من هدى القرآن - ج ٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-07-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

خيانة المشركين

وراء إلغاء المعاهدة

هدى من الآيات :

بالرغم من إعلان الحرب ضد الشرك ، فان ذلك لا يعني الغدر بهم بل إذا استجار بالرسول أحد منهم ، فان الإسلام يعطيه الامان ، لفترة البحث عن صحة الإسلام ، ثم إذا لم يقتنع يعاد الى مأمنه سالما. وعموما الإسلام يفي بعهده مع المشركين ما داموا ملتزمين به ، ومن دون عهد يشن عليهم حربا وقائية لأنهم بمجرد قوتهم يقاومون الإسلام بكل جهدهم دون أن يردعهم قسم سابق أو عهد ، يقولون كلاما حلوا وقلوبهم مليئة بالرفض ولا يلتزمون بقيمة.

أو ليسوا هم الذين باعوا دينهم بثمن بخس ، ومنعوا سبيل الخير ، وعملوا كلّ عمل سوء ، أو ليسوا هم الذين سحقوا حقوق المؤمنين دون أن يردعهم عهد أو حلف ، واعتدوا عليهم.

أجل لو انهم تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فان الصراع ليس شخصيا معهم ولا عنصريا فلذلك سوف يصبحون إخوانا للمؤمنين.

١٢١

ان هذا الدرس والذي يأتي يرسم خريطة التعامل مع المشركين كما يكشف خلفيات أنفسهم وسلوكهم.

بينات من الآيات :

إبلاغ الرسالة :

[٦] الهدف الاساسي للصراع مع المشركين هو إبلاغ الرسالة إليهم ، والطلب الوحيد منهم هو استماعهم لها من دون حجاب أو عقدة مسبقة. لذلك لو طلب أحد من المشركين الامان حتى يأتي الى الديار الاسلامية ويستمع من قرب الى تعاليم الرسالة ، فان الإسلام يؤمّن له طلبه ، لان كثيرا منهم يحارب الإسلام من دون وعي ولا يعلم بحقيقة الرسالة ، ثم ان لم يقتنع لا يغدر به بل يبلغه مأمنه بكل اعتزاز.

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ)

أي طلب الحماية ، وكانت تلك عادة عربية عريقة ، ان الواحد منهم يطلب من رئيس القبيلة المنيعة الجانب الحماية ، فتعطى له ويحفظ خلال فترة الاستجارة.

(فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)

لماذا يعطى للمشرك الحماية بالرغم من حربه مع الإسلام؟ لان المشركين لا يعلمون الحقيقة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ)

وهكذا ترى الإسلام لا ينسى رسالته في زحمة الصراع السياسي ، كما يؤكد على دور الاعلام الأمين في الصراع. ان علينا الا نعتبر الأعداء كتلة صخرية لا تتفتت.

١٢٢

بل هم بشر وجهلة ، يؤثر فيهم الحديث ويبلغ قلوبهم الهدى المبين ويقلل الاعلام من حجم الخسارة.

[٧] ما هي خلفية سلوك المشركين عموما؟

انهم لا يلتزمون بقيمة سامية لذلك لا عهد لهم ولا ذمة ، إلّا أولئك الذين عاهدهم المسلمون فيلتزمون بذلك العهد ، ما دام المشركون يلتزمون بشروطهم.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ)

وفي الآية التالية يبين القرآن سبب هذا الحكم ، وهو إسقاط احترام المشركين ، أما هنا فهو يستثني المعاهدين.

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)

أي الذين يلتزمون بمواثيقهم وعهودهم مع الناس ، حتى ولو لم يكونوا مسلمين. وتدل الآية على ان من شروط التقوى الوفاء بالعهد مع المسلم والكافر.

المشركون المعاهدون :

[٨] إذا امتلك المشركون القوة ، وغلبوا المسلمين فهل سيراعون لهم عهدا أو حلفا ، وهل يحترمون دماءهم وأموالهم؟ كلا ..

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً)

أيّ حلفا ولا عهدا.

أما الآن فهم يتظاهرون بالتمسك بحسن المعاملة واحترام حقوق الآخرين.

١٢٣

(يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ)

بكلماتهم الفارغة التي لا تتعدى اللسان.

(وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ)

وترفض نفوسهم الالتزام بما وراء هذه الكلمات.

(وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ)

غير ملتزمين أساسا بعهد أو قيمة.

[٩] وهل يتمسك بالقيمة من يبيع دينه بثمن بخس.

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً)

ومهما يكن الثمن الذي يعطى في مقابل الالتزام بالقيمة المعنوية فانه قليل. إذ ان شخصية الإنسان وكرامته وحتى مدنيته انما هي بمعنوياته ، وبمدى التزامه بقيمه في الحياة. انظر كيف انهم حين باعوا دينهم أخذوا يصدّون عن سبيل الله ، ويمنعون كلّ عمل الخير!!

(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

[١٠] انهم لا يعتنون بحقوق الناس وخصوصا المؤمنين.

(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ)

أولا ، واما معاملة المسلمين معهم فهي ردّ الاعتداء. كما هو الحال اليوم بين الامة الاسلامية المطالبة بحقوقها المهتضمة ، وبين الطواغيت في الأرض ، الذين

١٢٤

يطالبون أبدا باحترام القوانين الجائزة المفروضة علينا. بينما هم لا يعتنون بأبسط حقوقنا ويعتدون علينا ، ولذلك فنحن لا ننظر الى كلّ واقعة .. واقعة مجردة عن التسلسل التاريخي للاحداث ، بل علينا أن نحدد سياستنا معهم على ضوء مجمل معاملتهم معنا ، ونوع العلاقة القائمة التي تحكمنا وإياهم.

التوبة باب الرحمة الالهية :

ـ [١١] أمام هؤلاء المشركين باب عريض من التوبة وإصلاح أنفسهم ، وآنئذ يصبحون اخوة لنا.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ)

لا فرق بينكم وبينهم أبدا. لان الإسلام يرفض الفوارق العرقية والعشائرية أو الاقليمية ، وكذلك لا يعترف بالاسبقية الايمانية. بمعنى سيطرة السابقين من المؤمنين قديما على اللاحقين جديدي الايمان. بل يعترف بالاسبقية في حدود ضيقة يعطيهم اولوية الثقة والاحترام فقط .. وفيما وراء ذلك فهم اخوة متساوون أمام الله والشريعة.

(وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

ويفهمون الفرق بين الأحكام التي شرعت للموضوعات المختلفة.

١٢٥

سورة التوبة

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)

١٢٦

حكم الذين ينكثون أيمانهم

هدى من الآيات :

ما هو الموقف الاسلامي من المشركين الذين نقضوا العهد ، وخانوا أيمانهم؟

الموقف هو القتال الموجه ضد قياداتهم التي لا تلتزم بعهد ولا يمين وذلك بهدف إيقافهم عند حدهم ، وأسباب القتال هي :

أولا : نكث اليمين ، وعدم الالتزام به.

ثانيا : محاولة إخراج الرسول.

ثالثا : انهم البادون بالاعتداء ، وعلينا ألّا نخشى بطشهم. بل نخاف الله ونخشى عقابه ما دمنا مؤمنين به.

والله يعذب الكفار ، ولكن بأيدي المسلمين ، وحين يكافح المسلمون أعداءهم فالله ينصرهم ويخزي الكافرين ، ويزكي قلوب المؤمنين ، ويدخل فيها الفرح

١٢٧

والبشاشة ، وقد كانت سابقا مليئة بالغضب والغيظ ، والذين اكتسبوا إثما أو ذنبا ، تكون الحرب مطهرة لهم ، لان الله يتوب على من يشاء من عباده.

وتدخل هذه الآيات ضمن اطار السورة في التحريض على قتال المشركين وبيان سبب القتال وأهدافه.

بيّنات من الآيات :

(فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ)

[١٢] الناكثة هي الفرقة الضالة ، التي تقاوم الرسالة بعد التعهد بالتسليم لها ، وعدم الاعتداء عليها ، وقد تكون هذه الفرقة من المشركين أو من المسلمين ظاهرا ، والقرآن يأمرنا بقتالهم بصراحة بالغة.

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ)

اليمين الذي يعطيه فريق من أنفسهم لفريق آخر يعتبر نوعا من العهد الاجتماعي ، أو بالأحرى يعتبر تأكيدا دينيا على عهد اجتماعي لذلك نجد القرآن يمزج بين اليمين والعهد.

(وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ)

لكي يبرر هذا الفريق نقضهم للعهد يطعنون في الدين وتعاليمه وبنوده ، ويعتبرون تلك التعاليم مخالفة لمصالحهم أو لحريتهم وكرامتهم.

(فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ)

عادة يكون الفريق الناكث ملتفا حول قيادة شيطانية. ذات خطط ماكرة. لا تكشف عن نفسها. لذلك يجب على الأمة البحث عن تلك القيادات ومحاربتها وإلّا

١٢٨

فان إراقة دماء اتباعهم تزيد تلك القيادات قوة اجتماعية ، ويكرس سيطرتهم الباطلة على أتباعهم المضللين.

والواقع ان تلك القيادات لا يمكن انتظار الوفاء منها لأنها بنت حركتها على ضرب القيم السائدة ومقاومة المقاييس الاجتماعية ، ولذلك تجدها تكثر من الحلف وإعطاء العهد مع عزم مسبق على مخالفتها.

(إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ)

ولكن يجب ألّا يتحول قتال الناكثين من أجل إشباع شهوة الانتقام ، فيصبح اعتداء محرما على كرامتهم البشرية. بل يكون فقط بهدف إيقافهم عند حدهم ، واعادتهم الى شرعية القيم الاسلامية حتى يصبحوا كما غيرهم من الناس لهم حريتهم وكرامتهم وحقوقهم. لذلك أكدّ ربنا سبحانه على هذه الحقيقة قائلا :

(لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)

أيّ يمسكون أيديهم عن نقض العهد والطعن في الدين.

[١٣] واما العوامل التي تدفعنا الى قتال الناكثين فتتجسد في :

أولا : نكثهم لليمين ، ونقضهم لعهدهم السياسي مع المجتمع المسلم ، وبالتالي مخالفتهم للنظام الاجتماعي ، ذلك العهد الذي يقدمه المواطن المسلم عن طريق البيعة ويقدمه الذمي (كاليهود في المدينة ) في صيغة معاهدات ثنائية بينهم وبين القيادة ، وإذا نكث فريق عهدهم فان المجتمع المسلم يفقد حصانته ، وبالتالي يخشى ان يتحلل الآخرون من عهودهم والتزاماتهم فينهار المجتمع تماما لذلك قال ربنا :

(أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ)

١٢٩

ثانيا : مقاوتهم للنظام السياسي ومحاولتهم إسقاط حكومة الإسلام عن طريق محاربتهم للقيادة الشرعية المتمثلة في الرسول أو الامام.

(وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ)

ثالثا : انهم المعتدون أولا ، والبادي بالظلم أظلم.

(وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)

وعادة يتوجس الناس الخوف من الناكثين ، ولكن الله يحرّض عليهم ويقول :

(أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

إذا ترك الإنسان مبادءه وقيمه ، وتساهل في عهوده مع الناس ، فأي شيء يبقى له بعدئذ حتى يحسب مؤمنا؟!

[١٤] ان نتيجة القتال معروفة عند الله سلفا ، وهي :

أولا : ان الله سوف يعذب الكفار بايدي المؤمنين.

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ)

وهذا يعني ان بعضا من أقدار الله يجريها عن طريق المسلمين ، فعليهم ان يسعوا ، والله يسدد خطاهم ويوفقهم ، ولا يجوز لهم التواكل والكسل باسم التوكل على الله.

ثانيا : ان عزتهم بالإثم وغرورهم وكبرياءهم سوف تتحطم على صخرة الاستقامة الاسلامية.

١٣٠

(وَيُخْزِهِمْ)

وبالنسبة الى الناكثين يعتبر كسر شوكتهم الاجتماعية ضربة قاضية لهم ، وإنهاء لمشكلتهم.

ثالثا : ان الله ينصر المؤمنين عليهم ويثلج قلوبهم بالنصر.

(وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)

وهم الأكثر حماسا للقيم ، أو الأكثر تضررا من خروج الناكثين على الدولة.

[١٥] رابعا : ان القتال يحل العقد النفسية التي تتراكم في قلوب المؤمنين بسبب خروج الناكثين على الدولة.

(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ)

فيستعدون للبناء والتقدم الحضاري ، ومحاربة أعدائهم التقليديين.

خامسا : ان بعض المسلمين يتأثرون بدعايات الناكثين ، أو يتكاسلون في البدء عن مقاومتهم ، فيصلحون بالقتال والنصر ، كما ان البعض منهم قد احتملوا ذنوبا كبيرة وصغيرة وبسبب الجهاد في سبيل الله يغفر الله لهم ذنوبهم.

(وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

ولذلك لا يمكن أن يتكل أحد على الجهاد في سبيل الله فقط ويقول لنفسه انني أذنب ثم أجاهد فيغفر الله لي ، كلا فالله عليم حكيم ، لا يغفر لكلّ مذنب انما الذين يعملون الذنب بجهالة ثم يستغفرون.

١٣١

سورة التوبة

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ

١٣٢

سورة التوبة

بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)

١٣٣

المجاهدون أعظم درجة عند الله

هدى من الآيات :

في سياق الحديث القرآني حول الجهاد المقدس من أجل تحقيق القيم السامية يبين هذا الدرس جوانب من خلفية الجهاد النفسية :

فأولا : الجهاد مدرسة لتربية المسلم ، وتمييز المؤمن الصادق عن الضعيف والمنافق.

ثانيا : المظاهر الدينية التي يتوسل بها الكفار مثل عمارة المساجد غير مقبولة عند الله وهي تحبط ولا تنفعهم شيئا في الآخرة. حيث يخلدون في النار ، وان العمارة الحقيقية للمساجد ، انما هي بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وخشية الله ، وليس سواء القيام ببعض الأعمال الظاهرية ، والتي قد يداخلها الرياء أو طلب السمعة مثل عمارة المسجد الحرام ، وسقاية الحاج ، ليس سواء ذلك والايمان الحقيقي بالله وبرسالاته ، وعند الله الايمان والجهاد في سبيله بالمال والنفس أعظم ثوابا من بناء المساجد ، والله يبشر المؤمنين الصادقين برحمة منه في الدنيا ورضوان في الآخرة ،

١٣٤

وجنات فيها نعيم مقيم.

بينات من الآيات :

الايمان الصادق :

[١٦] الايمان ليس بالتمني ، ولكنه بصدق العمل وتحدي الصعاب في سبيل الحق ، والذي يجعل الايمان ذا مصداق واقعي هو الجهاد ، وبذل منتهى الوسع في سبيل تحقيق أهداف الايمان.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ)

والله سبحانه سوف يبتلي المؤمنين بصعوبات ويأمرهم بتحديها بالجهاد ، وهناك شرط آخر لصدق الايمان يتحقق بالولاء الخالص لجبهة الحق ، وعدم السقوط في ولاءات باطلة ومتداخلة.

(وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً)

أي وسيلة ودخيلة ، وبالتالي انتماء.

(وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)

العمل الصالح جوهر لا مظهر :

[١٧] ولان الهوية الاسلامية لا تتحقق إلّا بإخلاص الولاء لله وللقيادة الرسالية وللمجتمع المسلم ، فان هذا هو المعيار الذي يحدد المؤمن والكافر أما الأعمال الظاهرية مثل عمارة المساجد ، فانها ليس لا تنفعهم فقط بل وتضرهم أيضا. إذ تصبح شاهدة عليهم.

١٣٥

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ)

لان المسجد هو محراب المؤمن الذي يحدد هوية المجتمع المسلم وقيادته المتمثلة في الرسول وأوليائه. لا أولياء الشيطان من أنصار الطاغوت ، وعبدة الأصنام الحجرية والبشرية.

(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ)

لان العمل الذي لا يستند الى قاعدة صلبة من الرؤية السليمة والايمان المهيمن. انه يسقط كما شجرة بلا جذور ، وكما بناء بلا أساس.

(وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ)

[١٨] عمارة المسجد لا تتم بوضع حجر فوق حجر ، بل بتنفيذ كل الواجبات الدينية التي تجعل المسجد المبني معمورا حقيقة ، وذلك بالايمان بالله واليوم الآخر ، وبالصلاة لله وإيتاء الزكاة ، وبمقاومة الضغوط التي تأتي من القوى السياسية والاجتماعية وتحاول تركيع البشر ودفعه باتجاه التسليم للطاغوت.

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ)

فالخشية من غير الله تدفع البشر نحو التسليم له عمليا وهو الشرك.

وإذا توفرت هذه الشروط كاملة فان جوهر الصلاح والفلاح وهو الوصول الى الحقيقة يتحقق.

(فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)

١٣٦

وربما كان تعبير القرآن ب (عسى ) هنا أو ب (لعلّ ) في موضع آخر ، للدلالة على عدم الركون الى مظاهر الأمور ، والسكون عند حد معين من العمل ، أو من تحقيق شروط الهداية بل يجب العمل بجد ومثابرة والخشية من الّا يكون مقدار العمل كافيا لتحقيق الهدف المنشود كما الإنسان الذي يخشى موت ابنه من المرض. كيف يوفر كل الوسائل ، ولكنه يظل يبحث عن المزيد من وسائل العلاج خشية الا يكون ما هيأه كافيا.

والعمل الصالح يزيد الهدى والعكس صحيح ، إذ ان الظلم يحجب العقل ، ويمنع البشر من الهداية كما يأتي في الآية القادمة.

[١٩] الأعمال الظاهرية ليست كالأعمال الجذرية .. فليست سقاية الحاج وتعمير المسجد الحرام كالايمان بالله واليوم الآخر ، والجهاد في سبيل الله لأن الكافر والمنافق والفاجر قد يقوم بمثل هذه الأعمال الظاهرية التي قد يتستر وراءها للقيام بالأعمال الشاذة.

(أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)

و قد جاء في الحديث : قيل : ان عليا قال للعباس «يا عمّ ألا تهاجر. ألا تلحق برسول الله؟!» فقال : أ لست في أعظم من الهجرة. اعمّر المسجد الحرام ، واسقي حاج بيت الله فنزل : «أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» (١)

(وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ)

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٢ / ١٩٤.

١٣٧

ان الجهاد هو ذلك المقياس الذي لا يخطأ إذا كان في اطار الايمان لأنه تحد للشهوات والأهواء ومقاومة للطاغوت ، وبلورة للارادة. وكثير أولئك الذين يبررون تقاعسهم عن الايمان والجهاد وعما يتطلبه الجهاد من مساع وتضحيات. يبرونه ببعض الأعمال الظاهرية ذات اللافتة العريضة ، والخواء الواقعي مثل طبع نسخ القرآن وتفاسيره وكتب التراث ، واجراء الحدود الامنية على المستضعفين مثلما السلطات الطاغوتية التي كلما تخالف نصوص الدين في منح الحرية والرفاه والمساواة تزيد من ترديد الشعارات البراقة ، وتسمية الشوارع والمدارس باسم الحرية والرفاه والمساواة ، أو تزيد من رواتب علماء الدين وبناء المعاهد الدينية ، وكلما تخالف تعاليم الإسلام في التحرر والاستقلال والديمقراطية تزيد من تنفيذ تعاليم الدين في جلد الزاني واعتقال شارب الخمر ، ومكافحة ما يسمى في عرفهم بالارهاب والجريمة.

وكما يصنعه الطاغوت ، يفعله التجار الكبار الذين يتحالفون مع الحكام الظلمة ، ويمتصون دماء المحرومين ، ولكن يقدمون فتات موائدهم للفقراء ، ويبنون مستشفى أو مستوصف أو يعبّدون طريقا ، أو ما أشبه ، في الوقت الذي يتركون الشعب وحده في مواجهة السلطات الطاغوتية ، أو المستعمر الغاشم.

وهكذا نجد العباس بن عبد المطلب عم الرسول بعد ان أسر في حرب بدر ، واقبل عليه أناس من المهاجرين والأنصار وعيّروه بالكفر وقطيعة الرحم نجده يبرر عمله قائلا : ما لكم تذكرون مساوءنا ، وتكتمون محاسننا قالوا : وهل لكم من محاسن قال : نعم ، والله لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ونفك العاني (أي الأسير ) فأنزل الله تعالى : «(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا) ...».

وكلمة أخيرة : ان كل واحد منا يمكن ان يصبح طاغوتا أو متحالفا مع الطاغوت ، ويبتلى بخداع ذاتي لا يقدّره الله ولا الضمير ولا التاريخ ، فعلينا ان

١٣٨

نتمسك بمقياس دقيق لكي نمنع عن أنفسنا مرض الخداع الذاتي ، ذلك المقياس هو الجهاد ففي اللحظة التي تشعر انك تسترخي وتترك مقاومة الانحراف فقد استسلمت وخارت أرادتك ، ويمكن ان تنتهي واقعيا ودون ان تشعر بذلك لأن الهداية تتأثر بعمل الإنسان وتصميمه ومشيئته ، فالظالم لا يهتدي ، لذلك أكدّ القرآن في نهاية الآية :

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

فالظالمون قد تورطوا في الضلالة وهم يحسبون انهم مهتدون ، والله يدعهم لأنفسهم ويتركهم لشأنهم.

[٢٠] في المقياس الاسلامي يعطى الجهاد الأولوية ، ثم تترتب سائر الأعمال الخيرية مثل : عمارة المساجد ، وبناء المدن ، لان أهم شيء عند الإنسان هو تحرره عن التسلط السياسي والاستغلال الاقتصادي ، وبناء المؤسسة الاجتماعية الصالحة ، وبعدئذ يأتي دور الاعمار.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ)

من أجل إقامة حكومة الله في الأرض. حكومة الحرية والعدالة والاستقلال. هؤلاء

(أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ)

من سائر من يقومون بالخدمات الاجتماعية ، أعظم من الباحثين في المختبرات ، والاساتذة في الجامعات والعمال في المصانع والفلاحين في الحقول ، والوعّاظ في المساجد لان النظام السياسي والاقتصادي الفاسد يذهب بخيرات كل أولئك ، وربما يستغل كل تلك المكاسب من أجل تدعيم سلطة الطاغوت ، وتكريس ظلمه وفساده

١٣٩

فمثلا : قد تجد كلّ جامعات الولايات المتحدة تبحث لتقدم اطروحة علمية في الفيزياء أو الكيمياء ، ويقوم العمال الخبراء في كثير من المصانع بتحويل الاطروحة الى واقع وتصنع سلاحا فتاكا يهدم حقول ومصانع الشعب الفيتنامي ، وحتى الوعاظ في كنائس امريكا قد يتحولون في ظل نظام التسلط الرأسمالي الى خدم بسطاء لاستراتيجيات البنتاغون ، فيدعمون سياسة التجنيد من أجل الحرب ضد الشعب الفيتنامي.

إذا أولئك المجاهدون الذين يهدفون تغيير النظام الفاسد ، وتحرير الإنسان من عبودية الرأسمال أو التسلط ، أولئك أعظم درجة عند الله من سائر الناس.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ)

[٢١] ولاهمية هذا العمل ، ولخطورته البالغة على حياتهم ولتضحياتهم الكبيرة في هذا السبيل فانه لا يقدم عليه الا المخلصون حقا الذين لا يحسبون لأنفسهم حسابا وانما يهدفون فقط خدمة الناس ، وابتغاء مرضاة ربهم لذلك كان جزاؤهم عظيما.

(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ)

ومن مظاهر الرحمة إسقاط الطاغوت واستخلافه ، والوصول الى سدة الحكم من أجل القيام بخدمات أكبر مما سبق.

أما الرضوان فهو تيسير أمورهم من عند الله ، وبلوغ حالة الطمأنينة والسكينة ، هذا في الدنيا.

(وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ)

دائم ولا يخشى زواله.

[٢٢] (خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)

١٤٠