الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

١
٢

٣
٤

٥
٦

شكر على تقدير

كان في هواجس ضميري :

أنَّ كتابي هذا سيقدِّره كلُّ رجلٍ دينيٍّ ، ومَن يحمل ولاء العترة الطاهرة ، فصدَّق الخُبر الخَبر ، وأتتنا رسائل كريمة ، وكتابات أنيقة من أرجاء العراق وخارجها من شتّى الأقطار ، من الجمعيّات والشخصيّات البارزة في تقريض الكتاب والإعجاب به نظماً ونثراً ، كلّ ذلك ينِمُّ عن روحيَّةٍ حاسَّةٍ قويَّةٍ في الملأ الإسلاميِّ ، وفكرةٍ صالحةٍ في المجتمع الدينيِّ ، وشعورٍ حيٍّ في رجالات الأُمَّة ، فحيّا الله العرب ودينه الحقَّ ، ومرحباً بالتابعين لهم بإحسان من الأُمم الإسلاميّة ، فنحن نقدِّم إلى الجميع شكرنا المتواصل ، ونسأل لهم التوفيق ، ونأمل الرقيَ والتقدّم لحملة القرآن الأقدس.

المؤلف الأميني

٧
٨

٩
١٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى

نجز الجزء الأوَّل ـ ولله الحمد ـ من هذا الكتاب ، بعد أن أَلْمَسَكَ باليد حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق الدينيّة ، ألا وهي : مغزى نصِّ الغدير ومفاده ، ذلك النصُّ الجليُّ على إمامة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بحيث لم يدع لقائل كلمةً ، ولا لمجادل شبهة في تلك الدلالة ، وقد أوعزنا في تضاعيف ذلك البحث الضافي إلى أنَّ هذا المعنى من الحديث هو الذي عرفته منه العرب منذ عهد الصحابة الوعاة له وفي الأجيال من بعدهم إلى عصرنا الحاضر.

فهو معنى اللفظ اللغويّ المراد لا محالة قبل القرائن المؤكِّدة له وبعدها ، وقد أسلفنا نزراً من شواهد هذا المدّعى ، غير أنَّه يروقنا هاهنا التبسّط في ذلك ، بإيراد الشعر المقول فيه ، مع يسيرٍ من مكانة الشاعر وتوغّله في العربيّة ، ليزداد القارئ بصيرةً على بصيرته.

إلاّ أنَّ كلاّ من أولئك الشعراء الفطاحل ـ وقل في أكثرهم العلماء ـ معدود من رواة هذا الحديث ، فإنَّ نظمهم إيّاه في شعرهم القصصي ليس من الصور الخياليّة الفارغة ، كما هو المطّرد في كثير من المعاني الشعريّة ، ولدى سواد عظيم من الشعراء ، ألم ترهم في كلِّ وادٍ يهيمون؟ لكنّ هؤلاء نظموا قصّةً لها خارجٌ ، وأفرغوا ما فيها من كَلِمٍ منثورة أو معانٍ مقصودة ، من غير أيِّ تدخّل للخيال فيه ، فجاء قولهم كأحد الأحاديث المأثورة ، فتكون تلكم القوافي المنضّدة في عقودها الذهبيّة من جملة المؤكِّدات لتواتر الحديث.

ومن هنا لم نعتبر في بعض ما أوردناه أن يكون من علّيّة الشعر ، ولا لاحظنا تناسبه لأوقات نبوغ الشاعر في القوّة ، لما ذكرناه من أنَّ الغاية هي روايته للحديث وفهمه المعنى المقصود منه ، ولن تجد أيَّ فصيح من الشعراء والكتّاب تشابهت ولائد فكرته في القوّة والضعف في جميع أدواره وحالاته.

١١
١٢

الشعر والشعراء

ونحن لا نرى شعر السلف الصالح مجرّد ألفاظ مسبوكة في بوتقة النظم ، أو كلمات منضّدة على أسلاك القريض فحسب ، بل نحن نتلقّاه بما هناك من الأبحاث الراقية في المعارف من علمي الكتاب والسنّة ، إلى دروس عالية من الفلسفة والعِبر والموعظة الحسنة والأخلاق ، أضف إليها ما فيه من فنون الأدب وموادِّ اللغة ومباني التاريخ ، فالشعر الحافل بهذه النواحي بغية العالم ، ومقصد الحكيم ، ومأرب الأخلاقيِّ ، وطلبة الأديب ، وأُمنيّة المؤرِّخ ، وقل : مرمى المجتمع البشريِّ أجمع.

وهناك للشعر المذهبيِّ مآرب أخرى هي من أهمِّ ما نجده في شعر السلف ، ألا وهي الحِجاج في المذهب والدعوة إلى الحقِّ ، وبثِّ فضائل آل الله ، ونشر روحيّات العترة الطاهرة في المجتمع ، بصورةٍ خلاّبة ، وأسلوب بديع يُمازج الأرواح ، ويخالط الأدمغة ، فيبلغ هتافه القاصي والداني ، وتلوكه أشداق الموالي والمناوئ مهما علت في الكون عقيرته ، ودوّخت الأرجاء شهرته ، وشاع وذاع وطار صيته في الأقطار ، وقُرِّطت به الآذان.

مهما صار أُحدوّة تحدو بها الحُداة ، وأغاني تغنّي به الجواري في أندية الملوك والخلفاء والأمراء ، وتناغي بها الأمّهات الرضّع في المهود ، ويرقّصْنَهم بها بعد الفطام في الحجور ، ويُلقِّنها الآباء أولادهم على حين نعومة الأظفار ، فينمو ويشبُّ وفي

١٣

صفحة قلبه أسطرٌ نوريّة من الولاء المحض بسبب تلك الأهازيج ، وهذه الناحية ـ الفارغة اليوم ـ لا تسدّها خطابة أيِّ مفوّهٍ لَسِن ، ولا تلحقه دعاية أيِّ متكلّم ، كما يقصر دون إدراكها السيف والقلم.

وأنت تجد تأثير الشعر الرائق في نفسيّتك فوق أيِّ دعاية وتبليغ ، فأيُّ أحد يتلو ميميّة الفرزدق فلا يكاد أن يطير شوقاً إلى الممدوح وحبّا له؟ أو ينشد هاشميّات الكميت فلا يمتلئ حجاجاً لِلحقّ؟ أو يترنّم بعينيّة الحميري فلا يعلم أنَّ الحقَّ يدور على الممدوح بها؟ أو تلقى عليه تائيّة دعبل فلا يستاء لاضطهاد أهل الحقِّ؟ أو تصكُّ سمعه ميميّة الأمير أبي فراس فلا تقف شعرات جِلدته؟ ثمَّ لا يجد كلَّ عضو منه يخاطب القوم بقوله :

ياباعةَ الخمرِ كُفّوا عن مفاخرِكمْ

لِعُصْبةٍ بيعُهم يوم الهياج دمُ

وكم وكم لهذه من أشباه ونظائر في شعراء أكابر الشيعة ، وسوف تقف عليها في طيّات أجزاء كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.

وبهذه الغاية المهمّة كان الشعر في القرون الأولى مدحاً وهجاءً ورثاءً كالصارم المسلول بيد موالي أئمّة الدين ، وسهماً مغرَقاً في أكباد أعداء الله ، ومجلّة دعاية إلى ولاء آل الله في كلِّ صقع وناحية ، وكانوا ـ صلوات الله عليهم ـ يضحّون دونه بثروة طائلة ، ويبذلون من مال الله للشعراء ما يغنيهم عن التكسّب والاشتغال بغير هذه المهمَّة ، وكانوا يوجّهون الشعراء إلى هذه الناحية ، ويحتفظون بها بكلِّ حول وطول ، ويحرِّضون الناس عليها ، ويُبشِّرونهم عن الله ـ وهم أمناء وحيه ـ بمثل قولهم :

«من قال فينا بيت شعر بنى الله له بيتاً في الجنّة». ويحثّونهم على تعلّم ما قيل فيهم وحفظه ، بمثل قول الصادق الأمين عليه‌السلام : «علّموا أولادكم شعر العبدي». وقوله : «ما قال فينا قائلٌ بيت شعر حتى يؤيَّد بروح القُدس» (١).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا [١ / ١٥] ، رجال الكشّي : ص ٢٥٤ [٢ / ٧٠٤ رقم ٧٤٨]. (المؤلف)

١٤

وروى الكشّي في رجاله (١) (ص ١٦٠) عن أبي طالب القمّي ، قال : كتبت إلى أبي جعفر بأبيات شعر وذكرت فيها أباه ، وسألته أن يأذن لي في أن أقول فيه ، فقطع الشعر وحبسه ، وكتب في صدر ما بقي من القرطاس : «قد أحسنت ، فجزاك الله خيراً».

وعنه في لفظ آخر : فأذِنَ لي أن أرثي أبا الحسن ـ أعني أباه ـ وكتب إليَّ : «أن اندبه واندب لي».

__________________

(١) رجال الكشّي : ٢ / ٨٣٨ رقم ١٠٧٤ و ١٠٧٥.

١٥
١٦

الشعر والشعراء في السنّة والكتاب

كلّ ما ذكرنا عنهم ـ صلوات الله عليهم ـ كان تأسِّياً بقدوتهم النبيِّ الطاهر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنَّه أوّل فاتح لهذا الباب بمصراعيه مدحاً وهجاءً ، بإصاخته للشعراء المادحين له ولأسرته الكريمة ، وكان ينشد الشعر ويستنشده ، ويجيز عليه ويرتاح له ، ويكرم الشاعر مهما وجد في شعره هذه الغاية الوحيدة ، كارتياحه لشعر عمّه شيخ الأباطح أبي طالب ـ سلام الله عليه ـ لمّا استسقى فسُقي ، قال : «لله درُّ أبي طالب لو كان حيّا لقرّت عيناه ، من ينشدنا قوله؟».

فقام عمر بن الخطاب فقال : عسى أردت يا رسول الله :

وما حَمَلَتْ من ناقةٍ فوقَ ظهرِها

أبرَّ وأوفى ذمّةً من محمد

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس هذا من قول أبي طالب ، هذا من قول حسّان ابن ثابت!».

فقام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وقال : «كأنَّك أردتَ يا رسول الله :

وأبيضُ يُستَسقى الغَمامُ بوجهِهِ

ربيعُ اليتامى عِصمةٌ للأراملِ

تلوذُ به الهلاّكُ من آلِ هاشمٍ

فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أجل».

١٧

فقام رجل من بني كنانة ، فقال :

لك الحمدُ والحمدُ ممّن شكر

سُقينا بوجه النبيِّ المطرْ

دعا اللهَ خالقَهُ دعوةً

وأشخصَ منهُ إليهِ البصرْ

فلم يكُ إلاّ كإلقا الرِّدا

وأَسرعَ حتى أتانا الدَّرَرْ

دِفاقُ العَزالِيَ جمّ البُعاق (١)

أغاثَ به اللهُ عليا مضرْ

فكان كما قالَهُ عمّهُ

أبو طالب ذا رواءٍ غَزرْ

به اللهُ يسقي صُيوبَ الغَمامِ

فهذا العيانُ وذاك الخبرْ

فقال رسول الله : «ياكناني بوّأك الله بكلِّ بيت قلته بيتاً في الجنّة» (٢).

ولمّا نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر إلى القتلى مصرّعين ، قال لأبي بكر :

«لو أنَّ أبا طالب حيٌّ لعلم أنَّ أسيافنا أخذت بالأماثل» ، وذلك لقول أبي طالب :

وإنّا لعمر الله إن جدَّ ما أرى

لَتَلْتَبِسَنْ أسيافُنا بالأماثل (٣)

وكارتياحه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لشعر عمِّه العبّاس بن عبد المطّلب لمّا قال : يا رسول الله أريد أن أمتدحك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قل لا يفضضِ الله فاك» فأنشأ يقول :

من قبلِها طِبتَ في الظلالِ وفي

مستودَعٍ حيث يُخصَفُ الورقُ

ثمَّ هبطتَ البلادَ لا بشرٌ

أنت ولا مُضغةٌ ولا عَلَقُ

بل نطفةٌ تركبُ السفينَ وقدْ

ألجمَ نسراً وأهلَه الغرقُ

__________________

(١) العزالي جمع العزلاء : مصبّ الماء. والبُعاق ـ بالضم : السحاب الممطر بشدّة. (المؤلف)

(٢) أمالي شيخ الطائفة : ص ٤٦ [ص ٧٥ ح ١١٠]. (المؤلف)

(٣) المعجم الكبير : ١٠ / ١٥٨ ح ١٠٣١٢.

١٨

تُنقلُ من صالب إلى رَحمٍ

إذا مضى عالمٌ بدا طبقُ

حتى احتوى بيتُك المهيمنُ من

خِندف علياءَ تحتها النطقُ

وأنت لمّا وُلِدتَ أشرقتِ الأ

رضُ وضاءتْ بنورِكَ الأُفقُ

فنحن في ذلك الضياء وفي

النور وسبل الرشاد نخترقُ (١)

وكارتياحه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لشعر عمرو بن سالم وقوله له : «نُصِرتَ يا عمرو بن سالم» لمّا قدم عليه وأنشده أبياتاً ، أوّلها (٢) :

لاهُمَّ إنّي ناشدٌ محمدا

حِلْفَ أبينا وأبيه الأَتْلَدا

كنتَ لنا أباً وكنّا وَلَدا

ثَمَّتَ أسلَمنا فلم ننزعْ يدا

فانصرْ رسول الله نصراً عَتَدا

وادعُ عبادَ الله يأتوا مَدَدا

الى آخر الأبيات.

وكارتياحه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لِشعر النابغة الجعدي ودعائه له بقوله : «لا يفضضِ الله فاك» لمّا أنشده أبياتاً من قصيدته مائتي بيت ، أوّلها :

خليليَّ غُضّا ساعةً وتهجّرا

ولوما على ما أحدثَ الدهرُ أو ذَرا

وممّا أنشده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أتيتُ رسول الله إذ جاءَ بالهدى

ويتلو كتاباً كالمجرّة نَيِّرا

وجاهدتُ حتى ما أحسُّ ومن معي

سهيلاً إذا ما لاحَ ثمّ تحوّرا

أقيمُ على التقوى وأرضى بفعلِها

وكنت من النار المخُوفةِ أحذرا

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ٣ / ٣٢٧ [٣ / ٣٦٩ ح ٥٤١٧] ، أُسد الغابة : ١ / ١١٩ [٢ / ١٢٩ رقم ١٤٣٨]. (المؤلف)

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ١١١ [٣ / ٤٥ حوادث سنة ٨ ه‍] ، أُسد الغابة : ٤ / ١٠٤ [٤ / ٢٢٤ رقم ٣٩٢٣]. (المؤلف)

١٩

ولمّا بلغ إلى قوله :

بلغنا السماءَ مجدُنا وجدودُنا

وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا

قال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أين المظهر يا أبا ليلى؟». قال : الجنَّة. قال : «أجل إن شاء الله تعالى».

ثمَّ قال :

ولا خيرَ في حِلمٍ إذا لم يكنْ لهُ

بوادرُ تَحمي صَفْوَهُ أن يُكدَّرا

ولا خَير في جَهلٍ إذا لم يكنْ لهُ

حليمٌ إذا ما أورد الأمرَ أصدرا

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أجدتَ لا يفضضِ الله فاك». مرّتين. فكانت أسنانه كالبَرَد المنهلّ ، ما انفصمت له سنٌّ ولا انفلتت ، وكان معمَّراً (١).

وكارتياحه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لشعر كعب بن زهير لمّا أنشده في مسجده الشريف لاميّته التي أوّلها :

بانت سعاد فقلبي اليومَ متبولُ

مُتيَّمٌ إثرها لم يُفْدَ مكبولُ

فكساه النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بردة ، اشتراها معاوية بعد ذلك بعشرين ألف درهم ، وهي التي يلبسها الخلفاء في العيدين (٢).

وفي مستدرك الحاكم (٣) (٣ / ٥٨٢) : لمّا أنشد كعب قصيدته هذه رسول الله وبلغ قوله :

__________________

(١) الشعر والشعراء لابن قتيبة : ص ٩٦ [ص ١٧٧] ، الاستيعاب : ١ / ٣١١ [القسم الرابع / ١٥١٦ رقم ٢٦٤٧] ، الإصابة : ٣ / ٥٣٩ [رقم ٨٦٣٩]. (المؤلف)

(٢) الشعر والشعراء لابن قتيبة : ص ٦٢ [ص ٨٠] ، الإمتاع للمقريزي : ص ٤٩٤ ، الإصابة : ٣ / ٢٩٦ [رقم ٧٤١١]. (المؤلف)

(٣) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٦٧٣ ح ٦٤٧٩.

٢٠