الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٥

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

١٣ ـ قال فقهاء المذاهب الأربعة ، مؤلِّفو كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (١) (١ / ٤٢٤) : زيارة القبور مندوبة للاتِّعاظ وتذكّر الآخرة ، وتتأكّد يوم الجمعة ويوماً قبلها ويوماً بعدها (٢). وينبغي للزائر الاشتغال بالدعاء والتضرّع والاعتبار بالموتى وقراءة القرآن للميّت ؛ فإنَّ ذلك ينفع الميّت على الأصحّ.

وممّا ورد أن يقول الزائر عند رؤية القبور : اللهمّ ربّ الأرواح الباقية ، والأجسام البالية ، والشعور المتمزّقة ، والجلود المتقطعة ، والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة ، أنزل عليها روحاً منك وسلاماً منّي.

وممّا ورد أيضاً أن يقول : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون. ولا فرق في الزيارة بين كون المقابر قريبة أو بعيدة ، بل يندب السفر لزيارة الموتى خصوصاً مقابر الصالحين ، أمّا زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي من أعظم القرب ، وكما تندب زيارة القبور للرجال تندب أيضاً للنساء العجائز اللاتي لا يخشى منهنّ الفتنة ، إن لم تؤدِّ زيارتهنّ إلى الندب أو النياحة ، وإلاّ كانت محرّمة.

النذور لأهل القبور :

إنّ لابن تيميّة ـ ومن لفَّ لفّه ـ في المسألة هثهثة (٣) ، أتوا فيها بالمهاجر (٤) ؛ ورموا مخالفيهم من فرق المسلمين بمُهجِرات ، وقد مرَّ عن القصيمي (ص ٩٠) أنَّها من شعائر الشيعة الناشئة عن غلوِّهم في أئمّتهم وتأليههم لعليٍّ وولده. إن هذا إلاّ اختلاق

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٥٤٠.

(٢) الحنابلة قالوا : لا تتأكّد الزيارة في يوم دون يوم ، والشافعية قالوا : تتأكّد من عصر يوم الخميس إلى طلوع شمس يوم السبت ، وهذا قول راجح عند المالكية ، كذا في هامش الفقه على المذاهب الأربعة [١ / ٥٤٠]. (المؤلف)

(٣) الهثهثة : كلام الألثغ. والهثهثة : الفساد أيضاً.

(٤) المهاجر والمهجرات : القبيح من الكلام.

٢٦١

وليس إلاّ الهثّ والهِتْر (١) ، وما شذّت الشيعة في المسألة عمّا أصفقت عليه الأُمّة الإسلاميّة سلفاً وخلفاً ؛ فقد بسط الخالدي فيها القول في كتابه صلح الإخوان (ص ١٠٢ ـ ١٠٩).

ومجمل ذلك التفصيل : أنَّ المسألة تدور مدار نيّات الناذرين ، وإنَّما الأعمال بالنيّات ، فإن كان قصد الناذر الميّت نفسه والتقرّب إليه بذلك لم يجز قولاً واحداً ، وإن كان قصده وجه الله تعالى وانتفاع الأحياء بوجه من الوجوه ، وثوابه لذلك المنذور له الميّت ، سواء عيّن وجهاً من وجوه الانتفاع أو أطلق القول فيه ، ويكون هناك ما يطّرد الصرف فيه في عرف الناس من مصالح القبر ، أو أهل بلده أو مجاوريه ، أو الفقراء عامّة ، أو أقرباء الميّت أو نحو ذلك ، ففي هذه الصورة يجب الوفاء بالمنذور. وحكى القول بذلك عن الأذرعي ، والزركشي ، وابن حجر الهيتمي المكّي ، والرملي الشافعي ، والقبّاني البصري ، والرافعي ، والنووي ، وعلاء الدين الحنفي ، وخير الدين الرملي الحنفي ، والشيخ محمد الغزّي ، والشيخ قاسم الحنفي.

وذكر الرافعي نقلاً عن صاحب التهذيب وغيره : أنَّه لو نذر أن يتصدّق بكذا على أهل بلد عيّنه يجب أن يتصدّق به عليهم. قال : ومن هذا القبيل ما ينذر بعثه إلى القبر المعروف بجرجان ، فإنّ ما يجتمع منه على ما يحكى يقسّم على جماعة معلومين ، وهذا محمول على أنَّ العرف اقتضى ذلك فنزل النذر عليه ، ولا شكّ أنّه إذا كان عرف حمل عليه. وإن لم يكن عرف فيظهر أن يجري فيه خلاف وجهين :

أحدهما : لا يصحُّ النذر ، لأنّه لم يشهد له الشرع بخلاف الكعبة والحجرة الشريفة.

والثاني : يصحُّ إذا كان مشهوراً بالخير ، وعلى هذا ينبغي أن يصرف في مصالحه الخاصّة به ولا يتعدّاها ، واستقرب السبكي بطلان النذر في صورة عدم العرف هناك للصرف. راجع فتاوى السبكي (١ / ٢٩٤).

__________________

(١) الهثّ : التخليط في الكلام. الهِتر : الكذب.

٢٦٢

وقال العزّامي في فرقان القرآن (ص ١٣٣) : وقال ـ يعني ابن تيميّة ـ : من نذر شيئاً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو غيره من النبيّين والأولياء من أهل القبور ، أو ذبح له ذبيحة ، كان كالمشركين الذين يذبحون لأوثانهم وينذرون لها ، فهو عابد لغير الله ، فيكون بذلك كافراً. ويطيل في ذلك الكلام ، واغترَّ بكلامه بعض من تأخّر عنه من العلماء ممّن ابتلي بصحبته أو صحبة تلاميذه ، وهو منه تلبيس في الدين وصرف إلى معنىً لا يريده مسلم من المسلمين ، ومن خبر حال من فعل ذلك من المسلمين وجدهم لا يقصدون بذبائحهم ونذورهم للميّتين ـ من الأنبياء والأولياء ـ إلاّ الصدقة عنهم ، وجعل ثوابها إليهم ، وقد علموا أنّ إجماع أهل السنّة منعقد على أن صدقة الأحياء نافعة للأموات واصلة إليهم ، والأحاديث في ذلك صحيحة مشهورة ؛ فمنها ما صحَّ عن سعد : أنّه سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يا نبيّ الله إنَّ أُمّي قد أفتلتت ، وأعلم أنّها لو عاشت لتصدّقت ، أفإن تصدّقت عنها أينفعها ذلك؟ قال : «نعم». فسأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّ الصدقة أنفع يا رسول الله؟ قال : «الماء». فحفر بئراً وقال : هذه لأُمِّ سعد ، فهذه اللام هي الداخلة على الجهة التي وجّهت إليها الصدقة لا على المعبود المتقرّب إليه ، وهي كذلك في كلام المسلمين ، فهم سعديّون لا وثنيّون. وهي كاللام في قوله : إنّما الصدقات للفقراء. لا كاللام التي في قول القائل : صلّيت لله ونذرت لله ؛ فإذا ذبح للنبيّ أو الوليّ أو نذر الشيء له فهو لا يقصد إلاّ أن يتصدّق بذلك عنه ، ويجعل ثوابه إليه فيكون من هدايا الأحياء للأموات المشروعة المثاب على إهدائها ، والمسألة مبسوطة في كتب الفقه ، وفي كتب الردِّ على هذا الرجل ومن شايعه. انتهى.

فالنذر بالذبح وغيره للأنبياء والأولياء أمر مشروع سائغ من سيرة المسلمين عامّة من دون أيّ اختصاص بفرقةٍ دون أخرى ، وإنّما يُثاب به الناذر إن كان لله ، وذبح المنذور بالذبح باسم الله. قال الخالدي : بمعنى أنَّ الثواب لهم ، والمذبوح منذور لوجه الله كقول الناس : ذبحت لميّتي بمعنى تصدّقت عنه. وكقول القائل : ذبحت للضيف بمعنى أنّه كان السبب في حصول الذبح. انتهى. وليس هناك أيّ وازع من جواز نذر

٢٦٣

الذبح ولزوم الوفاء به إن كان على الوجه المذكور ، ولا يتصوّر من مسلم غيره.

وربما يُستدلّ في المقام بما أخرجه أبو داود السجستاني في سننه (١) (٢ / ٨٠) ، بإسناده عن ثابت بن الضحّاك قال : نذر رجل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينحر إبلاً ببُوانة (٢) ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هل كان فيها وثنيُ عبد من أوثان الجاهليّة؟» قالوا : لا. قال : «فهل كان فيها عبد من أعبادهم؟» قالوا : لا. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوفِ بنذرك ؛ فإنّه لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى ، ولا فيما لا يملك ابن آدم».

وبما أخرجه أبو داود في السنن (٣) (٢ / ٨١) عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه ؛ أن امرأة قالت : يا رسول الله إنّي نذرت أن أضرب على رأسك الدفّ. قال : «أوفي بنذرك». قالت : إنّي نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا ـ مكان كان يذبح فيه أهل الجاهليّة ـ ، قال : «لصنم؟» قالت لا. قال : «لوثن؟» قالت : لا. قال : «أوفي بنذرك» (٤).

وفي معجم البلدان (٥) (٢ / ٣٠٠) : وفي حديث ميمونة بنت كردم ؛ أنَّ أباها قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي نذرت أن أذبح خمسين شاة على بُوانة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هناك شيٌّ من هذه النصب؟» ، فقال : لا. قال : «فأوفِ بنذرك». فذبح تسعاً وأربعين وبقيت واحدة ، فجعل يعدو خلفها ويقول : اللهمّ أوفِ بنذري ، حتى أمسكها فذبحها ، وهذا معنى الحديث لا لفظه.

قال الخالدي في صلح الإخوان (ص ١٠٩) بعد ذكر حديثي أبي داود :

__________________

(١) سنن أبي داود : ٣ / ٢٣٨ ح ٣٣١٣.

(٢) بضمّ الموحّدة وتخفيف الواو. هضبة وراء ينبع قريبة من ساحل البحر. (المؤلف)

(٣) سنن أبي داود : ٣ / ٢٣٧ ح ٣٣١٢.

(٤) على القارئ أن يمعن النظر في صدر هذا الحديث ويعرف مكانة النبيّ الأقدس في السنن ، حاشا نبيّ القداسة عن هذه المخازي. (المؤلف)

(٥) معجم البلدان : ١ / ٥٠٥.

٢٦٤

وأمّا استدلال الخوارج بهذا الحديث على عدم جواز النذر في أماكن الأنبياء والصالحين ، زاعمين أنّ الأنبياء والصالحين أوثان ـ والعياذ بالله ـ ، وأعياد من أعياد الجاهليّة ، فهو من ضلالهم وخرافاتهم وتجاسرهم على أنبياء الله وأوليائه حتى سمّوهم أوثاناً ، وهذا غاية التحقير لهم خصوصاً الأنبياء ، فإنّ من انتقصهم ـ ولو بالكناية ـ يكفر ولا تُقبل توبته في بعض الأقوال ، وهؤلاء المخذولون بجهلهم يُسمّون التوسّل بهم عبادة ، ويسمّونهم أوثاناً ، فلا عبرة بجهالة هؤلاء وضلالاتهم ، والله أعلم. انتهى. كما لا عبرة بجهالة ابن تيميّة ومن لفَّ لفَّه وضلالاتهم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١)

القبور المقصودة بالزيارة

التوسّل والتبرّك بها ، الدعاء والصلاة لديها ، ختم القرآن لمدفونيها

هناك قبور تُقصد بالزيارة ، وقد قُصدت في القرون الإسلاميّة منذ يومها الأوّل ، ولأعلام المذاهب الأربعة حولها كلمات يأخذ الباحث منها دروساً عالية من شتّى النواحي ، ويقف بها على فوائد جمّة ، منها : عرفان سيرة المسلمين وشعارهم في القرون الخالية حول زيارة القبور والتوسّل والتبرّك بها ، والدعاء والصلاة لديها ، وختم القرآن لمدفونيها ، وإليك نبذة منها :

١ ـ بلال بن حمامة الحبشي مؤذِّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتوفّى سنة (٢٠) ، قبره بدمشق ، وفي رأس القبر المبارك تاريخ باسمه رضى الله عنه ، والدعاء في هذا الموضع المبارك مستجاب ، قد جرّب ذلك كثير من الأولياء وأهل الخير المتبرِّكين بزيارتهم. رحلة ابن جبير (٢) (ص ٢٢٩).

__________________

(١) محمد : ١٦.

(٢) رحلة ابن جبير : ص ٢٥١.

٢٦٥

٢ ـ سلمان الفارسي الصحابيّ العظيم ، المتوفّى (٣٦). قال الخطيب البغدادي في تاريخه (١ / ١٦٣) : قبره الآن ظاهر معروف بقرب إيوان كسرى عليه بناء ، وهناك خادم مقيم لحفظ الموضع وعمارته والنظر في أمر مصالحه ، وقد رأيتُ الموضع وزرته غير مرّة. وقال ابن الجوزي في المنتظم (١) (٥ / ٧٥) : قال القلانسي وسمنون : زرنا قبر سلمان وانصرفنا.

٣ ـ طلحة بن عبيد الله المقتول يوم الجمل سنة (٣٦). قال ابن بطوطة في رحلته (٢) (١ / ١١٦) : مشهد طلحة بن عبيد الله أحد العشرة (٣) ، وهو بداخل المدينة وعليه قبّة ومسجد ، وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر ، وأهل البصرة يعظّمونه تعظيماً شديداً وحقّ له ، ثمّ عدَّ مشاهد في البصرة لجملةٍ من الصحابة والتابعين فقال :

وعلى كلّ قبر منها قبّة مكتوب فيها اسم صاحب القبر ووفاته.

٤ ـ الزبير بن العوّام المتوفّى (٣٦) ، قال ابن الجوزي في المنتظم (٤) (٧ / ١٨٧):

فمن الحوادث في سنة (٣٨٦) أنَّ أهل البصرة في شهر المحرّم ادّعوا أنّهم كشفوا عن قبر عتيق ، فوجدوا فيه ميّتاً طريّا بثيابه وسيفه وأنّه الزبير بن العوّام ، فأخرجوه وكفّنوه ودفنوه بالمربد بين الدربين ، وبنى عليه الأثير أبو المسك عنبر بناءً ، وجعل الموضع مسجداً ، ونقلت إليه القناديل والآلات والحصر والسمادات ، وأُقيم فيه قوّام وحفظة ووقف عليه وقوفاً.

٥ ـ أبو أيّوب الأنصاري الصحابي المتوفّى (٥٢) بالروم ، قال الحاكم في المستدرك (٣ / ٤٥٨) : يتعاهدون قبره ويزورونه ويستسقون به إذا قحطوا. وذكره

__________________

(١) المنتظم : ١٢ / ٢٤١ رقم ١٧٦٥.

(٢) رحلة ابن بطوطة : ص ١٨٧.

(٣) المنتظم : ١٤ / ٣٨٣.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٥١٨ ح ٥٩٢٩.

٢٦٦

ابن الجوزي في صفة الصفوة (١) (١ / ١٨٧).

وقال الخطيب البغدادي في تاريخه (١ / ١٥٤) : قال الوليد : حدّثني شيخ من أهل فلسطين أنّه رأى بنيّة بيضاء دون حائط القسطنطينية ، فقالوا : هذا قبر أبي أيّوب الأنصاري صاحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتيت تلك البنيّة ، فرأيت قبره في تلك البنيّة وعليه قنديل معلّق بسلسلة.

وفي تاريخ ابن كثير (٢) (٨ / ٥٩) : وعلى قبره مزار ومسجد وهم ـ أي الروم ـ يعظِّمونه. وقال الذهبي في الدول الإسلاميّة (٣) (١ / ٢٢) : فالروم تعظّم قبره ويستشفعون إلى اليوم به.

٦ ـ رأس الحسين ـ الإمام السبط الشهيد ـ بمصر : قال ابن جبير المتوفّى (٦١٤) في رحلته (٤) (ص ١٢) : هو في تابوت فضّة مدفون تحت الأرض ، قد بُني عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به ، مجلّل بأنواع الديباج ، محفوف بأمثال العمد الكبار شمعاً أبيض ، ومنه ما هو دون ذلك ، قد وضع أكثرها في أتوار فضّة (٥) خالصة ومنها مذهّبة ، وعلّقت عليه قناديل فضّة ، وحفَّ أعلاه كلّه بأمثال التفافيح ذهباً في مصنع (٦) شبيه الروضة ، يقيّد الأبصار حسناً وجمالاً ، فيه من أنواع الرخام المجزّع الغريب الصنعة ، البديع الترصيع ما لا يتخيّله المتخيّلون ، ولا يلحق أدنى وصفه الواصفون ، والمدخل إلى هذه الروضة على مسجد على مثالها في التأنّق والغرابة ، حيطانه كلّها رخام على الصفة المذكورة ، وعن يمين الروضة المذكورة وشمالها بنيان من

__________________

(١) صفة الصفوة : ١ / ٤٧٠ رقم ٤٠.

(٢) البداية والنهاية : ٨ / ٦٥ حوادث سنة ٥٢ ه‍.

(٣) دول الإسلام : ص ٢٨.

(٤) رحلة ابن جبير : ص ١٩.

(٥) أتوار : جمع تور ، وهو الشمعدان.

(٦) المصنع : المبنى قصراً كان أو حصناً.

٢٦٧

كليهما المدخل إليها وهما أيضاً على تلك الصفة بعينها ، والأستار البديعة الصنعة من الديباج معلّقة على الجميع.

ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا إلى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل ، شديد السواد والبصيص (١) ، يصف الأشخاص كلّها كأنّه المرآة الهنديّة الحديثة الصقل. وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك ، وإحداقهم به وانكبابهم عليه وتمسّحهم بالكسوة التي عليه ، وطوافهم حوله مزدحمين داعين باكين متوسِّلين إلى الله سبحانه وتعالى ببركة التربة المقدّسة ، ومتضرِّعين بما يُذيب الأكباد ، ويصدع الجماد ، والأمر فيه أعظم ، ومرأى الحال أهول ، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم. وإنّما وقع الإلماع بنبذةٍ من صفته مستدلاّ على ما وراء ذلك ، إذ لا ينبغي لعاقل أن يتصدّى لوصفه ، لأنّه يقف موقف التقصير والعجز ، وبالجملة فما أظنُّ في الوجود كلّه مصنعاً أحفل منه ، ولا مرأىً من البناء أعجب ولا أبدع ، قدّس الله العضو الكريم الذي فيه بمنِّه وكرمه.

وفي ليلة اليوم المذكور بتنا بالجبّانة المعروفة بالقرافة ، وهي أيضاً إحدى عجائب الدنيا لما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ، وأهل البيت والصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ، والتابعين والعلماء والزهّاد والأولياء ذوي الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة ، وإنَّما ذكرنا منها ما أمكنتنا مشاهدته ، فمنها : قبر ابن النبيّ صالح ، وقبر روبيل بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ، وقبر آسية امرأة فرعون ، ومشاهد أهل البيت ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ مشاهد أربعة عشر من الرجال وخمس من النساء ، وعلى كلّ واحد منها بناء حفيل ، فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان ، قد وكّل بها قوم يسكنون فيها ويحفظونها ، ومنظرها منظر عجيب ، والجرايات متّصلة

__________________

(١) البصيص : اللمعان.

٢٦٨

لقوامها في كلّ شهر. ثمّ ذكر تفصيل المشاهد.

عقد الشبراوي الشيخ عبد الله الشافعي ، المتوفّى (١١٧٢) في كتابه الإتحاف بحبِّ الأشراف (١) (ص ٢٥ ـ ٤٠) باباً في ذلك المشهد ، وذكر فيه زيارته وشطراً من الكرامات له وإحياء يوم الثلاثاء بزيارته ، وقال : والبركات في هذا المشهد مشاهدة مرئيّة ، والنفحات العائدة على زائريه غير خفيّة ، وهي بصحّة الدعوى مليّة ، والأعمال بالنيّة ، ولأبي الخطّاب بن دحية في ذلك جزء لطيف مؤلّف ، واستفتي القاضي زكيّ الدين عبد العظيم في ذلك فقال : هذا مكان شريف وبركته ظاهرة والاعتقاد فيه خير ، والسلام. وما أجدر هذا المشهد الشريف والضريح الأنور المنيف بقول القائل :

نفسي الفداءُ لمشهدٍ أسرارُه

من دونها سترُ النبوّةِ مُسبَلُ

ورواقُ عزٍّ فيه أشرفُ بقعةٍ

ظلّت تحارُ لها العقولُ وتذهلُ

تغضى لبهجتِهِ النواظرُ هيبةً

ويردُّ عنه طرفَهُ المتأمِّلُ

حسدت مكانتَهُ النجومُ فودَّ لو

أمسى يجاورُهُ السماك الأعزلُ

وسما علوّا أن تُقبِّل تُربَهُ

شفةٌ فأضحى بالجباه يُقبَّلُ

وقال في ذكر الكرامات : منها : أنّ رجلاً يقال له شمس الدين القعويني كان ساكناً بالقرب من المشهد ، وكان معلّم الكسوة الشريفة حصل له ضرر في عينيه فكفّ بصره ، وكان كلّ يوم إذا صلّى الصبح في مشهد الإمام الحسين يقف على باب الضريح الشريف ويقول : يا سيّدي أنا جارك قد كفَّ بصري ، وأطلب من الله بواسطتك أن يردّ عليّ ولو عيناً واحدةً ، فبينما هو نائم ذات ليلة إذ رأى جماعة أتوا إلى المشهد الشريف فسأل عنهم فقيل له : هذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة معه جاءوا لزيارة السيّد الحسين رضى الله عنه ، فدخل معهم ، ثمّ قال ما كان يقوله في اليقظة ، فالتفت الحسين إلى

__________________

(١) الإتحاف بحبّ الأشراف : ص ٧٥ ـ ١١٠.

٢٦٩

جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر له ذلك على سبيل الشفاعة عنده في الرجل ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليّ رضى الله عنه : يا عليّ كحِّله. فقال : سمعاً وطاعةً ، وأبرز من يده مكحلةً ومروداً ، وقال له : تقدّم حتى أكحّلك ، فتقدّم فلوّث المرود ووضعه في عينه اليمنى ، فأحسَّ بحرقانٍ عظيم ، فصرخ صرخةً عظيمة فاستيقظ منها وهو يجد حرارة الكحل في عينه ، ففتحت عينه اليمنى فصار ينظر بها إلى أن مات ، وهذا الذي كان يطلبه ، فاصطنع هذه البسط التي تُفرش في مشهد الإمام الحسين رضى الله عنه وكتب عليها وقفاً ، ولم تزل تُفرش حتى تولّى مصر الوزير المعظّم محمد باشا الشريف من طرف حضرة مولانا السلطان محمد خان ـ نصره الله ـ فجدّد بُسطاً أخرى ، وهي التي تُفرش إلى الآن.

ثمّ ذكر كرامة أخرى وقعت للشيخ أبي الفضل نقيب السادة الخلوتيّة ، وقال ـ بعد بيان اختصاص يوم الثلاثاء بزيارة ذلك المشهد ـ : ولنذكر في هذا الباب نبذةً من القصائد التي مدحتُ بها آل البيت الشريف ، وتوسّلتُ فيها بساكن هذا المشهد المنيف ، فممّا قلت فيه :

آلَ طه ومن يقل آلَ طه

مستجيراً بجاهِكمْ لا يُردُّ

حبُّكمْ مذهبي وعقدُ يقيني

ليس لي مذهبٌ سواه وعقدُ

منكمُ أستمدُّ بل كلُّ من في ال

كون من فيضِ فضلِكمْ يستمدُّ

بيتُكم مهبطُ الرسالةِ وال

وحيِ ومنكم نورُ النبوَّة يبدو

ولكم في العلى مقامٌ رفيعٌ

ما لكم فيه آلَ يس ندُّ

يا ابن بنتِ الرسولِ من ذا يضاهي

كَ افتخاراً وأنت للفخرِ عقدُ

يا حسيناً هل مثلُ أُمِّك أُمٌ

لشريفٍ أو مثلُ جدّك جدُّ

رام قومٌ أن يلحقوك ولكن

بينهم في العلى وبينك بُعدُ

خصّكَ اللهُ بالسعادة في دن

ياك ثمّ بالشهادة بَعدُ

٢٧٠

لك في القبر يا حسيناً مقامٌ

ولأعداك فيه خزيٌ وطردُ

يا كريمَ الدارينِ يا من له الده

ـرُ على رغمِ من يعاندُ عبدُ

أنت سيفٌ على عِداك ولكنْ

فيكَ حلمٌ وما لفضلِكَ حدُّ

كلُّ من رامَ حصرَ فضلِكَ غِرٌّ

فضلُ آلِ النبيِّ ليس يُعدُّ

طيبةٌ فاقتِ البقاعَ جميعاً

حينَ أضحى فيها لجدِّك لحدُ

ولمصرٍ فخرٌ على كلِّ مصرٍ

ولها طالعٌ بقبرك سعدُ

مشهدٌ أنت فيه مشهدُ مجدٍ

كم سعى نحوه جوادٌ مجدُّ

وضريحٌ حوى علاك ضريحٌ

كلّه مندلٌ يفوح وندُّ (١)

مددٌ ما له انتهاءٌ وسرٌّ

لا يُضاهى ورونقٌ لا يُحدُّ

رحماتٌ للزائرين توالت

وجزيلٌ من العطاء ورفدُ

رضي اللهُ عنكمُ آلَ طه

ودعاءُ المقلِّ مثليَ جهدُ

وسلامٌ عليكمُ كلَّ وقتٍ

ما تغنّت بكم تهامٌ ونجدُ

أنا في عرض تربةٍ أنت فيها

يا حسيناً وبعدُ حاشا أُردُّ

أنا في عرض جدِّك الطاهرِ ال

طهر إذا ما الزمانُ بالخطبِ يعدو

أنا في عرض من يعول كلّ ال

رسل عليه وما لهم عنه بدُّ

أنا في عرض من أتته غزالٌ

فحماها والخصم خصمٌ ألدُّ

أنا في عرض جدِّك المصطفى من

كلِّ عامٍ له الرحالُ تُشدُّ

وقلت فيهم أيضاً ـ رضي الله تعالى عنهم ـ :

آلَ بيتِ النبيِّ مالي سواكمْ

ملجأٌ أرتجيه للكربِ في غدْ

لست أخشى ريبَ الزمانِ وأنتمْ

عمدتي في الخطوبِ يا آلَ أحمدْ

من يضاهي فخارَكمْ آل طه

وعليكمْ سُرادقُ العزِّ مُمتدْ

__________________

(١) المندل : العود الطيّب الرائحة جمعها منادل ، النّد ـ بالفتح والكسر ـ : عود يتبخّر به. (المؤلف)

٢٧١

كلُّ فضلٍ لغيرِكمْ فإليكمْ

يا بني الطهرِ بالأصالة يُسندْ

لا عدمنا لكم موائدَ جودٍ

كلّ يومٍ لزائريكمْ تُجدَّدْ

يا ملوكاً لهم لواء المعالي

وعليهم تاج السعادة (١) يُعقدْ

أيُّ بيت كبيتِكمْ آلَ طه

طهَّر اللهُ ساكنيه ومجَّدْ

روضةُ المجدِ والمفاخرِ أنتم

وعليكم طيرُ المكارم غرَّدْ

ولكم في الكتابِ ذكرٌ جميلٌ

يهتدي منه كلُّ قارٍ ويسعَدْ

وعليكمْ أثنى الكتابُ وهل بع

دَ ثناءِ الكتابِ مجدٌ وسؤددْ

ولكمْ في الفخارِ يا آلَ طه

منزلٌ شامخٌ رفيعٌ مشيَّدْ

قد قصدناك يا بنَ بنتِ رسولِ ال

لّه والخير من جنابِكَ يُقصدْ

يا حسيناً ما مثلُ مجدِك مجدٌ

لشريفٍ ولا كجدِّكَ من جدْ

يا حسيناً بحقِّ جدِّك عطفاً

لمحبٍّ بالخيرِ منك تعوَّدْ

كلّ وقت يودُّ يلثمُ قبراً

أنت فيه بمقلتيه ويشهدْ

سادتي أنجِدوا محبّا أتاكمْ

مطلِقَ الدمعِ في هواكمْ مقيّدْ

وأغيثوا مقصّراً ماله غي

ـرُ حماكم إن أعضلَ الأمرُ واشتدْ

فعليكم قصرت حبّي وحاشا

بعد حبّي لكم أُقابل بالردْ

يا إلهي مالي سوى حبِّ آل ال

بيت آلِ النبيِّ طه الممجّدْ

أنا عبدٌ مقصِّرٌ لست أرجو

عملاً غيرَ حبِّ آل محمّدْ

إلى آخر [الأبيات]

وقال في المشهد الحسيني أيضاً :

يا نديمي قم بي إلى الصهباءِ

واسقنيها في الروضةِ الغنّاءِ

حيث مجرى الخليجِ والماءُ فيه

يتثنّى كالحيّة الرقشاءِ

هاتها يا نديمُ صرفاً ودعني

من صريع الهوى قتيلِ الماءِ

__________________

(١) في المصدر : السيادة.

٢٧٢

وأدِرْها ممزوجةً بالتهاني

غيرَ ممزَوجةٍ بماءِ السماءِ

هاتها يا نديمُ من غيرِ خلطٍ

إنّ خلطَ الدواءِ عينُ الداءِ

والقني يا نديمُ تحت الأُثَيلا

تِ سحيراً إذا أردت لقائي

في كثيبٍ من الجزيرة يختا

لُ دلالاً في حلّةٍ خضراءِ

روضةٌ راضها النسيمُ سحيراً

باعتلالٍ صحّت به واعتلاءِ

ولطيفُ النسيمِ يعبثُ بالغص

ن فيهتزُّ هزَّةَ استهزاءِ

يا خريرَ الخليجِ تفديكَ نفسي

فلَكَمْ نلتُ في حماك منائي

يا نديمي جدِّد بذكراه وجدي

وأحيي ذاك الغرامَ بالإغراءِ

هاتِ حدِّثْ عن نيلِ مصرَ ودعني

من فراتٍ ودجلةٍ فيحاءِ

وأعدْ لي حديث لذّات مصرٍ

فحديثُ اللذّاتِ عنّيَ نائي

إنّ مصراً لأحسنُ الأرضِ عندي

وعلى نيلِها قصرتُ رجائي

وغرامي فيها وغايةُ قصدي

أن أرى سادتي بني الزهراءِ

وإلى المشهدِ الحسينيِّ أسعى

داعياً راجياً قبول دعائي

يا ابن بنتِ الرسولِ إنّي محبٌ

فتعطّفْ واجعل قبولي جزائي

يا كرامَ الأنامِ يا آلَ طه

حبُّكم مذهبي وعقدُ ولائي

ليس لي ملجأٌ سواكم وذخرٌ

أرتجيهِ في شدَّتي ورخائي

إلى آخر [الأبيات]

وقال فيه أيضاً :

يا آلَ طه من أتى حبَّكم (١)

مؤمِّلاً إحسانَكمْ لا يُضامْ

لذنا بكمْ يا آلَ طه وهل

يُضامُ من لاذَ بقومٍ كرامْ

تزدحمُ الناسُ بأعتابكمْ

والمنهلُ العذبُ كثيرُ الزحامْ

من جاءكم مستمطراً فضلَكمْ

فازَ من الجودِ بأقصى مرامْ

__________________

(١) في المصدر : حيَّكم.

٢٧٣

يا سادتي يا بضعةَ المصطفى

يا من لهم في الفضلِ أعلى مقامْ

أنتم ملاذي وعياذي ولي

قلبٌ بكم يا سادتي مستهامْ

وحقّكمْ إنّي محبٌّ لكم

محبَّةً لا يعتريها انصرامْ

وقفتُ في أعتابكمْ هائماً

وما على من هام فيكم ملامْ

يا سبطَ طه يا حسيناً على

ضريحكَ المأنوسِ منّي السلامْ

مشهدُكَ السامي غدا كعبةً

لنا طوافٌ حولَهُ واستلامْ

بيتٌ جديدٌ حلَّ فيه الهدى

فصار كالبيتِ العتيقِ الحرامْ

تفديك نفسي يا ضريحاً حوى

حسيناً السبطَ الإمامَ الهمامْ

إنّي توسَّلتُ بما فيك من

عزٍّ ومجدٍ شامخٍ واحتشامْ

يا زائراً هذا المقام اغتنم

فكم لمن يسعى إليه اغتنامْ

ينشرحُ الصدرُ إذا زرتَهُ

وتنجلي عنه الهمومُ العظامْ

كم فيه من نورٍ ومن رونقٍ

كأنَّه روضةُ خيرِ الأنامْ

إلى آخر [الأبيات]

وقال الحمزاوي العدوي المتوفّى (١٣٠٣) في مشارق الأنوار (١) (ص ٩٢) بعد كلام طويل حول مشهد الإمام الحسين الشريف : واعلم أنّه ينبغي كثرة الزيارة لهذا المشهد العظيم متوسّلاً به إلى الله ، ويطلب من هذا الإمام ما كان يطلب منه في حياته ، فإنّه باب تفريج الكروب ، فبزيارته يزول عن الخطب الخطوب ، ويصل إلى الله بأنواره والتوسّل به كلّ قلب محجوب ، ومن ذلك ما وقع لسيّدي العارف بالله تعالى سيدي محمد شلبي شارح العزيّة ـ الشهير بابن الستّ ـ وهو أنَّه قد سُرقت كتبه جميعها من بيته ، قال : فتحيّر عقله ، واشتدّ كربه ، فأتى إلى مقام وليّ نعمتنا الحسين منشداً لأبيات استغاث بها ، فتوجّه إلى بيته بعد الزيارة ومكثه في المقام مدّة فوجد

__________________

(١) مشارق الأنوار : ١ / ١٩٧.

٢٧٤

كتبه في محلّها قد حضرت من غير نقص لكتاب منها ، وها هي الأبيات :

أيحومُ حول من التجا لكمُ أذىً

أو يشتكي ضيماً وأنتم سادتُه

حاشا يُردُّ من انتمى لجنابِكمْ

يا آلَ أحمد أو تسرُّ شوامتُه

لكمُ السيادةُ مِن ألستُ بربّكم (١)

ولكم نطاقُ العزِّ دارت هالتُه

هل ثَمَّ بابٌ للنبيِّ سواكمُ

مَن غيرُكم من ذي الورى ريحانتُه

تبّا لطرفٍ لا يشاهدُ مشهداً

يحوي الحسينَ وتستلمهُ سلامتُه

فالزم رحاباً ضمَّ سبطَ محمدٍ

ما أمَّه راجٍ وعيقتْ حاجتُه

ها خادماً للحبّ يرفعُ حاجةً

ممّا يلاقي من بلايا هالتُه

أمدَّنا الله من فيض أمداده ، ومتّعنا من فيض قربه ، وتقبيل أعتابه ، وذكر لبعضهم في ذلك المشهد قوله :

منزلٌ كمّلَ الإلهُ سناهُ

تتوارى البدورُ عند لقاهُ

خصّهُ ربُّنا بما شاء في الأر

ضِ تعالى من في السماءِ إلهُ

صانه زانه حماه وقاه

وكساه بمنِّه ورضاهُ

أن غدا مسكناً لعزّة آل ال

بيتِ من ثمّ قدره وعلاهُ

الإمامُ الحسينُ أشرفُ مولىً

أيّد الدين سرّه ووقاهُ

مدحتْهُ آيُ الكتابِ وجاءت

سنّة الهاشميِّ طرز حلاهُ

وهناك كلمات ضافية تضمّ ما ذُكر حول مشهد الرأس الشريف لو جمعتها يد التأليف لأتت كتاباً حافلاً ، وممّن أفرده بالتأليف الشيخ عبد الفتّاح بن أبي بكر

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الأعراف : الآية ١٧٢ (وَإذ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَني آدَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرّيَّتَهُم وَأشْهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَن هَذَا غَافِلِينَ).

٢٧٥

ـ الشهير بالرسّام الشافعيّ ـ له رسالة نور العين في مدفن رأس الحسين.

٧ ـ عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي المتوفّى (١٠١) ، قبره بدير سمعان يُزار. طبقات الحفّاظ (١) (١ / ١١٤).

٨ ـ أبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام الحنفيّة المتوفّى (١٥٠) ، قبره في الأعظميّة ببغداد مزار معروف ، روى الخطيب في تاريخه (١ / ١٢٣) عن عليّ بن ميمون قال : سمعت الشافعي يقول : إنّي لأتبرّك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كلّ يوم ـ يعني زائراً ـ فإذا عرضت لي حاجة صلّيت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما تبعد [عنّي] (٢) حتى تُقضى. وذكره الخوارزمي في مناقب أبي حنيفة (٢ / ١٩٩) ، والكردري في مناقبه (٢ / ١١٢) ، وطاش كبرى زاده في مفتاح السعادة (٣) (٢ / ٨٢) ، والخالدي في صلح الإخوان (ص ٨٣) نقلاً عن السفيري وابن جماعة.

وقال ابن الجوزي في المنتظم (٤) (٨ / ٢٤٥) : في هذه الأيّام ـ يعني سنة (٤٥٩) ـ بنى أبو سعد المستوفي الملقّب شرف الملك مشهد أبي حنيفة ، وعمل لقبره ملبناً ، وعقد القبّة وعمل المدرسة بإزائه ، وأنزلها الفقهاء ورتّب لهم مدرساً ، فدخل أبو جعفر ابن البياضي إلى الزيارة فقال ارتجالاً :

ألم ترَ أنَّ العلمَ كان مضيَّعاً

فجمَّعه هذا المغيّبُ في اللحدِ

كذلك كانت هذه الأرضُ ميتةً

فأنشرها جودُ العميدِ أبي سعدِ

ثمّ قال : قال المصنّف : قرأت بخطِّ أبي الوفاء بن أبي عقيل قال : وضع أساس

__________________

(١) تذكرة الحفّاظ : ١ / ١٢١ رقم ١٠٤.

(٢) الزيادة من المصدر.

(٣) مفتاح السعادة : ٢ / ١٩٣.

(٤) المنتظم : ١٦ / ١٠٠.

٢٧٦

مسجد بين يدي ضريح أبي حنيفة بالكلس والنورة وغيره ، فجمع سنة ستّ وثلاثين وأربعمائة وأنا ابن خمس سنين أو دونها بأشهر ، وكان المنفق عليه تركيّ قدم حاجّا ، ثمّ قدم أبو سعد المستوفي وكان حنفيّا متعصّباً ، وكان قبر أبي حنيفة تحت سقف عمله بعض أمراء التركمان ، وكان قبل ذلك ـ وأنا صبيٌّ ـ عليه خربشت (١) خاصّ له وذلك في سنتي سبع أو ثمان وثلاثين قبل دخول الغُزّ (٢) بغداد سنة سبع وأربعين ، فلمّا جاء شرف الملك سنة ثلاث وخمسين عزم على إحداث القبّة وهي هذه ، فهدم جميع أبنية المسجد وما يحيط بالقبر وبنى هذا المشهد ، فجاء بالقطّاعين والمهندسين وقدّر لها ما بين أُلوف آجر ، وابتاع دوراً من جوار المشهد ، وحفر أساس القبّة ، وكانوا يطلبون الأرض الصلبة فلم يبلغوا إليها إلاّ بعد حفر سبعة عشر ذراعاً في ستّة عشر ذراعاً (٣) ، فخرج من هذا الحفر عظام الأموات الذين كانوا يطلبون جوار النعمان أربعمائة صنّ (٤) ، ونقلت جميعها إلى بقعة كانت ملكاً لقوم ، فحفر لها ودُفنت. إلى أن قال :

أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ ، أنبأنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبّار الصيرفي ، قال : سمعت أبا الحسين بن المهتدي يقول : لا يصحُّ أنَّ قبر أبي حنيفة في هذا الموضع الذي بنوا عليه [القبَة] (٥) ، وكان الحجيج قبل ذلك يردون ويطوفون حول المقبرة فيزورون أبا حنيفة لا يعيّنون موضعاً.

وقال ابن خلّكان في تاريخه (٦) (٢ / ٢٩٧) : قبره مشهور يزار ، بُني عليه المشهد والقبّة سنة (٤٥٩) ، وقال ابن جُبير في رحلته (٧) (ص ١٨٠) : وبالرصافة مشهد حفيل

__________________

(١) خربشْت : كلمة فارسية ، ومعناها المظلّة التي يظلّل بها السقف لوقايته من الشمس والمطر.

(٢) الغُزّ : جنس من الترك.

(٣) في النسخة المعتمدة لدينا : يوماً.

(٤) الصَّنّ : زبيل كبير مثل السلّة المطبقة.

(٥) الزيادة من المصدر.

(٦) وفيات الأعيان : ٥ / ٤١٤ رقم ٧٦٥.

(٧) رحلة ابن جبير : ص ٢٠٢.

٢٧٧

البنيان ، له قبّة بيضاء سامية في الهواء ، فيه قبر الإمام أبي حنيفة رضى الله عنه.

وقال ابن بطوطة في رحلته (١) (١ / ١٤٢) : قبر الإمام أبي حنيفة رضى الله عنه عليه قبّة عظيمة ، وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر ، وليس بمدينة بغداد اليوم زاوية يطعم الطعام فيها ما عدا هذه الزاوية. ثمّ عدَّ جملة من قبور المشايخ ببغداد فقال : وأهل بغداد لهم في كلّ جمعة يوم لزيارة شيخ من هؤلاء المشايخ ، ويوم لشيخ آخر يليه ، هكذا إلى آخر الأُسبوع.

وقال الذهبي في الدول (٢) (١ / ٧٩) : وقبره عليه مشهد كبير وقبّة عالية ببغداد.

وقال ابن حجر في الخيرات الحسان (٣) في مناقب الإمام أبي حنيفة (٤) ، في الفصل الخامس والعشرين : إنَّ الإمام الشافعيّ أيّام كان هو ببغداد كان يتوسّل بالإمام أبي حنيفة ، ويجيء إلى ضريحه يزور فيسلّم عليه ، ثمّ يتوسّل إلى الله تعالى به في قضاء حاجاته ، وقال : قد ثبت أنَّ الإمام أحمد توسّل بالإمام الشافعيِّ حتى تعجّب ابنه عبد الله ابن الإمام أحمد ، فقال له أبوه : إنَّ الشافعيّ كالشمس للناس وكالعافية للبدن. ولمّا بلغ الإمام الشافعي أنَّ أهل المغرب يتوسلون بالإمام مالك لم ينكر عليهم.

٩ ـ مصعب بن الزبير المتوفّى (١٥٧). قال ابن الجوزي : زارت العامّة قبره بمسكن كما يُزار قبر الحسين عليه‌السلام. المنتظم (٥) (٧ / ٢٠٦).

__________________

(١) رحلة ابن بطوطة : ص ٢٢٦.

(٢) دول الإسلام : ص ٩٢.

(٣) الخيرات الحسان : ص ٩٤.

(٤) حكاه عنه السيّد أحمد زيني دحلان في خلاصة الكلام : ص ٢٥٢ ، والدرر السنيّة [ص ٩٦](المؤلف)

(٥) المنتظم : ١٥ / ١٤.

٢٧٨

١٠ ـ ليث بن سعد الحنفي إمام مصر ، توفّي (١٧٥) ، ودفن بالقرافة الصغرى ، وقبره يُزار رأيته غير مرّة. الجواهر المضيّة (١) (١ / ٤١٧).

١١ ـ مالك بن أنس إمام المالكيّة المتوفّى (١٧٩) ، قبره ببقيع الغرقد في المدينة المنوّرة. قال ابن جبير في رحلته (٢) (ص ١٥٣) : عليه قبّة صغيرة مختصرة البناء. وقد مرَّ (ص ١٥٩) أنّ الفقهاء عدّوا زيارته من آداب من زار قبر النبيّ الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٢ ـ الإمام الطاهر موسى بن جعفر عليهما‌السلام المدفون بالكاظميّة الشهيد سنة (١٨٣) ، أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه (١ / ١٢٠) بإسناده عن أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي قال : سمعت الحسن بن إبراهيم أبا عليّ الخلاّل شيخ الحنابلة في عصره يقول : ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسّلت به إلاّ سهّل الله تعالى لي ما أُحبّ.

وفي شذرات الذهب (٣) (٢ / ٤٨) : توفّي ببغداد الشريف أبو جعفر محمد الجواد ابن عليّ بن موسى الرضا الحسيني ، أحد الاثني عشر إماماً الذين تدّعي فيهم الرافضة العصمة ، ودُفن عند جدّه موسى ، ومشهدهما ينتابه العامّة بالزيارة.

١٣ ـ الإمام الطاهر أبو الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام ، قال أبو بكر محمد ابن المؤمّل : خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي عليّ الثقفي ، مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة عليّ بن موسى الرضا بطوس ، قال : فرأيت من تعظيمه ـ يعني ابن خزيمة ـ لتلك البقعة ، وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا. تهذيب التهذيب (٤) (٧ / ٣٨٨).

__________________

(١) الجواهر المضيّة : ٢ / ٧٢٠ رقم ١١٣١.

(٢) رحلة ابن جبير : ص ١٧٣.

(٣) شذرات الذهب : ٣ / ٩٧ حوادث سنة ٢٢٠ ه‍.

(٤) تهذيب التهذيب : ٧ / ٣٣٩.

٢٧٩

١٤ ـ عبد الله بن غالب الحدّاني البصري المقتول سنة (١٨٣) ، قتل يوم التروية ، كان الناس يأخذون من تراب قبره كأنّه مسك يصيّرونه في ثيابهم. حلية الأولياء (٢ / ٢٥٨) ، تهذيب التهذيب (١) (٥ / ٣٥٤).

١٥ ـ عبد الله بن عون ، أبو عون الخرّاز البصري قال محمد بن فضالة : رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم فقال : زوروا ابن عون فإنّ الله يحبّه. حلية الأولياء (٣ / ٣٩) ، تهذيب التهذيب (٢) (٥ / ٣٤٨).

١٦ ـ عليّ بن نصر بن عليّ الأزدي أبو الحسن البصري المتوفّى (١٨٩) ، مشهده بالبصرة معروف يُزار. هامش الخلاصة (٣) (ص ٢٣٥).

١٧ ـ معروف الكرخي المتوفّى (٢٠٠) ، قال إبراهيم الحربي : قبر معروف الترياق المجرّب. وعن الزهري أنّه قال : قبر معروف الكرخي مجرّب لقضاء الحوائج ، ويقال : إنّه من قرأ عنده مائة مرّة قل هو الله أحد وسأل الله ما يريد قضى الله حاجته. ورُوي عن أبي عبد الله المحاملي أنّه قال : أعرف قبر معروف الكرخي منذ سبعين سنة ما قصده مهموم إلاّ فرّج الله همّه. تاريخ بغداد (١ / ١٢٢).

وقال ابن الجوزي في صفة الصفوة (٤) (٢ / ١٨٣) : عن أحمد بن الفتح قال : سألت بشراً ـ التابعيّ الجليل (٥) ـ عن معروف الكرخي فقال : هيهات حالت بيننا وبينه الحجب ... إلى أن قال : فمن كانت له إلى الله حاجة فليأت قبره وليدع ، فإنّه

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٥ / ٣١٠.

(٢) تهذيب التهذيب : ص ٣٠٥.

(٣) هامش خلاصة الخزرجي : ٢ / ٢٥٨ رقم ٥٠٥٧.

(٤) صفة الصفوة : ٢ / ٣٢٤ رقم ٢٦٠.

(٥) اعتبار بشر من التابعين فيه محل للنظر ؛ لأنّ بشراً ولد سنة (١٥٠) ، وتوفي أبو الطفيل عامر بن واثلة ، وهو آخر من مات من الصحابة ، سنة (١١٠).

٢٨٠