الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٥

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

٣٢ ـ قال أبو الحسن السندي محمد بن عبد الهادي الحنفي المتوفّى (١١٣٨) في شرح سنن ابن ماجة (٢ / ٢٦٨) : قال الدميري : فائدة : زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أفضل الطاعات وأعظم القربات ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي». رواه الدارقطني (١) وغيره (٢) ، وصحّحه عبد الحقّ.

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جاءني زائراً لا تحمله حاجة إلاّ زيارتي كان حقّا عليَّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».

رواه جماعة منهم الحافظ أبو عليّ بن السكن في كتابه المسمّى بالسنن الصحاح ، فهذان إمامان صحّحا هذين الحديثين ، وقولهما أولى من قول من طعن في ذلك.

٣٣ ـ قال الشيخ محمد بن عليّ الشوكاني المتوفّى (١٢٥٠) في نيل الأوطار (٣) (٤ / ٣٢٤) : قد اختلفت فيها ـ في زيارة النبيّ ـ أقوال أهل العلم ، فذهب الجمهور إلى أنّها مندوبة ، وذهب بعض المالكيّة وبعض الظاهريّة إلى أنّها واجبة ، وقالت الحنفيّة : إنّها قريبة من الواجبات ، وذهب ابن تيميّة الحنبلي حفيد المصنِّف المعروف بشيخ الإسلام إلى أنَّها غير مشروعة.

ثمّ فصّل الكلام في الأقوال ، إلى أن قال في آخر كلامه : واحتجَّ أيضاً من قال بالمشروعيّة ، بأنّه لم يزل دأب المسلمين القاصدين للحجِّ في جميع الأزمان ، على تباين الديار واختلاف المذاهب ، الوصول إلى المدينة المشرّفة لقصد زيارته ، ويعدّون ذلك من أفضل الأعمال ، ولم يُنقل أنَّ أحداً أنكر ذلك عليهم ، فكان إجماعاً.

٣٤ ـ قال الشيخ محمد أمين بن عابدين المتوفّى (١٢٥٣) في ردِّ المحتار على الدرِّ

__________________

(١) سنن الدارقطني : ٢ / ٢٧٨ ح ١٩٤.

(٢) كنز العمّال : ١٦ / ٦٥١ ح ٤٢٥٨٣ ، مجمع الزوائد : ٤ / ٢.

(٣) نيل الأوطار : ٥ / ١٠٧.

١٨١

المختار (١) عند العبارة المذكورة (٢ / ٢٦٣) : مندوبة بإجماع المسلمين كما في اللباب ـ إلى أن قال ـ : وهل تستحبّ زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للنساء؟

الصحيح : نعم ، بلا كراهة بشروطها على ما صرّح به بعض العلماء ، أمّا على الأصحِّ من مذهبنا ـ وهو قول الكرخي وغيره ـ من أنَّ الرخصة في زيارة القبور ثابتة للرجال والنساء جميعاً فلا إشكال ، وأمّا على غيره فذلك نقول بالاستحباب لإطلاق الأصحاب ، بل قيل : واجبة. ذكره في شرح اللباب ، وقال : كما بيّنته في الدرّة المضيّة في الزيارة المصطفويّة ، وذكره أيضاً الخير الرملي في حاشية المنح عن ابن حجر وقال : وانتصر له. نعم عبارة اللباب والفتح وشرح المختار أنّها قريبة من الوجوب لمن له سعة ـ إلى أن قال ـ :

قال ابن الهمام : والأولى فيما يقع عند العبد الضعيف ، تجريد النيّة لزيارة قبره ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثمّ يحصل له إذا قدم زيارة المسجد ، أو يستمنح فضل الله تعالى في مرّة أُخرى ينويها ؛ لأنَّ في ذلك زيادة تعظيمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإجلاله ، ويوافقه ظاهر ما ذكرناه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلاّ زيارتي كان حقّا عليَّ أن أكون شفيعاً له يوم القيامة». انتهى.

ونقل الرحمتي عن العارف الملاّ جامي : أنّه أفرز الزيارة عن الحجِّ حتى لا يكون له مقصد غيرها في سفره ، ثمّ ذكر حديث : لا تشدّ الرحال إلاّ لثلاثة مساجد. فقال : والمعنى كما أفاده في الإحياء (٢) : أنّه لا تشدّ الرحال لمسجد من المساجد إلاّ لهذه الثلاثة ، لما فيها من المضاعفة ، بخلاف بقيّة المساجد ؛ فإنّها متساوية في ذلك ، فلا يرد أنَّه قد تشدّ الرحال لغير ذلك كصلة رحم وتعلّم علم ، وزيارة المشاهد كقبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبر الخليل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأئمّة.

__________________

(١) ردّ المحتار على الدرّ المختار : ٢ / ٢٥٧.

(٢) إحياء علوم الدين : ١ / ٢١٩.

١٨٢

٣٥ ـ قال الشيخ محمد ابن السيّد درويش الحوت البيروتي المتوفّى (١٢٧٦) في تعليق حسن الأثر (ص ٢٤٦) : زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلوبة ؛ لأنّه واسطة الخلق ، وزيارته بعد وفاته كالهجرة إليه في حياته ، ومن أنكرها فإن كان ذلك إنكاراً لها من أصلها فخطؤه عظيم ، وإن كان لما يعرض من الجهلة ممّا لا ينبغي فليبيّن ذلك.

٣٦ ـ قال الشيخ إبراهيم الباجوري الشافعي المتوفّى (١٢٧٧) في حاشيته على شرح ابن الغزي على متن الشيخ أبي شجاع في الفقه الشافعي (١ / ٣٤٧):

ويسنُّ زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو لغير حاجّ ومعتمر كالذي قبله ، ويسنُّ لمن قصد المدينة الشريفة لزيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أن يكثر من الصلاة والسلام عليه في طريقه ، ويزيد في ذلك إذا رأى حرم المدينة وأشجارها ، ويسأل الله أن ينفعه بهذه الزيارة ويتقبّلها منه.

ثمّ ذكر جملةً كثيرةً من آداب الزيارة وألفاظها.

٣٧ ـ جعل الشيخ حسن العدوي الحمزاوي الشافعي المتوفّى (١٣٠٣) خاتمة في كتابه كنز المطالب (ص ١٧٩ ـ ٢٣٩) لزيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفصّل فيها القول ، وذكر مطلوبيّتها كتاباً وسنّةً وإجماعاً وقياساً ، وبسط الكلام في شدّ الرحال إلى ذلك القبر الشريف ، وذكر جملةً من آداب الزائر ووظائف الزيارة ، وقال في (ص ١٩٥) ـ بعد نقل جملة من الأحاديث الواردة في أنَّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع سلام زائريه ويردّ عليهم ـ :

إذا علمت ذلك علمت أنَّ ردّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلام الزائر عليه بنفسه الكريمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر واقع لا شكّ فيه ، وإنّما الخلاف في ردِّه على المسلّم عليه من غير الزائرين ، فهذه فضيلة أُخرى عظيمة ينالها الزائرون لقبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فيجمع الله لهم بين سماع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصواتهم من غير واسطة وبين ردِّه عليهم سلامهم بنفسه ، فأنّى لمن سمع لهذين ـ بل بأحدهما ـ أن يتأخّر عن زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ أو يتوانى عن المبادرة إلى المثول في حضرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ تالله ما يتأخّر عن ذلك مع القدرة عليه إلاّ من حقَّ عليه

١٨٣

البعد من الخيرات ، والطرد عن مواسم أعظم القربات ، أعاذنا الله تعالى من ذلك بمنِّه وكرمه آمِين.

وعُلم من تلك الأحاديث أيضاً أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيٌّ على الدوام ، إذ من المحال العادي أن يخلو الوجود كلّه عن واحد يسلّم عليه في ليل أو نهار ، فنحن نؤمن ونصدِّق بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيٌّ يُرزق ، وأن جسده الشريف لا تأكله الأرض ، وكذا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والإجماع على هذا.

٣٨ ـ قال السيّد محمد بن عبد الله الجرداني الدمياطي الشافعي المتوفّى (١٣٠٧) في مصباح الظلام (١) (٢ / ١٤٥) : قال بعضهم : ولزائر قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر كرامات :

إحداهنّ : يُعطى أرفع المراتب ، الثانية : يبلغ أسنى المطالب ، الثالثة : قضاء المآرب ، الرابعة : بذل المواهب ، الخامسة : الأمن من المعاطب ، السادسة : التطهير من المعائب ، السابعة : تسهيل المصائب ، الثامنة : كفاية النوائب ، التاسعة : حسن العواقب ، العاشرة : رحمة ربّ المشارق والمغارب. وما أحسن ما قيل :

هنيئاً لمن زار خيرَ الورى

وحطَّ عن النفسِ أوزارَها

فإنَّ السعادةَ مضمونةٌ

لمن حلَّ طَيبةَ أو زارَها

وبالجملة ؛ فزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أعظم الطاعات وأفضل القربات ، حتى إنَّ بعضهم جرى على أنّها واجبة ، فينبغي أن يحرص عليها ، وليحذر كلّ الحذر من التخلّف عنها مع القدرة ، وخصوصاً بعد حجّة الإسلام ؛ لأنَّ حقّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمّته عظيم ، ولو أنَّ أحدهم يجيء على رأسه أو على بصره من أبعد موضع من الأرض لزيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقم بالحقّ الذي عليه لنبيّه ، جزاه الله عن المسلمين أتمَّ الجزاء.

__________________

(١) مصباح الظلام : ٢ / ٣٥١.

١٨٤

زُر من تحبُّ وإن شطَّت بك الدارُ

وحال من دونه تربٌ وأحجارُ

لا يمنعنّك بُعدٌ عن زيارتِهِ

إنَّ المحبَّ لمن يهواه زَوّارُ

ويسنُّ لمن قصد المدينة الشريفة ....

ثمّ فصّل القول في آداب الزيارة ، وذكر التسليم على الشيخين ، وزيارة السيّدة فاطمة ، وأهل البقيع والمزارات المشهورة ، وهي نحو ثلاثين موضعاً كما قال.

٣٩ ـ قال الشيخ عبد الباسط ابن الشيخ عليّ الفاخوري ـ مفتي بيروت ـ في الكفاية لذوي العناية (ص ١٢٥) : الفصل الثاني عشر في زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي متأكّدة مطلوبة ومستحبّة محبوبة ، وتسنُّ زيارته في المدينة كزيارته حيّا ، وهو في حجرته حيٌّ يردُّ على من سلّم عليه‌السلام ، وهي من أنجح المساعي وأهمِّ القربات وأفضل الأعمال وأزكى العبادات ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي».

ومعنى وجبت : ثبتت بالوعد الصادق الذي لا بدّ من وقوعه وحصوله ، وتحصل الزيارة في أيّ وقت ، وكونها بعد تمام الحجّ أحبُّ ، ويجب على من أراد الزيارة التوبة من كلِّ شيء يخالف طريقته وسننه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ ذكر شطراً وافراً من آداب الزيارة ، والزيارة الأولى الآتية في الآداب ، فقال :

ومن عجز عن حفظ هذا فليقتصر على بعضه وأقلّه. السلام عليك يا رسول الله. ثمّ ذكر زيارة الشيخين إلى أن قال : ويستحبُّ التبرّك بالأُسطوانات التي لها فضل وشرف ، وهي ثمان : أُسطوانة محلّ صلاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأُسطوانة عائشة ـ رضي الله عنها ـ وتسمّى أُسطوانة القرعة ، وأُسطوانة التوبة محلّ اعتكافه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأُسطوانة السرير ، وأُسطوانة عليّ رضى الله عنه ، وأُسطوانة الوفود ، وأُسطوانة جبريل عليه‌السلام ، وأُسطوانة التهجّد.

٤٠ ـ قال الشيخ عبد المعطي السقّا في الإرشادات السنيّة (ص ٢٦٠):

١٨٥

زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا أراد الحاجُّ أو المعتمر الانصراف من مكّة ـ أدام الله تشريفها وتعظيمها ـ طلب منه أن يتوجّه إلى المدينة المنوّرة للفوز بزيارته ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنّها من أعظم القربات وأفضل الطاعات وأنجح المساعي المشكورة ، ولا يختصُّ طلب الزيارة بالحاجّ غير أنّها في حقِّه آكد ؛ والأولى تقديم الزيارة على الحجّ ـ إذا اتّسع الوقت ـ فإنّه ربّما يعوقه عنها عائق ؛ وقد ورد في فضل زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث ، منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي» ، وينبغي الحرص عليها وعدم التخلّف عنها عند القدرة على أدائها خصوصاً بعد حجّة الإسلام ؛ لأنَّ حقّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أُمّته عظيم ، وينبغي لمريد الزيارة أن يكثر من الصلاة والسلام عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طريق ذهابه إليها ، وإذا وصلها استحبَّ له أن يغتسل ثمّ يتوضّأ أو يتيمّم ـ عند فقد الماء ـ ثمّ ذكر جملةً من آداب الزيارة ولفظاً مختصراً من زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والشيخين.

٤١ ـ قال الشيخ محمد زاهد الكوثري في تكملة السيف الصقيل (ص ١٥٦):

والأحاديث في زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغاية من الكثرة ، وقد جمع طرقها الحافظ صلاح الدين العلائي في جزء كما سبق ، وعلى العمل بموجبها استمرّت الأمّة ، إلى أن شذَّ ابن تيميّة عن جماعة المسلمين في ذلك. قال عليّ القاري في شرح الشفا (١) : وقد فرّط ابن تيميّة من الحنابلة حيث حرّم السفر لزيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أفرط غيره ، حيث قال : كون الزيارة قربةً معلوم من الدين بالضرورة ، وجاحده محكوم عليه بالكفر ، ولعلّ الثاني أقرب إلى الصواب ؛ لأنَّ تحريم ما أجمع العلماء فيه بالاستحباب يكون كفراً ، لأنّه فوق تحريم المباح المتّفق عليه.

فسعيه في منع الناس من زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يدلُّ على ضغينةٍ كامنةٍ فيه نحو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكيف يتصوّر الإشراك بسبب الزيارة والتوسّل في المسلمين الذين

__________________

(١) شرح الشفا : ٢ / ١٥١.

١٨٦

يعتقدون في حقّه عليه‌السلام أنَّه عبده ورسوله ، وينطقون في صلاتهم نحو عشرين مرّة في كلّ يوم ـ على أقلِّ تقدير ـ إدامة لذكرى ذلك؟

ولم يزل أهل العلم ينهون العوام عن البدع في كلّ شئونهم ، ويرشدونهم إلى السنّة في الزيارة وغيرها إذا صدرت منهم بدعة في شيء ، ولم يعدّهم في يوم من الأيّام مشركين بسبب الزيارة أو التوسّل ، كيف وقد أنقذهم الله من الشرك وأدخل في قلوب هم الإيمان ، وأوّل من رماهم بالإشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيميّة وجرى خلفه من أراد استباحة أموال المسلمين ودمائهم لحاجة في النفس ، ولم يخف ابن تيميّة من الله في رواية عدِّ السفر لزيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفر معصية لا تقصّر فيه الصلاة ، عن الإمام ابن الوفاء بن عقيل الحنبلي ـ وحاشاه عن ذلك ـ ، راجع كتاب التذكرة له تجد فيه مبلغ عنايته بزيارة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتوسّل به كما هو مذهب الحنابلة.

ثمّ ذكر كلامه وفيه القول باستحباب قدوم المدينة وزيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكيفيّة زيارته ، وزيارة الشيخين ، وكيفيّة زيارتهما ، وإتيان مسجد قبا والصلاة فيه ، وإتيان قبور الشهداء وزيارتهم ، وإكثار الدعاء في تلك المشاهد. ثمّ قال : وأنت رأيت نصّ عبارته في المسألة على خلاف ما يعزو إليه ابن تيميّة.

٤٢ ـ قال فقهاء المذاهب الأربعة المصريون في الفقه على المذاهب الأربعة (١) (١ / ٥٩٠) : زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل المندوبات ، وقد ورد فيها أحاديث.

ثمّ ذكروا ستّة من الأحاديث وجملة من أدب الزائر ، وزيارةً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخرى للشيخين.

(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) (٢).

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٧١١.

(٢) الحج : ٢٤.

١٨٧

فروع ثلاثة :

هذه الفروع تُعطينا درس التسالم من أئمّة المذاهب على رجحان زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستحبابها ، ومحبوبيّة شدِّ الرحال إليها من أرجاء الدنيا ، ألا وهي :

١ ـ اختلفت الآراء من فقهاء المذاهب الأربعة في تقديم أيٍّ من الحجّ والزيارة على الآخر ؛ فقال تقيّ الدين السبكي في شفاء السقام (١) :

اختلف السلف رحمهم‌الله في أنَّ الأفضل البداءة بالمدينة قبل مكّة ، أو بمكّة قبل المدينة ، وممّن نصَّ على هذه المسألة وذكر الخلاف فيها الإمام أحمد في كتاب المناسك الكبير من تأليفه ، وهذه المناسك رواها الحافظ أبو الفضل بإسناده (٢) ، عن عبد الله بن أحمد ، عن أبيه ، وفي هذه المناسك سُئل عمّن يبدأ بالمدينة قبل مكّة ، فذكر بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد وعطاء ومجاهد أنَّهم قالوا : إذا أردت مكّة فلا تبدأ بالمدينة وابدأ بمكّة ، وإذا قضيت حجّك فامرر بالمدينة إن شئت.

وذكر بإسناده عن الأسود قال : أُحبّ أن يكون نفقتي وجهازي وسفري أن أبدأ بمكّة ، وعن إبراهيم النخعي : إذا أردت مكّة فاجعل كلّ شيء لها تبعاً ، وعن مجاهد : إذا أردت الحجّ أو العمرة فابدأ بمكّة واجعل كلّ شيء لها تبعاً ، وعن إبراهيم ، قال : إذا حججت فابدأ بمكّة ثمّ مرّ بالمدينة بعدُ.

وذكر الإمام أحمد أيضاً بإسناده عن عديّ بن ثابت : أنَّ نفراً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يبدءون بالمدينة إذا حجّوا ، يقولون : نُهّل من حيث أحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وذكر ابن أبي شيبة في فضيلة هذا الأمر أيضاً ، وذكر بإسناده عن

__________________

(١) شفاء السقام : ص ٥٧.

(٢) ذكره كملاً ، ونحن حذفناه روماً للاختصار. (المؤلف)

١٨٨

علقمة والأسود وعمرو بن ميمون : أنَّهم بدءوا بالمدينة قبل مكّة. إلى أن قال :

وممّن نصَّ على هذه المسألة من الأئمّة أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ وقال : الأحسن أن يُبدأ بمكّة.

وقال الشيخ عليّ القاري في شرح المشكاة (١) (٣ / ٢٨٤) : الأنسب أن تكون الزيارة بعد الحجّ كما هو مقتضى القواعد الشرعيّة من تقديم الفرض على السنّة (٢) ، وقد روى الحسن ، عن أبي حنيفة تفصيلاً حسناً ، وهو أنّه إن كان الحجُّ فرضاً ، فالأحسن للحاجّ أن يبدأ بالحج ثمّ يثنّي بالزيارة ، وإن بدأ بالزيارة جاز ، وإن كان الحجُّ نفلاً ، فهو بالخيار ، فيبدأ بأيّهما شاء. انتهى.

ثمّ قال : والأظهر أنَّ الابتداء بالحجّ أولى لإطلاق الحديث (٣) ، ولتقديم حقِّ الله على حقِّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذا تُقدّم تحيّة المسجد النبويّ على زيارة المشهد المصطفوي.

٢ ـ من المتسالم عليه بين فرق المسلمين سلفاً وخلفاً جواز استنابة النائب واستئجار الأجير لزيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن عاقه عنها عذر ، وقد استفاض عن عمر بن عبد العزيز أنَّه كان يبرد إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البريد من الشام ليقرأ السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ يرجع. وفي لفظ : كان يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة.

ذكره البيهقي في شعب الإيمان (٤) ، وأبو بكر أحمد بن عمرو النيلي المتوفّى (٢٨٧) في مناسكه ، والقاضي عياض في الشفاء (٥) ، والحافظ ابن الجوزي في مثير الغرام

__________________

(١) المرقاة في شرح المشكاة : ٥ / ٦٣٢ ح ٢٧٥٦.

(٢) هذه القاعدة إنّما تؤخذ في موارد تزاحم الأمرين لا مطلقاً ، والمقام ليس منها ـ كما لا يخفى ـ ، فإنّ الحجّ فريضة موقوتة ، فلا بأس بتقديم المندوب عليها قبل ظرفها. (المؤلف)

(٣) يعني الحديث الثالث من أحاديث الزيارة ، وقد مرّ في صفحة ٩٨. (المؤلف)

(٤) شعب الإيمان : ٣ / ٤٩١ ح ٤١٦٦.

(٥) الشفا بتعريف حقوق المصطفى : ٢ / ١٩٨.

١٨٩

الساكن ، وتقيّ الدين السبكي في شفاء السقام (١) (ص ٤١) ، وغيرهم.

وقال يزيد بن أبي سعيد مولى المهري : قدمت على عمر بن عبد العزيز ، فلمّا ودّعته قال : لي إليك حاجة إذا أتيت المدينة سترى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاقرأه منّي السلام. الشفا للقاضي ، والشفاء للسبكي (٢) (ص ٤١).

وقال أبو الليث السمرقندي الحنفي في الفتاوى في باب الحجِّ : قال أبو القاسم : لمّا أردت الخروج إلى مكّة قال القاسم بن غسّان : إنَّ لي إليك حاجة ، إذا أتيت قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقرئه منّي السلام. فلمّا وضعت رجلي في مسجد المدينة ذكرت. شفاء السقام (٣) (ص ٤١).

قال عبد الحقّ بن محمد الصقلي المالكي المتوفّى (٤٦٦) في تهذيب الطالب : رأيت في بعض المسائل التي سئل عنها الشيخ أبو محمد بن أبي زيد ، قيل له في رجل استؤجر بمال ليحجَّ به وشرطوا عليه الزيارة ، فلم يستطع تلك السنة أن يزور لعذرِ منعه من تلك؟ قال : يردُّ من الأجرة بقدر مسافة الزيارة.

قال عبد الحقّ : وقال غيره من شيوخنا : عليه أن يرجع نائبه حتى يزور ، ثمّ قال : إن استؤجر للحجّ لسنة بعينها فهاهنا يسقط من الأُجرة ما يخصّ الزيارة ، وإن استؤجر على حجّة مضمونة في ذمّته فهاهنا يرجع ويزور ، وقد اتّفق النقلان.

وقالت الشافعيّة : إنَّ الاستئجار والجعالة إن وقعا على الدعاء عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو على إبلاغ السلام ، فلا شكّ في جواز الإجارة والجعالة ـ كما كان عمر ابن عبد العزيز يفعل ـ وإن كانا على الزيارة لا يصح لأنَّها عمل غير مضبوط. شفاء السقام (٤) (ص ٥٠).

__________________

(١) شفاء السقام : ٥٥.

(٢) شفاء السقام : ٥٥.

(٣) شفاء السقام : ص ٥٦.

(٤) شفاء السقام : ص ٦٧.

١٩٠

وقال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد العكبري الحنبلي ، الشهير بابن بطّة المتوفّى (٣٨٧) في كتاب الإبانة : بحسبك دلالة على إجماع المسلمين واتّفاقهم على دفن أبي بكر وعمر مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّ كل عالم من علماء المسلمين وفقيه من فقهائهم ألّف كتاباً في المناسك ، ففصّله فصولاً وجعله أبواباً ، يذكر في كلّ باب فقهه ولكلّ فصل علمه وما يحتاج الحاجّ إلى علمه ـ إلى أن قال ـ : حتى يذكر زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيصف ذلك فيقول : ثمّ تأتي القبر فتستقبله وتجعل القبلة وراء ظهرك ـ إلى أن قال ـ : وبعدُ أدركنا الناس ورأيناهم وبلغنا عمّن لم نره أنَّ الرجل إذا أراد الحجَّ فسلّم عليه أهله وصحابته ، قالوا له : وتقرأ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبي بكر وعمر منّا السلام ، فلا ينكر ذلك أحد ولا يخالفه. شفاء السقام (١) (٤٥).

قال الأميني : وذكر أبو منصور الكرماني الحنفي ، والغزالي في الإحياء (٢) ، والفاخوري في الكفاية ، والشرنبلالي في مراقي الفلاح (٣) ، والسبكي (٤) ، والسمهودي (٥) ، والقسطلاني (٦) ، والحمزاوي العدوي (٧) وغيرهم ؛ أنَّ النائب يقول : السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان ، يستشفع بك إلى ربّك بالرحمة والمغفرة فاشفع له.

٣ ـ قال العبدري المالكي في شرح رسالة ابن أبي زيد : وأمّا النذر للمشي إلى المسجد الحرام أو المشي إلى مكّة ، فله أصل في الشرع وهو الحجُّ والعمرة ، وإلى

__________________

(١) شفاء السقام : ص ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) إحياء علوم الدين : ١ / ٢٣٢.

(٣) مراقي الفلاح : ص ١٥٠.

(٤) شفاء السقام : ص ٦٦.

(٥) وفاء الوفا : ٤ / ١٣٧٦.

(٦) المواهب اللدنيّة : ٤ / ٥٨٤.

(٧) كنز المطالب : ص ١١٤ ، ١٨٧.

١٩١

المدينة لزيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس ، وليس عندهم حجّ ولا عمرة ، فإذا نذر المشي إلى هذه الثلاثة لزمه ، فالكعبة متّفق عليها ، واختلف أصحابنا وغيرهم في المسجدين الآخرين.

قال ابن الحاجِّ في المدخل (١ / ٢٥٦) بعد نقل هذه العبارة : وهذا الذي قاله مسلّم صحيح لا يرتاب فيه إلاّ مشرك أو معاند لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال تقيّ الدين السبكي في شفاء السقام (١) (ص ٥٣) بعد ذكر كلام العبدري المذكور : قلت : الخلاف الذي أشار إليه في نذر إتيان المسجدين لا في الزيارة ، وقال (ص ٧١) ـ بعد كلام طوي لحول نذر العبادات وجعلها أقساماً ـ : إذا عرفت هذا ، فزيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قربة لحثِّ الشرع عليها وترغيبه فيها ، وقد قدّمنا أنَّ فيها جهتين : جهة عموم وجهة خصوص ، فأمّا من جهة الخصوص ، وكون الأدلّة الخاصّة وردت فيها بعينها ، فيظهر القطع بلزومها بالنذر إلحاقاً لها بالعبادات المقصودة التي لا يؤتى بها إلاّ على وجه العبادة : كالصلاة والصدقة والصوم والاعتكاف ، ولهذا المعنى والله أعلم قال القاضي ابن كج رحمه‌الله : إذا نذر أن يزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعندي أنَّه يلزمه الوفاء وجهاً واحداً ، ـ إلى أن قال ـ : وإذا نظرنا إلى زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة العموم خاصّة واجتماع المعاني التي يقصد بالزيارة فيه ، فيظهر أن يقال : إنَّه يلزم بالنذر قولاً واحداً ، ويحتمل على بعدٍ أن يقال : إنَّه كما لو نذر زيارة القادمين وإفشاء السلام فيجري في لزومها بالنذر ذلك الخلاف ، مع كونها قربة في نفسها قبل النذر وبعده ، وقد بان لك بهذا أنَّها تلزم بالنذر.

وقبل هذه كلّها تنبئك عمّا نرتئيه الآداب المسنونة الآتية للزائر ؛ فإنَّها تتفرّع على استحباب الزيارة ومندوبيّة شدِّ الرحال إلى روضة النبيّ الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) شفاء السقام : ص ٧٢ ، ٩٦.

١٩٢

أدب الزائر عند الجمهور :

نذكرُ نصّ ما وقفنا عليه في المصادر (١) :

١ ـ إخلاص النيّة وخلوص الطويّة ، فإنّما الأعمال بالنيّات ، فينوي التقرُّب إلى الله تعالى بزيارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويستحبُّ أن ينوي مع ذلك التقرّب بالمسافرة إلى مسجده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشدِّ الرحال إليه والصلاة فيه. قاله ابن الصلاح والنووي (٢) من الشافعيّة ، ونقله شيخ الحنفيّة الكمال بن الهمام عن مشايخهم.

٢ ـ أن يكون دائم الأشواق إلى زيارة الحبيب الشفيع.

٣ ـ أن يقول إذا خرج من بيته : باسم الله وتوكّلت على الله ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، اللهمّ إليك خرجتُ وأنت أخرجتني ، اللهمّ سلّمني وسلِّم منّي ورُدّني سالماً في ديني كما أخرجتني ، اللهمّ إنّي أعوذ بك أن أضلّ أو أُضلّ ، أو أذلَّ أو أُذلّ ، أو أظلم أو أُظلم ، أو أجهل أو يُجهل عليّ ، عزَّ جارك ، وجلَّ ثناؤك ، وتبارك اسمك ، ولا إله غيرك.

٤ ـ الإكثار في المسير من الصلاة والتسليم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل يستغرق أوقات فراغه في ذلك وغيره من القربات.

٥ ـ يتتبّع ما في طريقه من المساجد والآثار المنسوبة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيحييها بالزيارة ويتبرّك بالصلاة فيها.

__________________

(١) أفرد جمال الدين عبد الله الفاكهي المكّي الشافعي المتوفّى (٩٧٢) آداب زيارة النبيّ صلّي الله عليه واله وسلّم بالتأليف ، وسمّاه حسن التوسّل في آداب زيارة أفضل الرسل ، جمع فيه أربعةً وتسعين أدباً من آداب الزائر ، وقد صفحنا عن كثيرٍ منها لكون أدب المسافر لا يخصّ بالزيارة ، طبع في هامش الإتحاف للشبراوي بمصر سنة ١٣١٨ [ص ٢٩]. (المؤلف)

(٢) شرح صحيح مسلم : ٩ / ١٦٨.

١٩٣

٦ ـ إذا دنا من حرم المدينة وشاهد أعلامها وربُاها وآكامها ، فليستحضر وظائف الخضوع والخشوع مستبشراً بالهنا وبلوغ المنى ، وإن كان على دابّة حرّكها تباشراً بالمدينة ، ولا بأس بالترجّل والمشي عند رؤية ذلك المحلّ الشريف كما يفعله بعضهم ؛ لأنَّ وفد عبد القيس لمّا رأوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزلوا عن الرواحل ولم ينكر عليهم ، وتعظيمه بعد الوفاة كتعظيمه في الحياة. وقال أبو سليمان داود المالكي في الانتصار : إنَّ ذلك يتأكّد فعله لمن أمكنه من الرجال ، وإنّه يستحبّ تواضعاً لله تعالى وإجلالاً لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وحكى القاضي عياض في الشفا (١) : أنَّ أبا الفضل الجوهري (٢) لمّا ورد المدينة زائراً وقرب من بيوتها ترجّل باكياً منشداً :

ولمّا رأينا رسمَ من لم يَدَعْ لنا

فؤاداً لعرفانِ الرسومِ ولا لُبّا

نزلنا عن الأكوارِ نمشي كرامةً

لمن بانَ عنه أن نلمَّ به ركبا

وقد ضمّنها القاضي عياض في قصيدة نبويّة له يقول بعدهما :

وتهنا بأكنافِ الخيامِ تواجداً

نُقبِّلها طوراً ونرشفُها حُبّا

ونُبدي سروراً والفؤاد بحبِّها

تقطّعَ والأكبادُ أورى بها لهبا

أقدِّم رجلاً بعد رجلٍ مهابةً

وأسحبُ خدّي في مواطنِها سحبا

وأسكبُ دمعي في مناهل حبِّها

وأُرسل حبّا في أماكنها النجبا

وأدعو دعاءَ البائسِ الوالهِ الذي

براهُ الهوى حتى بدا شخصُه شجبا

٧ ـ إذا بلغ حرم المدينة الشريفة ، فليقل بعد الصلاة والتسليم : اللهمّ هذا حرم

__________________

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى : ٢ / ١٣٠.

(٢) عبد الله بن الحكيم الرندي الأندلسي ، من علماء الحديث والقراءات والعربية ، وله شعر رائق. (المؤلف)

١٩٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي حرّمته على لسانه ، ودعاك أن تجعل فيه من الخير والبركة مثلَي ما في حرم البيت الحرام ، فحرِّمني على النار ، وآمنِّي من عذابك يوم تبعث عبادك ، وارزقني من بركاته ما رزقته أولياءك وأهل طاعتك ، ووفّقني لحسن الأدب وفعل الخيرات وترك المنكرات. ثمّ تشتغل بالصلاة والتسليم.

وقال الغزالي في الإحياء (١) (١ / ٢٤٦) : إذا وقع بصره على حيطان المدينة وأشجارها قال : اللهمّ هذا حرم رسولك ، فاجعله لي وقايةً من النار ، وأماناً من العذاب وسوء الحساب.

وفي مراقي الفلاح للفقيه الشرنبلالي (٢) : فإذا عاين حيطان المدينة المنوّرة يصلّي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمَّ يقول : اللهمّ هذا حرم نبيّك ومهبط وحيك ، فامنن عليَّ بالدخول فيه ، واجعله وقايةً لي من النار وأماناً من العذاب ، واجعلني من الفائزين بشفاعة المصطفى يوم المآب.

٨ ـ إن كانت طريقه على ذي الحليفة فلا يجاوز المعرَّس حتى ينيخ به ، وهو مستحبّ ، كما قاله أبو بكر الخفّاف في كتاب الأقسام والخصال ، والنووي وغيرهما.

٩ ـ الغسل لدخول المدينة المنوّرة من بئر الحرّة أو غيرها ، والتطيّب ولبس الزائر أحسن ثيابه.

وقال الكرماني من الحنفيّة : فإن لم يغتسل خارج المدينة ، فليغتسل بعد دخولها.

قال ابن حجر : ويسنُّ له ، كمالاً في الأدب ، أن يلبس أنظف ثيابه ، والأكمل الأبيض ، إذ هو أليق بالتواضع المطلوب متطيّباً ، وقد يقع لبعض الجهلة عند الرؤية للمدينة نزولهم عن رواحلهم مع ثياب المهنة والتجرّد عن الملبوس فينبغي زجره ،

__________________

(١) إحياء علوم الدين : ١ / ٢٣١.

(٢) مراقي الفلاح : ص ١٥٠.

١٩٥

نعم ؛ النزول عن الرواحل عند رؤية المدينة من كمال الأدب ، لكن بعد التطيّب ولبس النظيف.

وقال الفقيه الشرنبلالي في مراقي الفلاح (١) : ويغتسل قبل الدخول أو بعده قبل التوجّه للزيارة إن أمكنه ، ويتطيّب ويلبس أحسن ثيابه تعظيماً للقدوم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ يدخل المدينة ماشياً إن أمكنه بلا ضرورة.

١٠ ـ أن يقول عند دخوله من باب البلد : بسم الله ما شاء الله لا قوّة إلاّ بالله ، ربّ أدخلني مُدخَل صدق ، وأخرجني مُخرَج صدقٍ ، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً ، حسبي الله آمنت بالله توكلّت على الله لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، اللهمّ إنّي أسألك بحقِّ السائلين عليك ، وبحقِّ ممشاي هذا إليك ، فإنّي لم أخرج بطراً ولا أَشِراً ولا رياءً ولا سمعةً ، خرجت اتِّقاء سخطك وابتغاء مرضاتك ، أسألك أن تنقذني من النار ، وأن تغفر لي ذنوبي ، إنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت.

وقال شيخ زاده في مجمع الأنهر (٢) (١ / ١٥٧) : إذا دخل المدينة قال : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) (٣) الآية. اللهمّ افتح لي أبواب فضلك ورحمتك ، فارزقني زيارة قبر رسولك المجتبى عليه الصلاة والسلام ما رزقت أولياءك وأهل طاعتك ، واغفر لي وارحمني يا خير مسؤول.

١١ ـ لزوم الخشوع والخضوع لمّا شاهد القبّة مستحضراً عظمتها ، يمثِّل في نفسه مواقع أقدام رسول الله ، فلا يضع قدمه عليه إلاّ مع الهيبة والسكينة والوقار.

١٢ ـ عدم الإخلال بشيء ممّا أمكنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،

__________________

(١) مراقي الفلاح : ص ١٥٠.

(٢) مجمع الأنهر : ١ / ٣١٣.

(٣) الإسراء : ٨٠.

١٩٦

والغضب عند انتهاك حرمة من حرمه ، أو تضييع شيء من حقوقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٣ ـ إذا شاهد المسجد والحرم الشريف فليزدد خضوعاً وخشوعاً يليق بهذا المقام ، ويقتضيه هذا المحلّ الذي ترتعد دونه الأقدام ، ويجتهد في أن يوفّي للمقام حقّه من التعظيم والقيام.

١٤ ـ الأفضل أن يدخل الزائر إلى الحضرة الشريفة من باب جبرئيل ، وجرت عادة القادمين من ناحية باب السلام بالدخول.

١٥ ـ يقف بالباب لحظةً لطيفةً كما يقف المستأذن في الدخول على العظماء ، قاله الفاكهي في حسن الأدب (ص ٥٦) ، والشيخ عبد المعطي السقا في الإرشادات السنيّة (ص ٢٦١).

١٦ ـ إذا أراد الدخول فليفرغ قلبه وليصفِّ ضميره ، ويقدّم رجله اليمنى ويقول : أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبنوره القديم من الشيطان الرجيم ، بسم الله والحمد لله ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، ما شاء الله لا قوّة إلاّ بالله ، اللهمّ صلِّ على سيّدنا محمد عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً ؛ اللهمّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، ربِّ وفِّقني وسدِّدني وأصلحني وأعنّي على ما يرضيك عنّي ، ومُنَّ عليَّ بحسن الأدب في هذه الحضرة الشريفة ، السلام عليك أيّها النبيُّ ورحمة الله تعالى وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

ولا يترك ذلك كلّما دخل المسجد أو خرج منه ، إلاّ أنَّه يقول عند خروجه : وافتح لي أبواب فضلك. بدل قوله : أبواب رحمتك.

وقال القاضي عياض (١) : قال ابن حبيب : يقول إذا دخل مسجد الرسول : بسم الله وسلام على رسول الله ، السلام علينا من ربّنا ، وصلّى الله وملائكته على محمد ،

__________________

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى : ٢ / ٢٠١.

١٩٧

اللهمّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك وجنّتك ؛ واحفظني من الشيطان الرجيم.

١٧ ـ قال القاضي في الشفاء (١) : ثمّ اقصد إلى الروضة ـ وهي ما بين القبر والمنبر ـ واركع فيهما ركعتين قبل وقوفك بالقبر ، تحمد الله تعالى فيهما وتسأله تمام ما خرجت إليه والعون عليه ؛ وإن كانت ركعتاك في غير الروضة أجزأتاك ، وفي الروضة أفضل.

وقال القسطلاني في المواهب (٢) : يستحبّ أن يصلّي ركعتين قبل الزيارة ، قيل : وهذا ما لم يكن مروره من جهة وجهه الشريف وإلاّ استحبَّ الزيارة أوّلاً. قال في تحقيق النصرة (٣) : وهو استدراك حسن ، ورخَّص بعضهم تقديم الزيارة مطلقاً. وقال ابن الحاجّ : كلٌّ ذلك واسع.

وقال الشرنبلالي في مراقي الفلاح (٤) : فتسجد شكراً لله تعالى بأداء ركعتين غير تحيّة المسجد ، شكراً لما وفّقك الله تعالى ومنَّ عليك بالوصول إليه.

وقال الحمزاوي في كنز المطالب (ص ٢١١) : يبدأ بتحيّة المسجد ركعتين خفيفتين ب : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ؛ وأن يكون بمصلاّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن لم يتيسّر له ، فما قرب منه ممّا يلي المنبر من جهة الروضة.

١٨ ـ ينبغي للزائر أن يكون واقفاً وقت الزيارة كما هو الأليق بالأدب ، فإذا طال فلا بأس أن يجلس متأدّباً جاثياً على ركبتيه ، غاضّا لطرفه في مقام الهيبة والإجلال ، فارغ القلب مستحضراً بقلبه جلالة موقفه ، وأنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيٌّ ناظر إليه ومطّلع عليه.

__________________

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى : ٢ / ٢٠١.

(٢) المواهب اللدنيّة : ٤ / ٥٧٨.

(٣) تحقيق النصرة : ص ١٠٥.

(٤) مراقي الفلاح : ص ١٥٠.

١٩٨

وقال الخفاجي في شرح الشفا (١) (٣ / ٥٧١) : ويستحبُّ القيام في حال الزيارة كما نبّه عليه المصنِّف ـ يعني القاضي عياض ـ بقوله : يقف ، وهو أفضل من الجلوس عند القبر الشريف عند الجمهور ، ومن خيّر بينهما أراد الجواز دون المساواة ، فإن جلس فالأفضل أن يجثو على ركبتيه ، ولا يفترش ولا يتربّع لأنَّه أليق بالأدب.

١٩ ـ يقف كما يقف في الصلاة واضعاً يمينه على شماله. قاله الكرماني الحنفي وشيخ زاده في مجمع الأنهر وغيرهما ورآه ابن حجر أليق.

٢٠ ـ يتوجّه إلى القبر الكريم مستعيناً بالله تعالى في رعاية الأدب في هذا الموقف العظيم ، فيقف ممثِّلاً صورته الكريمة في خياله بخشوع وخضوع تامّين بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محاذاة الوجه الشريف مستدبر القبلة ، ناظراً في حال وقوفه إلى أسفل ما يستقبل من جدار الحجرة الشريفة ، ملتزماً للحياء والأدب التامِّ في ظاهره وباطنه ، عالماً بأنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عالم بحضوره وقيامه وزيارته ، وأنَّه يبلغه سلامه وصلاته ، وقال ابن حجر : استدبار القبلة واستقبال الوجه الشريف هو مذهبنا ومذهب جمهور العلماء.

وقال الخفاجي في شرح الشفا (٢) (٣ / ٥٧١) : استقبال وجهه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستدبار القبلة مذهب الشافعي والجمهور ، ونُقل عن أبي حنيفة. وقال ابن الهمام : ما نُقل عن أبي حنيفة أنَّه يستقبل القبلة مردود بما روي عن ابن عمر : أنَّ من السنّة أن يستقبل القبر المكرَّم ويجعل ظهره للقبلة ، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة.

وقول الكرماني : إنَّ مذهبه بخلافه ليس بشيء ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيٌّ في ضريحه ، يعلم بزائره ، ومن يأتيه في حياته إنَّما يتوجّه إليه.

وقال في شرح قول ابن أبي مليكة (٣) : من أحبّ أن يكون وجاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) نسيم الرياض في شرح الشفا : ٣ / ٥١٧.

(٢) نسيم الرياض في شرح الشفا : ٣ / ٥١٧

(٣) عبد الله بن عبيد الله المتوفّى (١١٧) ، أخرج له أصحاب الصحاح الستّة. (المؤلف)

١٩٩

فيجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ؛ هو إرشاد لكيفيّة الزيارة ، وأن يكون بينه وبين القبر فاصل. فقيل : إنَّه يبعد عنه بمقدار أربعة أذرع ، وقيل : ثلاثة ، وهذا على أنَّ البعد أولى وأليق بالأدب كما كان في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليه الأكثر. وذهب بعض المالكيّة إلى أنَّ القرب أولى ، وقيل : يعامل معاملته في حياته ، فيختلف ذلك باختلاف الناس ، وهذا باعتبار ما كان في العصر الأوّل ، وأمّا اليوم فعليه مقصورة تمنع من دنوّ الزائر فيقف عند الشبّاك.

٢١ ـ لا يرفع في الزيارة صوته ولا يخفيه بل يقتصد ، وخفض الصوت عنده صلّى الله عليه أدب للجميع. أخرج القاضي عياض (١) بإسناده عن ابن حميد قال : ناظر أبو جعفر ـ أمير المؤمنين ـ مالكاً في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له مالك : يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإنَّ الله تعالى أدّب قوماً فقال (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) (٢) الآية ، ومدح قوماً فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) (٣) الآية ، وذمَّ قوماً فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) (٤) الآية ، وإنَّ حرمته ميّتاً كحرمته حيّا ، فاستكان لها أبو جعفر وقال : يا أَبا عبد الله ، أستقبل القبلة وأدعو أم استقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فقال : ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه‌السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله تعالى ، قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) (٥) الآية.

__________________

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى : ٢ / ٩٢.

(٢) الحجرات : ٢.

(٣) الحجرات : ٣.

(٤) الحجرات : ٤.

(٥) النساء : ٦٤.

٢٠٠