من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

سورة التوبة

الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)

٢٦١

مواقف الأعراب من الرسالة

هدى من الآيات :

لكي يعطي القرآن بصيرة واضحة تجاه سكان البادية ، ويربط تقييم الناس لهم بمدى التزامهم بالقيم ، بين السياق ان الحالة الأولية لسكان البادية تقتضي الكفر والنفاق لأنهم بعيدون عن العلم ، ولذلك فهم أشد كفرا ونفاقا من غيرهم وابعد عن فهم حقائق الدين ، والالتزام بشرائعه.

وان هناك فريق من الاعراب يزعمون ان إنفاقهم في سبيل الله نوع من الخسارة التي تلحقهم وبذلك يثبتون جهلهم وبخلهم ، وهم ينتظرون نزول البلاء عليكم مما يدل على نفسيتهم اللئيمة والمتخلفة بيد ان عليهم دائرة السوء بسبب لؤمهم وتخلفهم ، والله سميع بما يقولون. عليم بما يضمرون.

بيد ان هناك فريقا من الاعراب يؤمنون بالله ورسوله ، ويتجاوزون حاجز البخل والجهل ، فيدفعون أموالهم قربة الى الله ، ولكي يحصلوا على دعاء الرسول لهم بالخير ، والله يوفر ذلك لهم ، وأنه سيدخلهم في رحمته الواسعة والله غفور رحيم.

٢٦٢

بينات من الآيات :

من صفات الاعراب

[٩٧] كانت النظرة الجاهلية المتخلفة تمجّد سكون البادية وركوب أهوالها وتحمّل قساوتها وقال أحدهم :

فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا.

وجاء الإسلام وأكد على اهمية المدن والتحضر ، وجاءت الآية الكريمة تحدد الموقف من سكان البادية ، الذين يسمّون بالاعراب (جمع اعرابي وهو ساكن البادية ) وبيّن فيهم صفتين : الشدة في الكفر و النفاق ، وربما لان طبيعة البادية شديدة ، أو انهم جاهلون والجهل يورث الشدة.

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ)

فهم بطبيعة وجودهم في الصحراء بعيدون عن مراكز العلم ، فهم أولى بالجهل بالاحكام الشرعية التي يسميها القرآن بالحدود في أكثر من مناسبة.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

عليم بأحوالهم حكيم فيما يطلقه عليهم من نعوت.

[٩٨] ومن مظاهر كفرهم ونفاقهم. انهم يزعمون أنّ الإنفاق في سبيل الله خسارة مما يعكس بخلهم وجهلهم معا.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً)

ومن مظاهر جهلهم وخشيتهم انهم ينتظرون نزول البلاء على المسلمين ، فهذه

٢٦٣

دلالة على انهم خبثاء كما يدل على تخلفهم الحضاري ، فبدل ان يقوموا بعمل ضد من يحسبونه عدوا تراهم يجلسون وينتظرون.

(وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ)

والدائرة هي النائبة ، التي تحيط بجوانب الشخص ، وتحاصره فلا يجد منها مخرجا ، ولكن أ ليس هذا الانتظار المتخلف واللئيم بذاته دائرة أحاطت بهم أنفسهم؟!

(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

[٩٩] ولكن هذه الطبيعة الاولية للأعراب التي يقتضيها جهلهم بالشريعة وشدتهم باستطاعة الإنسان ان يغيرها ويخرج من مقتضيات ظروفه عن طريق التوعية والتوجيه.

لذلك نجد طائفة من الاعراب تؤمن بالله واليوم الاخر ايمانا حقيقيا ولذلك فهي تنفق طوعا وايمانا منها بان الإنفاق توبة الى الله والى دعاء الرسول لها بالبركة.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

إذا بالرغم من نظرة الإسلام السلبية الى البقاء في البادية فانه لا يحكم على أهلها جميعا حكما مطلقا بل حسب ايمانهم وعملهم.

٢٦٤

سورة التوبة

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)

____________________

١٠١ [مردوا ] : المرد أصله الملامسة ومنه صرح ممرد اي مملس والأمرد الذي لا شعر على وجهه وقيل أصله الظهور فيكون المعنى عتوا وخرجوا من الطاعة.

٢٦٥

مواقف الناس من الجهاد

هدى من الآيات :

في مقابل المثل السيء للمنافقين ، يبين ربنا سبحانه واقع المؤمنين الصادقين السابقين الى الرسالة كمثل أعلى للإنسان الكامل ، فالسابقون اولا الى الايمان سواء من أهل مكة أو من أهل المدينة ، ومن ورائهم الذين اتبعوهم وتابعوا مسيرتهم رضي الله عنهم وعفى عن ما تقدم من ذنبهم ، واطمأنت نفوسهم الى رسالة الله ومناهجه وقضائه وقدره وقد أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، وذلك اسمى تطلع يمكن ان يبلغه البشر ـ رضا ربه وجنات خلد ـ.

بينما هناك أعراب منافقون ، وآخرون من أهل المدينة متوغلون في النفاق لا يعلمهم الرسول ، ولا نعلمهم نحن ولكن الله يعرفهم ، وفي الواقع إن معرفتنا أو عدم معرفتنا لا تؤثر شيئا في جزاء هؤلاء ، بل ان ربنا سبحانه سوف يعذبهم مرتين ـ مرة قبل ان يكشفوا ومرة بعدئذ ـ اما بعد الموت فان لهم عذابا عظيما.

وهناك فئة ثالثة متوسطة وهم ضعفاء الايمان الذين يخلطون بين الأعمال الصالحة

٢٦٦

والسيئة ، ولكن ليس بدافع الكفر أو النفاق بل بسبب ضعف ايمانهم ، ورجاء رحمة الله. (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

بينات من الآيات :

طبقات المؤمنين

[١٠٠] السبق بذاته قد لا يكون قيمة أساسية في مقابل قيمة التقوى ، ولكنه يكشف عادة عن التقوى تلك القيمة الأسمى عند الرسالات السماوية ، والسابقون الأولون هم أفضل من غيرهم لأنهم بادروا الى قبول الرسالة بإرادة صلبة تتحدى الصعاب ، ولا تستسلم لضغوط الطغاة ولا للاعلام الفاسد المضلل.

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ)

لا فرق بينهم رغم بعض النعرات الاقليمية التي كانت تحاول زرع الخلافات بين أهل مكة المهاجرين وأهل المدينة الأنصار. ليس على أساس السبق الى الهدى ، بل على أساس الميزات المزعومة في المجتمع المكي أو المدني ، ولكن الإسلام رفض بقوة هذه النظرة الجاهلية وربط بين الفرد وعمله لا بين الفرد وإقليمه.

(وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ)

فلم يتبعوهم بنفاق أو من أجل مصلحة خاصة بل لله سبحانه. ان هؤلاء هم الذين يكونون في صف السابقين الأولين.

وربما تدل كلمة الإحسان على حالة نفسية هي حالة العطاء والإنفاق لا حالة الاستسلام والقبول المطلق.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ

٢٦٧

فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

الصف المقابل للمؤمنين :

[١٠١] لكي نعرف مدى تحلق السابقين في سماء الإنسانية والخروج عن جاذبية الشهوات والضغوط لا بد ان نلقي نظرة الى الطرف الاخر من الصورة لنرى المنافقين كيف هبطوا الى حضيض الميوعة.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ)

فليس لأنهم من أهل المدينة أو من أهل مكة يمكن التغاضي عن ذنوبهم.

(لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ)

فعلم الله تعالى كاف لعذابهم ، فاذا اختفى المنافق عن انظار الناس وعن نظر القيادة فلا يغنيه ذلك شيئا لان الله سبحانه قد احصى اعماله وهو الذي سوف يجازيهم فيعذبهم مرتين. مرة قبل انكشافهم وذلك بالعذاب الروحي ، ومرة بعده بالعذاب المادي ، وكذلك سوف يعذبهم بعد الموت عذابا عظيما.

ضعاف الايمان

[١٠٢] وهناك فئة وسيطة يعترفون بذنوبهم وبذلك فهم أقرب درجة الى الايمان حيث ان له مرحلتين : فهم الحقيقة وتطبيقها ، وإذا عرف البشر الحقيقة فربما لا يعمل بها اليوم ولكنه يعمل بها حين يمتلك قوة وارادة كافية وهؤلاء.

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

الله يعاملهم مثلما هم يعاملون القيم ، ولكن رحمة الله أوسع من ذنوبهم.

٢٦٨

سورة التوبة

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)

____________________

١٠٦ [مرجوّون ] : مؤخرون موقوفون لما يروا من أمر الله.

[موعدة ] : من الوعد.

٢٦٩

بين الصدقات والتطهير

هدى من الآيات :

بعد ان بين لنا الدرس السابق ان فريقا من الناس خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا جاء هذا الدرس ليبين لنا ما يصلح هذا الفريق ، فبدأ الحديث ببيان أخذ الصدقات منهم لتطهير أموالهم ولتزكية نفوسهم ، وأمر القرآن الرسول (ص ) بالصلاة عليهم لأنه تسكين لقلق نفوسهم المتورطة في الذنوب ، والله سميع لما يصدر منهم من أصوات ظاهرة وعليم كذلك بخفاياهم.

وبما ان الله يقبل التوبة عن عباده فلا بد ألّا ييأس هؤلاء من روح الله ، وليبادروا بإنفاق الصدقات لأنه يأخذها بفضله ، وانه هو التواب الرحيم.

ولا يعني التوبة وإعطاء الصدقات الاستغناء عن العمل. كلا .. بل عليهم بالعمل الدائب الذي سيتجسد ويراه الله ورسوله والمؤمنون ، وسوف يجازيهم الله العالم بالظاهر والباطن والغيب والشهادة.

٢٧٠

وهناك فريق من الناس ابعد من هؤلاء وحسابهم على الله ، فاما يعذبهم أو يتوب عليهم حسب علمه بواقعهم وحكمته البالغة والمحددة بطبيعة الجزاء الذي يستحقونه.

بينات من الآيات :

متى تكون الصدقة قسرا؟

[١٠٣] الصدقة كل عمل يمارسه الفرد تقرّبا الى الله وانبعاثا من ايمانه بالله واليوم الآخر ، والصدقة المالية هي الإنفاق المالي بدافع التقوى والايمان ، وهناك فريق من الناس لا يعطون الصدقات بل تؤخذ منهم أخذا ، وهؤلاء هم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، والذين حدّثنا القرآن عنهم في الآية السابقة ولذلك امر الله رسوله (ص ) ومن ورائه (القيادة الاسلامية ) بأخذ الصدقة من أموالهم حتى ولو وجدوا صعوبة نفسية من دفع الصدقات طوعا ورغبة ، ولكن لا يعني ذلك الاقتصاص منهم أو اعتبار ذلك كالجزية التي هدفها القهر والتصغير. لا .. انما هدف أخذ الصدقة :

اولا : تطهير أموالهم وتنظيف سمعتهم الاجتماعية.

وثانيا : تزكية نفوسهم وتربيتها على الكرم ، والخروج من زنزانة البخل ، ورفعهم الى مستوى العطاء والاحساس بمسؤوليتهم الاجتماعية.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها)

ولا يعني أخذ الصدقة الاستيلاء على أموالهم ، بل أخذ قدر محدد منها مثل الخمس والزكاة أو سائر الحقوق الاجتماعية التي تحددها الظروف الاجتماعية.

ولكن هذا الأخذ يجب الا يسبب لهم حرجا نفسيا يبعدهم عن طريق الحق ، لذلك يجب الدعاء لهم.

٢٧١

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)

والدعاء لهؤلاء بالخير والبركة يعني أيضا السعي وراء خيرهم ورفاههم في مقابل عطائهم كأي دعاء اخرى حيث انه ليس منفصلا عن العمل من أجل ما يدعو له الفرد.

والدعاء بالصلاة لهؤلاء يسبب سكون نفوسهم واطمئنانها الى الله ، والى المجتمع المسلم الذي تمثله القيادة الرسالية ذات الاهتمام بكل الناس.

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

يسمع الدعاء ، ويعلم باهداف المصلي الذي يبتهل اليه سبحانه بالدعاء ولإخوانه.

قبول الله للصدقات :

[١٠٤] علم الله تعالى بأحوال عباده يجعلنا نؤمن بأنه يقبل التوبة الصادرة عن عباده ، وانه يأخذ الصدقات بالرغم من ان المبتهل الى الله هو الرسول أو المؤمنون ، فان الله هو الذي يقبل التوبة لا الرسول فقط ، وبالرغم من ان الرسول يأخذ الصدقة في الظاهر ولكن الله هو الذي يأخذها في الواقع.

(أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)

[١٠٥] لكي يطهّر هذا الفريق الذي خلط عملا صالحا وأخر سيئا ليطهروا أنفسهم ويزكوها ويعطوها المزيد من الصلابة الايمانية فانّ عليهم ان يعملوا فالعمل يخلف أثرين في النفس برسوخ الايمان فيها ، وفي الواقع الخارجي بمكاسب يراها الله

٢٧٢

ويراها الرسول والمؤمنون.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)

ولذلك لا قلق أبدا على الإنسان العامل ان يضيع عمله في زحمة الاحداث ، ولا خوف من عدم حصوله على نتائج عمله. عاجلا أم آجلا هنا وعند الاخرة.

(وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

فالله سبحانه الذي يعلم الظاهر والباطن لا يكتفي بإعطاء الجزاء الوافي للعامل ، بل وأيضا يبيّن للعامل ان هذا الجزاء انما هو لذلك العمل ليكون ألذ وأطيب وأدعى الى الاعتزاز والفخر.

كل هذا علاج شاف للنفوس الضعيفة التي لا تمحض الايمان ، ولا تخلص العمل الصالح بل تخلطه بالعمل السيء.

وكلمة اخيرة : ان أكثر المسلمين هم من هذا الفريق. الذي لم تتكامل شخصيتهم الايمانية فعليهم ان يستفيدوا من هذا العلاج لتعميق روح التقوى في نفوسهم.

المرجون لأمر الله :

[١٠٦] هناك فريق أخر لا يصلحون أنفسهم ولا يستفيدون من هذا العلاج القرآني لضعف نفوسهم وخور عزائمهم لذلك يبقى هؤلاء مرددين بين النار والجنة.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

ربما حسب ظروفهم الاجتماعية فقد يكون الذنب بسبب ظروف صعبة لا

٢٧٣

يحتملها ايمان الفرد وإرادته ، فرحمة الله تعالى واسعة ، وقد يكون الذنب بسبب تحدي سلطان الله أو اللامبالاة بأوامر الله ، أو الاسترسال التام مع الشهوات فالله شديد العقاب.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

ومن هنا فعلى البشر الا ييأس من روح الله ولا يسترسل مع الذنوب حتى ولو كانت ذنوبه كثيرة وكبيرة بل يقف فيها على حدود معينة تبعا لظروفه الضاغطة عليه باتجاه الذنوب ويحاول أبدا ان يدع علاقاته بالله باقية غير مقطوعة.

كما أن عليه الّا يعتمد كليا على رحمة الله ، فربما يكتشف عند الموت أن نقمة الله تستقبله بدل رحمته بسبب ذنوبه الكبيرة.

علم الله بلطائف نيّات البشر ، ودقائق أعمالهم ، وحكمته البالغة التي لا يسقط شيئا من حسابه وتقديره كل ذلك يجعلنا حذرين أبدا حاسبين حساب كل شيء ، عاملين حسب المستطاع من أجل الخلاص من عذاب الله ، والوصول الى رحمته الواسعة.

٢٧٤

سورة التوبة

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)

٢٧٥

رسالة المسجد ومسجد الضرار

هدى من الآيات :

في معرض بيانه للفئات الاجتماعية المختلفة في هذه السلسلة من الدروس يبيّن السياق حالة فئة منافقة تتستر بالدين ، وتتخذ مسجدا للأضرار بالمسلمين وإفساد عقائدهم وبث التفرقة بين صفوفهم وتعبئة للقوى المعادية للرسالة. كل ذلك تحت شعارات براقة وبادعاء انهم انما يريدون الخير والحسنى للناس بينما يشهد الله انهم كاذبون.

وينهى الله ورسوله من القيام في هذا المسجد ، لان المسجد يجب ان يكون بناؤه على أساس التقوى وليس الإضرار والكفر والتفرقة وبتعبير آخر على أساس النفع والايمان والوحدة وبدل تجميع القوى المعادية ، يجب ان يجمع المسجد رجالا يحبون التطهّر والصلاح ، والله يحب المتطهرين.

ان المسجد يجب أن يبنى على أساس التقوى ورضوان الله واتباع مناهجه ، والا فهو من دون أساس ثابت بل مبني على طرف هاوية ، وبالطبع سوف ينهار هذا

٢٧٦

البناء ، وتكون عاقبة أهله نار جهنم ، لان أساسه منحرف ، والله لا يهدي القوم الظالمين الذين انحرفوا فظلموا أنفسهم بالكفر والفساد.

وهذا البناء التحريفي لا أساس له حتى في نفوس بناته ، لأنهم يشكّون في سلامة خطتهم ويرتابون حتى تقطع قلوبهم وتشتت إرادتهم والله عليم بما يفعلون ، وحكيم حينما يجازيهم على أفعالهم.

بينات من الآيات :

مسجد ضرار :

[١٠٧] مرة اخرى يكشف لنا القرآن عن خطة شيطانية ماكرة هي تسترفئة من المنافقين بشعار الدين ، وبناء المساجد للفساد ، ويبيّن أن علينا أن نكون حذرين فلا تخدعنا المظاهر بل ان نتعمق أبدا الى ما ورائها من أهداف ، وكل عمل يقوم به شخص أو فئة يجب أن نجعله في سياقه التاريخي ونقيسه على أساس الغايات المتوخّاة من ورائه.

فهؤلاء فئة من المنافقين اتخذوا مسجدا بهدف الإضرار بينما أساس المسجد هو النفع .. المسجد لله تعالى وقد اتخذ هؤلاء مسجدا للكفر بالله. لتكريس قيم الشيطان ، مثلا : لتفريق الناس على أساس عنصري أو قومي أو إقليمي أو عشائري ليقولوا : هذا من أهل المدينة وهذا من أهل مكة ، ونحن نقبل الخزرج دون الأوس.

وهدف بناء المسجد تعبئة الطاقات الخيّرة في المجتمع بينما هدف هؤلاء من بناء المسجد تجميع شذاذ الأرض ، وإرصادهم ودفعهم نحو مقاومة الرسالة.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً)

٢٧٧

اي للإضرار بالناس لا النفع ، وربما أضحى المسجد ضرارا لأنه بني بأموال المستكبرين ، مثل كبار الرأسماليين و رؤساء القبائل العنصريين ولذلك لم يكن من الممكن أن يهدف المسجد سوى الضرار واستغلال المستضعفين ، والتسلط على رقاب الناس باسم الدين هذه المرة.

([وَكُفْراً ])

ومحتوى ذلك المسجد من الناحة الإيدلوجية والثقافية كان الكفر بالله وبالقيم الرسالية ، بالرغم من اقامة الصلاة فيه. لان الصلاة كانت ضد الصلاة الحقيقية ، وتلك الشعائر التي تهدف اعادة حكومة المستكبرين ليست سوى الكفر والضلال.

(وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ)

كان المسجد يميّز بين الفقراء والمستضعفين والمهاجرين من أهل مكة ، وبين الأغنياء ورؤساء القبائل وكبار المنافقين من أهل المدينة ، بينما المسجد الرسالي يجمع الكل على صعيد المساواة.

(وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ)

فبينما ينبغي أن يكون المسجد منطلقا لتجميع الطاقات المؤمنة الصادقة مع المجتمع ، ترى هذا المسجد يجمع كل منافق ، ويعبّؤهم لمحاربة الله ورسوله.

كل ذلك وأصحاب هذا المسجد يدّعون بأنهم لا يهدفون شرّا ، بل هدفهم مقدس وهو تحقيق أفضل حياة للإنسان ، وحماية حقوق البشر ، وصيانة الاستقلال والحرية.

(وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)

٢٧٨

أساس المسجد واهدافه :

[١٠٨] وينهى الله رسوله وبحزم بالغ ألّا يقوم في هذا المسجد أبدا.

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً)

فحتى لو كان البناء باسم المسجد فانه لا يكتسب شرعية ، لأنه مبني بهدف الفساد والكفر ، وقيام الرسول أو القيادة الرسالية في مثل هذه المساجد التي بنيت لتكريس سلطة الطغاة أو لتحقيق قيم الجاهلية يعطي شرعية زائفة لها.

(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)

والتقوى هنا تفسّر بما سبق وهو : أن يكون هدف بناء المسجد النفع لجميع الناس من الناحية الاقتصادية والاجتماعية ، واشاعة قيم الرسالة من الناحية التربويّة وبث روح التحابب والتعاون من الناحية الخلقية والسياسية.

اما من يجتمع في هذا المسجد ويقود مسيرته ، فهم أناس نظيفون هدفهم أولا تزكية ذواتهم ، ثم تربية الناس.

(فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)

فليس هدفهم استغلال الفقراء ، ولا التسلط عليهم باسم الدين ، ولا التعالي عليهم باسم العلم والفضيلة ، بل هم بدورهم يبحثون عن الطهارة ، ويهدفون تكميل شخصياتهم ، وبذلك يضربون مثلا حيّا لمن يقوم في المسجد من الناس.

[١٠٩] ان أساس هذا المسجد مختلف عن مسجد الضرار الذي لا أساس له. ان بناء هذا المسجد الرسالي قائم على أساس التقوى ، والبحث عن رضا الله تعالى ، وبالتالي تنفيذ مناهج الرسالة وتحقيق أهدافها بينما قام ذلك المسجد على أساس

٢٧٩

متزلزل ، انه قام من أجل الأهواء والمصالح التي لا تثبت على حال. بل تتبع رياح القوة والثروة ، فاذا هبّت الرياح جنوبا أو شرقا تراهم من أفضل خدم الشرق وإذا هبّت شمالا أو غربا تراهم من أفضل تلامذة الغرب وإذا حكم آل كذا! فعلى أهل المسجد التسبيح بحمد آل كذا! وإذا حكم أعداؤهم فعليهم لعن آل كذا!

(أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ)

اي الطرف القريب من المنحدر.

(فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ)

ان على المسجد ان يكون له ثقل في الواقع الاجتماعي والسياسي يهتدي الناس به كما يهتدون بالنجوم الثابتة. ويطمئنون اليه ويسكنون في ظله كما يطمئن شتات المستضعفين الى الامام الهادي ، وكما يسكن الخائفون الى ركن شديد ، المسجد يعبّئ الطاقات المؤمنة بعد أن كانت متفرقة ويعطيها قوة التجمع بعد ان كانت مستضعفة لذلك يجب ان يكون المسجد مستقلا عن متغيّرات السياسة ، ويجب أن يكون أئمة المساجد مستقلين عن السلطات ، أما إذا كانوا أقمارا في فلك السياسة المتغيّرة فان الله لا يهديهم طريقا لأنهم ظالمون لأنفسهم ولدورهم الرسالي.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

الشك والاهداف القصيرة :

[١١٠] وهذا المسجد القائم على أساس الظلم يبقى من دون أساس حتى بناة المسجد لا يعتمدون عليه ولا يزالون يشكّون فيه.

٢٨٠