الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٥

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

الصراع من قوله في صحيفة (ب) تحت عنوان : الأئمّة عند الشيعة يعلمون كلّ شيء ، والأئمّة إذا شاءوا أن يعلموا شيئاً أعلمهم الله إيّاه ، وهم يعلمون متى يموتون ، ولا يموتون إلاّ باختيارهم ، وهم يعلمون علم ما كان وعلم ما يكون ولا يخفى عليهم شيءٌ (ص ١٢٥ ، ١٢٦) من الكافي للكليني. ثمّ قال :

وفي الكتاب نصوص أخرى أيضاً في المعنى ، فالأئمّة يُشاركون الله في هذه الصفة صفة علم الغيب ، وعلم ما كان وما سيكون ، وأنَّه لا يخفى عليهم شيءٌ ، والمسلمون كلّهم يعلمون أنّ الأنبياء والمرسلين لم يكونوا يشاركون الله في هذه الصفة ، والنصوص في الكتاب والسنّة وعن الأئمّة ، في أنَّه لا يعلم الغيب إلاّ الله ، متواترةٌ لا يستطاع حصرها في كتاب .. إلخ.

الجواب : العلم بالغيب ـ أعني الوقوف على ما وراء الشهود والعيان ـ من حديث ما غبر أو ما هو آت ، إنَّما هو أمر سائغ ممكن لعامّة البشر ، كالعلم بالشهادة يُتصوّر في كل ما يُنبَّأ الإنسان من عالم غابر ، أو عهدٍ قادم لم يَرَه ولم يشهده ، مهما أخبره بذلك عالم خبير ، أخذاً من مبدأ الغيب والشهادة ، أو علماً بطرق أخرى معقولة ، وليس هناك أيُّ وازعٍ من ذلك ، وأمّا المؤمنون خاصّة فأغلب معلوماتهم إنّما هو الغيب من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وجنّته وناره ولقائه ، والحياة بعد الموت ، والبعث والنشور ، ونفخ الصور والحساب ، والحور والقصور والولدان ، وما يقع في العرض الأكبر ، إلى آخر ما آمن به المؤمن وصدّقه ، فهذا غيب كلّه ، وأُطلق عليه الغيب في الكتاب العزيز ، وبذلك عرّف الله المؤمنين في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (١).

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) (٢).

__________________

(١) البقرة : ٣.

(٢) الأنبياء : ٤٩.

٨١

وقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) (١).

وقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) (٢).

وقوله : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) (٣).

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) (٤).

وقوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) (٥).

ومنصب النبوّة والرسالة يستدعي لمتولّيه العلم بالغيب من شتّى النواحي مضافاً إلى ما يعلم منه المؤمنون ، وإليه يشير قوله تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٦).

ومن هنا قصَّ على نبيّه القصص ، وقال بعد النبأ عن قصّة مريم : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) (٧).

وقال بعد سرد قصّة نوح : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ) (٨).

وقال بعد قصّة إخوان يوسف : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) (٩).

وهذا العلم بالغيب الخاصّ بالرسل دون غيرهم ينصُّ عليه بقوله تعالى :

__________________

(١) فاطر : ١٨.

(٢) يس : ١١.

(٣) سورة ق : ٣٣.

(٤) الملك : ١٢.

(٥) مريم : ٦٠.

(٦) هود : ١٢٠.

(٧) آل عمران : ٤٤.

(٨) هود : ٤٩.

(٩) يوسف : ١٠٢.

٨٢

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (١) ؛ نعم : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ) (٢). (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (٣)

فالأنبياء والأولياء والمؤمنون كلّهم يعلمون الغيب بنصٍّ من الكتاب العزيز ، ولكلٍّ منهم جزء مقسوم ؛ غير أنَّ علم هؤلاء كلّهم ـ بلغ ما بلغ ـ محدود لا محالة كمّا وكيفاً ، وعارض ليس بذاتيٍّ ، ومسبوقٌ بعدمه ليس بأزليٍّ ، وله بدء ونهاية ليس بسرمديٍّ ، ومأخوذٌ من الله سبحانه (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ) (٤).

والنبيّ ووارث علمه في أمّته (٥) ارجاع دارد يحتاجون في العمل والسير على طبق علمهم بالغيب من البلايا ، والمنايا ، والقضايا ، وإعلامهم الناس بشيءٍ من ذلك ، إلى أمر المولى سبحانه ورخصته ، وإنَّما العلم ، والعمل به ، وإعلام الناس بذلك ، مراحل ثلاث لا دخل لكلّ مرحلة بالأخرى ، ولا يستلزم العلم بالشيء وجوب العمل على طبقه ، ولا ضرورة الإعلام به ، ولكلٍّ منها جهات مقتضية ووجوه مانعة لا بدَّ من رعايتها ، وليس كلّ ما يُعلَم يُعمَل به ، ولا كلّ ما يُعلَم يُقال.

قال الحافظ الأصولي الكبير الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشهير بالشاطبي المتوفّى (٧٩٠) في كتابه القيّم ـ الموافقات في أصول الأحكام (٦) (٢ / ١٨٤):

لو حصلت له مكاشفة بأنَّ هذا المعيّن مغصوب أو نجس ، أو أنَّ هذا الشاهد

__________________

(١) الجن : ٢٦ و ٢٧.

(٢) البقرة : ٢٥٥

(٣) الإسراء : ٨٥.

(٤) الأنعام : ٥٩.

(٥) أجمعت الأمّة الإسلامية على أنّ وارث رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم في علمه هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. راجع الجزء الثالث من كتابنا : ص ٩٥ ـ ١٠١. (المؤلف)

(٦) الموافقات في أصول الأحكام : ٢ / ٢٦٧.

٨٣

كاذبٌ ، أو أنَّ المال لزيد ، وقد تحصّل ـ للحاكم ـ بالحجّة لعمرو ، أو ما أشبه ذلك ، فلا يصحُّ له العمل على وفق ذلك ما لم يتعيّن سببٌ ظاهر ، فلا يجوز له الانتقال إلى التيمّم ، ولا ترك قبول الشاهد ولا الشهادة بالمال لذي يدٍ على حال ، فإنّ الظواهر قد تعيّن فيها بحكم الشريعة أمرٌ آخر ، فلا يتركها اعتماداً على مجرّد المكاشفة أو الفراسة ، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النوميّة ، ولو جاز ذلك لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتّبت في الظاهر موجباتها ، وهذا غير صحيح بحال فكذا ما نحن فيه ، وقد جاء في الصحيح (١) : «إنَّكم تختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض ، فأحكم له على نحو ما أسمع منه ...». فقيّد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك.

وقد كان كثير من الأحكام التي تجري على يديه يطّلع على أصلها وما فيها من حقٍّ وباطلٍ ، ولكنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يحكم إلاّ على وفق ما سمع ، لا على وفق ما علم (٢) ، وهو أصلٌ في منع الحاكم أن يحكم بعلمه ، وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه : إنّ الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه ، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم تعمّد الكذب ، لأنّه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكماً بعلمه ، هذا مع كون علم الحاكم مستفاداً من العادات التي لا ريبة فيها لا من الخوارق التي تداخلها أُمور ، والقائل بصحّة حكم الحاكم بعلمه فذلك بالنسبة إلى العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق ، ولذلك لم يعتبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الحجّة العظمى ـ إلى أن قال (٣) في (ص ١٨٧)

إنّ فتح هذا الباب يؤدّي إلى أن لا يُحفَظ ترتيب الظواهر ، فإنَّ من وجب عليه

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٩٥٢ ح ٢٥٣٤. صحيح مسلم : ٣ / ٥٤٨ ح ٤ كتاب الأقضية.

(٢) قال السيّد محمد الخضر الحسين التونسي في تعليق الموافقات : لا يقضي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بمقتضى ما عرفه من طريق الباطن كما حكى القرآن عن الخضر عليه‌السلام ، حتى يكون للأمّة في أخذه بالظاهر أسوة حسنة ـ إلى أن قال ـ : والحكم بالظاهر ، وإن لم يكن مطابقاً للواقع ، ليس بخطإ لأنّه حكم بما أمر الله. (المؤلف)

(٣) الموافقات في أصول الأحكام : ٢ / ٢٧١.

٨٤

القتل بسببٍ ظاهر فالعذر فيه ظاهر واضح ، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرّد أمرٍ غيبيّ ربّما شوّش الخواطر وران على الظواهر ، وقد فُهِمَ من الشرع سدّ هذا الباب جملة ؛ ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ، ولم يُستثنَ من ذلك أحدٌ ، حتى إنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احتاج إلى البيّنة في بعض ما أنكر فيه ممّا كان اشتراه ، فقال : من يشهد لي؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها الله شهادتين. فما ظنّك بآحاد الأمّة ، فلو ادّعى أكبر الناس على أصلح الناس لكانت البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ؛ وهذا من ذلك والنمط واحدٌ ، فالاعتبارات الغيبيّة مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعيّة.

وقال (١) في (ص ١٨٩) : فصلٌ : إذا تقرّر اعتبار ذلك الشرط ، فأين يسوغ العمل على وفقها؟ فالقول في ذلك : إنّ الأمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدّم ، وذلك على أوجه :

أحدها : أن يكون في أمرٍ مباحٍ ، كأن يرى المكاشف أنَّ فلاناً يقصده في الوقت الفلاني أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقةٍ أو مخالفةٍ ، أو يطّلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقادِ حقٍّ أو باطلٍ وما أشبه ذلك ، فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه أو يتحفّظ من مجيئه إن كان قصده بشرٍّ ، فهذا من الجائز له كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك ، لكن لا يُعامله إلاّ بما هو مشروع كما تقدّم.

الثاني : أن يكون العمل عليها لفائدةٍ يرجو نجاحها ، فإنَّ العاقل لا يدخل على نفسه ما لعلّه يخاف عاقبته فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها أو غيره ، والكرامة كما أنَّها خصوصيّة كذلك هي فتنة واختبار لينظر كيف تعملون ، فإن عرضت حاجة أو كان لذلك سبب يقتضيه فلا بأس ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبر بالمغيّبات للحاجة إلى ذلك ، ومعلوم أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يخبر بكلّ مغيَّب اطّلع عليه ، بل كان

__________________

(١) ١ (الموافقات في أصول الأحكام : ٢ / ٢٧٢.

٨٥

ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات ، وقد أخبر ـ عليه الصلاة والسلام ـ المصلّين خلفه أنَّه يراهم من وراء ظهره ؛ لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث ، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك ، وهكذا سائر كراماته ومعجزاته ، فعمل أمّته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الأوّل ، ولكنّه مع ذلك في حكم الجواز لما تقدّم من خوف العوارض كالعجب ونحوه.

الثالث : أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعدَّ لكلٍّ عدّته ، فهذا أيضاً جائز ، كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا ، أو لا يكون إن فعل كذا فيعمل على وفق ذلك .. إلخ.

فهلاّ كان من الغيب نبأ ابن نوح ، وأنباء قوم هود وعاد وثمود ، وقوم إبراهيم ولوط ، وذكرى ذي القرنين ، ونبأ من سلف من الأنبياء والمرسلين؟

وهلاّ كان منه ما أسرَّ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بعض أزواجه فأفشته إلى أبيها (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (١)؟

وهلاّ كان منه ما أنبأ موسى صاحبه من تأويل ما لم يستطع عليه صبراً (٢)؟

وهلاّ كان منه ما كان يقول عيسى لأمّته (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (٣)؟

وهلاّ كان منه قول عيسى لبني إسرائيل (يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (٤)؟

__________________

(١) التحريم : ٣.

(٢) في قوله تعالى : (قَالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْراً) الآية ٦٧ من سورة الكهف.

(٣) آل عمران : ٤٩.

(٤) الصف : ٦.

٨٦

وهلاّ كان منه ما أوحى الله تعالى إلى يوسف (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١)؟

وهلاّ كان منه ما أنبأ آدم الملائكة من أسمائهم أمراً من الله (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) (٢)؟

وهلاّ كانت منه تلكم البشارات الجمّة المحكيّة عن التوراة والإنجيل والزبور وصحف الماضين وزبر الأوّلين بنبوّة نبيّ الإسلام وشمائله وتاريخ حياته وذكر أمّته؟

وهلاّ كانت منه تلك الأنباء الصحيحة المرويّة عن الكهنة والرهابين والأقسّة حول النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ولادته؟

ليس هناك أيّ منع وخطر إن علّم الله أحداً ممّن خلق بما شاء وأراد من الغيب المكتوم من علم ما كان أو سيكون ، من علم السموات والأرضين ، من علم الأوّلين والآخرين ، من علم الملائكة والمرسلين ، كما لم يُرَ أيّ وازع إذا حَبا أحداً بعلم ما شاء من الشهادة وأراه ما خلق كما أرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض ، ولا يُتصوّر عندئذٍ قطُّ اشتراك مع المولى سبحانه في صفته العلم بالغيب ، ولا العلم بالشهادة ولو بلغ علم العالم أيّ مرتبة رابية ، وشتّان بينهما ، إذ القيود الإمكانيّة البشريّة مأخوذة في العلم البشريّ دائماً لا محالة ، سواءٌ تعلّق بالغيب أو تعلّق بالشهادة ، وهي تلازمه ولا تفارقه ، كما أنَّ العلم الإلهي بالغيب أو الشهادة تؤخذ فيه قيود الأحديّة الخاصّة بذات الواجب الأحد الأقدس سبحانه وتعالى.

وكذلك الحال في علم الملائكة ، لو أذن الله تعالى لإسرافيل مثلاً ، وقد نصب بين عينيه اللوح المحفوظ الذي فيه تبيان كلّ شيء ، أن يقرأ ما فيه ويطّلع عليه لم

__________________

(١) يوسف : ١٥.

(٢) البقرة : ٣٣.

٨٧

يشارك الله قطُّ في صفته العلم بالغيب ، ولا يلزم منه الشرك.

فلا مقايسة بين العلم الذاتيّ المطلق وبين العرضيّ المحدود ، ولا بين ما لا يُكَيَّف بكيف ولا يؤيَّن بأين وبين المحدود المقيّد. ولا بين الأزليّ الأبديّ وبين الحادث المؤقّت. ولا بين التأصّليّ وبين المكتسب من الغير ، كما لا يُقاس العلم النبويُّ بعلم غيره من البشر ، لاختلاف طرق علمهما ، وتباين الخصوصيّات والقيود المتخذة في علم كلّ منهما ، مع الاشتراك في إمكان الوجود. بل لا مقايسة بين علم المجتهد وبين علم المقلّد فيما علما من الأحكام الشرعيّة ولو أحاط المقلّد بجميعها ، لتباين المبادئ العلميّة فيهما.

فالعلم بالغيب على وجه التأصّل والإطلاق من دون قيد بكمٍّ وكيفٍ كالعلم بالشهادة على هذا الوجه ، إنّما هما من صفات الباري سبحانه ، ويخصّان بذاته لا مطلق العلم بالغيب والشهادة ، وهذا هو المعنيّ نفياً وإثباتاً في مثل قوله تعالى. (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ) (١).

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢).

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣).

وقوله تعالى : (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤).

وقوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (٥).

__________________

(١) النمل : ٦٥.

(٢) فاطر : ٣٨.

(٣) الحجرات : ١٨.

(٤) الجمعة : ٨.

(٥) الحشر : ٢٢.

٨٨

وقوله تعالى : (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١).

وقوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

وقوله تعالى حكايةً عن نوح : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) (٣).

وقوله تعالى حكايةً : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) (٤).

وبهذا التفصيل في وجوه العلم يُعلم عدم التعارض نفياً وإثباتاً بين أدلّة المسألة كتاباً وسنّة ، فكلٌّ من الأدلّة النافية والمثبتة ناظر إلى ناحيةٍ منها ، والموضوع المنفي من علم الغيب في لسان الأدلّة غير المثبت منه وكذلك بالعكس. وقد يوعز إلى الجهتين في بعض النصوص الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم‌السلام مثل قول الإمام أبي الحسن موسى الكاظمعليه‌السلام مجيباً يحيى بن عبد الله بن الحسن لمّا قال له : جعلت فداك إنَّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب ، فقال عليه‌السلام : «سبحان الله ضع يدك على رأسي فو الله ما بقيت شعرةٌ فيه ولا في جسدي إلاّ قامت». ثمّ قال : «لا والله ما هي إلاّ وراثة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٥).

وكذلك الحال في بقيّة الصفات الخاصّة بالمولى العزيز سبحانه وتعالى ، فإنّها تمتاز عن مضاهاة ما عند غيره تعالى من تلكم الصفات بقيودها المخصّصة ، فلو كان عيسى على نبيِّنا وآله وعليه‌السلام يحيي كلّ الموتى بإذن الله ، أو كان خَلق عال ماً بشراً من الطين بإذن ربِّه بدل ذلك الطير الذي أخبر عنه بقوله : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) (٦) ، لم يكن يشارك المولى سبحانه في

__________________

(١) السجدة : ٦.

(٢) التغابن : ١٨.

(٣) هود : ٣١.

(٤) الأعراف : ١٨٨.

(٥) أخرجه شيخنا المفيد في المجلس الثالث من أماليه [ص ٨٣ ح ٥]. (المؤلف)

(٦) آل عمران : ٤٩.

٨٩

صفته الإحياء والخلق ، والله هو الوليّ ، وهو محيي الموتى ، وهو الخلاّق العليم.

وإنّ الملك المصوِّر في الأرحام مع تصويره ما شاء الله من الصور ، وخلقه سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها (١) ، لم يكن يشارك ربّه في صفته ، والله هو الخالق البارئ المصوِّر ، وهو الذي يصوِّر في الأرحام كيف يشاء.

والملك المبعوث إلى الجنين الذي يكتب رزقه وأجله وعمله ومصائبه ، وما قدِّر له من خير وشرّ ، وشقاوته وسعادته ، ثمّ ينفخ فيه الروح (٢) ، لا يشارك ربّه ، والله هو الذي لم يكن له شريكٌ في الملك وخلق كلّ شيءٍ فقدّره تقديراً.

__________________

(١) عن حذيفة مرفوعاً : إذا مرّ بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها مَلَكاً فصوّرها ، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ، ثمّ قال : يا ربّ أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربّك ما شاء ويكتب المَلَك ، ثمّ يقول : يا ربّ أجله؟ فيقضي ربّك ما شاء ويكتب المَلَك ، ثمّ يقول : يا ربّ رزقه؟ فيقضي ربّك ما شاء ويكتب المَلَك ، ثمّ يخرج المَلَك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ذلك شيئاً ولا ينقص. أخرجه أبو الحسين مسلم في صحيحه [٥ / ٢٠٢ ح ٣ كتاب القدر] ، وذكره ابن الأثير في جامع الأصول [١٠ / ٥١٨ ح ٧٥٦٢] ، وابن الديبع في التيسير : ٤ / ٤٠ [٤ / ٤٧ ح ٥].

وفي حديث آخر ذكره ابن الديبع في تيسير الوصول : ٤ / ٤٠ : إذا بلغت ـ يعني المضغة ـ أن تُخلَق نفساً ، بعث الله مَلَكاً يصوّرها ، فيأتي المَلَك بتراب بين إصبعيه فيخط في المضغة ثمّ يعجنه ثمّ يصوّرها كما يؤمر فيقول : أذكر أم أنثى؟ أشقيّ أم سعيد؟ وما عمره؟ وما رزقه؟ وما أثره؟ وما مصائبه؟ فيقول الله ، فيكتب المَلَك. (المؤلف)

(٢) عن ابن مسعود مرفوعاً : إن خُلِقَ أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوماً ، ثمّ يكون علقة مثل ذلك ، ثمّ يكون مضغة مثل ذلك ، ثمّ يبعث الله ملكاً بأربع كلمات : يكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أم سعيد ، ثمّ ينفخ فيه الروح. أخرجه البخاري في باب ذكر الملائكة في صحيحه [٦ / ٢٧١٣ ح ٧٠١٦] ، ومسلم [٥ / ٢٠١ ح ١ كتاب القدر] وغيرهما من أئمّة الصحاح ـ إلاّ النسائي ـ وأحمد في مسنده : ١ / ٢٧٤ و ٤١٤ و ٤٣٠ [١ / ٦١٩ و ٦٨٣ و ٧٠٩ ح ٣٥٤٣ و ٣٩٢٤ وح ٤٠٨٠] ، وأبو داود في مسنده : ٥ / ٣٨ [ح ٢٩٨] ، وذكره ابن الأثير في جامعه [١٠ / ٥١٧ ح ٧٥٦٠] ، وابن الديبع في التيسير : ٤ / ٣٩ [٤ / ٤٦ ح ٤]. (المؤلف)

٩٠

وملك الموت مع أنّه يتوفّى الأنفس ، وأنزل الله فيه القرآن وقال : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (١) ، صحَّ مع ذلك الحصر فى قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٢) والله هو المميت ولا يشاركه ملك الموت في شيء من ذلك ، كما صحّت النسبة في قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) (٣) وفي قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) (٤). ولا تعارض في كلّ ذلك ولا إثم ولا فسوق في إسناد الإماتة إلى غيره تعالى.

والمَلك لا يغشاه نوم العيون (٥) ، ولا تأخذه سِنة الراقد بتقديرٍ من العزيز العليم وجعله ، ومع ذلك لا يشارك الله فيما مدح نفسه بقوله (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (٦).

ولو أنَّ أحداً مكّنه المولى سبحانه من إحياء موتان الأرض برمّتها لم يشاركه تعالى ، والله هو الذي يحيي الأرض بعد موتها.

فهلمّ معي نسائل القصيمي عن أنَّ قول الشيعة : بأنَّ الأئمّة إذا شاءوا أن يعلموا شيئاً أعلمهم الله إيّاه ، كيف يتفرّع عليه القول بأنّ الأئمّة يشاركون الله في هذه الصفة صفة علم الغيب؟ وما وجه الاشتراك بعد فرض كون علمهم بإخبار من الله تعالى وإعلامه؟

وقد ذهب على الجاهل أنَّ الحكم بأنَّ القول بعلم الأئمّة بما كان وما يكون

__________________

(١) السجدة : ١١.

(٢) الزمر : ٤٢.

(٣) النحل : ٢٨.

(٤) النحل : ٣٢.

(٥) راجع الخطبة الأولي من نهج البلاغة [نهج البلاغة : ص ٤١] وشروحها [شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١ / ٩١]. (المْولف)

(٦) البقرة : ٢٥٥.

٩١

ـ وليس هو كلّ الغيب ولا جلّه ـ وعدم خفاء شيء من ذلك عليهم يستلزم الشرك بالله في صفة علمه بالغيب ، تحديد (١) لعلم الله ، وقول بالحدِّ في صفاته سبحانه ، ومن حدّه فقد عدّه ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيراً. والنصوص الموجودة في الكتاب والسنّة على أن لا يعلم الغيب إلاّ الله قد خفيت مغزاها على المغفّل ولم يفهم منها شيئاً (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) (٢).

ونسائل الرجل : كيف خفي هذا الشرك المزعوم على أئمّة قومه؟ فيما أخرجوه عن حذيفة قال : أعلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة (٣). وما أخرجه أحمد ـ إمام مذهب الرجل ـ في مسنده (٤) (٥ / ٣٨٨) عن أبي إدريس ، قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : والله إنّي لأعلم الناس بكلِّ فتنة هي كائنةٌ فيما بيني وبين الساعة.

وقد جهل بأنّ علم المؤمن بموته واختياره الموت واللقاء مهما خيّر بينه وبين الحياة ليس من المستحيل ، ولا بأمر خطير بعيد عن خطر المؤمن فضلاً عن أئمّة المؤمنين من العترة الطاهرة ، هلاّ يعلم الرجل ما أخرجه قومه في أئمّتهم من ذلك وعدّوه فضائل لهم ، ذكروا عن ابن شهاب (٥) قال : كان أبو بكر ـ ابن أبي قحافة ـ

__________________

(١) خبر ل (أنّ) في قوله السابق : أنّ الحكم.

(٢) الحج : ٣.

(٣) صحيح مسلم في كتاب الفتن [٥ / ٤١٠ ح ٢٢] ، مسند أحمد : ٥ / ٣٨٦ [٦ / ٥٣٤ ح ٢٢٧٧٠] ، البيهقي [في دلائل النبوّة : ٦ / ٤٠٦] ، تاريخ ابن عساكر : ٤ / ٩٤ [١٢ / ٢٦٦ رقم ١٢٣١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ٢٤٩] ، تيسير الوصول : ٤ / ٢٤١ [٤ / ٢٩٠ ح ٨] ، خلاصة التهذيب : ص ٦٣ [١ / ٢٠١ رقم ١٢٦٧] ، الإصابة : ١ / ٣١٨ [رقم ١٦٤ ٧] ، التقريب : ص ٨١ [تقريب التهذيب : ١ / ١٥٦ رقم ١٨٣]. (المؤلف)

(٤) مسند أحمد : ٦ / ٥٣٦ ح ٢٢٧٨٠.

(٥) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٦٤ [٣ / ٦٦ ح ٤٤١١] ، صفة الصفوة : ١ / ١٠ [١ / ٢٦٣ رقم ٢]. (المؤلف)

٩٢

والحارث بن كلدة يأكلان حريرة أُهديت لأبي بكر ، فقال الحارث لأبي بكر : ارفع يدك يا خليفة رسول الله إنّ فيها لسمّ سنة ، وأنا وأنت نموت في يوم واحد ، فرفع يده ، فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة.

وذكر أحمد في مسنده (١) (١ / ٤٨ و ٥١) والطبري في رياضه (٢) (٢ / ٧٤) إخبار عمر عن موته بسبب رؤيا رآها ، وما كان بين رؤياه وبين يوم طعن فيه إلاّ جمعة ، وفي الرياض (٣) (٢ / ٧٥) عن كعب الأحبار : إنّه قال لعمر : يا أمير المؤمنين اعهد بأنّك ميّت إلى ثلاثة أيّام. فلمّا قضى ثلاثة أيّام طعنه أبو لؤلؤة ، فدخل عليه الناس ودخل كعب في جملتهم ، فقال : القول ما قال كعب.

وروي أنَّ عيينة بن حصن الفزاري قال لعمر : احترس أو اخرج العجم من المدينة ، فإنّي لا آمن أن يطعنك رجل منهم في هذا الموضع ، ووضع يده في الموضع الذي طعنه فيه أبو لؤلؤة.

وعن جبير بن مطعم قال : إنّا لواقفون مع عمر على الجبل بعرفة ، إذ سمعت رجلاً يقول : يا خليفة ، فقال أعرابيٌّ من لهب من خلفي : ما هذا الصوت؟ قطع الله لهجتك ، والله لا يقف أمير المؤمنين بعد هذا العام أبداً. فسببته وأدّبته ، فلمّا رمينا الجمرة مع عمر ، جاءت حصاة فأصابت رأسه ففتحت عرقاً من رأسه فسال الدم ، فقال رجل : أشعر أمير المؤمنين ، أما والله لا يقف بعد هذا العام هاهنا أبداً. فالتفتّ فإذا هو ذلك اللهبي ، فو الله ما حجّ عمر بعدها. خرّجه ابن الضحّاك.

وإن تعجب فعجبٌ إخبار الميّت وهو يُدفن عن شهادة عمر في أيّام خلافة

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٧٩ و ٨٢ ح ٣٤٣ و ٣٦٤.

(٢) الرياض النضرة : ٢ / ٣٥٤.

(٣) الرياض النضرة : ص ٣٥٥.

٩٣

أبي بكر ، أخرج البيهقي (١) عن عبد الله بن عبيد الله الأنصاري ، قال : كنت فيمن دفن ثابت بن قيس ـ وكان قتل باليمامة (٢) ـ فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول : محمد رسول الله ، أبو بكر الصدّيق ، عمر الشهيد ، عثمان البرّ الرحيم فنظرنا إليه ، فإذا هو ميّت.

وذكره القاضي في الشفاء ، في فصل إحياء الموتى وكلامهم (٣).

وعن عبد الله بن سلام قال : أتيتُ عثمان وهو محصور ، أُسلِّم عليه ، فقال : مرحباً بأخي مرحباً بأخي ، أفلا أُحدِّثك ما رأيت الليلة في المنام؟ فقلت : بلى. قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد مثل لي في هذه الخوخة ـ وأشار عثمان إلى خوخة في أعلى داره ـ فقال : حصروك؟ فقلت. نعم. فقال : عطّشوك؟ فقلت : نعم ؛ فأدلى دلواً من ماء فشربت حتى رويت ، فها أنا أجد برودة ذلك الدلو بين ثديي وبين كتفي. فقال : إن شئت أفطرت عندنا وإن شئت نُصِرت عليهم. فاخترت الفطر (٤).

وعنه قال : إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البارحة وأبا بكر وعمر ، فقالوا لي : صبراً فإنَّك تفطر عندنا القابلة.

وعن كثير بن الصلت ، عن عثمان ، قال : إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منامي هذا ، فقال : إنّك شاهد معنا الجمعة. المستدرك (٥) (٣ / ٩٩).

وعن ابن عمر : إنّ عثمان أصبح يحدِّث الناس ، قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

__________________

(١) دلائل النبوّة : ٦ / ٥٨.

(٢) بلدة باليمن على ستّ عشرة مرحلة من المدينة ، وكانت وقعة اليمامة في ربيع الأوّل سنة اثنتي عشرة هجرية في خلافة أبي بكر. (المؤلف)

(٣) الشفا بتعريف حقوق المصطفى : ١ / ٦١٥.

(٤) الرياض النضرة : ٢ / ١٢٧ [٣ / ٦٠] ، الإتحاف للشبراوي : ص ٩٢ [ص ٢٢٩]. (المؤلف)

(٥) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ١٠٦ ح ٤٥٤٢.

٩٤

المنام قال : يا عثمان أفطر عندنا غداً. فأصبح صائماً وقُتِل من يومه.

قال محبّ الدين الطبري في الرياض (١) (٢ / ١٢٧) بعد رواية ما ذكر : واختلاف الروايات محمول على تكرار الرؤيا ، فكانت مرّة نهاراً ومرّة ليلاً.

وأخرج الحاكم في المستدرك (٢) (٣ / ٢٠٣) بسند صحّحه ، إخبار عبد الله بن عمرو الأنصاري الصحابي ابنه جابراً بشهادته يوم أُحد ، وأنَّه أوّل قتيل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان كما أخبر به.

وذكر الخطيب البغدادي في تاريخه (٢ / ٤٩) عن أبي الحسين المالكي أنّه قال : كنت أصحب خير النسّاج ـ محمد بن إسماعيل ـ سنين كثيرة ، ورأيت له من كرامات الله تعالى ما يكثر ذكره ، غير أنَّه قال لي قبل وفاته بثمانية أيّام : إنّي أموت يوم الخميس المغرب ، فأُدفَن يوم الجمعة قبل الصلاة وستنسى فلا تنساه. قال أبو الحسين : فأُنسيته إلى يوم الجمعة فلقيني من خبّرني بموته ، فخرجت لأحضر جنازته فوجدت الناس راجعين ، فسألتهم : لِمَ رجعوا؟ فذكروا أنّه يُدفَن بعد الصلاة ، فبادرت ولم ألتفت إلى قولهم ، فوجدت الجنازة قد أُخرجت قبل الصلاة أو كما قال.

وهذه القصّة ذكرها ابن الجوزي أيضاً في المنتظم (٣) (٦ / ٢٧٤).

غيض من فيض :

توجد في طيّ كتب الحفّاظ ومعاجم أعلام القوم قضايا جمّة في اناس كثيرين عدّوها لهم فضلاً وكرامةً تُنبئ عن علمهم بالغيب وبما تخفي الصدور ، ولا يراها أحدٌ منهم شركاً ، ولا يسمع من القصيمي ـ ومن لفَّ لفّه ـ فيها ركزاً ، وأمثالها في أئمّة الشيعة

__________________

(١) الرياض النضرة : ٣ / ٦٠.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٢٢٤ ح ٤٩١٢ و ٤٩١٣.

(٣) المنتظم : ١٣ / ٣٤٥ رقم ٢٣٣٨.

٩٥

هي التي جسّها القوم ، وألقت عليهم جشمها ، وكثر فيها منهم الرطيط (١) ، وإليك جملة من تلكم القضايا :

١ ـ قال أبو عمرو بن علوان : خرجت يوماً إلى سوق الرحبة في حاجة فرأيت جنازةً فتبعتها لأصلّي عليها ، ووقفت حتى يدفن الميت في جملة الناس ، فوقعت عيني على امرأة مسفرة من غير تعمّد ، فلححت بالنظر واسترجعت واستغفرت الله ـ إلى أن قال ـ : فخطر في قلبي أن زر شيخك الجنيد ، فانحدرت إلى بغداد ، فلمّا جئت الحجرة التي هو فيها طرقت الباب فقال لي : ادخل أبا عمرو ، تذنب بالرحبة ونستغفر لك ببغداد. تاريخ بغداد (٧ / ٢٤٧) ، صفة الصفوة (٢) (٢ / ٢٣٦).

٢ ـ قال ابن النجّار : كان الشيخ أبو محمد عبد الله الجبائي المتوفّى (٦٠٥) يتكلّم يوماً في الإخلاص والرياء والعجب وأنا حاضرٌ في المجلس ، فخطر في نفسي : كيف الخلاص من العجب؟ فالتفت إليَّ الشيخ وقال : إذا رأيت الأشياء من الله وأنّه وفّقك لعمل الخير وأخرجك من البين سلمت من العجب. شذرات الذهب (٣) (٥ / ١٦).

٣ ـ عن الشيخ عليّ الشبلي قال : احتاجت زوجتي إلى مقنعة فقلت : عليَّ دين خمسة دراهم ، فمن أين أشتري لك مقنعة؟ فنمت فرأيت من يقول لي : إذا أردت أن تنظر إلى إبراهيم الخليل فانظر إلى الشيخ عبد الله بن عبد العزيز. فلمّا أصبحت أتيته بقاسيون فقال لي : ما لك يا عليّ؟ اجلس ، وقام إلى منزله وعاد ومعه مقنعة في طرفها خمسة دراهم ، فأخذتها ورجعت. شذرات الذهب (٤) (٥ / ٧٤).

٤ ـ قال أبو محمد الجوهري : سمعت أخي أبا عبد الله يقول : رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الرطيط : الجَلَبَة والصياح ، والرطيط ـ كذلك ـ : الحُمْق.

(٢) صفة الصفوة : ٢ / ٤١٩ رقم ٢٩٩.

(٣) شذرات الذهب : ٧ / ٣١ حوادث سنة ٦٠٥ ه‍.

(٤) شذرات الذهب : ص ١٣٣ حوادث سنة ٦١٧ ه‍.

٩٦

في المنام فقلت : يا رسول الله أيّ المذاهب خير؟ وقال : قلت : على أيّ المذاهب أكون؟ فقال : ابن بطّة ابن بطّة (١). فخرجت من بغداد إلى عكبرا فصادف دخولي يوم الجمعة فقصدت الشيخ أبا عبد الله بن بطّة إلى الجامع ، فلمّا رآني قال لي ابتداءً : صدق رسول الله صدق رسول الله. شذرات الذهب (٢) (٣ / ١٢٣).

٥ ـ قال أبو الفتح القوّاس : لحقتني إضاقة وقتاً من الزمان ، فنظرت فلم أجد في البيت غير قوس لي وخفّين كنت ألبسهما ، فأصبحت وقد عزمت على بيعهما ، وكان يوم مجلس أبي الحسين بن سمعون ، فقلت في نفسي : أحضر المجلس ثمّ أنصرف فأبيع الخفّين والقوس. قال : وكان القوّاس قلَّ ما يتخلّف عن حضور مجلس ابن سمعون ، قال أبو الفتح : فحضرت المجلس ، فلمّا أردت الانصراف ناداني أبو الحسين : يا أبا الفتح لا تبع الخفّين لا تبع القوس فإنَّ الله سيأتيك برزق من عنده. تاريخ بغداد (١ / ٢٧٥).

٦ ـ قال الحافظ ابن كثير في تاريخه (٣) (١٢ / ١٤٤) : قدم الخطيب أردشير بن منصور أبو الحسين العبادي ، وكان يحضر في مجلسه في بعض الأحيان أكثر من ثلاثين ألفاً من الرجال والنساء ، قال بعضهم : دخلت عليه وهو يشرب مرقاً فقلت في نفسي : ليته أعطاني فضله لأشربه لحفظ القرآن ، فناولني فضله فقال : اشربها على تلك النيّة. قال : فرزقني الله حفظ القرآن.

٧ ـ قال أبو الحارث الأولاسي : خرجت من حصن أولاس (٤) أُريد البحر ،

__________________

(١) هو الحافظ أبو عبد الله عبيد الله بن محمد الفقيه الحنبلي العكبري ، توفّي سنة (٣٨٧). (المؤلف)

(٢) شذرات الذهب : ٤ / ٤٦٤ حوادث سنة ٣٨٧ ه‍.

(٣) البداية والنهاية : ١٢ / ١٧٧ حوادث سنة ٤٨٦ ه‍.

(٤) حصن على ساحل بحر الشام من نواحي طرسوس ، فيه حصن يسمّى حصن الزهّاد. معجم البلدان : ١ / ٢٨٢.

٩٧

فقال بعض إخواني : لا تخرج فإنّي قد هيّأت لك عُجّة (١) حتى تأكل ، قال : فجلست فأكلت معه ، ونزلت إلى الساحل ، وإذا أنا بإبراهيم بن سعد ـ أبو إسحاق الحسني ـ العلوي قائماً يصلّي ، فقلت في نفسي : ما أشكّ إلاّ أنَّه يريد أن يقول : امش معي على الماء ، ولئن قال لي لأمشينَّ معه ، فما استحكم الخاطر حتى قال : هيه يا أبا الحارث امش على الخاطر ، فقلت : بسم الله فمشى هو على الماء فذهبت أمشي فغاصت رجلي ، فالتفت إليَّ ، وقال لي : يا أبا الحارث ، العُجّة أخذت برجلك ، فذهب وتركني (٢). تاريخ بغداد (٦ / ٨٦) ، تاريخ الشام (٢ / ٢٠٨) ، صفة الصفوة (٢ / ٢٤٢).

٨ ـ كان ابن سمعون محمد بن أحمد الواعظ المتوفّى (٣٨٧) يعظ يوماً على المنبر وتحته أبو الفتح بن القوّاس (٣) ، فنعس ابن القوّاس ، فأمسك ابن سمعون عن الوعظ حتى استيقظ ، فحين استيقظ قال ابن سمعون : رأيتَ رسول الله في منامك هذا؟ قال : نعم. قال : فلهذا أمسكت عن الوعظ حتى لا أزعجك عمّا كنت فيه (٤). تاريخ بغداد (١ / ٢٧٦) ، المنتظم (٧ / ١٩٩) ، تاريخ ابن كثير (١١ / ٣٢٣).

٩ ـ روي عن ابن الجنيد أنَّه قال : رأيت إبليس في المنام وكأنَّه عريان فقلت : ألا تستحي من الناس؟ فقال ـ وهو لا يظنّهم ناساً ـ : لو كانوا ناساً ما كنت ألعب بهم كما يلعب الصبيان بالكرة ، إنّما الناس جماعةٌ غير هؤلاء فقلت : أين هم؟ فقال : في مسجد الشونيزي قد أضنوا قلبي وأتعبوا جسدي ، كلّما هممت بهم أشاروا إلى الله عزّ وجلَّ فأكاد أحترق ، قال : فلمّا انتبهت لبست ثيابي ورحت إلى المسجد الذي ذكر ،

__________________

(١) العُجّة : دقيق يُعجَن بسمن ثم يشوى.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٦ / ٤٠٢ رقم ٤٠٤ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٤ / ٥٠ ، صفة الصفوة : ٢ / ٤٢٩ رقم ٤٠٠.

(٣) كذا في البداية والنهاية وفي غيره : أبو الفتح القوّاس.

(٤) المنتظم : ١٥ / ٤ رقم ٢٩٣٧ ، البداية والنهاية ١١ / ٣٧٠ حوادث سنة ٣٨٧ ه‍ ، ومختصر تاريخ دمشق : ٢١ / ٢٦٠.

٩٨

فإذا ثلاثة جلوس ورؤوسهم في مرقّعاتهم ، فرفع أحدهم رأسه إليَّ وقال : يا أبا القاسم لا تغترّ بحديث الخبيث وأنت كلّما قيل لك شيءٌ تقبل. فإذا هم : أبو بكر الدقّاق ، وأبو الحسين النوري (١) ، وأبو حمزة محمد بن عليّ الجرجاني الفقيه الشافعي. ذكره ابن الأثير كما في تاريخ ابن كثير (٢) (١١ / ٩٧) ، وابن الجوزي في صفة الصفوة (٣) (٢ / ٢٣٤).

١٠ ـ جاء يوماً شابّ نصرانيّ في صورة مسلم إلى أبي القاسم الجنيد الخزّاز ، فقال له : يا أبا القاسم ما معنى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله» فأطرق الجنيد ثمّ رفع رأسه إليه وقال : أسلم ، فقد آن لك أن تُسلِم ، قال : فأسلم الغلام. تاريخ ابن كثير (٤) (١١ / ١١٤).

وحُكي عن أبي الحسن الشاذلي المتوفّى (٦٥٦) قوله : لو لا لجام الشريعة على لساني لأخبرتكم بما يحدث في غدٍ وما بعده إلى يوم القيامة. شذرات الذهب (٥) (٥ / ٢٧٩).

العجب العجاب :

وأعجب من هذه كلّها دعوى الرجل من القوم أنَّه يرى اللوح المحفوظ ويقرأه فتؤخذ منه تلكم الدعاوى الضخمة ، وتذكر في سلسلة الفضائل ، وتأتي في كتبهم حقائق راهنة من دون أيّ مناقشة في الحساب.

__________________

(١) توفّي في سنة (٢٩٥) ، ومن جملة العجائب المذكورة في ترجمته في تاريخ ابن كثير : ١١ / ١٠٦ [١١ / ١٢٠ حوادث سنة ٢٩٥ ه‍] : أنّه صام عشرين سنة لا يعلم به أحد لا من أهله ولا من غيره. (المؤلف)

(٢) البداية والنهاية : ١١ / ١٠٩ حوادث سنة ٢٩٠ ه‍.

(٣) صفة الصفوة : ٢ / ٤١٥ رقم ٢٩٤.

(٤) البداية والنهاية : ١١ / ١٢٩ حوادث سنة ٢٩٨ ه‍.

(٥) شذرات الذهب : ٧ / ٤٨٣ حوادث سنة ٦٥٦ ه‍.

٩٩

قال ابن العماد في شذرات الذهب (١) (٨ / ٢٨٦) في ترجمة المولى محيي الدين محمد بن مصطفى القوجوي الحنفي المتوفّى (٩٥٠) صاحب الحواشي على البيضاوي ومؤلّفات أُخرى : كان يقول : إذا شككت في آية من القرآن أتوجّه إلى الله تعالى ، فيتّسع صدري حتى يصير قدر الدنيا ويطلع فيه قمران لا أدري هما أيّ شيء ، ثمّ يظهر نورٌ فيكون دليلاً إلى اللوح المحفوظ ، فأستخرج منه معنى الآية.

وقال (٢) في (٨ / ١٧٨) في ترجمة المولى بخشي الرومي الحنفي المتوفّى (٩٣١) : رحل إلى ديار العرب فأخذ عن علمائهم وصارت له يدٌ طولى في الفقه والتفسير ـ إلى أن قال ـ : كان ربّما يقول : رأيت في اللوح المحفوظ مسطوراً كذا وكذا ، فلا يخطئ أصلاً.

وقال اليافعي في مرآة الجنان (٣ / ٤٧١) : إنّ الشيخ جاكير ، المتوفّى (٥٩٠) كان يقول : ما أخذت العهد على أحد حتى رأيت اسمه مرفوعاً في اللوح المحفوظ من جملة مريديّ.

وقال في المرآة (٤ / ٢٥) : كان الشيخ ابن الصبّاغ أبو الحسن عليّ بن حميد المتوفّى (٦١٢) لا يصحب إلاّ من يراه مكتوباً في اللوح المحفوظ من أصحابه.

وذكره ابن العماد في شذراته (٣) (٥ / ٥٢).

توجد جملة كثيرة من هذه الأوهام الخرافيّة في طبقات الشعراني ، والكواكب الدرّية للنووي ، وروض الرياحين لليافعي ، وروضة الناظرين للشيخ أحمد الوتري وأمثالها.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (٤)

__________________

(١) شذرات الذهب : ١٠ / ٤١٠ حوادث سنة ٩٥٠ ه‍.

(٢) شذرات الذهب : ص ٢٤٧ حوادث سنة ٩٣١ ه

(٣) شذرات الذهب : ٧ / ٩٦ حوادث سنة ٦١٢ ه‍.

(٤) الأعراف : ١٨٢.

١٠٠