الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٥

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

وفي (ص ٢٠١) (١) ، ومسند أحمد (٢) (١ / ٥٦) : إنّي قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فأيّهما شئتم : عمر أو أبا عبيدة.

وفي الإمامة والسياسة (٣) (١ / ٧) : إنّما أدعوكم إلى أبي عبيدة أو عمر ، وكلاهما قد رضيت لكم ولهذا الأمر ، وكلاهما له أهل. وفي (ص ١٠) قال : إنّي ناصح لكم في أحد الرجلين : أبي عبيدة بن الجراح أو عمر ، فبايعوا من شئتم منهما.

قال الأميني : بخٍ بخٍ ، حسب النبيّ الأعظم مجداً وشرفاً ، والإسلام عزّا ومنعةً ، والمسلمين فخراً وكرامة ، استخلاف مثل أبي عبيدة الجرّاح ولم يكن إلاّ حفّاراً مكياً يحفرُ القبور بالمدينة ، وكان فيها حفّاران ليس إلاّ وهما أبو عبيدة وأبو طلحة ، فما أسعد حظّ هذه الأمّة أن يكون في حفّاري قبورها من يشغل منصّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعده ، ويسدّ ذلك الفراغ ، ويكون هو مرجع العالم في أمر الدين والدنيا ، وأيّ وازعٍ يمنع أبا عبيدة من أن يكون خليفةً لائتمانه؟ بعد ما كاد معاوية بن أبي سفيان أن يكون نبيّا ويُبعث لائتمانه وعلمه ، كما مرّ في (ص ٣٠٨).

غير أنّي لست أدري ما كانت الحالة يوم ذاك في السموات عند إيهاب أبي بكر الخلافة الإسلاميّة لأبي عبيدة؟ وهي كانت ترتجّ والملائكة تهتف ، والله يأبى إلاّ أبا بكر مهما سألها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام ، وقد أنزله منزلة نفسه نصّا من الله العزيز. نعم ؛ كان حقّا على السموات أن يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا.

٢٤ ـ وما الذي جوّز لأبي بكر قوله لعمر ـ بعد قوله له : أبسط يدك يا أبا بكر فلأُبايعك ـ : بل أنت يا عمر فأنت أقوى لها منّي؟ وكان كلّ واحد منهما يريد

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك : ٣ / ٢٠٦ حوادث سنة ١١ ه‍.

(٢) مسند أحمد : ١ / ٩٠ ح ٣٩٣.

(٣) الإمامة والسياسة : ١ / ١٤ و ١٦.

٥٨١

صاحبه يفتح يده يضرب عليها ، ففتح عمر يد أبي بكر ، وقال : إنّ لك قوّتي مع قوّتك (١)

٢٥ ـ وكيف كان يرى أبو بكر الأمر للمهاجرين ويجعل للأنصار الوزارة ، ويقول : منّا الأمراء ومنكم الوزراء؟ تاريخ الطبري (٢) (٣ / ١٩٩ ، ٢٠٨) ، الرياض (٣) (٢ / ١٦٢ ، ١٦٣).

٢٦ ـ وما الذي سوّغ لأبي بكر قوله : إنّي وليتُ هذا الأمر وأنا له كاره ، والله لوددت أنّ بعضكم كفانيه. صفة الصفوة (٤) (١ / ٩٩).

كيف كان يكره أمراً جعله الله له ، وجاء به جبريل ، وأخبر به النبيّ الطاهر؟ ثمّ كيف كان يودّ أن يكفيه غيره؟ وقد حيل بين النبيّ وبين أمله مهما سأله الله لعليّ ، ولم يجعل الله لمشيئة نبيّه في الأمر قيمة ، وأبى إلاّ أبا بكر.

٢٧ ـ وما المسوّغ لأبي بكر في استقالته الخلافة من الناس ، وقوله مرّة بعد أخرى : أقيلوني أقيلوني لست بخيركم (٥) ، وقوله : لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي (٦). فكيف كان يرى للناس في إقالته اختياراً ، ولردّه ما شاء الله وعهده لنبيّه مساغاً؟

٢٨ ـ وما كان وجه احتجابه عن الناس ثلاثاً ، يشرف عليهم كلّ يوم يقول :

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ١٩٩ [٣ / ٢٠٣ حوادث سنة ١١ ه‍] ، السيرة الحلبية : ٣ / ٣٨٦ [٣ / ٣٥٨] ، الصواعق المحرقة : ص ٧ [ص ١٢]. (المؤلف)

(٢) تاريخ الأمم والملوك : ٣ / ٢٠٣ ، ٢٢٠ حوادث سنة ١١ ه‍.

(٣) الرياض النضرة : ١ / ٢٠٣ ، ٢٠٤.

(٤) صفة الصفوة : ١ / ٢٦٠ رقم ٢.

(٥) الصواعق المحرقة : ص ٣٠ [ص ٥١]. (المؤلف)

(٦) الإمامة والسياسة : ١ / ١٤ [١ / ٢٠]. (المؤلف)

٥٨٢

أقلتكم بيعتي فبايعوا من شئتم (١)؟ أو يخيّر الناس سبعة أيّام؟ كيف كان يرى لنفسه خياراً في حلّ عقد بيعته عن رقاب الناس وإقالتهم ، وقد أبى الله والمؤمنون إلاّ إيّاه؟ ثمّ كيف يكل أمر الأمّة إلى مشيئتها وقد رُدّت مشيئة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك؟ ووقع في السموات ما وقع يوم أعرب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أُمنيّته.

٢٩ ـ وما كان عذره في قوله من خطبة له : أيّها الناس هذا عليّ بن أبي طالب لا بيعة لي في عنقه وهو بالخيار من أمره ، ألا وأنتم بالخيار جميعاً في بيعتكم ، فإن رأيتم لها غيري فأنا أوّل من يبايعه. السيرة الحلبية (٢) (٣ / ٣٨٩).

لعلّ الحرية في الرأي حول البيعة حدثت بعد ما وقع دونها ما وقع في السموات والأرض ؛ بعد ما هرول عمر بين يدي أبي بكر ونبر (٣) حتى أزبد شدقاه ؛ بعد ما قيل لحباب بن المنذر البدوي مخالف تلك البيعة : إذن يقتلك الله ؛ بعد ما حُطّم أنف الحباب وضُرب يده ؛ بعد ما نودي على سعد أمير الخزرج : اقتلوه قتله الله إنّه منافق ؛ بعد ما أخذ قيس بن سعد لحية عمر قائلاً : والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة ؛ بعد ما قال الزبير وقد سلّ سيفه : لا أغمده حتى يُبايَع عليّ ؛ بعد ما قال عمر : عليكم الكلب ـ يعني الزبير ـ فأخذ السيف من يده وضُرب به على الحجر ؛ بعد ما دافعوا مقداداً في صدره ؛ بعد التهاجم على دار النبوّة وكشف بيت فاطمة وإخراج من كان فيه للبيعة عنوةً ؛ بعد ما أقبل عمر بقبس من نار إلى دار فاطمة ، بعد ما قال عمر : لتخرجنّ إلى البيعة أو لأحرقنّها على من فيها ؛ بعد ما خرجت بضعة المصطفى عن خدرها وهي تبكي وتنادي بأعلى صوتها : «يا أبتِ يا رسول الله ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة» بعد ما قادوا عليّا عليه‌السلام إلى البيعة كما يُقاد

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٦ [١ / ٢٢] ، الرياض النضرة : ١ / ١٧٥ [١ / ٢١٧]. (المؤلف)

(٢) السيرة الحلبية : ٣ / ٣٦٠.

(٣) النبر : ارتفاع الصوت.

٥٨٣

الجمل المخشوش ؛ بعد ما قيل له : بايع وإلاّ تُقتل ؛ بعد ما لاذ بقبر أخيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باكياً قائلاً : «يا ابن امّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني» بعد .. بعد .. إلى مائة بعد (١).

ولعلّ تلك الشدّة في إباءة الله وملائكته والمؤمنين خلافة أيّ أحد إلاّ أبا بكر ، كانت مكذوبة على الله وعلى رسوله والمؤمنين ، أو كانت صحيحة غير أنّها مقيّدة بإرادة أبي بكر نفسه ومشيئته ؛ لاها الله كانت مكذوبةً ليس إلاّ.

٣٠ ـ وما المجوّز لعمر قوله لأبي عبيدة الجرّاح لمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ابسط يدك فلأُبايعك فأنت أمين هذه الأمّة على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال أبو عبيدة لعمر : ما رأيت لك فَهّة (٢) مثلها منذ أسلمت ، أتبايعني وفيكم الصدّيق وثاني اثنين؟

مسند أحمد (١ / ٣٥) ، طبقات ابن سعد (٣ / ١٢٨) ، نهاية ابن الأثير (٣ / ٢٤٧) ، صفة الصفوة (١ / ٩٧) ، السيرة الحلبيّة (٣ / ٣٨٦) ، الصواعق (ص ٧) (٣).

فما الذي دعاه إلى ذلك الخلاف الفاحش على تلكم النصوص؟ وما كان ذلك الاستبداد بالرأي تجاه النصّ المؤكّد من الله العزيز؟ نعم. وكم له من نظير!

٣١ ـ وكيف كان عمر يرى الأمر شورى بين المسلمين ، ويقول : من بايع أميراً من غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ، ولا بيعة للذي بايعه تغرّة أن يقتلا؟

مسند أحمد (١ / ٥٦) ، تاريخ ابن كثير (٥ / ٢٤٦) (٤).

__________________

(١) تأتي مصادر هذه الجمل كلّها في الجزء السابع. (المؤلف)

(٢) الفهّة : العيّ ، الغفلة ، والسقطة. (المؤلف)

(٣) مسند أحمد : ١ / ٥٨ ح ٢٣٥ ، الطبقات الكبرى : ٣ / ١٨١ ، النهاية : ٣ / ٤٨٢ ، صفة الصفوة : ١ / ٢٥٦ رقم ٢ ، السيرة الحلبية : ٣ / ٣٥٧ ، الصواعق المحرقة : ص ١٢.

(٤) مسند أحمد : ١ / ٩١ ح ٣٩٣ ، البداية والنهاية : ٥ / ٢٦٧ حوادث سنة ١١ ه‍.

٥٨٤

٣٢ ـ وأخرج (١) مسلم في صحيحه في كتاب الفرائض (٢ / ٣) ، وأحمد في مسنده (١ / ٤٨) ، عن عمر أنّه قام خطيباً فقال : إنّي رأيت رؤيا كأنّ ديكاً نقرني نقرتين ، ولا أرى ذلك إلاّ لحضور أجلي ، وإنّ ناساً يأمرونني أن أستخلف ، وإنّ الله عزّ وجلّ لم يكن ليضيّع خلافته ودينه ، ولا الذي بعث به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن عجل بي أمر ، فالخلافة شورى في هؤلاء الرهط الستة. الحديث.

وأخرجه البيهقي في سننه (٨ / ١٥٠) فقال : أخرجه مسلم في الصحيح من حديث بن أبي عروبة وغيره. وحكاه عن مسلم الحافظ ابن الديبع فى تيسير الوصول (٢) (٢ / ٤٩).

٣٣ ـ وما الذي أباح لعمر أو لغيره من الصحابة قولهم في خلافة أبي بكر : إنّها كانت فلتة وقى الله شرّها (٣) ، أو : فلتة كفلتات الجاهليّة (٤) ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (٥)؟ كيف تسمّى تلك الخلافة فلتةً بعد تلكم البشارات والإنباءات المتواصلة طيلة حياة النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعد إعلامه أصحابه بها مرّةً بعد أخرى إلى أن لفظ

__________________

(١) صحيح مسلم : ٢ / ٣٨ ح ٧٨ كتاب المساجد ، مسند أحمد : ١ / ٧٩ ح ٣٤٣.

(٢) تيسير الوصول : ٢ / ٥٨ ح ٨.

(٣) صحيح البخاري ، في باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت ، في الجزء الأخير : ١٠ / ٤٤ [٦ / ٢٥٠٥ ح ٦٤٤٢] ، مسند أحمد : ١ / ٥٥ [١ / ٩٠ ح ٣٩٣] ، تاريخ الطبري : ٣ / ٢٠٠ [٣ / ٢٠٥ حوادث سنة ١١ ه‍] ، أنساب البلاذري : ٥ / ١٥ ، سيرة ابن هشام : ٤ / ٢٣٨ [٤ / ٣٠٨] ، تيسير الوصول : ٢ / ٤٢ ، ٤٤ [٢ / ٥١ ، ٥٣ ح ٤] ، كامل ابن الأثير : ٢ / ١٣٥ [٢ / ١١ حوادث سنة ١١ ه‍] ، نهاية ابن الأثير : ٣ / ٢٣٨ [٣ / ٤٦٧] ، الرياض النضرة : ١ / ١٦١ [١ / ٢٠١] ، تاريخ ابن كثير : ٥ / ٢٤٦ [٥ / ٢٦٦ حوداث سنة ١١ ه‍] ، السيرة الحلبية : ٣ / ٣٨٨ ، ٣٩٢ [٣ / ٣٦٠ ، ٣٦٣] ، الصواعق المحرقة : ص ٥ ، ٨ [ص ١٠ ، ١٤] ، وقال : مسند صحيح ، تمام المتون للصفدي : ص ١٣٧ [ص ١٧٨] ، تاج العروس : ١ / ٥٦٨. (المؤلف)

(٤) تاريخ الطبري : ٣ / ٢١٠ [٣ / ٢٢٣ حوادث سنة ١١ ه‍]. (المؤلف)

(٥) الصواعق المحرقة : ص ٢١ [ص ٣٦]. (المؤلف)

٥٨٥

نفسه الأخير؟ وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بنصٍّ من تلكم الروايات ـ لم يرَ فيها حاجة إلى وصيّة بكتاب ، ولم يترقّب فيها خلاف أيّ أحد على أبي بكر ؛ وكيف يُرى فيها الشرّ والحالة هذه؟ والصحابة كلّهم عدول ، وأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر ، وأبى الله أن يختلف عليه ، كما مرّ حديثه.

٣٤ ـ وما الذي سوّغ لعمر عرضه على عبد الرحمن بن عوف أن يستخلفه ويجعله وليّ عهده ، فقال عبد الرحمن : أتشير عليّ بذلك إذا استشرتك؟ فقال : لا والله. فقال عبد الرحمن : إذاً لا أرضى أن أكون خليفة بعدك. الفتوحات الإسلامية (١) (٢ / ٤٢٧).

٣٥ ـ وما بال الأنصار بأسرها قد تخلّفت عن البيعة (٢) واجتمعت على خلاف ما في تلكم النصوص ، وأبت بيعة أبي بكر وقالت : لا نبايع إلاّ عليّا ، أو قالت : منّا أمير ومنكم أمير (٣)؟ وكيف تقاعس عنها طلحة ، والزبير ، والمقداد ، وسلمان ، وعمّار ، وأبو ذر ، وخالد بن سعيد ، ورجال من المهاجرين (٤) وأبوا إلاّ عليّا ، واجتمعوا في داره عليه‌السلام وأخرجتهم يد السياسة الوقتية إلى البيعة عنوةً ، ونودي عليهم : والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة؟

وما شأن الصحابي العظيم سعد بن عبادة يأنف من بيعة أبي بكر ويقول : ايم الله لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أُعرَض على ربّي وأعلم ما حسابي؟ وكان لا يصلّي بصلاتهم ، ولا يُجمِع معهم ، ويحجّ ولا يفيض معهم بإفاضتهم. تاريخ الطبري (٥) (٣ / ١٩٨ ، ٢٠٠ ، ٢٠٧ ، ٢١٠).

__________________

(١) الفتوحات الإسلامية : ٢ / ٢٧٥.

(٢) مسند أحمد : ١ / ٥٥ [١ / ٩٠ ح ٣٩٣]. (المؤلف)

(٣) مسند أحمد : ١ / ٤٠٥ [١ / ٦٦٨ ح ٣٨٣٢] ، طبقات ابن سعد : ٢ / ١٢٨ [٣ / ١٨٢]. (المؤلف)

(٤) الرياض النضرة : ١ / ١٦٧ [١ / ٢٠٧]. (المؤلف)

(٥) تاريخ الأمم والملوك : ٣ / ٢٠٢ ، ٢٠٥ ، ٢١٨ ، ٢٢٢ حوادث سنة ١١ ه‍.

٥٨٦

وما عذر العبّاس ـ عمّ النبيّ الطاهر ـ وبني هاشم في تخلّفهم عن تلك البيعة ، والصفح عن تلكم العهود المؤكّدة؟

٣٦ ـ وقبل هذه كلّها إباءة عليّ أمير المؤمنين تلك البيعة الانتخابية ، وحجاجه المفحم على أهلها ، قال ابن قتيبة : ثمّ إنّ عليّا ـ كرّم الله وجهه ـ أُتي به إلى أبي بكر وهو يقول : أنا عبد الله ، أخو رسول الله. فقيل له : بايع أبا بكر ، فقال : أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا أُبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً ، ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم؟! فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار ، نحن أولى برسول الله حيّا وميّتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلاّ فبوءُوا بالظلم وأنتم تعلمون.

فقال له عمر : إنّك لست متروكاً حتى تبايع ، فقال له عليّ : احلب حلباً لك شطره ، وشدّ له اليوم يمدده عليك غداً. ثمّ قال : والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أُبايعه.

فقال أبو بكر : فإن لم تبايع فلا أُكرهك. فقال أبو عبيدة بن الجراح لعليٍّ ـ كرّم الله وجهه ـ : يا ابن عم ، إنّك حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأُمور ، ولا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك ، وأشدّ احتمالاً واستطلالاً ، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر ، فإنّك إن تعش ويطُل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق ، في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك.

فقال عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ : الله الله يا معشر المهاجرين ألاّ تخرجوا سلطان محمد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، وتدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فو الله يا معشر المهاجرين ، لنحن أحقّ الناس به لأنّا أهل

٥٨٧

البيت ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعيّة ، الدافع عنهم الأُمور السيّئة ، القاسم بينهم بالسويّة ، والله إنّه لفينا ، فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحقّ بعداً.

قال بشير بن سعد الأنصاري : لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا عليّ قبل بيعتها لأبي بكر ، ما اختلفت عليك.

قال : وخرج عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ يحمل فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دابّة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة ؛ فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله ، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أنّ زوجكِ وابن عمكِ سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به.

فيقول عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ : أفكنت أدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته لم أدفنه وأخرج أُنازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم.

وقال : إنّ أبا بكر رضى الله عنه تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ فبعث إليهم عمر ، فجاء فناداهم ـ وهم في دار علي ـ فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها ؛ فقيل له : يا أبا حفص ، إنّ فيها فاطمة. قال : وإن. فخرجوا فبايعوا إلاّ عليّا ، فإنّه زعم أنّه قال : حلفت أن لا أخرج ، ولا ثوبي أضع على عاتقي حتى أجمع القرآن. فوقفت فاطمة على بابها فقالت : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضراً منكم ، تركتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جنازةً بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ولم تردّوا لنا حقّا.

فأتى عمر أبا بكر فقال له : ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة؟

فقال أبو بكر لقنفذ وهو مولى له : اذهب فادع لي عليّا ، فذهب إلى عليّ ، فقال :

٥٨٨

ما حاجتك؟ فقال : يدعوك خليفة رسول الله. فقال عليّ : لسريع ما كذبتم على رسول الله.

فرجع فأبلغ الرسالة ، قال : فبكى أبو بكر طويلاً ، فقال عمر الثانية : لا تمهل هذا المتخلّف عنك بالبيعة ، فقال أبو بكر رضى الله عنه لقنفذ : عُد إليه فقل له : أمير المؤمنين يدعوك لتبايع ، فجاءه قنفذ فأدّى ما أُمر به ، فرفع عليّ صوته فقال : سبحان الله ، لقد ادّعى ما ليس له.

فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة فبكى أبو بكر طويلاً ، ثمّ قام عمر فمشى معه جماعة حتى أتوا باب فاطمة ، فدقّوا الباب ، فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبتِ يا رسول الله ، ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة؟!

فلمّا سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين ، وكادت قلوبهم تتصدّع وأكبادهم تتفطّر ، وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا عليّا ، فمضوا به إلى أبي بكر فقالوا له : بايع. فقال : إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا : إذاً والله الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك. قال : إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله ، قال عمر : أمّا عبد الله فنعم وأمّا أخو رسوله فلا (١) ، وأبو بكر ساكت لا يتكلّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال : لا أُكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه ، فلحق عليّ بقبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصيح ويبكي وينادي : يا ابن أُمّ ، إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني. الإمامة والسياسة (٢) (١ / ١٢ ـ ١٤).

__________________

(١) أسلفنا في الجزء الثالث : ص ١١٢ ـ ١٢٥ خمسين حديثاً في المؤاخاة بين رسول الله وأمير المؤمنين ـ صلوات الله عليهما وآلهما ـ ، ومنها ما هو المتواتر الصحيح الثابت ، أخرجه الحفّاظ عن جمع من الصحابة ومنهم عمر بن الخطّاب ، وحديث المؤاخاة من المتسالم عليه عند الأمّة الإسلامية ، وعمر أحد رواته كما جاء بطريق صحيح ، غير أنّ السياسة الوقتية سوّغت لعمر إنكارها يوم ذاك. (المؤلف)

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ١٨ ـ ٢٠.

٥٨٩

٣٧ ـ وما الذي سوّغ لأبي بكر وعمر وأبي عبيدة أن يجعلوا للعبّاس عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإيعاز من مغيرة بن شعبة نصيباً في الأمر يكون له ولعقبه من بعده؟

قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة (١) (١ / ١٥) : فأتى المغيرة بن شعبة ، فقال : أترى يا أبا بكر أن تلقوا العبّاس فتجعلوا له في هذا الأمر نصيباً يكون له ولعقبه ، وتكون لكما الحجّة على عليّ وبني هاشم إذا كان العبّاس معكم؟ قال : فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة حتى دخلوا على العبّاس رضى الله عنه ، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ثمّ قال : إنّ الله بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّا وللمؤمنين وليّا ، فمنّ الله تعالى بمقامه بين أظهرنا حتى اختار له الله ما عنده ، فخلّى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم متّفقين لا مختلفين ، فاختاروني عليهم والياً ولأُمورهم راعياً ، وما أخاف بحمد الله وهناً ولا حيرةً ولا جبناً ، وما توفيقي إلاّ بالله العليّ العظيم ، عليه توكّلت وإليه أُنيب ، وما زال يبلغني عن طاعن يطعن بخلاف ما اجتمعت عليه عامّة المسلمين ويتّخذونكم لحافاً ، فاحذروا أن تكونوا جهداً لمنيع ، فإمّا دخلتم فيما دخل فيه العامّة ، أو دفعتموهم عمّا مالوا إليه ، وقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً يكون لك ولعقبك من بعدك إذ كنت عمّ رسول الله ، وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان أصحابك فعدلوا الأمر عنكم ؛ على رسلكم بني عبد المطلب ، فإنّ رسول الله منّا ومنكم.

ثمّ قال عمر : إي والله وأخرى : إنّا لم نأتكم حاجةً منّا إليكم ، ولكنّا كرهنا أن يكون الطعن منكم فيما اجتمع عليه العامّة ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم ، فانظروا.

فتكلّم العبّاس فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ الله بعث محمداً كما زعمت نبيّا وللمؤمنين وليّا ، فمنّ الله بمقامه بين أظهرنا حتى اختار له ما عنده ، فخلّى الناس أمرهم

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ٢١.

٥٩٠

ليختاروا لأنفسهم مصيبين للحقّ لا مائلين عنه بزيغ الهوى ، فإن كنت برسول الله طلبت ، فحقّنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين طلبت ، فنحن منهم متقدّمون فيهم ، وإن كان هذا الأمر إنّما يجب لك بالمؤمنين ، فما وجب إذ كنّا كارهين ؛ فأمّا ما بذلت لنا فإن يكن حقّا لك ، فلا حاجة لنا فيه ؛ وإن يكن حقّا للمؤمنين ، فليس لك أن تحكم عليهم ؛ وإن كان حقّنا ، لم نرضَ عنك فيه ببعض دون بعض.

وأما قولك : إنّ رسول الله منّا ومنكم ، فإنّه قد كان من شجرةٍ نحن أغصانها وأنتم جيرانها.

٣٨ ـ وما عذر من استشكل على أبي بكر في استخلافه عمر على الصحابة؟

قالت عائشة : لمّا ثقل أبي دخل عليه فلان وفلان ، فقالوا : يا خليفة رسول الله ، ما ذا تقول لربّك غداً إذا قدمت عليه وقد استخلفت علينا ابن الخطّاب؟

قالت : فأجلسناه ، فقال : أبالله ترهبوني؟ أقول : استخلفت عليهم خيرهم. سنن البيهقي (٨ / ١٤٩).

٣٩ ـ وما الذي أقعد عليّا أمير المؤمنين عن بيعة عثمان يوم الشورى بعد ما بايعه عبد الرحمن بن عوف وزملاؤه؟ وكان عليّ قائماً فقعد ، فقال له عبد الرحمن : بايع وإلاّ ضربت عنقك ، ولم يكن مع أحد يومئذٍ سيف غيره ، فيقال : إنّ عليّا خرج مغضباً ، فلحقه أصحاب الشورى وقالوا : بايع وإلاّ جاهدناك ؛ فأقبل معهم حتى بايع عثمان. الأنساب للبلاذري (٥ / ٢٢).

قال الطبري في تاريخه (١) (٥ / ٤١) : جعل الناس يبايعونه وتلكّأ عليّ ، فقال عبد الرحمن : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (٢) فرجع عليّ يشقّ الناس حتى بايع وهو يقول : خدعة وأيّما خدعة.

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك : ٤ / ٢٣٨ حوادث سنة ٢٣ ه‍.

(٢) الفتح : ١٠.

٥٩١

وفي الإمامة والسياسة (١) (١ / ٢٥) قال عبد الرحمن : لا تجعل يا عليّ سبيلاً إلى نفسك ، فإنّه السيف لا غيره. وفي صحيح البخاري (٢) (١ / ٢٠٨) : لا تجعلنّ على نفسك سبيلاً.

قال الأميني : كان قتل المتخلّف عن البيعة في ذلك الموقف وصيّة من عمر بن الخطّاب ، كما أخرجه الطبري في تاريخه (٣) (٥ / ٣٥) قال : وقال ـ عمر ـ لصهيب :

صلّ بالناس ثلاثة أيّام وأدخل عليّا وعثمان والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم (٤) ، وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر وقم على رءوسهم ، فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه ـ أو : اضرب رأسه بالسيف ـ ، وإن اتّفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رءوسهما ، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم فحكّموا عبد الله بن عمر ، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم ، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس. وذكره البلاذري في الأنساب (٥ / ١٦ ، ١٨) ، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة (٥) (١ / ٢٣) ، وابن عبد ربّه في العقد الفريد (٦) (٢ / ٢٥٧).

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) (٧)

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ٣١.

(٢) صحيح البخاري : ٦ / ٢٦٣٥ ح ٦٧٨١.

(٣) تاريخ الأمم والملوك : ٤ / ٢٢٩ حوادث سنة ٢٣ ه‍.

(٤) كان غائباً في ماله بالسراة. (المؤلف)

(٥) الإمامة والسياسة : ١ / ٢٨.

(٦) العقد الفريد : ٤ / ٩٨.

(٧) النجم : ٥٩ ، ٦٠.

٥٩٢

ما هذه الدمدمة والهمهمة؟

ليست هذه الروايات إلاّ جلبةً وصخباً تجاه الحقيقة الراهنة ؛ وو جاه الخلافة الحقّة الثابتة بالنصوص الصريحة الصحيحة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، قد صدع بها النبيّ الأمين وحياً من الله العزيز من يوم بدء الدعوة إلى آخر نفس لفظه.

إن هي إلاّ اللغط والشغب دون أمر ليس لخلق الله فيه أيّ خيرة ، وقد نصّ النبيّ الأعظم في بدء دعوته على أنّ الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء ، وذلك يوم عرض نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بني عامر بن صعصعة ودعاهم إلى الله ، فقال له قائلهم : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال : «إنّ الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء» (١).

إن هي إلاّ سلسة بلاء وحلقة شقاء تجرُّ الأمّة إلى الضلال ، وتسفّ بها إلى حضيض التعاسة ، وتديمها في الجهل المبير ، ومهاوي الدمار.

إن هي إلاّ ولائد النزعات الباطلة ، والأهواء المضلّة ، لا مقيل لها في مستوى الحقّ والصدق ، ولا قيمة لها في سوق الاعتبار.

إن هي إلاّ نسيجة يد الإفك والزور ، حبكها التزحزح عن قانون العدل ، والتنحّي عن شرعة الحقّ ، والبعد عن حكم الأمانة.

إن هي إلاّ صبغة الهثّ (٢) والدجل شُوّهت بها صفحات التاريخ ، لا يرتضيها أيّ دينيّ من رجالات المذاهب ، ولا يُعوّل عليها المثقّف النابه ، ولا يتّخذها السالك إلى الله سبيلاً ، ولا يجد الباحث عن الحقّ فيها أُمنيّته.

__________________

(١) سيرة ابن هشام : ١ / ٣٣ [٢ / ٦٦] ، الروض الأُنُف : ص ٢٦٤ [٤ / ٣٩] ، السيرة الحلبية : ٢ / ٣ ، السيرة النبوية لزيني دحلان : ١ / ٣٠٢ [١ / ١٤٧]. (المؤلف)

(٢) الهثُّ : الكذب.

٥٩٣

إن هي إلاّ نبرات فيها نترات لفّقتها المطامع في لماظة العيش ، ونُجفة (١) الحياة ، وزخارف الدنيا القاضية على سعادة البشر.

إن هي إلاّ قبسات الفتن المضلّة ، وجذوات مقابس العاطفة والهوى ، تفتن الجاهل المسكين ، وتحيده عن رشده ، وتجعله في بهيتة من أمر دينه ، فتحترق بها أصول سعادته في الحياة الدنيا.

إنّ هي إلاّ مدرّسات الأمّة فاحش التقوّل ، وسيّئ الإفك والافتعال ، تعلّمها الحياد عن مناهج الصدق والأمانة ، وتحثّها على الكذب على الله وعلى قدس صاحب الرسالة ، وعلى أمنائه وثقات أُمّته.

هل يجد الباحث سبيلاً لنجاته عن هذه الورطات المدلهمّة؟ وهل يُرجى له الفوز من تلكم السلاسل وقد صفّدته من حيث لا يشعر؟ أيّ مصدر وثيق يحقّ أن يثق به الرجل؟ وعلى أيّ كتاب أو على أيّ سنّة حريّ بأن يحيل أمره؟ أليست الكتب مشحونةً بتلكم الأكاذيب المفتعلة المنصوص على وضعها؟ أليست تلكم المئات من أُلوف الأحاديث المكذوبة مبثوثة في طيّات التآليف والصحف؟

ما حيلة الرجل وهو يرى المؤلّفين بين من يذكرها مرسلاً إيّاها إرسال المسلّم ، وبين من يخرجها بالإسناد ويردفها بما يموّه على الحقّ ممّا يعرب عن قوّتها؟ أو يرويها غير مشفّع بما فيها من الغميزة متناً أو إسناداً؟ كلّ ذلك في مقام سرد الفضائل ، أو إثبات الدعاوي الفارغة في المذاهب.

ثمّ ما حيلته؟ وهو يشاهد وراء أولئك الأوضاح من المؤلّفين أفّاك القرن الرابع عشر ـ القصيمي ـ رافعاً عقيرته بقوله : ليس في رجال الحديث من أهل السنّة من هو متّهم بالوضع والكذابة. راجع (ص ٢٠٨).

__________________

(١) يقال : انتجف اللبن إذا استخرج أقصى ما في الضرع منه ، ونجفة الحياة : ما استُفرِغ من لذائذها.

٥٩٤

فما ذنب الجاهل المسكين ـ والحالة هذه ـ في عدم عرفان الحقّ؟ وما الذي يعرّفه صحيح السنّة من سقيمها؟ وأيّ يد تنجيه من عادية التقوّل والتزوير؟ وهل من مصلح يحمل بين جنبيه عاطفة دينيّة صادقة ينقذه عن ورطات القالة وغمرات الدجل؟

نعم ؛ (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) (١) ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (٢).

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣) ، (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٤).

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) (٥) ، (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (٦).

حكم الوضّاعين

قال الحافظ جلال الدين السيوطي في تحذير الخواص (٧) (ص ٢١) : فائدة : لا أعلم شيئاً من الكبائر ـ قال أحد من أهل السنّة بتكفير مرتكبه ـ إلاّ الكذب على

__________________

(١) الأعراف : ١٤٥.

(٢) الأنفال : ٤٢.

(٣) الأعراف : ٥٢.

(٤) الجاثية : ١٧ و ١٨.

(٥) طه : ١٦.

(٦) طه : ٤٧.

(٧) تحذير الخواص : ص ١٢٥.

٥٩٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فإنّ الشيخ أبا محمد الجويني (١) من أصحابنا وهو والد إمام الحرمين (٢) قال : إنّ من تعمّد الكذب عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكفر كفراً يخرجه عن الملّة ؛ وتبعه على ذلك طائفة ، منهم : الإمام ناصر الدين بن المنير من أئمّة المالكيّة ، وهذا يدلّ على أنّه أكبر الكبائر ؛ لأنّه لا شيء من الكبائر يقتضي الكفر عند أحد من أهل السنّة. انتهى.

حكم الحفّاظ

لتلكم الموضوعات المبهرجة

يتبيّن حكم مخرّجي تلكم الروايات المكذوبة على نبيّ العظمة في الكتب والمعاجم من أئمّة الحديث وحفّاظه ، ومن رجال السير والتاريخ ـ خلفاً وسلفاً ـ ممّا أخرجه الخطيب وصححه ابن الجوزي من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من روى عنّي حديثاً وهو يرى أنّه كذب ، فهو أحد الكذّابين» (٣).

والله يقول : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) (٤).

أفترى أولئك الحفّاظ والمؤرّخين عالمين بحقيقة تلكم الأكاذيب المفتعلة؟ قد ضلّوا من قبلُ وأضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ

__________________

(١) إمام الشافعية عبد الله بن يوسف ، المتوفّى (٤٣٨) كان إماماً في الفقه والأصول والأدب والعربية. وجوين قرية من نواحي نيسابور [معجم البلدان : ٢ / ١٩٢]. (المؤلف)

(٢) أبو المعالي عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد ، المتوفّى (٤٧٨). (المؤلف)

(٣) تاريخ بغداد : ٤ / ١٦١ [رقم ١٨٣٧] ، المنتظم : ٨ / ٢٦٨ [١٦ / ١٣٣ رقم ٣٤٠٧] (المؤلف)

(٤) الحاقّة : ٤٤ ـ ٤٩.

٥٩٦

كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (١).

أم تراهم جاهلين بها؟ وما لهم بذلك من علم فكذبوا صمّا وعمياناً ، (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) (٢) ، (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) (٣) (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٤) (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٥).

__________________

(١) هود : ١٨.

(٢) المجادلة : ١٨.

(٣) البقرة : ٧٨.

(٤) الأنعام : ١٤٤.

(٥) البقرة : ٧٩.

٥٩٧
٥٩٨

ـ ٥٤ ـ

قطب الدين الراوندي

المتوفّى (٥٧٣)

بنو الزهراء آباءُ اليتامى

إذا ما خوطبوا قالوا سلاما

همُ حججُ الإلهِ على البرايا

فمن ناواهمُ يلقَ الأثاما

فكان نهارُهم أبداً صياماً

وليلُهمُ كما تدري قياما

ألم يجعلْ رسولُ اللهِ يومَ ال

غديرِ عليّا الأعلى إماما

ألم يكُ حيدرٌ قَرماً هُماماً

ألم يكُ حيدرٌ خيراً مقاما

وله قوله :

لآلِ المصطفى شرفٌ محيطُ

تضايقَ عن مراميه البسيطُ

إذا كثرَ البلايا في البرايا

فكلٌّ منهمُ جاش ربيطُ

إذا ما قام قائمُهمْ بوعظٍ

فإنَّ كلامَهُ درٌّ لقيطُ

أو امتلأتْ بعدلهمُ ديارٌ

تقاعسَ دونه الدهرُ القسوطُ

همُ العلماءُ إن جهلَ البرايا

هم الموفون إن خان الخليطُ

بنو أعمامِهمْ جاروا عليهم

ومالَ الدهرُ إذ مالَ الغبيطُ

٥٩٩

لهمْ في كلِّ يومٍ مستجدٍّ

لدى أعدائِهمْ دمٌّ عبيطُ

تناسوا ما مضى بغديرِ خمٍ

فأدركهمْ لشقوتهمْ هبوطُ

ألا لُعِنتْ أُميّةُ قد أضاعوا ال

حسين كأنّه فرخٌ سميطُ (١)

على آلِ الرسولِ صلاةُ ربّي

طوالَ الدهرِ ما طلعَ الشميطُ (٢)

الشاعر

قطب الدين أبو الحسين سعد (٣) بن هبة الله بن الحسن بن عيسى الراوندي ، إمام من أئمّة المذهب ، وعين من عيون الطائفة ، وأوحديّ من أساتذة الفقه والحديث ، وعبقريّ من رجالات العلم والأدب ، لا يُلحق شأوه في مآثره الجمّة ، ولا يُشقّ له غبار في فضائله ومساعيه المشكورة ، وخدماته الدينيّة ، وأعماله البارّة ، وكتبه القيّمة.

يوجد ذكره الجميل بالإطراء والثناء عليه في الفهرست للشيخ منتجب الدين ، معالم العلماء ، أمل الآمل ، لسان الميزان (٤ / ٤٨) ، رياض العلماء ، الإجازة الكبيرة للسماهيجي ، رياض الجنّة في الروضة الرابعة ، لؤلؤة البحرين ، منتهى المقال (ص ١٤٨) ، مستدرك الوسائل (٣ / ٤٨٩) ، روضات الجنّات (ص ٣٠١) ، تنقيح المقال (٢ / ٢٢) ، الكنى والألقاب (٣ / ٥٨) (٤).

__________________

(١) السميط : الخفيف الحال. (المؤلف)

(٢) الشمط : الخلط ، ويقال للصبح : الشميط ، لاختلاطه بباقي ظلمة الليل. توجد الأبيات المذكورة في مستدرك الوسائل : ٣ / ٤٨٩ ، وفي بعض المجاميع الأدبية. (المؤلف)

(٣) في غير واحد من المصادر الوثيقة : سعيد. (المؤلف)

(٤) الفهرست : ص ٨٧ رقم ١٨٦ ، معالم العلماء : ص ٥٥ رقم ٣٦٨ ، أمل الآمل : ٢ / ١٢٥ رقم ٣٥٦ ، لسان الميزان : ٣ / ٥٩ رقم ٣٧٦٢ ، رياض العلماء : ٢ / ٤١٩ ، لؤلؤة البحرين : ص ٣٠٤ رقم ١٠٣ ، منتهى المقال : ص ٢١٣ ، روضات الجنّات : ٤ / ٥ ، الكنى والألقاب : ٣ / ٧٢.

٦٠٠