا سوف نجد أنفسنا أمامه ليحاسبنا حسابا دقيقا.

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ)

أي بالدقة دون أن ينقصهم من عملهم شيئا.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)

من أهداف الخلق :

[٥] ومن آيات تدبير الله للكون ، وهيمنته المطلقة عليه ، ذلك التقدير الحكيم ، الذي نجده في كل أرجاء العالم الرحيب ، ألا تجد الشمس كيف جعلها الله سبحانه ضياء؟ وضياؤها بقدر محدد صيفا وشتاء ، ضحى وظهرا ، لو زادت اشعاعاتها لاحترقت الأرض ، ولو نقصت لتجمدت بردا وماتت الحياة فيها؟ والقمر بدوره يسيل منه ذلك النور الهادىء ، وهو يتحول عبر منازل ، ابتداء من المحاق ، فالهلال ثم البدر ، ثم يتناقص حتى يعرف كل واحد من الناس ان الزمن يمر عنه ، وأن عليه أن ينظّم أوقاته ويعمل بجد ليوم حاجته ، إنك تجد كل يوم يشبه اليوم

٣٣٠

الماضي تقريبا ، لأن الشمس هي الشمس كل يوم ، أما القمر فيتحول عبر منازل ليهديك الى التحولات اليومية التي تحصل في ذاتك ربما دون أن تشعر بها.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ)

ولأجل تحقيق هدف محدد.

(يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

[٦] واختلاف الليل والنهار دليل آخر على ربوبية الله سبحانه ، ذلك لأن الاختلاف دليل الهدفية والتدبير.

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

من مختلف أنواع الخلق مما لا تحصى كثرة وتنوعا ، وكل واحد منها يحقق هدفا خاصا.

(لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)

ولأنهم يتّقون الله ويخشونه ، فان حجب الغفلة والجهالة لا تؤثر على قلوبهم ، فتكتشف هدفية الحياة ، وان كل شيء قدّر لهدف محدد سلفا.

العلاقة بين هدفية الحياة والتقوى :

ان هدفية الحياة التي تتجلى في النظام المتين في كل أبعاد الكون ، إنها تدعونا الى التقوى لماذا؟ وكيف؟

و الى هذه الحقيقة يشير الامام الصادق (عليه السلام ) حين يوضح للمفضّل

٣٣١

بن عمر كيف أن التدبير في الكون يدلّنا على ربنا العزيز فيقول :

(يا مفضل أول العبر والأدلة على الباري جل قدره تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ، ونظمها على ما هي عليه ، فانك إذا تأمّلت العالم بفكرك وميّزته بعقلك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج اليه عباده ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة كالمصابيح ، والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكل شيء فيها شأنه معد ، والإنسان كالمملّك ذلك البيت والمخوّل جميع ما فيه ، وضروب النبات مهيّأة لمآربه ، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه ، ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير وحكمة ، ونظام وملاءمة ، وأن الخالق لهو واحد ، وهو الذي ألّفه ونظّمه بعضا الى بعض جلّ قدسه ، وتعالى جده وكرم وجهه ولا اله غيره تعالى عما يقول الجاحدون وجلّ وعظم عمّا ينتحله الملحدون.(١)

ذلك لأنك حين ترى كل شيء في الدنيا يحقق هدفا ، ويسعى في سبيل بلوغ غاية محددة ، فتتذكّر حقيقة هامة في ذاتك ، هي أنك بدورك خلقت لهدف ومن أجل بلوغ غاية ، وهذه التذكرة تصبح حجر الزاوية في بناء كيانك الفكري ، إذا تتساءل ما هو الهدف؟ وكيف أحقّقه؟ وما هي الغاية وكيف الوصول إليها؟ وعبر سلسلة من التساؤلات التي تؤدي بك الى التدبّر العميق في نفسك ، وفي آفاق الكون حولك ، تصل الى الهدف الأساسي من خلقك ، ذلك هو العروج الى مقامك الأسمى عند الله ، وتبحث عن الوسيلة التي تساعدك على الوصول الى مقامك المنشود عند الله ، الى مرضاة ربك العزيز المقتدر ، فلا تجدها الّا في التقوى ، لذلك جاء فيما بعد الآية «إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ... لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» وجاء في آية أخرى : «وَيَتَفَكَّرُونَ

__________________

(١) بح ج ٣ ص ٦٠

٣٣٢

فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» (آل عمران )

حين نجد كيف يتدرج المتفكّر في خلق السموات والأرض من معرفة هدفيّة الخلق ، وأنه لم يخلق باطلا ، حتى يصل الى التقوى من الله والحذر من عذابه.

٣٣٣

سورة يونس

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)

٣٣٤

الكفر والايمان الأسباب والنتائج

هدى من الآيات :

مع هذه الآيات الواضحة المبثوثة في آفاق الأرض ، والتي نبّهت إليها آيات الدرس السابق ، لماذا يكفر فريق من الناس؟

باختصار : لأنهم لا يحبون لقاء الله ، ورضوا بالحياة الدنيا ، واطمأنت نفوسهم بما فيها من زخرفة ومتع زائلة ، وزعموا بأنها باقية لهم أبدا ، ولأنهم بالتالي غفلوا عن آيات الله التي تدلّهم على ان للدنيا نهاية ، وأنهم خلقوا للبقاء في عالم آخر.

وما هي عاقبة هذا الفريق الكافر؟.

أولئك مأواهم النار ، ذلك لأن هذه النظرة الضيقة الى حياتهم ، تجعلهم يقترفون ذنوبا ويحترفون آثاما تستوجب لهم النار.

بينما الذين آمنوا بالله ، وبأن وراء حياتهم هذه حياة أخرى يهديهم الله ، لذلك عملوا صالحا لحصول مرضاة الله ونعيم الآخرة ، لذلك تراهم مهتدين لأن الله يجعل

٣٣٥

من ايمانهم ضياء يهديهم به الى حقائق الأشياء ، وعند الله يجزون بجنات النعيم التي تجري من تحتها الأنهار.

إنهم يزدادون ايمانا بالله لذلك فدعاؤهم عند الله «سُبْحانَكَ اللهُمَّ» وتحيتهم فيما بينهم «السلام» ، فعلاقتهم بالله وهكذا بإخوانهم تزداد متانة ، ونفوسهم راضية مرضية ولذلك يقولون «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».

بينات من الآيات :

هل ترجو لقاء الله؟

[٧] اللقاء مع الله خالق السموات والأرض ، الرحمن الرحيم ، هدف سام يرجى بلوغه لما فيه من مصالح هامة ، ولكن بعض الناس لا يرجون لقاء الله ، فهم غير مرتبطين بهدف أسمى في حياتهم ، لذلك تجدهم يهتمون بعاجل الدنيا ، يحسبون ما فيها من لذائذ ومتع هي كل شيء.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا)

بينما هم غافلون عما حولهم من آيات بيّنات ، تدل على أن الإنسان أرفع درجة من سائر الأحياء ، وأنه قادر على بلوغ مراتب عالية ، لذلك لا يعيشون قلق المؤمنين النفسي الذي يبعثهم الى النشاط من أجل بلوغ تلك المراتب ، بل تجدهم يطمئنون بالحياة الدنيا ، يرضون بما فيها من متع ولذات ، كالبهيمة السائبة همّها علفها!!

(وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ)

وقليل من التفكر في آيات الله ، يبعث الفرد الى الايمان بأن الدنيا هذه الحلقة الفارغة التي لا تعني شيئا ، انها أتفه من أن تكون هدف البشر ، عمل وأكل ونوم ،

٣٣٦

ثم تكرار ذات الاسطوانة ، أعمل لتأكل ، وكل لتنام ، ونم لتعمل غدا .. وهكذا!!

[٨] لأن هؤلاء الناس اطمأنوا بالدنيا ، فأن الدنيا سلّمتهم الى النار ، لأن الذي يحسب الدنيا نهاية مطافه ، يجترح السيئات ويكتسب شرا ، وذلك الشر يتحول في القيامة الى عذاب اليم.

(أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)

فاكتسابهم الشر هو الذي سبّب لهم النار ، ولكن هذا الكسب كان بسبب سوء عقائدهم ..

النموذج المعاكس :

[٩] وفي مقابل هذا الفريق نجد الذين آمنوا بالله وباليوم الآخر ، فأصبح ايمانهم هذا سببا لتطلعهم الأسمى نحو مرضاة الله ، فكانت حياتهم ذات مغزى وهدف ، فلم يأكلوا ليعملوا ، ثم ليأكلوا ثم ليعملوا وهكذا بل أكلوا للعمل وعملوا لله ، وليس للأكل المجرد ، وهكذا عملوا الصالحات ، فلم يعملوا لكي يصلوا الى الشهوات العاجلة ، بل فقط العمل الصالح ذا النهج السليم الذي لم يضر بهم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)

إن انتزاع واقع الهدفية من الحياة ، كما فعل الكفار يخرب المعادلة في فهم اهداف الكون ، ويحدث الحلقة المفقودة التي تجعل فهمنا لسائر القضايا فهما محدودا ، بل ناقصا ، بل متناقضا ، ما هذه الدنيا ولماذا خلق فيها الشقاء والعذاب؟ ولماذا أعطي الجبابرة والطغاة فرصة الاعتداء على الناس وهل الموت تلك النهاية الباردة لحرارة الحياة؟

وهذا ما يجعلنا نرى ظواهر الكون بعين واحدة ، ومن بعد واحد ، وحين يؤمن

٣٣٧

الإنسان بالغيب وبالآخرة يجد تلك الحلقة المفقودة ، ويكتشف السر الخفي ، وبالتالي تكتمل عنده أجزاء المعادلة ، فيفهم كل شيء لذلك قال ربنا :

(يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ)

هذا في الدنيا .. أما في الآخرة فهم في جنات.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)

متعة المؤمنين :

[١٠] كل ما في الجنة بعد الموت يمكن أن نوجد منها صورة مصغّرة في الدنيا قبل الموت ، بل هو انعكاس لما في الدنيا ، والمؤمنون في الآخرة يتمتعون بما يلي :

ألف : انهم ينزهون الله عما يتصل بخلق الله ، وكلما وجدوا جمالا وقوة ونظاما نسبوه الى مصدره ، وهو جمال الله وقوته وحكمته ، وكلما وجدوا ضعفا عرفوا بأن رب الخلق منزه عنه ، ولذلك فيمكن أن يرفع بعض النقص عن خلقه مستقبلا ، لذلك فهم يتحركون في سلم التكامل ، لذلك تجد الكلمة المفضّلة ، عندهم هي «سبحان الله» وتلك دعواهم.

(دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ)

باء : ان علاقتهم ببعضهم علاقة سلمية.

(وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ)

جيم : وعلاقتهم بالأشياء حسنة ، فهم أبدا راضون عمّا أنعم الله عليهم.

(وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

٣٣٨

سورة يونس

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)

٣٣٩

الامتحان الإلهي

هدى من الآيات :

لكي يستفيق البشر من غفوتهم ، يذكرهم القرآن الحكيم بما ينتظرهم من العذاب بسبب أعمالهم ، الذي لو عجّله الله لهم لما بقوا أحياء ، إذ أن الأعمال السيئة كثيرة وعظيمة العقاب ، ولكن البشر يطالب أبدا بالجزاء العاجل ، دون أن يعرف أن جزاء الخير خير وجزاء الشر شر ، بيد أن الله يؤخر جزاء الشر ، لأمها لهم في طغيانهم.

فطرة الإنسان تدعوه الى نسيان كل عاداته وأفكاره وثقافته الباطلة ، والعودة الى فطرته النقية ، فاذا مسّ الإنسان الضر ، دعا ربه في أيّة حالة كان ، نائما على جنبيه أو قاعدا أو قائما ، ولكن لما كشف الله عنه الضر مشى في حياته دون أن يتذكر أن هناك ضرا مسّه ، وذلك بسبب زينة الدنيا في نفسه ، خصوصا فيما أسرف فيه ، وتعود عليه.

والله يستجيب للإنسان الذي يدعو لدفع الضر عنه ، الى فترة محدودة ، فاذا انقضت مهلته أخذه كما أخذ القرون الماضية لما ظلموا ، وأتم الله حجته عليهم

٣٤٠