الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٥

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

لابن أبي الحديد بشرحه الموسوم بغرر الدلائل ، قال في أوّل الشرح :

كنت قرأت هذه القصائد على شيخي الإمام العالم ، الفقيه المحقّق ، شمس الدين أبي محمد محفوظ بن وشاح ـ قدس الله روحه ـ وذلك بداره بالحلّة في صفر من سنة ثمانين وستمائة ، ورواها لي عن ناظمها وراقم علمها.

قال الأميني : أحسب أنَّ شارح القصائد هو صفيّ الدين محمد بن الحسن بن أبي الرضا العلوي البغدادي ، صاحب البائيّة في رثاء المترجم ، والله العالم.

جرت بين شيخنا المترجم وبين شيخه المحقّق الحلّي مكاتبات ، منها ما ذكره شيخنا صاحب المعالم في إجازته الكبيرة (١) ، قال نقلاً عن الشهيد الأوّل (٢) :

إنّه كتب إلى الشيخ المحقّق نجم الدين السعيد أبياتاً ، من جملتها :

أغيبُ عنك وأشواقي تجاذبُني

إلى لقائِك جذبَ المغرمِ العاني

إلى لقاءِ حبيبٍ شبهِ بدرِ دجىً

وقد رماه بإعراضٍ وهجرانِ

ومنها :

قلبي وشخصُك مقرونان في قرَنٍ

عند انتباهي وعند النوم يغشاني

حللت منّي محلَّ الروحِ في جسدي

فأنت ذكريَ في سرّي وإعلاني

لو لا المخافةُ من كرهٍ ومن مللٍ

لطال نحوك تردادي وإتياني

يا جعفر بن سعيد يا إمام هدىً

يا أوحدَ الدهرِ يا من ما له ثاني

إنِّي بحبِّكَ مغرىً غيرُ مكترثٍ

بمن يلومُ وفي حبّيك يلحاني

فأنت سيّد أهلِ الفضلِ كلِّهمُ

لم يختلف أبداً في فضلك اثنانِ

__________________

(١) توجد في إجازات البحار للعلاّمة المجلسي : ص ١٠٠. (المؤلف)

(٢) شمس الدين محمد بن جمال الدين مكي بن محمد العاملي النبطي الجزيني ، المستشهد سنة (٧٨٦) ، توجد ترجمته وترجمة أولاده وأحفاده في كتابنا شهداء الفضيلة : ص ٨٠ ـ ٩٨. (المؤلف)

٦٨١

ومنها :

في قلبِكَ العلمُ مخزونٌ بأجمعِهِ

تهدي به من ضلالٍ كلَّ حيرانِ

وفوك فيه لسانٌ حشوُهُ حكمٌ

تروي به بزلال كلَّ ظمآنِ

وفخرك الراسخُ الراسي وزنتَ به

رضوى فزاد على رضوى وثهلانِ

وحسنُ أخلاقك اللاّتي فضلتَ بها

كلَّ البريّة من قاصٍ ومن دانِ

تغني عن المأثرات الباقيات ومن

يحصي جواهر أجبالٍ وكثبانِ

يا من علا درج العلياء مرتقياً

أنت الكبيرُ العظيمُ القدرِ والشانِ

فأجابه المحقّق بقوله :

لقد وافتْ قصائدُكَ العوالي

تهزُّ معاطفَ اللفظِ الرشيقِ

فضضتُ ختامهنَّ فخلتُ أنّي

فضضتُ بهنَّ عن مسكٍ فتيقِ

وجال الطرفُ منها في رياضٍ

كُسينَ بناضرِ الزهرِ الأنيقِ

فكم أبصرتُ من لفظٍ بديعٍ

يدلُّ به على المعنى الدقيقِ

وكم شاهدتُ من علمٍ خفيٍ

يقرِّبُ مطلب الفضلِ السحيقِ

شربتُ بها كؤوساً من معاني

غنيتُ بشربهنَّ عن الرحيقِ

ولكنِّي حملت بها حقوقاً

أخاف لثقلهنّ من العقوقِ

فَسِرْ يا أبا الفضائل بي رويداً

فلست أطيقُ كفرانَ الحقوقِ

وحمِّل ما أطيق به نهوضاً

فإنّ الرفقَ أنسبُ بالصديقِ

فقد صيّرْتَني لعُلاكَ رقّا

ببرِّك بل أرقَّ من الرقيقِ

وكتب بعدها نثراً توجد جملة منه في الإجازات.

لم نقف على تاريخي ولادة شيخنا شمس الدين ووفاته ، غير أنَّا نقطع بحياته إلى سنة (٦٨٠) ، وقد قرّب العلاّمة السماوي وفاته بسنة تسعين بعد الستمائة ، وللباحث

٦٨٢

أن يقف على مواقفه العظيمة في الفضائل بالقصائد التي رثاه بها أعلام عصره ، منها رثاء العلاّمة الحجّة الفقيه الصالح صفيّ الدين محمد بن الحسن أبي الرضا العلوي البغدادي ، يقول في قصيدته :

مصابٌ أصابَ القلبَ منه وجيبُ

وصابتْ لجفنِ العينِ فيه غروبُ

يعزُّ علينا فقدُ مولىً لفقدِهِ

غدت زهرةُ الأيّامِ وهي شحوبُ

وطاب له في الناس ذكرٌ ومحتدٌ

كما طاب منه مشهدٌ ومغيبُ

ألا ليتَ شمسَ الدين بالشمسِ يقتدي

فيصبحَ فينا طالعاً ويغيبُ

فمن ذا يحلُّ المشكلاتِ ومن إذا

رمى غرض المعنى الدقيقِ يصيبُ

ومن يكشفُ الغمّاءَ عنّا ومن له

نوالٌ إذا ضنَّ الغمام يصوبُ

فلا قامَ جنحَ الليلِ بعدك خاشعٌ

ولا صام في حرِّ الهجير منيبُ

ولا سالَ فوق الطرسِ من كفِّ كاتبٍ

يراعٌ عن السمر الطوال ينوبُ

وبعدك لا سحَّ الغمامُ ولا شدا

الحمام ولا هبّت صباً وجنوبُ

ومنها : قصيدة الفقيه الحجّة الشيخ مهذّب الدين محمود بن يحيى بن محمد الشيباني الحلّي :

عزَّ العزاءُ ولاتَ حين عزاءِ

من بعد فرقة سيّد الشعراءِ

العالمِ الحَبرِ الإمامِ المرتضى

علمِ الشريعة قدوةِ العلماءِ

أكذا المنونُ تهدّ أطوادَ الحجا

ويفيضُ منها بحرُ كلّ عطاءِ

ما للفتاوى لا يردّ جوابها

ما للدعاوي غطّيت بغطاءِ

ما ذاك إلاّ حين مات فقيُهنا

شمسُ المعالي أوحدُ الفضلاءِ

ذهبَ الذي كنّا نصولُ بعزِّهِ

ولسانِه الماضي على الأعداءِ

من للفتاوى المشكلاتِ يحلّها

ويُبينها بالكشفِ والإمضاءِ

من للكلامِ يبينُ من أسرارِهِ

معنى جلالةِ خالقِ الأشياءِ

٦٨٣

من ذا لعلمِ النحوِ واللغةِ التي

جاءت غرائبُها عن الفصحاءِ

ما خلت قبل يحطُّ في قلبِ الثرى

أنَّ البدورَ تغيبُ في الغبراءِ

أيموتُ محفوظٌ وأبقى بعده

غدرٌ لعمرُكَ موتُه وبقائي

مولاي شمسَ الدين يا فخر العلى

ما لي أُنادي لا تجيب ندائي

ومنها : قصيدة العلاّمة المحقّق الشيخ تقيّ الدين بن داود الحلّي ، أحد شعراء الغدير الآتي ذكره في القرن الثامن :

لك اللهُ أيُّ بناءٍ تداعى

وقد كان فوق النجومِ ارتفاعا

وأيُّ علاءٍ دعاه الخطوبُ

فلبّى ولولا الردى ما أطاعا

وأيُّ ضياءٍ ثوى في الثرى

وقد كان يخفي النجومَ التماعا

لقد كان شمسُ الهدى كاسمه

فأرخى الكسوفُ عليه قناعا

فوا أسفا أين ذاك اللسانُ

إذا رام معنىً أجاب اتِّباعا

وتلك البحوثُ التي ما تُمَلُ

إذا ملَّ صاحبُ بحثٍ سماعا

فمن ذا يُجيبُ سؤالَ الوفود

إذا عرضوا أو تعاطوا نزاعا

ومن لليتامى ولابنِ السبيلِ

إذا قصدوه عراةً جياعا

ومن للوفاءِ وحفظِ الإخاءِ

ورعيِ العهود إذا الغدر شاعا

سقى اللهُ مضجعه رحمةً

تروّي ثراه وتأبى انقطاعا (١)

وولد المترجَم أبو عليّ محمد الشهير بتاج الدين بن وشاح ، كان قاضي الحلّة ، ولصفيّ الدين الحلّي ـ الآتي ذكره في الجزء السادس ـ قصيدة يرثيه بها توجد في ديوانه (ص ٢٥٦) مطلعها :

__________________

(١) راجع أمل الآمل [٢ / ٧٣ رقم ١٩٦] ، بحار الأنوار : ج ٢٥ [١٠٩ / ١٥] ، مستدرك الوسائل [٣ / ٤٤٧] ، تتميم الأمل لابن أبي شبانة ، روضات الجنات [٦ / ١٠٥ ـ ١٠٧ رقم ٥٦٧]. (المؤلف)

٦٨٤

لو أفادتنا العزائمُ حالا

لم نجدْ حسنَ العزاءِ محالا

ويقول فيها :

أسدٌ خلّف شبلَي عرينٍ

شيّدا مجداً له لن يُنالا

ظلّ زينُ الدينِ للدهرِ زيناً

وجمالُ الدين فيها جمالا

فأرانا اللهُ أقصى الأماني

فيهما إن جار دهرٌ ومالا

٤٩ بيتاً

ولصفيّ الدين قصيدة أُخرى ذات (٥٣) بيتاً توجد في ديوانه (ص ٤١٠) ، يعتذر بها إلى القاضي تاج الدين بن وشاح عن قيلٍ فيه وعزوه إليه ، أوّلها :

حذراً عليك من الفعال الجافي

أُدنيك مجتهداً إلى الإنصافِ

ويقول في آخرها :

شكراً لواشٍ أوجبتْ أقوالُهُ

حجِّي لكعبةِ ربعِكمْ وطوافي

بُعدٌ جنيت القربَ من أغصانِهِ

وسكينةٌ حصلت من الإرجافِ

ولربّما عوتِ الكلابُ فأرشدتْ

نحو الكرامِ شواردَ الأضيافِ

دع عنك ما اختلف الورى في نقلِه

عنّي وخذ مدحاً بغير خلافِ

مدحاً أتاك ولا يروم إجازةً

إلاّ المودّةَ والضميرَ الصافي

ولآل محفوظ بقيّة صالحة في سورية والعراق ، وللأستاذ الحسين ابن الشيخ عليّ ابن الشيخ محمد الجواد ابن الشيخ موسى آل محفوظ الكاظمي رسالة في تراجم أعلام أُسرته الكريمة ، وتوجد ذكرى عُمد هذا البيت الرفيع في تكملة أمل الآمل لسيّدنا الصدر الكاظمي (١) وفي وفيات الأعلام (٢) لشيخنا الرازي صاحب الذريعة.

__________________

(١) تكملة أمل الآمل : ص ٣٣١ رقم ٣١٢.

(٢) وفيات الأعلام : ٣ / ٩٧٩ رقم ٦٤١٢.

٦٨٥

توجد في أمل الآمل (١) وغيره ترجمة باسم سديد الدين سالم بن محفوظ بن عزيزة بن وشاح السوراني ، قرأ عليه المحقّق الحلّي المتوفّى (٦٦٧) ، ويروي عنه السيّد ابن طاووس المتوفّى (٦٦٤) ، ووالد العلاّمة الحلّي ، وقد ولد العلاّمة (٦٤٨) ، واستظهر صاحب روضات الجنّات (٢) في (ص ٣٠١) أنَّه ولد شاعرنا شمس الدين محفوظ وهذا الاستظهار ليس في محلّه ؛ لأنَّ المترجم نفسه أحد الرواة عن المحقِّق الحلّي ، فكيف يكون سالم الذي قرأ عليه المحقّق الحلّي ابنه؟ ثمّ طبقة الرواة عن سالم هي طبقة مشايخ شمس الدين المترجم ، فيستدعي ذلك أن يكون متقدِّماً على والده بطبقة غير طبقة والده.

ويؤيّد ما ذكرناه أنّ ولد المترجم أبا عليّ محمداً تاج الدين بن محفوظ ـ المترجم في أمل الآمل (٣) ـ يروي عنه السيّد تاج الدين بن معيّة المتوفّى (٧٧٦) ، ورثاه صفي الدين المتوفّى (٧٥٢) ، فلو كان سالم أخاه لوجب أن يكون الرواة عنه من أهل هذه الطبقة لا قبلها بقرن.

__________________

(١) أمل الآمل : ٢ / ١٢٤ رقم ٣٥٢.

(٢) روضات الجنّات : ٦ / ١٠٦ رقم ٥٦٧.

(٣) أمل الآمل : ٢ / ٢٩٧ رقم ٨٩٦.

٦٨٦

ـ ٦٤ ـ

بهاء الدين الإربلي

المتوفّى (٦٩٢ ، ٦٩٣)

وإلى أميرِ المؤمنين بعثتُها

مثلَ السفائنِ غُمن في تيّارِ (١)

تحكي السهامَ إذا قطعن مفازةً

وكأنَّها في دقّة الأوتارِ

حمّالُ أثقالٍ ومُسعفُ طالبٍ

وملاذُ ملهوفٍ وموئل جارِ

شرفٌ أقرَّ به الحسودُ وسؤددٌ

شاد العلاءَ ليَعربٍ ونزارِ

وسماحةٌ كالماءِ طابَ لواردٍ

ظامٍ إليه وسطوةٌ كالنارِ

ومآثرٌ شهدَ العدوُّ بفضلِها

والحقُّ أبلجُ والسيوف عواري

سل عنه بدراً إذ جلا هبواتِها

بشباةِ خطيٍّ وحدِّ غرارِ (٢)

حيث الأسنّةُ كالنجومِ منيرةٌ

تخفى وتبدو في سماءِ غبارِ

واسأل بخيبرَ إن عرتكَ جهالةٌ

بصحائحِ الأخبارِ والآثارِ

واسأل جموعَ هوازنٍ عن حيدرٍ

وحذارِ من أسدِ العرين حَذارِ

واسأل بخمٍّ عن علاه فإنّها

تقضي بمجدٍ واعتلاءِ منارِ

بولائه يرجو النجاةَ مقصِّرٌ

وتُحَطُّ عنه عظائمُ الأوزارِ

__________________

(١) غمَّ الشيء : غطّاه. التيّار : موج البحر الهائج. (المؤلف)

(٢) الهبوة : الغبرة جمعها : الهبوات. الشباة : من السيف قدر ما يقطع به ، وحدّ كلّ شيءٍ. الغرار : حدّالسيف. (المؤلف)

٦٨٧

ويقول فيها :

عرِّجْ على أرض الغريِّ وقفْ به

والثمْ ثراه وزرهُ خيرَ مزارِ

واخلع بمشهدِهِ الشريفِ معظّماً

تعظيمَ بيت الله ذي الأستارِ

وقلِ السلامُ عليك يا خيرَ الورى

وأبا الهداةِ السادةِ الأبرارِ

يا آلَ طه الأكرمينَ أليّةً

بكمُ وما دهري يمينَ فجارِ

إنّي منحتكمُ المودّةَ راجياً

نيلَ المنى في الخمسة الأشبارِ

فعليكمُ منِّي السلامُ فأنتمُ

أقصى رجاي ومنتهى إيثاري (١)

وله من قصيدة في كتابه كشف الغمّة (٢) (ص ١٩٧) قوله :

وتعرّض إلى ولاءِ أُناسٍ

حبلُ معروفِهمْ قويٌّ مريرُ (٣)

خيرةُ اللهِ في الأنامِ ومن وج

هُ مُواليهمُ بهيٌّ منيرُ

أُمناء الله الكرامُ وأربا

بُ المعالي ففضلُهمْ مشهورُ

المفيدون حين يخفقُ سعيٌ

والمجيرون حين عزَّ المجيرُ

كرموا مولداً وطابوا أُصولاً

فبطونٌ زكيّةٌ وظهورُ

عترةُ المصطفى وحسبُكَ فخراً

أيّها السائلي البشيرُ النذيرُ

بعليٍّ شِيدتْ معالمُ دينِ ال

لّهِ والأرضُ بالعنادِ تمورُ

وبه أيّدَ الإلهُ رسولَ ال

لّهِ إذ ليس في الأنامِ نصيرُ

وبأولادِهِ الهداةِ إلى الح

قِّ أضاء المستبهم الديجورُ

__________________

(١) كشف الغمّة : ص ٧٨ [١ / ٢٧٤] وقال : قصيدة طويلة أنشدتها بحضرته في مشهده المقدّس صلوات الله عليه. (المؤلف)

(٢) كشف الغمّة : ٢ / ٢٨٢.

(٣) المرير من الحبال : ما اشتدّ فتله ، ويقال أمر مرير : أي محكم. ورجل مرير : قويّ ذو غرم. (المؤلف)

٦٨٨

سل حُنيناً عنه وبدراً فما يخ

بر عمّا سألتَ إلاّ الخبيرُ

إذ جلا هبوةَ الخطوبِ وللحر

ب زنادٌ يشبُّ منها سعيرُ

حسدوهُ على مآثر شتّى

وكفاهمْ حقداً عليه الغديرُ

أسدٌ ما له إذا استفحل البأ

س سوى رنّةِ السلاحِ زئيرُ

ثابتُ الجأشِ لا يروِّعُهُ الخط

ب ولا يعتريه فيه فتورُ

أعرب السيفُ منه إذ أعجم الرم

ح لأنَّ العدا لديه سطورُ

عزماتٌ أمضى من القدر المح

توم يجري بحكمِهِ المقدورُ

ومزايا مفاخرٍ عطّرَ الأُف

قَ شذاها يُخال فيها عبيرُ

الشاعر

بهاء الدين أبو الحسن عليُّ بن فخر الدين عيسى بن أبي الفتح الإربلي ، نزيل بغداد ودفينها ؛ فذّ من أفذاذ الأمّة ، وأوحديّ من نياقد علمائها ، بعلمه الناجع وأدبه الناصع يتبلّج القرن السابع ، وهو في أعاظم العلماء قبله في أئمّة الأدب ، وإن كان به ينضّد جمان الكتابة ، وتنظم عقود القريض ، وبعد ذلك كلّه هو أحد ساسة عصره الزاهي ، ترنّحت به أعطاف الوزارة وأضاء دستها ، كما ابتسم به ثغر الفقه والحديث ، وحميت به ثغور المذهب ، وسفره القيّم كشف الغمّة خير كتاب أُخرج للناس في تاريخ أئمّة الدين ، وسرد فضائلهم ، والدفاع عنهم ، والدعوة إليهم ؛ وهو حجّة قاطعة على علمه الغزير ، وتضلّعه في الحديث ، وثباته في المذهب ، ونبوغه في الأدب ، وتبرّزه في الشعر ، حشره الله مع العترة الطاهرة صلوات الله عليهم.

قال الشيخ جمال الدين أحمد بن منبع الحلّي مقرّظاً الكتاب :

ألا قل لجامع هذا الكتابِ

يميناً لقد نلتَ أقصى المرادِ

وأظهرت من فضل آل الرسول

بتأليفهِ ما يسوءُ الأعادي

٦٨٩

مشايخ روايته والرواة عنه :

يروي بهاء الدين المترجم عن جمع من أعلام الفريقين ، منهم :

١ ـ سيّدنا رضيُّ الدين جمال الملّة السيد عليّ بن طاووس : المتوفّى (٦٦٤).

٢ ـ سيّدنا جلال الدين عليّ بن عبد الحميد بن فخار الموسوي : أجاز له سنة (٦٧٦).

٣ ـ الشيخ تاج الدين أبو طالب عليّ بن أنجب بن عثمان الشهير بابن الساعي البغدادي السلامي : المتوفّى (٦٧٤) ، يروي عنه كتاب معالم العترة النبويّة العليّة تأليف الحافظ أبي محمد عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي المتوفّى (٦١١) كما في كشف الغمّة (ص ١٣٥) (١).

٤ ـ الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي : المتوفّى سنة (٦٥٨) ، قرأ عليه كتابيه : كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب ، والبيان في أخبار صاحب الزمان ؛ وذلك بإربل سنة (٦٤٨) ، وله منه إجازة بخطّه (٢) ، وينقل عن كتابه الكفاية كثيراً في كشف الغمّة.

٥ ـ كمال الدين أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن وضّاح ، نزيل بغداد ، الفقيه الحنبلي : المتوفّى (٦٧٢) يروي عنه بالإجازة ، وممّا يروي عنه كتاب الذرّية الطاهرة تأليف أبي بشر محمد بن أحمد الأنصاري الدولابي ، المتوفّى سنة (٣٢٠) ، وكان مخطوطاً بخطِّ شيخه ابن وضّاح المذكور. كشف الغمّة (٣) (ص ١٠٩).

__________________

(١) كشف الغمّة : ٢ / ١٦٧.

(٢) كشف الغمّة : ص ٣١ ، ٣٢٤ [١ / ١٠٥ و ٣٨٣]. (المؤلف)

(٣) كشف الغمّة : ١ / ٣٧٣.

٦٩٠

٦ ـ الشيخ رشيد الدين أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عمر بن أبي القاسم ، قرأ عليه كتاب المستغيثين (١) ـ في كشف الظنون : المستعين بالله ـ تأليف أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال الأنصاري القرطبي المتوفّى (٥٧٨) ، والشيخ رشيد الدين قرأ ـ المستغيثين ـ على محيي الدين أبي محمد يوسف ابن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي وهو يرويه عن مؤلّفه إجازة. قال المترجم في كشف الغمّة (٢) (ص ٢٢٤) : كانت قراءتي عليه في شعبان من سنة ستّ وثمانين وستمائة بداري المطلّة على دجلة ببغداد.

وينقل كثيراً عن عدّة من تآليف معاصريه منها : تفسير الحافظ أبي محمد عبد الرزّاق عزّ الدين الرسعني الحنبلي المتوفّى (٦٦١) ، كانت بينه وبين المترجم صداقة وصلة ؛ راجع الجزء الأوّل من كتابنا هذا (ص ٢٢٠).

ومنها : مطالب السؤول تأليف أبي سالم كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي ، كما أسلفناه في ترجمته (ص ٤١٥) من هذا الجزء.

ومنها : تآليف شيخنا الأوحد قطب الدين الراوندي ، المترجَم فيما مرَّ (ص ٣٨٠)

ويروي عنه جمع من أعلام الفريقين منهم :

١ ـ جمال الدين العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهّر ، كما في إجازة شيخنا الحرّ العاملي صاحب الوسائل.

٢ ـ الشيخ رضيّ الدين عليّ بن المطهّر ، كما في إجازة السيّد محمد بن القاسم بن معيّة الحسيني للسيّد شمس الدين.

__________________

(١) قال ابن خلكان في تاريخه : ١ / ١٩٠ [٢ / ٢٤٠ رقم ٢١٧]. كتاب المستغيثين بالله تعالى عند المهمّات والحاجات مجلّد لطيف ، فما ذكرناه في المتن عن كشف الظنون تصحيف. (المؤلف)

(٢) كشف الغمّة : ٢ / ٣٧٣.

٦٩١

٣ ـ السيّد شمس الدين محمد بن فضل العلوي الحسني.

٤ ـ ولده الشيخ تاج الدين محمد بن عليّ.

٥ ـ الشيخ تقيّ الدين بن إبراهيم بن محمد بن سالم.

٦ ـ الشيخ محمود بن عليّ بن أبي القاسم.

٧ ـ حفيده الشيخ شرف الدين أحمد بن الصدر تاج الدين محمد بن عليّ.

٨ ـ حفيده الآخر الشيخ عيسى بن محمد بن عليّ ، أخو الشرف المذكور.

٩ ـ الشيخ شرف الدين أحمد بن عثمان النصيبي ، الفقيه المدرِّس المالكي.

١٠ ـ مجد الدين أبو الفضل يحيى بن عليّ بن المظفّر الطيبي الكاتب بواسط العراق ، قرأ على المترجم شطراً من كتابه كشف الغمّة ، وأجاز له ولجمع من الأعلام المذكورين سنة (٦٩١).

وممّن قرأ عليه :

١١ ـ عماد الدين عبد الله بن محمد بن مكّي.

١٢ ـ الصدر الكبير عزّ الدين أبو عليّ الحسن بن أبي الهيجا الإربلي.

١٣ ـ تاج الدين أبو الفتح بن الحسين بن أبي بكر الإربلي.

١٤ ـ المولى أمين الدين عبد الرحمن بن عليّ بن أبي الحسن الجزري الموصلي.

١٥ ـ الشيخ حسن بن إسحاق بن إبراهيم بن عبّاس الموصلي.

له ذكره الجميل في (١) : أمل الآمل ، ورياض العلماء ، ورياض الجنّة ـ في الروضة الرابعة ـ ، وروضات الجنّات ، والأعلام للزركلي ، وتتميم الأمل لابن أبي

__________________

(١) أمل الآمل : ٢ / ١٩٥ رقم ٥٨٨ ، رياض العلماء : ٤ / ١٦٦ ، روضات الجنّات : ٤ / ٣٤١ ، الأعلام : ٤ / ٣١٨ ، الكنى والألقاب : ٢ / ١٨.

٦٩٢

شبانة ، والكنى والألقاب ، والطليعة في شعراء الشيعة.

قال ابن الفوطي في الحوادث الجامعة (١) (ص ٣٤١) : وفي سنة (٦٥٧) وصل بهاء الدين عليّ بن الفخر عيسى الإربلي إلى بغداد ، ورتّب كاتب الإنشاء بالديوان ، وأقام بها إلى أن مات.

وقال في (ص ٤٨٠) : إنَّه توفِّي ببغداد سنة (٦٩٣) ، وقال في (ص ٢٧٨) : إنّه تولّى تعمير مسجد معروف سنة (٦٧٨) ، وذكر له (ص ٣٨) من قصيدته التي يرثي بها معلّم الأمّة شيخنا خواجه نصير الدين الطوسي والملك عزّ الدين عبد العزيز :

ولمّا قضى عبد العزيز بن جعفر

وأردفه رزء النصير محمدِ

جزعتُ لفقدانِ الأخلاّءِ وانبرتْ

شئوني كمرفضِّ الجُمانِ المبدّدِ

وجاشت إليَّ النفسُ حزناً ولوعةً

فقلت تعزّي واصبري فكأن قدِ

وقال في صحيفة (٣٦٦) : وفي خامس عشرين جمادى الآخرة ركب علاء الدين صاحب الديوان لصلاة الجمعة ، فلمّا وصل المسجد الذي عند عقد مشرعة الأبريّين ، نهض عليه رجل وضربه بسكّين عدّة ضربات ، فانهزم كلّ من كان بين يديه من السرهنكيّة ، وهرب الرجل أيضاً ، فعرض له رجل حمّال كان قاعداً بباب غلّة ابن تومه وألقى عليه كساءه ، ولحقه السرهنكيّة فضربوه بالدبابيس وقبضوه.

وأمّا الصاحب فإنّه أُدخل دار بهاء الدين ـ المترجم ـ ابن الفخر عيسى ، وكان يومئذٍ يسكن في الدار المعروفة بديوان الشرابي ، لمّا عرف بذلك خرج حافياً وتلقّاه ودخل بين يديه ، وأحضر الطبيب فسبر الجرح ومصّه فوجده سليماً من السمِّ.

وذكر في (ص ٣٦٩) من إنشائه كتاب صداق كتبه في تزويج الخواجة شرف

__________________

(١) الحوادث الجامعة : ص ١٦٤ و ٢٢٧ و ١٩٥ و ٢٥ و ١٧٦ و ١٧٧.

٦٩٣

الدين هارون بن شمس الدين الجويني بابنة أبي العبّاس أحمد ابن الخليفة المستعصم في جمادى الآخرة سنة (٦٧٠).

وترجمه الكتبي في فوات الوفيات (١) (٢ / ٨٣) وقال : له شعر وترسُّل ، وكان رئيساً كتب لمتولّي إربل ابن صلايا ، ثمّ خدم ببغداد في ديوان الإنشاء أيّام علاء الدين صاحب الديوان ، ثمّ إنّه فتر سوقه في دولة اليهود ، ثمّ تراجع بعدهم وسلم ولم ينكب إلى أن مات سنة (٦٩٢) ، وكان صاحب تجمّل وحشمة ومكارم أخلاق ، وفيه تشيّع ، وكان أبوه والياً بإربل ، ولبهاء الدين مصنّفات أدبيّة مثل : المقالات (٢) الأربع ، ورسالة الطيف المشهورة وغير ذلك ، وخلّف لمّا مات تركةً عظيمةً ألفي ألف درهم تسلّمها ابنه أبو الفتح ومحقها ومات صعلوكاً ، ومن شعر بهاء الدين رضى الله عنه :

أيا حاجري من غيرِ جرمٍ جنيتُهُ

ومن دأبه ظلمي وهجري فديتهُ

أجرني رعاكَ اللهُ من نارِ جفوةٍ

وحرّ غرامٍ في العبادِ اصطليتهُ

وكن مُسعفي فيما أُلاقي من الأسى

فهجرك يا كلّ المنى ما نويتهُ

أأظما غراماً في هواكَ ولوعةً

ولي دمعُ عينٍ كالسحابِ بكيتهُ

وحَقِّك يا من تهت فيه صبابةً

ووجداً ومن دونِ الأنامِ اصطفيتُهُ (٣)

وحَقِّك لا أنسى العهودَ التي مضت

قديماً ولا أسلو زماناً قضيتهُ

ومن شعره أيضاً :

كيف خلاصي من هوى شادنٍ

حكَّمه الحسنُ على مهجتي

بعادُه ناري التي تُتّقى

وقربُه لو زارني جنّتي

__________________

(١) فوات الوفيات : ٣ / ٥٧ رقم ٣٤٧.

(٢) في الطبعة التي بين أيدينا من الوفيات : المقامات.

(٣) أضفنا هذا البيت من طبعة الغدير الأولى.

٦٩٤

ما اتّسعت طرق الهوى فيه لي

إلاّ وضاقتْ في الجفا حيلتي

ليت ليالي وصلِهِ عدنَ لي

يا حسرتا أين الليالي التي

وقال أيضاً رحمه‌الله تعالى :

وجهُه والقوامُ والشعَرُ الأس

ودُ في بهجة الجبينِ النضيرِ

بدر تمٍّ على قضيبٍ عليه

ليل دُجن من فوقِ صبحٍ منيرِ

وقال أيضاً :

جنّه سابق الغرام فجُنّا

وجفا منزلاً وخلّف مغنى

ودعاه الهوى فلبّى سريعاً

وكذا شيمةُ المحبِّ المعنّى

رام صبراً فلم يُطعه غرامٌ

غادرَ القلبَ بالصبابةِ رهنا

وجفا لذّةَ الكرى في رضا ال

حبِّ فأرضى قلباً وأسخط جفنا

أسهرت مقلتاه في طاعةِ الوج

د عيوناً على المخضَّب وسنَى

كلّ ظامي الوشاح ريّان من ما

ءِ التصابي أضنى المحبَّ وعنّى

ما على الدهرِ لو أعاد زماناً

سلبَتْهُ أيدي الحوادث منّا

وعلى من أحبَّ لو شفع الحس

ن الذي قيّد العيونَ بحسنى

وبروحي أفدي رشيقَ قوامٍ

لاح بدراً وماس إذ ماس غصنا

يتجنّى ظلماً فيحدثُ لي وج

داً إذا صدَّ عاتباً أو تجنّى

ما ثنانا عنه العذول وهل ين

سى غرامي وقدّه يتثنّى

كيف أسلو بدراً يشابهه البد

ر سناءً يسبي الحليمَ وأسنى

ليَ معنىً فيهِ وفي صاحب الدي

وانِ إذ رُمتُ مدحَهُ ألف معنى

وقال أيضاً رحمه‌الله تعالى :

طاف بها والليل وَحف الجناح (١)

بدرُ الدجى يحملُ شمسَ الصباحْ

__________________

(١) الوحف : الشعر الكثير الأسود الحسن ، والواحف من الأجنحة : الكثير الريش. (المؤلف)

٦٩٥

وفازَ بالراحةِ عشّاقُه

لمّا بدا في كفِّه كأسُ راحْ

ظبيٌ من التركِ له قامةٌ

يُزري تثنِّيها بسمر الرماحْ

عارضُه آسٌ وفي خدِّه

وردٌ نضيرٌ والثنايا أقاحْ

عاطيتُه صهباءَ مشمولةً

تجلي سنا الصبحِ إذا الصبحُ لاحْ

فسكّنتْ سورتُه وانثنى

فظلَّ طوعِي بعد طول الجماحْ

فبتُّ لا أعرفُ طيبَ الكرى

وبات لا ينكرُ طيبَ المزاحْ

فهل على من بات صبّا به

وإن نضا ثوب وقارٍ جُناحْ

وقال أيضاً رحمه‌الله تعالى :

غزالَ النقا لو لا ثناياك واللّمى

لما بتُّ صبّا مستهاماً متيّما

ولولا معانٍ فيك أوجبن صبوتي

لما كنتُ من بعد الثمانين مغرما

أيا جنّةَ الحسن الذي غادر الحشا

بفرطِ التجافي والصدود جهنّما

جريت على رسمٍ من الجور واضحٍ

أما آن يوماً أن ترقَّ وترحما

أمالِكَ رقّي كيف حلّلتَ جفوتي

وعدت لقتلي بالبعاد متمّما

وحرّمت من حلو الوصال محلّلاً

وحلّلت من مرِّ الجفاء محرّما

بحسن التثنِّي رقَّ لي من صبابةٍ

أسلتُ بها دمعي على وجنتي دما

ورفقاً بمن غادرتَهُ غرضَ الردى

إذا زار عن سخطٍ بلادك مسلما

كلفت بساجي الطرفِ أحوى مهفهفٍ

يميسُ فينسيكَ القضيبَ المنعّما

يفوق الظبا والغصنَ حسناً وقامةً

وبدرَ الدجى والبرقَ وجهاً ومبسما

فناظرُه في قصّتي ليس ناظراً

وحاجبُه في قتلتي قد تحكّما

ومشرف صدغٍ ظلَّ في الحكمِ جائراً

وعاملُ قدٍّ بان أعدى وأظلما

وعارضُه لم يرثِ لي من شكايةٍ

فنمّت دموعي حين لاح منمنما

٦٩٦

وترجمه صاحب شذرات الذهب (١) (٥ / ٣٨٣) بعنوان بهاء الدين بن الفخر عيسى الإربلي ، وعدّه من المتوفّين في سنة (٦٨٣) وأحسبه تصحيف (٦٩٣) ، وجعلوه في فهرست الكتاب : عيسى بن الفخر الإربلي ، زعماً منهم بأنّ عيسى في كلام المصنِّف بدل من قوله بهاء الدين ؛ وذكر له في الشذرات قوله :

أيّ عذر وقد تبدّى العذارُ

إن ثناني تجلّدٌ واصطبارُ

فأقلاّ إن شئتما أو فزيدا

ليس لي عن هوى الملاح قرارُ

هل مجيرٌ من الغرامِ وهيها

تَ أسير الغرام ليس يجارُ

يا بديعَ الجمالِ قد كثرتْ في

كَ اللواحي وقلّت الأنصارُ

وذكره سيّدنا صاحب رياض الجنّة وقال : إنّه كان وزيراً لبعض الملوك ، وكان ذا ثروة وشوكة عظيمة ، فترك الوزارة واشتغل بالتأليف والتصنيف والعبادة والرياضة في آخر أمره ، وقد نظم بسبب تركه المولى عبد الرحمن الجامي في بعض قصائده بقوله ـ ثمّ ذكر خمسة عشر بيتاً باللغة الفارسيّة ضربنا عنها صفحاً ـ والقصيدة على أنّها خالية من اسم المترجم ومن الإيعاز إليه بشيء يعرِّفه ، تعرب عن أنَّ الممدوح بها غادر بيئة وزارته إلى الحرم الأقدس وأقام هناك إلى أن مات.

ومرَّ عن ابن الفوطي أنَّ المترجم كان كاتباً إلى أن مات ، وكون وفاته في بغداد ودفنه بداره المطلّة على دجلة في قرب الجسر الحديث من المتسالم عليه ولم يختلف فيه اثنان ، وكان قبره معروفاً يزار إلى أن ملك تلك الدار ـ في هذه الآونة الأخيرة ـ من قطع سبيل الوصول إليه وإلى زيارته ، والناس مجزيّون بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شرّا فشر.

توجد جملة كبيرة من شعره في العترة الطاهرة ـ صلوات الله عليهم ـ في كتابه

__________________

(١) شذرات الذهب : ٧ / ٦٦٨ حوادث سنة ٦٨٣ ه‍.

٦٩٧

كشف الغمّة ، منها : في (١) (ص ٧٩) من قصيدة مدح بها أمير المؤمنين عليه‌السلام وأنشدها في حضرته قوله :

سل عن عليّ مقاماتٍ عُرفن به

شدّت عرى الدين في حلٍّ ومرتحلِ

بدراً وأُحداً وسل عنه هوازن في

أوطاس واسأل به في وقعة الجملِ

واسأل به إذ أتى الأحزابُ يقدمهم

عمرو وصفّين سل إن كنتَ لم تسلِ

مآثرٌ صافحتْ شهبَ النجومِ عُلىً

مشيدة قد سمت قدراً على زحلِ

وسنّةٌ شرعت سبلَ الهدى وندىً

أقام للطالبِ الجدوى على السبلِ

كم من يدٍ لك فينا يا أبا حسن

يفوقُ نائلُها صوبَ الحيا الهطلِ

وكم كشفت عن الإسلامِ فادحةً

أبدتْ لتفرسَ عن أنيابِها العضلِ

وكم نصرت رسولَ اللهِ منصلتاً

كالسيفِ عُرّي متناه من الخللِ

ورُبَّ يومٍ كظلِّ الرمحِ ما سكنتْ

نفسُ الشجاعِ به من شدّةِ الوهلِ (٢)

ومأزقُ الحربِ ضنكٌ لا مجالَ به

ومنهلُ الموتِ لا يغني على النهلِ

والنقعُ قد ملأ الأرجاءَ عِثْيرُهُ (٣)

فصار كالجبل الموفي على الجبلِ

جلوته بشبا البيض القواضب وال

جرد السلاهب والعسّالة الذبلِ (٤)

بذلت نفسَكَ في نصرِ النبيِّ ولم

تبخلْ وما كنت في حال أخا بخلِ

وقمت منفرداً كالرمحِ منتصباً

لنصرهِ غيرَ هيّاب ولا وكلِ (٥)

__________________

(١) كشف الغمّة : ١ / ٢٧٥.

(٢) الوهل والوهلة : الفزع والفزعة. (المؤلف)

(٣) النقع : الغبار. عِثْيَر : التراب والعجاج. (المؤلف)

(٤) البيض : السيوف. القواضب جمع قاضب ، يقال : سيف قاضب وقضّاب وقضّابة ومقضب : شديد القطع ، رجل قضّابة : قطّاع للأمور مقتدر عليها. الجرد : الترس. السلاهب جمع السلهب : الطويل. العسالة من الرمح : ما يهتز ليناً. الذبل جمع الذابل : الدقيق ، المهزول. توصف بها الرماح. (المؤلف)

(٥) الوكل : الجبان ، العاجز. (المؤلف)

٦٩٨

تردي الجيوشَ بعزمٍ لو صدمتَ به

صمَّ الصفا لهوى من شامخِ القللِ

يا أشرفَ الناسِ من عُربٍ ومن عجمِ

وأفضلَ الناس في قولٍ وفي عملِ

يا من به عرفَ الناسُ الهدى وبه

تُرجى السلامةُ عند الحادثِ الجللِ

يا من أعاد رسومَ العدلِ حاليةً

وطال ما سترتْها وحشةُ العطلِ

يا فارسَ الخيلِ والأبطال خاضعةٌ

يا من له كلُّ خلقِ اللهِ كالخولِ (١)

يا سيّد الناسِ يا من لا مثيلَ له

يا من مناقبُهُ تسري سُرى المثلِ

خذ من مديحي ما أسطيعه كرماً

فإن عجزتُ فإنَّ العجزَ من قبلي

وسوف أهدي لكم مدحاً أحبِّرُهُ

إن كنت ذا قدرةٍ أو مُدّ في أجلي

وله يمدح الإمام الصادق عليه‌السلام قوله (٢) :

مناقبُ الصادقِ مشهورةٌ

ينقلُها عن صادقٍ صادقُ

سما إلى نيلِ العلى وادعاً

وكلَّ عن إدراكِهِ اللاحقُ

جرى إلى المجدِ كآبائِهِ

كما جرى في الحلبة السابقُ

وفاقَ أهلَ الأرضِ في عصرِه

وهو على حالاتِه فائقُ

سماؤه بالجودِ هطّالةٌ

وسيبُهُ هامي الحيا دافقُ

وكلّ ذي فضلٍ بأفضالِهِ

وفضلُه معترفٌ ناطقُ

له مكانٌ في العلى شامخٌ

وطود مجدٍ صاعدٌ شاهقُ

من دوحة العزِّ التي فرعُها

سامٍ على أوج السها سامقُ (٣)

نائلُه صوبُ حياً مُسبلٌ

وبشرُهُ في صوبِهِ بارقُ

صوابُ رأي إن عدا جاهلٌ

وصوبُ غيثٍ إن عرا طارقُ

__________________

(١) الخول : العبيد والإماء. (المؤلف)

(٢) كشف الغمّة : ٢ / ٤٢٩.

(٣) فاعل من سمق سمقاً وسموقاً : علا وطال ، فهو سامق وسمق. (المؤلف)

٦٩٩

كأنَّما طلعتُهُ ما بدا

لناظريهِ القمرُ الشارقُ

له من الأفضالِ حادٍ على

البذلِ ومن أخلاقه سائقُ

يروقُه بذل الندى واللها

وهو لهمْ أجمعِهمْ رائقُ

خلائقٌ طابت وطالت علىً

أبدعَ في إيجادِها الخالقُ

شادَ المعالي وسعى للعلى

فهي له وهو لها عاشقُ

إن أعضلَ الأمرُ فلا يهتدى

إليهِ فهو الفاتقُ الراتقُ

يشوقُه المجدُ ولا غروَ أن

يشوقَهُ وهو له شائقُ

مولاي إنّي فيكمُ مخلصٌ

إن شابَ بالحبِّ لكم ماذقُ (١)

لكمْ موالٍ وإلى بابِكمْ

أنضي (٢) المطايا وبكم واثقُ

أرجو بكمْ نيلَ الأماني إذا

نجا مطيعٌ وهوى مارقُ

وله يمدح الإمام الكاظم موسى بن جعفر ـ صلوات الله عليهما ـ قوله (٣) :

مدائحي وقفٌ على الكاظمِ

فما على العاذلِ واللائمِ

وكيف لا أمدحُ مولىً غدا

في عصرِه خيرَ بني آدمِ

ومن كموسى أو كآبائِهِ

أو كعليٍّ وإلى القائمِ

إمام حقٍّ يقتضي عدله

لو سُلّم الحكمُ إلى الحاكمِ

إفاضةَ العدلِ وبذلَ الندى

والكفَّ عن عاديةِ الظالمِ

يبسمُ للسائلِ مستبشراً

أفديه من مستبشرٍ باسمِ

ليثُ وغى في الحربِ دامي الشبا

وغيثُ جود كالحيا الساجمِ

مآثرٌ تعجزُ عن وصفِها

بلاغةُ الناثرِ والناظمِ

__________________

(١) ماذق فلاناً في الودّ : لم يخلص له الودّ. (المؤلف)

(٢) أنضى إنضاءً البعير : هزله. (المؤلف)

(٣) كشف الغمّة : ٣ / ٥١.

٧٠٠