الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٤

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

١
٢

٣
٤

٥
٦

٧
٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما عرّفنا من نفسه ، وألهمنا من شكره ، وفتح لنا من أبواب العلم بربوبيّته ، ودلّنا عليه من الإخلاص في توحيده ، وجنّبنا من الإلحاد والنفاق والشقاق والشكِّ في أمره ، ومنّ علينا بسيِّد رُسله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأكرمنا بالثَّقلين خليفتي نبيِّه : كتاب الله العزيز والعترة الطاهرة ـ سلام الله عليهم ـ وأسعد حظّنا بتواصل أشواطنا في السعي وراء صالح المجتمع ، ووفّقنا للسير في سبيل الخدمة للملإ وفي مقدّمهم روّاد العلم والفضيلة ، وأثبت أقدامنا في جَدَد الحقِّ والحقيقة ، وتعالى في تلك الجدة جَدّنا ، وتوالت بسعد الجدّ صحائف أعمالنا وآثار يراعنا ، ونحن نستثبت في الأمر ولا نتفوّه إلاّ بثبت ، والله وليُّ التوفيق ، وهو نعم المولى ونعم النصير.

عبد الحسين أحمد الأميني

٩
١٠

بقيّة

شعراء الغدير

في

القرن الرابع

١ ـ أبو الفتح كشاجم

 ٧ ـ أبو العباس الضبي

٢ ـ الناشئ الصغير

 ٨ ـ أبو الرقعمق الانطاكي

٣ ـ البشنوي الكردي

 ٩ ـ أبو العلاء السروي

٤ ـ الصاحب بن عباد

 ١٠ ـ أبو محمد العوني

٥ ـ الجوهري الجرجاني

 ١١ ـ ابن حماد العبدي

٦ ـ ابن الحجاج البغدادي

 ١٢ ـ أبو الفرج الرازي

١ ـ أبو الفتح كشاجم

 ٧ ـ أبو العباس الضبي

٢ ـ الناشئ الصغير

 ٨ ـ أبو الرقعمق الانطاكي

٣ ـ البشنوي الكردي

 ٩ ـ أبو العلاء السروي

٤ ـ الصاحب بن عباد

 ١٠ ـ أبو محمد العوني

١٣ ـ جعفر بن حسين

١١
١٢

ـ ٢٢ ـ

أبو الفتح كشاجم

المتوفّى (٣٦٠)

له شغُلٌ عن سؤالِ الطللْ

أقام الخليطُ به أم رحلْ

فما ضَمِنته لحاظُ الظّبا

تطالعُه من سجوفِ الكِلَلْ

ولا تستفزُّ حجاهُ الخدودُ

بمصفرّة واحمرار الخجلْ

كفاهُ كفاهُ فلا تعذلاهُ

كرُّ الجديدين كرُّ العذلْ

طوى الغيّ مشتعلاً في ذراه

فتطفى الصبابةُ لمّا اشتعلْ

له في البكاءِ على الطاهرين

مندوحةٌ عن بكاءِ الغزلْ

فكم فيهمُ من هلالٍ هوى

قُبيلَ التمامِ وبدرٍ أفلْ

همُ حُجَجُ اللهِ في خلقِهِ

ويومَ المعادِ على من خَذَلْ

ومن أنزلَ اللهُ تفضيلَهمْ

فردّ على الله ما قد نَزَلْ

فجدُّهمُ خاتمُ الأنبياءِ

ويعرِفُ ذاكَ جميعُ المِلَلْ

ووالدُهمْ سيّدُ الأوصياءِ

ومُعطي الفقيرِ ومُردي البطلْ

ومن علّم السمرَ طعن الحليّ

لدى الروعِ والبيضَ ضربَ القللْ

ولو زالتِ الأرضُ يوم الهياج

من تحت أخمُصه لم يزُلْ (١)

ومن صدّ عن وجهِ دنياهمُ

وقد لبست حُلْيَها والحُلَلْ

__________________

(١) أخمص القدم : ما لا يصيب الأرض من باطنها ، ويراد به القدم كلّها. (المؤلف)

١٣

وكان إذا ما أُضيفوا إليه

فأرفعُهم رتبةً في المَثَلْ

سماءٌ أُضيف إليها الحضيضُ

وبحرٌ قَرَنْتَ إليه الوَشَلْ (١)

بجودٍ تعلّمَ منه السحابُ

وحِلمٍ تولّد منه الجبلْ

وكم شبهةٍ بهُداه جلا

وكم خطّةٍ بحِجاه فَصَلْ

وكم أطفأ اللهُ نار الضلالِ

به وهي ترمي الهدى بالشُّعَلْ

ومن ردَّ خالقُنا شمسَهُ

عليه وقد جَنَحَتْ للطَفَلْ (٢)

ولو لم تعُدْ كان في رأيِهِ

وفي وجهِه من سناها بَدَلْ

ومن ضربَ الناسَ بالمُرهفاتِ

على الدينِ ضربَ عِرابِ الإبلْ

وقد علموا أنّ يومَ الغديرِ

بغدرهمُ جرَّ يومَ الجَمَلْ

فيا معشرَ الظالمين الذينَ

أذاقوا النبيّ مضيضَ الثكلْ

إلى أن قال :

يُخالفكمْ فيه نصُّ الكتابِ

وما نصّ في ذاك خير الرسُلْ

نبذتمْ وصيّتَهُ بالعراءِ

وقلتمْ عليه الذي لم يَقُل

إلى آخر قصيدته الموجودة في نسخ ديوانه المخطوط (٤٧) بيتاً ، وقد أسقط ناشر ديوانه من القصيدة ما يخالف مذهبه ، وليست هذه بأوّل يد حرّفت الكلم عن مواضعها.

الشاعر

أبو الفتح محمود بن محمد بن الحسين بن سندي بن شاهك الرملي (٣) ، المعروف

__________________

(١) الوشل ـ كما مرّ ـ : الماء القليل ، يتحلّب من صخر أو جبل. (المؤلف)

(٢) طفلت الشمس : دنت للغروب. مرّ حديث ردّ الشمس في الجزء الثالث : ص ١٢٦ ـ ١٤١ (المؤلف)

(٣) نسبة إلى الرملة ، من أرباض فلسطين [معجم البلدان : ٣ / ٦٩]. (المؤلف)

١٤

بكشاجم. هو نابغةٌ من رجالات الأمّة ، وفذٌّ من أفذاذها ، وأوحديٌّ من نياقدها ، كان لا يُجارى ولا يُبارى ، ولا يُساجَل ولا يُناضَل ، فكان شاعراً كاتباً متكلّماً منجِّماً منطقيّا محدِّثاً ، ومن نُطس الأواسيِّ محقِّقاً مدقِّقاً مجادلاً جواداً.

فهو جُماع الفضائل ، وإنّما لقّب نفسه بكشاجم إشارةً بكلِّ حرف منها إلى علم : فبالكاف إلى أنَّه كاتب ، وبالشين إلى أنَّه شاعر ، وبالألف إلى أدبه ، أو إنشاده ، وبالجيم إلى نبوغه في الجدل أو جوده ، وبالميم إلى أنَّه متكلّم أو منطقي أو منجِّمٌ ، ولمّا ولع في الطبِّ وبرع فيه زاد على ذلك حرف الطاء فقيل : طكشاجم ، إلاَّ أنّه لم يشتهر به.

هذا ما طفحت به المعاجم (١) في تحليل هذا اللقب على الخلاف الذي أوعزنا إليه في الإشارة ، لكنَّ الرجل بارع في جميع ما ذكر من العلوم ، ولعلّه هو المنشأ للاختلاف في التحليل.

أدبه وشعره :

إنّ المترجَم قدوةٌ في الأدب وأسوةٌ في الشعر ، حتى إنّ الرفّاء السريّ الشاعر المفلق ، على تقدّمه في فنون الشعر والأدب كان مغرىً بنسخ ديوانه ، وكان في طريقه يذهب ، وعلى قالبه يضرب (٢) ، ولشهرته بهذا الجانب قال بعضهم :

يا بؤسَ منْ يُمنى بدمعٍ ساجمِ

يهمي على حُجُبِ الفؤادِ الواجمِ (٣)

لو لا تعلّلُهُ (٤) بكأسِ مُدامةٍ

ورسائلِ الصابيّ وشعرِ كشاجمِ (٥)

__________________

(١) راجع شذرات الذهب : ٣ / ٣٧ [٤ / ٣٢١ حوادث سنة ٦٠ ه‍] ، والشيعة وفنون الإسلام : ص ١٠٨ [ص ١٤٠]. (المؤلف)

(٢) تاريخ ابن خلكان : ١ / ٢١٨ [٢ / ٣٦٠ رقم ٢٥٧]. (المؤلف)

(٣) يمنى : يبتلى ويصاب. يهمي : يسيل. الواجم : العبوس من شدّة الحزن. (المؤلف)

(٤) علّل فلاناً بكذا : شغله أو ألهاه به. (المؤلف)

(٥) معجم الأدباء : ١ / ٣٢٦ [٢ / ٢٧]. (المؤلف)

١٥

دوّن شعره أبو بكر محمد بن عبد الله الحمدوني ، ثمّ ألحق به زيادات أخذها من أبي الفرج بن كشاجم.

وشعره كما تطفح عنه شواهد تضلّعه في اللغة والحديث ، وبراعته في فنون الأدب والكتاب والقريض ، كذلك يقيم له وزناً في الغرائز الكريمة النفسيّة ، ويمثِّله بملكاته الفاضلة كقوله :

شهرت نداي مناصبٌ

لي في ذرى كِسرى صريحهْ

وسجيّةٌ لي في المكا

رمِ إنّني فيها شحيحهْ

متحيِّزاً فيها مُعلّى المج

دِ مجتنباً منيحهْ

ولقد سننتُ من الكتا

بة للورى طُرُقاً فسيحهْ

وفضضتُ من عُذَرِ المعا

ني الغُرِّ في اللغة الفصيحهْ

وشفعتُ مأثورَ الروا

يةِ بالبديعِ من القريحهْ

ووصلتُ ذاك بهمّةٍ

في المجدِ سائبةٍ طموحهْ

وعزيمةٍ لا بالكليل

ةِ في الخطوب ولا الطليحهْ (١)

كلتاهما لي صاحبٌ

في كلِّ داميةٍ جموحهْ

ويحكي القارئ عن نبوغه وسرده المعاني الفخمة في أسلاك نظمه ، ورقّة لطائفه ، وقوّة أنظاره ، ودقّة فكرته ، ومتانة رويّته ، قوله :

لو بحقٍّ تناولَ النجمَ خلقٌ

نلتُ أعلى النجومِ باستحقاقِ

أوَليس اللسانُ منّيَ أمضى

من ظُباتِ المهنّداتِ الرقاقِ

ويدي تحمل الأناملُ منها

قلماً ليس دمعُهُ بالراقي (٢)

__________________

(١) الطليحة : المتعبة المعياة.

(٢) يقال : رقأ الدمع أي جفّ وانقطع.

١٦

أفعواناً تهابُ منه الأعادي

حيّةً يستعيذُ منها الراقي (١)

وتراهُ يجودُ من حيث تجري

منه تلك السمومُ بالدرياقِ

مطرقاً يهلك العدوّ عقاباً

ويريش الوليّ ذا الإخفاقِ

وسطورٌ خططتُها في كتابٍ

مثلُ غيمِ السحابةِ الرقراقِ

صُغتُ فيه من البيان حُليّا

باختراعِ البعيد لا الإشفاقِ

وقوافٍ كأنّهن عقودُ الدّ

رّ منظومةً على الأعناقِ

غررٌ تَظهرُ المسامعُ تِيهاً

حين يسمعْنها على الأحداقِ

ويَحارُ الفهمُ الرقيق إذا ما

جال منهنّ في المعاني الرقاقِ

ثاوياتٌ معي وفكري قد س

يّرها في نوازحِ الآفاقِ

وإذا ما ألمّ خطبٌ فرأسي

فيه مثلُ الشهابِ في الأعناقِ

وإذا شئت كان شعريَ أحلى

من حديثِ الفتيان والعشّاقِ

حلف مشمولة وزير عوان

أسدٌ في الحروب غير مطاقِ

اصطباحي تنفيذ أمرٍ ونهيٍ

ومن الراح بالعشيِّ اغتباقي

ووقور الندى ولا أُخجل الشا

رب منهُ ولا أذمُّ الساقي

أنزع الكأسَ إن شربتُ وأسقي

ـهِ دهاقاً صحبي وغير دهاقِ

ومعدٌّ للصيدِ منتخباتٍ

من أصولٍ كريمةِ الأعراقِ

مضمراتٌ كأنّها الخيلُ تطوى

كلَّ يومٍ بطونها للسباقِ

رائقاتُ الشبابِ مكتسياتٌ

حُلَلاً من صنيعةِ الخلاّقِ

تصفُ البيضَ والجفونَ إذا ما

أخرجتْ أَلْسُناً من الأشداقِ

وكأنّ المها إذا ما رأتها

حذرتْ واستطامنتْ في وثاقِ

مَعْ ندامى كأنّهم والتصافي

خُلقوا من تآلفٍ واتِّفاقِ

__________________

(١) من الرُّقية ، وهي العوذة.

١٧

والباحث يجد شاعرنا عند شعره معلِّماً أخلاقيّا فذّا بعد ما يرى أمثلة خلائقه الكريمة ، ونفائس سجاياه ، وصدقه في ولائه ، وقيامه بشؤون الإنسانية نصب عينيه ، مهما وقف على مثل قوله :

ولدينا لذي المودّةِ حِفظٌ

ووفاءٌ بالعهدِ والميثاقِ

أتوخّى رضاهُ جَهدي فلمّا

مسّهُ الضُرُّ مسّهُ إرفاقي

تلك أخلاقُنا ونحنُ أُناسٌ

همّنا في مكارمِ الأخلاقِ

وقوله :

أُناسٌ أعرضوا عنّا

بلا جُرمٍ ولا معنى

أساؤوا ظنّهم فينا

فهلاّ أحسَنوا الظنّا

وخَلَّوْنا ولو شاءوا

لَعادُوا كالذي كنّا

فإن عادوا لنا عُدْنا

وإن خانوا لمَا خُنّا

وإن كانوا قد اشتغلوا

فإنّا عنهمُ أغنى

وقوله من قصيدة يمدح بها ابن مقلة :

كم فيَّ من خلّةٍ لو أنَّها امتحنتْ

أدّت إلى غبطةٍ أو سدّت الخلّه

وهمّةٍ في محلِّ النجم موقعُها

وعزمةٍ لم تكن في الخطب منجلّه

وذلّةٍ أكسبتني عزّ مكرمةٍ

وربّما يُستفاد العزُّ بالذلّه

صاحبتُ ساداتِ أقوامٍ فما عثروا

يوماً على هفوةٍ منّي ولا زلّه

واستمتعوا بكفاياتي وكنت لهمْ

أوفى من الذرع أو أمضى من الأَلّة (١)

خطٌّ يروقُ وألفاظٌ مهذّبةٌ

لا وعرةُ النظمِ بل مختارةٌ سهله

لو أنَّني مُنْهِلٌ منها أخا ظمأٍ

روّت صَداه فلم يَحْتَجْ إلى غلّه

__________________

(١) الألّة : الحربة.

١٨

وكم سننتُ رسوماً غيرَ مشكلةٍ

كانت لمن أَمّها مُسترشداً قِبله

عمّتْ فلا منشئُ الديوان مكتفياً

منها ولم يغن عنها كاتب السلّه

وصاحبَتْني رجالاتٌ بذلتُ لها

مالي فكان سماحي يقتضي بذلَه

فأعملَ الدهرُ في خَتلي مكائدَهُ

والدهرُ يعمل في أهل الهوى ختلَه

لكن قنعتُ فلم أرغب إلى أحدٍ

والحرُّ يحملُ عن إخوانه كَلَّه

وتراه متى ما أبعده الزمان عن أخلاّئه وحجبهم عنه ، عزّ عليه البين ، وعظمت عليه شقّته ، وثقل عليه عبئه ، فجاء في شكواه يفزع ويجزع ، ويئنُّ ويحنُّ ، فيصوِّر على قارئ شعره حنانه وحنينه ، ويمثِّل سجاح عينه لوعة وجده ، ولهب هواه بمثل قوله :

يا من لعينٍ ذَرَفَتْ

ومن لروحٍ تَلِفَتْ

مُنهلّةٌ عبرتُها

كأنّها قد طرفتْ (١)

إن أمِنَتْ فاضتْ وإن

خافتْ رقيباً وقَفَتْ

وإنّما بكاؤها

على ليالٍ سَلَفَتْ

وقوله :

يا مُعرضاً لا يلتفتْ

بمثل ليلي لا تَبِتْ

بَرَّحَ هجرانُكَ بي

حتى رثى لي من شَمَتْ

علّقتَ قلبي بالمُنى

فأَحْيِهِ أو فَأَمِتْ

وبما كان ـ كشاجم ـ مجبولاً بالحنان ولين الجانب ، وسجاحة الخلائق ، وحسن الأدب ، مطبوعاً بالعطف والرأفة ، مفطوراً على عوامل الإنسانية والغرائز الكريمة ، ولم يكن شرّيراً ، ولا رديء النفس ، ولا بذيء اللسان ، ولا مسارعاً في الوقيعة في أحد ،

__________________

(١) طرفت عينه : أصابها شيء فدمعت. (المؤلف)

١٩

كان يرى الشعر إحدى مآثره الجمّة ، ويعدُّه من فضائله ، وما كان يتّخذه عدّة للمدح ، ولا جُنّةً في الهجاء ، وما يهمّه التوجّه إلى الجانبين ، لم ير لأيٍّ منهما وزناً ، لعدم تحرِّيه التحامل على أحد ، وعدم اتِّخاذه مكسباً ليدرّ له أخلاف الرزق ، ولا آلةً لدنياه وجمع حطامها ، وكان يقول :

ولئن شعرتُ لَما قصد

تُ هجاءَ شخصٍ أو مديحهْ

لكن وجدتُ الشعر لل

آدابِ ترجمةً فصيحهْ

هجاؤه :

أخرج القرن الرابع شعراء هجّائين ، قد اتّخذ كلُّ واحدٍ منهم طريقة خاصّة من فنون الهجاء ، وكلُّ فنّ مع هذه نوعٌ فذٌّ في الهجاء ، يظهر ميزه متى قُرِن بالآخر ، ومنهم مكثرٌ ومنهم من استقلّ ، وشاعرنا من الفرقة الثانية ، وله فنٌّ خاصٌّ من الهجاء كان يختاره ويلتزم به في شعره.

ولعلّك تجده في فنِّه المختار مجبول خلائقه الحسنة ، ونفسيّاته الكريمة ، وملكاته الفاضلة ، فكأنّه قد خُمِرت بها فطرته ، ومُزِجت بها طينته ، أو جرت منه مجرى الدم ، واستولت على روحه ، وحكمت في كلِّ جارحةٍ منه ، حتى ظهرت آياتها في هجائه النادر الشاذّ ، فيُخيَّل إليك ـ مهما يهجو ـ أنَّه واعظ بارّ يخطب ، أو نصوحٌ يُودِّد ويعاتب ، أو مجادلٌ دون حقِّه يجامل ، لا أنَّه يغمز ويعيب ، ويغيظ في الوقيعة ويناضل ، ويثور ويثأر لنفسه ، وتجده قد اتّخذ الهجاء شكّة دفاع له لا شكّة هجوم ، وترى كلّه جائه خليّا عن لهجةٍ حادّة ، وسِبابٍ مُقذع ، عارياً عن قبيح المقال وخبث الكلام ، بعيداً عن هتك مهجوِّه ، ونسبته إلى كلِّ فاحشة ، وقذفه بكلِّ سيِّئة ، غير مستبيح إيذاء مهجوِّه ، ولا مستحلٍّ حرمته ، ولا مجوِّز عليه الكذب والتهمة ، خلاف ما جرت العادة بينك ثير من أدباء العصور المتقادمة ، فعليك النظر إلى قوله في

٢٠