الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٥

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

أبي عليّ الحسن بن معد ـ المتوفّى (٦٣٦) ـ عن النقابة سنة (٦٢٤).

وفي الحوادث الجامعة (١) (ص ٢٢٠) : توفّي فيها ـ يعني سنة (٦٤٥) ـ النقيب قطب الدين أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن عليّ المعروف بابن الأقساسي العلوي ببغداد ، وكان أديباً فاضلاً يقول شعراً جيّداً ، بدرت منه كلمة في أيّام الخليفة الناصر على وجه التصحيف ، وهي (أردنا خليفة جديداً) فبلغت الناصر ، فقال : لا يكفي حلقة لكن حلقتين ، وأمر بتقييده وحمله إلى الكوفة ، فحُملَ وسُجنَ فيها ، فلم يزل محبوساً إلى أن استخلف الظاهر سنة (٦٢٣) فأمر بإطلاقه ، فلمّا استخلف المستنصر بالله (٦٢٤) رفق عليه فقرّبه وأدناه ، ورتّبه نقيباً وجعله من ندمائه ، وكان ظريفاً خليعاً طيّب الفكاهة حاضر الجواب.

وصل الملك الناصر ناصر الدين داود بن عيسى في المحرّم سنة (٦٣٣) إلى بغداد واجتاز بالحلّة السيفيّة وبها الأمير شرف الدين عليّ ، ثمّ توجّه منها إلى بغداد ، فخرج إلى لقائه النقيب الطاهر قطب الدين أبو عبد الله الحسين ابن الأقساسي ، وفي سلخ ربيع الأوّل من السنة المذكورة وصل الأمير ركن الدين إسماعيل ـ صاحب الموصل ـ إلى بغداد ، وخرج إلى لقائه النقيب الحسين ابن الأقساسي وخادمان من خدم الخليفة.

قصد الخليفة المستنصر بالله سنة (٦٣٤) مشهد الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام في ثالث رجب ، فلمّا عاد أبرز ثلاثة آلاف دينار إلى أبي عبد الله الحسين ابن الأقساسي ـ نقيب الطالبيّين ـ وأمره أن يفرِّقها على العلويّين المقيمين في مشهد أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب والحسين وموسى بن جعفر عليهم‌السلام (٢).

حضر في سنة (٦٣٧) (٣) الأمير سليمان بن نظام الملك ـ متولّي المدرسة

__________________

(١) الحوادث الجامعة : ص ١١٠ حوادث سنة ٦٤٥ ه‍.

(٢) الحوادث الجامعة : ص ٧٧ ـ ٧٩ ملخصاً [ص ٥٢ حوادث سنة ٦٣٤ ه‍]. (المؤلف)

(٣) الحوادث الجامعة : ص ٩٥ [ص ٦٥ حوادث سنة ٦٣٧ ه‍]. (المؤلف)

٢١

النظاميّة ـ مجلس أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي بباب بدر ، فتاب وتواجد وخرق ثيابه وكشف رأسه ، وقام وأشهد الواعظ والجماعة على أنَّه قد أعتق جميع ما يملكه من رقيق ، ووقف أملاكه ، وخرج [من] ما يملكه ، فكتب إليه النقيب الطاهر أبو عبد الله الحسين ابن الأقساسي أبياتاً طويلة ، يقول فيها (١) :

يا ابن نظام الملك يا خير من

تاب ومن لاقى به الزهدُ

يا ابن وزير الدولتين الذي

يروحُ للمجدِ كما يغدو

يا ابن الذي أنشأ من مالِهِ

مدرسةً طالعها سعدُ

قد سرّني زهدك عن كلّ ما

يرغب فيه الحرُّ والعبدُ

بان لك الحقُّ وأبصرتَ ما

أعينُنا عن مثلِهِ رُمدُ

وقلت للدنيا إليكِ ارجعي

ما عن نزوعي عنك لي بُدُّ

ما لذَّ لي بعدك حتى استوى

في فيَّ منكِ الصابُ والشهدُ

شيمتُكِ الغدر كما شيمتي

حسنُ الوفاءِ المحضِ والودُّ

إلى أن قال :

لا يقصدُ الناسُ إلى دورِهمْ

لكن إلى منزلِكَ القصدُ

وخدمةُ الناسِ لها حرمةٌ

وكان ما تفعلُه يبدو

والناسُ قد كانوا رقوداً وقد

أيقظتَهمْ فانتبه الضدُّ

وقسّمت فيك ظنونُ الورى

وكلّهم للقولِ يعتدُّ

فبعضهم قال يدوم الفتى

وبعضُهمْ قد قال يرتدُّ

وقد أتى تشرينُ وهو الذي

إليه عينُ العيش تمتدُّ

ما يسكن البيت وقد جاءه

إلاّ مريضٌ مسَّه الجهدُ

وكلّ ما يفعلُه حيلةٌ

منه ونصبٌ ما له حدُّ

__________________

(١) الحوادث الجامعة : ص ١٢٤ [ص ٦٦ حوادث سنة ٦٣٧ ه‍]. (المؤلف)

٢٢

فقلت لا والله ما رأيُه

هذا ولا فيكم له ندُّ

وإنَّما هذا سليمانُ قد

صفا له في زهدِهِ الوردُ

مثلَ سليمانَ الذي أُعرضت

يوماً عليه الضُّمَّرُ الجُردُ

فعاف أن يُدخِلَها قلبَهُ

والهزلُ لا يشبهُه الجدُّ

ويقول فيها :

ليهنكَ الرشدُ إلى كلّ ما

يضلُّ عنه الجاهلُ الوغدُ

أُسقِطتَ من جيشِ أبي مِرّةٍ (١)

وأكثرُ الناسِ له جُندُ

وقمتَ للهِ بما يرتجى

بمثلِهِ الجنّةُ والخُلدُ

فاصبر فما يدركُ غاياتِ ما

يطلبُ إلاّ الحازمُ الجَلْدُ

وفي سنة (٦٤٣) (٢) تقدّم الخليفة ـ المستعصم أبو أحمد عبد الله ـ بإرسال طيور من الحمام إلى أربع جهات لتصنّف أربعة أصناف ؛ منها : مشهد حذيفة بن اليمان بالمدائن ، ومشهد العسكري بسُرَّمن رأى ، ومشهد غني بالكوفة ، والقادسيّة ، وأنفذ مع كلّ عدّة من الطيور عدلين ووكيلاً. وكُتب بذلك سجلٌّ شهد فيه العدول على القاضي بثبوته عنده ، وسمّيت هذه الأصناف باليمانيّات ، والعسكريّات ، والغنويّات ، والقادسيّات ، ونظم النقيب الطاهر قطب الدين الحسين ابن الأقساسي في ذلك أبياتاً وعرضها على الخليفة ، أوّلها

خليفةَ الله يا من سيفُ عزمتِهِ

موكّلٌ بصروفِ الدهرِ يصرفُها

ويقول فيها :

إنَّ الحمامَ التي صنّفتَها شَرُفتْ

على الحمامِ التي من قبلُ نعرفُها

__________________

(١) أبو مرّة : كنية لإبليس. (المؤلف)

(٢) الحوادث الجامعة : ص ٢٠٢ [ص ١٠١ حوادث سنة ٦٤٣ ه‍]. (المؤلف)

٢٣

والقادسيّاتُ أطيارٌ مقدَّسةٌ

إذ أنت يا مالكَ الدنيا مصنِّفُها

وبعدها غنويّاتٌ تنال بها

غنى الحياة وما يهوى مؤلِّفُها

والعسكريّاتُ أطيارٌ مشرّفةٌ

وليس غيرُكَ في الدنيا يشرّفُها

ثمّ الحَمامُ اليمانيّاتُ ما جُعِلَتْ

إلاّ سيوفاً على الأعداءِ تُرهِفُها

لا زلت مستعصماً باللهِ في نِعَمٍ

يُهدى لمجدك أسناها وألطفُها

ثمّ سأل أن يقبض منها من يد الخليفة ، فأجاب سؤاله وأحضره بين يديه وقبّضه ، فلمّا عاد إلى داره نظم أبياتاً أوّلها :

إمامَ الهدى أوليتَني منك أنعُماً

رددنَ عليَّ العيشَ فينانَ أخضرا

وأحضرتني في حضرة القدسِ ناظراً

إلى خير خلقِ اللهِ نفساً وعنصرا

وعلّيتَ قدري بالحمامِ وقبضِها

مناولةً من كفِّ أبلجَ أزهرا

رفعت بها ذكري وأعليتَ منصبي

فحُزتُ بها عزّا ومجداً على الورى

حمامٌ إذا خفتُ الحمامَ ذكرتُها

فصرتُ بذاك الذكرِ منها معمّرا

ويقول في آخرها :

قضى اللهُ أن يبقى إماماً معظَّماً

مدى الدهر ما لاح الصباحُ وأسفرا

[فدُمْ يا أميرَ المؤمنينَ مخلّداً

على الملكِ منصورَ الجيوشِ مظفّراً

في المحرّم من سنة (٦٣٠) (١) قُلِّد العدل مجد الدين أبو القاسم هبة الدين بن المنصوري الخطيب نقابة نقباء العبّاسيّين والصلاة والخطابة ، وخلع عليه قميص أطلس بطراز مذهَّباً ودرّاعة خاراً أسود ، وعمامة ثوب خاراً أسود مُذهَّب بغير ذؤابة ، وطيلسان قصب كحلي ، وسيف محلّى بالذهب ، وامتطى فرساً بمركب ذهباً ، وقرئ بعض عهده في دار الوزارة وسلّم إليه ، وركب في جماعة إلى دار أنعم عليه بسكناها

__________________

(١) الحوادث الجامعة : ص ٣٨ [ص ٢٥ ـ ٢٧ حوادث سنة ٦٣٠ ه‍]. (المؤلف)

٢٤

في المطبق من دار الخلافة ، وأنعم عليه بخمسمائة دينار ، وهو من أعيان عدول مدينة السلام ، وأفاضل أرباب الطريقة المتكلّمين بلسان أهل الحقيقة ، كان يصحب الفقراء دائماً ويأخذ نفسه بالرياضة والسياحة والصوم الدائم والتخشّن والتباعد من العالم ، وكان الموفّق عبد الغافر ابن الفوطي من جملة تلامذته ، فعمل فيه أبياتاً طويلة ، ولمّا انتهى حالها إلى الديوان أنكر ذلك عليه ، ووكّل به أيّاماً ولم يخرج إلاّ بشفاعته ، وأوّل الأبيات :

ناديتُ شيخي من شدّة الحربِ

وشيخنا في الحرير والذهبِ

في دستِه جالساً ببسملةٍ

بين يديه من قام في أدبِ

وركبة منه كنت أعهده

يذمُّ أربابَها على الرتبِ

وكان أبناؤها لديه على

سخطٍ من الله شامل الغضبِ

أصابَ في الرأيِ من دعاك لها

وأنت لمّا أجبت لم تُصِبِ

أوّلُ صوتٍ دعاك عن عرضٍ

لبّيتَهُ مقبلاً على السببِ

ويقول فيها :

قد كنتَ ذاك الذي تُظَنُّ به

لو لم تكن مسرعاً إلى الرتبِ

شيخي أين الذي يعلّمنا الزه

د ويعتدُّه من القربِ

أين الذي لم يزلْ يُسلِّكنا

إلى خروج عن كلّ مكتسبِ

أين الذي لم يزلْ يعرِّفنا

فضلَ التمرّي بالجوعِ والتعبِ

ومنها :

أين الذي لم يزلْ يُرغِّبنا

في الصوفِ لبساً له وفي الجشِبِ

وأين من غرَّنا بزخرفةٍ

متى اعتقدناه زاهدَ العربِ

وأين ذاك التجريد يشعرنا

أنَّ سواه في السعي لم يخبِ

٢٥

وأين من لم يزل يذمُّ لنا

الدنيا وقول المحال والكذبِ

وأين من لم يزل بأَدمعِهِ

يخدعنا باكياً على الخشبِ

وأين من كان في مواعظِهِ

يصولُ زجراً عن كلّ مجتنبِ

ويقطعُ القول لا يتمّمه

منغلباً بالسماعِ والطربِ

ويقسم الغمر أنّه رجلٌ

ليس له في الوجودِ من أربِ

لو كانت الأرضُ كلّها ذهباً

أعرضَ عنها إعراضَ مكتئبِ

أسفرَ ذاك الناموسُ مختيلاً

عن راغبٍ في التراثِ مُستلبِ

وكان ذاك الصراخُ يزعجُنا

شكوى فقيرٍ على الدنا وصبِ

شيخي بعد الذمِّ الصريحِ لما

أبيته جئته على طلبِ

نسيتَ ما قلته على ورعٍ

عنّي لما اكتسبت بالدأبِ

ويلٌ له إن يمتْ بخدمتِهِ

يمتْ كفوراً وليس بالعجبِ

ما كان مالُ السلطانِ مكتسباً

لمسلم سالمٍ من العطبِ (١)

فكتب النقيب قطب الدين الحسين ابن الأقساسي إلى النقيب مجد الدين المذكور أبياتاً كالمعتذر عنه والمسلّي له ، يقول في أوّلها :

إنَّ صحابَ النبيّ كلَّهمُ

غيرَ عليِّ وآلهِ النُّجبِ

مالوا إلى الملكِ بعد زهدهمُ

واضطربوا بعده على الرتبِ

وكلّهم كان زاهداً ورعاً

مشجِّعاً في الكلامِ والخطبِ

فأُخذ عليه مآخذ فيما يرجع إلى ذكر الصحابة والتابعين ، وتصدّى له جماعة وعملوا قصائد في الردّ عليه ، وبالغوا في التشنيع عليه ، حتى إنَّ قوماً استفتوا عليه الفقهاء ونسبوه إلى أنَّه طعن في الصحابة والتابعين ونسبهم إلى قلّة الدين ، فأفت اهم الفقهاء بموجب ما صدرت به الفتيا.

__________________

(١) بعد هذا البيت أربعة عشر بيتاً ضربنا عنها صفحاً. (المؤلف)

٢٦

وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (١) (٢ / ٤٥) : سألت بعض من أثق به من عقلاء شيوخ أهل الكوفة عمّا ذكره الخطيب أبو بكر في تاريخه (١ / ١٣٨) أنَّ قوماً يقولون : إنَّ هذا القبر الذي تزوره الشيعة إلى جانب الغريّ هو قبر المغيرة بن شعبة ، فقال : غلطوا في ذلك ، قبر المغيرة وقبر زياد بالثويّة من أرض الكوفة ، ونحن نعرفهما وننقل ذلك عن آبائنا وأجدادنا ، وأنشدني قول الشاعر يرثي زياداً ، وقد ذكره أبو تمام في الحماسة :

صلّى الإلهُ على قبرٍ وطهّرهُ

عند الثويّةِ يسفي فوقَه المورُ (٢)

زفّت إليه قريش نعشَ سيّدِها

فالحلمُ والجودُ فيه اليوم مقبورُ

أبا المغيرةِ والدنيا مفجِّعةٌ

وإنَّ من غرَّتِ الدنيا لمغرورُ

وسألت قطب الدين نقيب الطالبيّين أبا عبد الله الحسين ابن الأقساسي رضى الله عنه عن ذلك فقال : صدق من أخبرك ، نحن وأهلها كافّة نعرف مقابر ثقيف إلى الثويّة ، وهي إلى اليوم معروفة ، وقبر المغيرة فيها ؛ إلاّ أنَّها لا تُعرف قد ابتلعها السبخ وزبد الأرض وفورانها فطمست واختلط بعضها ببعض ، ثمّ قال : إن شئت أن تتحقّق أنَّ قبر المغيرة في مقابر ثقيف فانظر إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج عليّ بن الحسين (٣) ، والمح ما قاله في ترجمة المغيرة وأنّه مدفون في مقابر ثقيف ، ويكفيك قول أبي الفرج فإنّه الناقد البصير والطبيب الخبير. فتصفّحت ترجمة المغيرة في الكتاب المذكور فوجدت الأمر كما قاله النقيب.

توجد ترجمة قطب الدين الأقساسي في تاريخ ابن كثير (٤) (١٣ / ١٧٣) ، قد

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٦ / ١٢٣ خطبة ٦٩.

(٢) المور : التراب تثيره الريح. (المؤلف)

(٣) الأغاني : ١٦ / ١٠٢.

(٤) البداية والنهاية : ١٣ / ٢٠٢ حوادث سنة ٦٤٥ ه‍.

٢٧

أثنى عليه وقال : أورد له ابن الساعي أشعاراً كثيرة رضى الله عنه.

أفرد العلاّمة سيّدنا المرعشي في مجالس المؤمنين (١) (ص ٢١٢) ترجمة باسم عزِّ الدين ابن الأقساسي وقال : إنَّه من أشراف الكوفة ونقبائها ، كان فاضلاً أديباً ، له في قرض الشعر يدٌ غير قصيرة ، روي أنَّ الخليفة المستنصر العبّاسي خرج يوماً إلى زيارة قبر سلمان الفارسي ـ سلام الله عليه ـ ومعه السيّد المذكور ابن الأقساسي ، فقال له الخليفة في الطريق : إنَّ من الأكاذيب ما يرويه غلاة الشيعة من مجيء عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام من المدينة إلى المدائن لمّا توفّي سلمان ، وتغسيله إيّاه ومراجعته في ليلته إلى المدينة ، فأجابه ابن الأقساسي بالبديهة بقوله :

أنكرتَ ليلةَ إذ صارَ الوصيُّ إلى

أرضِ المدائن لمّا أن لها طلبا

وغسّل الطهرَ سلماناً وعاد إلى

عراصِ يثربَ والإصباحُ ما وجبا

وقلتَ ذلك من قولِ الغلاةِ وما

ذنبُ الغلاة إذا لم يوردوا كذبا

فآصفُ قبل ردِّ الطرفِ من سباً

بعرشِ بلقيسَ وافى يخرقُ الحجبا

فأنت في آصفٍ لم تغلُ فيه بلى

في حيدرٍ أنا غالٍ إنَّ ذا عجبا

إن كان أحمدُ خيرَ المرسلين فذا

خيرُ الوصيّين أو كلُّ الحديثِ هبا

هذه الأبيات ذكرها العلاّمة السماوي في الطليعة ، ونسبها إلى شاعرنا في الغدير السيّد محمد الأقساسي ؛ وحسب أنَّه هو صاحب المستنصر ، ذاهلاً عن تاريخي ولادة المستنصر ووفاة السيّد صاحب الغديريّة ، فإنّ السيّد توفّي كما مرَّ سنة (٥٧٥) ، والخليفة المستنصر ولد سنة (٥٨٩) بعد وفاة السيّد بأربع عشرة سنة ، واستخلف فيه سنة (٦٢٤).

وجعل العلاّمة السيّد الأمين في أعيان الشيعة في الجزء الحادي

__________________

(١) مجالس المؤمنين : ١ / ٥٠٧.

٢٨

والعشرين (١) (ص ٢٣٣) ترجمة تحت عنوان أبي محمد عزّ الدين الحسن بن حمزة الأقساسي ، وذكر القصّة والأبيات له ولم يعلم هو من أين نقله ، والحسن بن حمزة يكون عمّ شاعرنا فيتقدّم على المستنصر بأكثر من صاحب الغديريّة.

وذكر ابن شهرآشوب في المناقب (٢) (١ / ٤٤٩) هذه الأبيات بتغيير يسير وزيادة ، ونسبها إلى أبي الفضل التميمي (٣) ، وإليك لفظها :

سمعت منّي يسيراً من عجائبِهِ

وكلُّ أمرِ عليٍّ لم يزلْ عجبا

أدريت في ليلة سار الوصيُّ إلى

أرض المدائن لمّا أن لها طلبا

فألحدَ الطهرَ سلماناً وعاد إلى

عراصِ يثربَ والإصباح ما قربا

كآصفٍ قبلَ ردِّ الطرفِ من سباً

بعرشِ بلقيس وافى يخرق الحجبا

فكيف في آصفَ لم تغلُ أنت بلى

بحيدرٍ أنا غالٍ أوردُ الكذبا

إن كان أحمدُ خيرَ المرسلين فذا

خيرُ الوصيّين أو كلُّ الحديث هبا

وقلتَ ما قلتُ من قولِ الغلاةِ فما

ذنبُ الغلاة إذا قالوا الذي وجبا

فرواية ابن شهرآشوب هذه الأبيات تثبت عدم كونها من نظم السيّد قطب الدين الأقساسي أيضاً ، إذ ابن شهرآشوب توفّي سنة (٥٨٨) قبل ولادة المستنصر بسنة ، وقبل وفاة السيّد القطب بسبع وخمسين سنة ، ولعلّها لأبي الفضل التميمي أو لغيره من أسلاف آل الأقساسي الأوّلين ، وأنشدها قطب الدين للمستنصر.

لفت نظر :

يبلغني من وراء حجب البغضاء والإحن تكذيب هذه المكرمة الباهرة لمولانا

__________________

(١) أعيان الشيعة : ٥ / ٥٩.

(٢) مناقب آل أبي طالب : ٢ / ٣٣٨.

(٣) أحد شعراء أهل البيت. (المؤلف)

٢٩

أمير المؤمنين عليه‌السلام وعزوُها إلى الغلوّ ، مستنداً إلى إحالة طيّ هذه المسافة البعيدة في هذا الوقت اليسير ، ولو عقل المسكين أنَّ هاتيك الإحالة على فرضها عاديّة لا عقليّة ، وإلاّ لما صحَّ حديث المعراج ـ ولم يكن إلاّ جسمانيّا ـ المتواتر المعدود من ضروريّات الدين ، ولا صحّت قصّة آصف بن برخيا المحكيّة في القرآن الكريم ، ولما تمكّن عفريتٌ من الجنّ من أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يقوم سليمان من مقامه ، ولم يردّه سليمان ولا الذكر الحكيم ، غير أنَّ سليمان أراد ذلك بأسرع منه ، وشمول القدرة الإلهيّة على التسيير الحثيث والبطيء شرع سواء ، كما أنَّها بالنسبة إلى كليّة الأمور الصعبة والسهلة كذلك ، فقد يكرِّم الله الوليّ المقرَّب بإقداره على أشياء لم يقدر عليه من هو دونه ، وقد خلق الله الناس أطواراً ، فتراهم متفاوتين في القدرة ، فيقوى هذا على ما لا يقوى عليه ذاك ، وليس لقدرة الله سبحانه حدّ محدود.

ومن هنا وهناك اختلفت عاديّات الموجودات في شئونها وأطوارها ، فالمسافة التي يطويها الفارس في أمد محدود غير ما يطويه الراجل ، وللسيّارات البخاريّة عدوٌ مُربٍ على الجميع ؛ وإنَّك تستصغر ذلك العدو إذا قسته بالطائرات الجويّة لأنَّك تجدها تطوي في خمس ساعات مثلاً ما تطويه الناس في خمسة أشهر.

وهذه طيّارة مستكشفة (بريجيه ١٩) ، تحرّكت من باريس في صباح (٢٤) أبريل سنة (١٩٢٤) فوصل في المساء إلى بخارست بعد أن قطع (١٢٥٠) ميلاً في (١١) ساعة ، وفي اليوم التالي أضاف إليها (٧٧٠) ميلاً أخرى ، ولم تمض عليه خمسة أيّام حتى كان قد وصل إلى الهند ، وقطع مسافة قدرها (٣٧٣٠) ميلاً ؛ وقد وصلت سرعة الطيّارات إلى ما فوق (١٥٠) ميلاً في الساعة الواحدة ؛ وتحارب البعض منها في ارتفاع بلغ (٢٢٠٠٠) قدم (١).

__________________

(١) بسائط الطيران : ص ٨٢ ، ١١٨. (المؤلف)

٣٠

ومن الممكن أن يكشف لنا العلم في مستقبله ما هو أسرع سيراً من هاتيك كلّها (١).

إذن فأيّ وازع من أن يكون من عاديّات الوليّ مهما أراد التمكّن من أمثال هذا السير؟ وما ذلك على الله بعزيز ، على أنّا لا نساوي مولانا أمير المؤمنين ومن جرى مجراه من أئمّة الهدى عليهم‌السلام بغيرهم من أفراد الرعيّة ، ولا بأحدٍ من أولياء الله المقرّبين ولا بأحد من حملة العلم والمكتشفين ، فنجوِّز فيهم صدور المعجز متى اقتضته المصلحة ، بل هو من واجب مقامهم.

وإن تعجب فعجبٌ أنَّ فئةً ممّن ران على قلوبهم ما كانوا يعملون تحاول دحض هذه المكرمة في مولانا أمير المؤمنين ، وهم يخضعون لمثلها في غيره ممّن هو دونه من دون أيّ غمز ونكير.

١ ـ روى الحافظ ابن عساكر في تاريخه (٢) (٤ / ٣٣) عن السرّي بن يحيى قال : كان حبيب بن محمد العجمي البصري يُرى يوم التروية بالبصرة ويوم عرفة بعرفات.

٢ ـ قال الحافظ ابن كثير في تاريخه (٣) (١٣ / ٩٤) : ذكروا أنَّ الشيخ عبد الله اليونيني المتوفّى (٦١٧) كان يحجُّ في بعض السنين في الهواء ، وقد وقع هذا لطائفة كبيرة من الزهّاد وصالحي العباد ، ولم يبلغنا هذا عن أحد من أكابر العلماء ، وأوّل من يذكر عنه هذا : حبيب العجمي ، وكان من أصحاب الحسن البصري ثمّ من بعده من الصالحين.

__________________

(١) وهذا ما حصل بالفعل ، فطائرة الكونكورد لنقل المسافرين التي تم اختراعها مؤخراً تضاهي سرعتها سرعة الصوت. فضلاً عن الطائرات الحربية التي تبلغ سرعة قسم منها أضعاف سرعة الصوت.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ١٢ / ٥٦ رقم ١١٩٣ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ١٨٨.

(٣) البداية والنهاية : ١٣ / ١١٠ حوادث سنة ٦١٧ ه‍.

٣١

٣ ـ كان أحمد بن محمد أبو بكر الغسّاني الصيداوي : المتوفّى (٣٧١) ينام بعد ما صلّى العصر إلى ما قبل صلاة المغرب ، فجاءه رجلٌ ذات يوم يزوره بعد العصر فغفل ، فتحدّث معه وترك عادة النوم ، فلمّا انصرف سأله الخادم عنه فقال : هذا عريف الأبدال يزورني في السنة مرّة. قال : فلم أزل أرصده إلى مثل ذلك الوقت حتى جاء الرجل فوقفت حتى فرغ من حديثه ثمّ سأله الشيخ : أين تريد؟ فقال : أزور أبا محمد الضرير في مغار ، قال الخادم : فسألته أن يأخذني معه فقال : باسم الله ، فمضيت معه ، فخرجنا حتى صرنا عند قناطر الماء فأذّن المؤذِّن المغرب ، قال : ثم أخذ بيدي وقال : قل : باسم الله ، قال : فمشينا دون العشر خطىً فإذا نحن عند المغارة ـ وهي مسير إلى ما بعد الظهر ـ قال : فسلّمنا على الشيخ وصلّينا عنده وتحدّثنا عنده ، فلمّا ذهب ثلث الليل قال لي : تحبُّ أن تجلس هاهنا أو ترجع إلى بيتك؟ فقلتُ : أرجع. فأخذ بيدي وسمّى بباسم الله ومشينا نحو العشر خطىً ، فإذا نحن على باب صيدا ، فتكلّم بشيء فانفتح الباب ودخلت ، ثمّ عاد الباب. تاريخ ابن عساكر (١) (١ / ٤٤٣).

٤ ـ كان ببغداد رجلٌ من التجّار قال : إنّي صلّيت يوماً الجمعة ، وخرجت فرأيت بشراً الحافي يخرج من المسجد مسرعاً ، فقلت في نفسي : أنظر إلى هذا الرجل الموصوف بالزهد لا يستقرُّ في المسجد ، ثمّ إنَّني اتّبعته فرأيته تقدّم إلى الخباز واشترى بدرهم خبزاً فقلت : أنظر إلى الرجل يشتري خبزاً ، ثمّ اشترى شواءً بدرهم فازددت عليه غيظاً ، ثمّ تقدّم إلى الحلوائي فاشترى فالوذجاً ، فقلت : والله لا أتركه حتى يجلس ويأكل ، ثمّ إنَّه خرج إلى الصحراء ، فقلت : إنّه يريد الخضرة ، فما زال يمشي إلى العصر وأنا أمشي خلفه ، فدخل قرية ، وفي القرية مسجدُ وفيه رجلٌ مريض ، فجلس عند رأسه وجعل يلقمه ، فقمت لأنظر في القرية وبقيت ساعة ثمّ رجعت ، فقلت للعليل : أين بشر؟ فقال : ذهب إلى بغداد ، فقلت : كم بينى وبين

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٥ / ١٨٦ رقم ٩٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٣ / ٢٢٢.

٣٢

بغداد؟ قال : أربعون فرسخاً ، فقلت. إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، أيش عملت في نفسي؟ وليس معي ما أكتري ولا أقدر على المشي ، فقال لي : اجلس حتى يرجع ، فجلست إلى الجمعة القابلة ، فجاء بشر في ذلك الوقت ومعه شيء ، فأعطاه إلى المريض فأكله ، فقال له العليل : يا أبا نصر هذا الرجل صحبك من بغداد وبقي عندي منذ الجمعة فردّه إلى موضعه ، فنظر إليَّ كالمغضب وقال : لِمَ صحبتني؟ فقلت : أخطأت ، فقال : قم فامش ، فمشيت معه إلى قرب المغرب ، فلمّا قربنا قال : أين محلّتك من بغداد؟ فقلت : في موضع كذا ، قال : اذهب ولا تعد. تاريخ ابن عساكر (١) (٣ / ٢٣٦).

٥ ـ قال الشيخ الجليل أبو الحسن عليّ : كنت يوماً جالساً عند باب خلوة خالي الشيخ أحمد الرفاعي المتوفّى (٥٨٧) رضى الله عنه وليس فيها غيره ، وسمعت عنده حسّا ، فنظرت ، فإذا عنده رجلٌ ما رأيته قبل ، فتحدّثا طويلاً ثمّ خرج الرجل من كوّة في حائط الخلوة ، ومرَّ في الهواء كالبرق الخاطف ، فدخلت على خالي وقلت له : من الرجل؟ فقال : أوَرأيته؟ قلت : نعم ، قال : هو الرجل الذي يحفظ الله به قطر البحر المحيط ، وهو أحد الأربعة الخواصّ ، إلاّ أنّه هجر منذ ثلاث وهو لا يعلم.

فقلت له : يا سيّدي ما سبب هجره؟ قال : إنّه مقيمٌ بجزيرة في البحر المحيط ، ومنذ ثلاث ليال أمطرت جزيرته حتى سالت أوديتها ؛ فخطر في نفسه : لو كان هذا المطر في العمران. ثمّ استغفر الله تعالى ، فهجر بسبب اعتراضه ، فقلت له : أعلمته؟ قال : لا ، إنّي استحييت منه ، فقلت له : لو أذنتَ لي لأعلمته ، فقال : أوَتفعل ذلك؟ قلت : نعم ، فقال : رنّق ، فرنّقت (٢) ، ثمّ سمعت صوتاً : يا عليّ ارفع رأسك ، فرفعت رأسي من رنقي فإذا أنا بجزيرة في البحر المحيط ، فتحيّرت في أمري وقمت أمشي فيها ، فإذا ذلك الرجل ، فسلّمت عليه وأخبرته ، فقال :

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ١٠ / ٢٠٥ رقم ٨٨١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٥ / ١٩٩.

(٢) يقال : رنّق النوم في عينه إذا خالطها.

٣٣

ناشدتك الله إلاّ فعلتَ ما أقول لك ، قلت : نعم. قال : ضع خرقتي في عنقي واسحبني على وجهي ونادِ عليَّ : هذا جزاء من تعرّض على الله سبحانه.

قال : فوضعت الخرقة في عنقه وهممت بسحبه ، وإذا هاتف يقول : يا عليّ دعه ، فقد ضجّت عليه ملائكة السماء باكية عليه وسائلةً فيه ، وقد رضي الله عنه. قال : فأُغمي عليَّ ساعة ثمّ سرّي عنّي ، وإذا أنا بين يدي خالي في خلوته ، والله ما أدري كيف ذهبت ولا كيف جئت. مرآة الجنان (٣ / ٤١١).

٦ ـ حكى الشيخ الصالح غانم بن يعلى التكريتي ، قال : سافرت مرّة من اليمن في البحر المالح ، فلمّا توسّطنا بحر الهند وغلب علينا الريح ، أخذتنا الأمواج من كلّ جانب ، وانكسرت بنا السفينة فنجوت على لوح منها ، فألقاني إلى جزيرة فطُفت فيها فلم أر فيها أحداً ، وإذا هي كثيرة الخيرات ، رأيت فيها مسجداً فدخلته ، فإذا فيه أربعة نفر فسلّمت عليهم ، فردّوا عليَّ السلام ، وسألوني عن قصّتي فأخبرتهم ، وجلست عندهم بقيّة يومي ذلك ، فرأيت من توجّههم وحسن إقبالهم على الله تعالى أمراً عظيما ، فلمّا كان وقت العشاء دخل الشيخ حيوة الحرّاني ، فقاموا يبادرون إلى السلام عليه ، فتقدّم وصلّى بهم العشاء ، ثم استرسلوا في الصلاة إلى طلوع الفجر ، فسمعت الشيخ حيوة يناجي ويقول : إلهي لا أجد لي في سواك مطمعاً ... إلى آخر الدعاء.

ثمّ قال : بكى بكاءً شديداً ، ورأيت الأنوار قد حفّت بهم ، وأضاء ذلك المكان كإضاءة القمر ليلة البدر ، ثمّ خرج الشيخ حيوة من المسجد وهو يقول :

سيرُ المحبِّ إلى المحبوبِ إعجالُ

والقلبُ فيه من الأحوالِ بلبالُ

أطوي المحانة من قفر على قدمٍ

إليك يدفعني سهلٌ وأجبالُ

فقال لي أولئك النفر : اتبع الشيخ ، فتبعته ، وكانت الأرض برّها وبحرها

٣٤

وسهلها وجبلها يطوى تحت أقدامنا طيّا ، كنت أسمعه كلّما خطا خطوة يقول : يا ربّ حيوة كن لحيوة ؛ وإذا نحن بحرّان في أسرع وقت ، فوافينا الناس يصلّون بها صلاة الصبح. مرآة الجنان (٣ / ٤٢١).

٧ ـ ذكر محمد بن عليّ الحبّاك ـ خادم الشيخ جلال الدين السيوطي المتوفّى (٩١١) ـ : أنَّ الشيخ قال له يوماً وقت القيلولة ـ وهو عند زاوية الشيخ عبد الله الجيوشي ـ بمصر بالقرافة : أتريد أن تصلّي العصر بمكّة بشرط أن تكتم ذلك عليَّ حتى أموت؟ قال : فقلت : نعم. قال : فأخذ بيدي وقال : غمِّض عينيك فغمضتها ، فرحل بي نحو سبع وعشرين خطوة ، ثمّ قال لي : افتح عينيك. فإذا نحن بباب المعلاّة ، فزرنا أُمّنا خديجة ، والفضل بن عياض ، وسفيان بن عيينة ، وغيرهم ودخلت الحرم فطفنا ، وشربنا من ماء زمزم ، وجلسنا خلف المقام حتى صلّينا العصر ، وطفنا وشربنا من ماء زمزم ، ثمّ قال لي : يا فلان ليس العجب من طيّ الأرض لنا ، وإنّما العجب من كون أحد من أهل مصر المجاورين لم يعرفنا.

ثمّ قال لي : إن شئت تمضي معي وإن شئت تقيم حتى يأتي الحاجّ. قال : فقلت : أذهب مع سيّدي ؛ فمشينا إلى باب المعلاّة ، وقال لي : غمِّض عينيك فغمضتها ، فهرول بي سبع خطوات ثمّ قال لي : افتح عينيك فإذا نحن بالقرب من الجيوشي ، فنزلنا إلى سيّدي عمر بن الفارض. شذرات الذهب (١) (٨ / ٥٠).

٨ ـ ذكر السخاوي في طبقاته : إنَّ الشيخ معالي سأل الشيخ سلطان بن محمود البعلبكي ، المتوفّى (٦٤١) فقال : يا سيّدي كم مرّة رحت إلى مكّة في ليلة؟ قال : ثلاث عشرة مرّة ، قلت : قال الشيخ عبد الله اليونيني : لو أراد أن لا يصلّي فريضة إلاّ في مكّة لفعل. شذرات الذهب (٢) (٥ / ٢١١).

__________________

(١) شذرات الذهب : ١٠ / ٧٧ حوادث سنة ٩١١ ه‍.

(٢) شذرات الذهب : ٧ / ٣٦٥ حوادث سنة ٦٤١ ه‍.

٣٥

٩ ـ ذكر الحافظ ابن الجوزي في صفة الصفوة (١) (٤ / ٢٢٨) عن سهل بن عبد الله ، قال : لقد رأيت رجلاً يقال له مالك بن القاسم جبليّ ، وقد جاء ويده غمرة (٢) ، فقلت له : إنّك قريب عهد بالأكل؟ فقال لي : أستغفر الله فإنَّني منذ أسبوع لم آكل ، ولكن : أطعمت والدتي وأسرعت لألحق صلاة الفجر ، وبينه وبين الموضع الذي جاء منه سبعمائة فرسخ فهل أنت مؤمن بذلك؟ فقلت : نعم. فقال : الحمد لله الذي أراني مؤمناً موقناً.

١٠ ـ روى ابن الجوزي في صفة الصفوة (٣) (٤ / ٢٩٣) عن موسى بن هارون ، قال : رأيت الحسن بن الخليل بن مرّة بعرفات وكلّمته ، ثمّ رأيته يطوف بالبيت فقلت : ادع الله لي أن يقبل حجّي. فبكى ودعا لي.

ثمّ أتيت مصر فقلت : إنَّ الحسن كان معنا بمكّة ، فقالوا : ما حجَّ العام ، وقد كان يبلغني أنّه يمرّ إلى مكّة في كلّ ليلة فما كنت أُصدِّق حتى رأيته ، فعاتبني وقال : شهرتني ما كنت أُحبّ أن تحدّث بها عنّي ، فلا تعد بحقّي عليك.

قال الأميني : في وسع الباحث أن يؤلِّف من أمثال هذه القصص المبثوثة في طيّ الكتب والمعاجم تأليفاً حافلاً ، ونحن اقتصرنا بالمذكور روماً للاختصار ، ويستفاد منها أنَّ الوليّ الذي مُنَّ عليه بطيّ الأرض له أن يأخذ معه من شاء وأراد من أخلاّئه وخدمه ، فتطوى لصاحبه الأرض أيضاً كرامةً لذلك الوليّ الصالح فضلاً عن نفسه ، وهذه كلّها لا يناقش فيها مهما لم يكن الوليُّ الموصوف من العترة الطاهرة ، وإلاّ فهناك كلُّ الجدال والمناقشة ، وكلُّ الهوس والهياج.

__________________

(١) صفة الصفوة : ٤ / ٢٥٤ رقم ٧٨٨.

(٢) أي عليها أثر الطعام.

(٣) صفة الصفوة : ٤ / ٣٢٢ رقم ٨٤٠.

٣٦

ما عشت أراك الدهر عجباً

لم يكن هذا النكير بِدعاً ممّا جاء به القوم في كثير من فضائل مولانا أمير المؤمنين وآله العترة الطاهرة عليهم‌السلام ، فإنّ هناك شنشنة مطّردة في واحدٍ واحدٍ منها بالتهكّم تارةً ، وبالتفنيد أُخرى ، وبالوقيعة في السند طوراً ، وبالاستبعاد المجرّد آونة ، وبالمناقشة في الدلالة مرّة ، ففي كلّ يوم يطرق سمعك هتاف معتوه ، أو عقيرة متعصّب ، أو ضوضاء من حانق ، أو لغطٌ من مُعربد ، وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صُنعاً ، مع أنَّ القوم يثبتون أمثال هاتيك الفضائل لغير رجالات أهل البيت عليهم‌السلام ، من غير أن يضطرب لهم بال ، أو تغلي عليها مراجل الأحقاد ، أو تمدَّ إليها يد الجرح والتعديل ، أو تتبعها كلمة الغمز بالرمي بالغلوّ أو الافتعال ، وإليك نُبَذاً منها :

ـ ١ ـ

حديث ردّ الشمس

مرّت في الجزء الثالث (ص ١٢٦ ـ ١٤١) طُرَف من أسانيد حديث ردّ الشمس لمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام بدعاء النبيّ الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشواهد صحّته وكلمات العلماء في ذلك وهي أربعون كلمة ، فإنَّك تجد هناك طنيناً وهمهمة في صحّة الحديث ، وعدم وقوع الواقعة ، وعدم إمكانها ، ولكن السبكي ، واليافعي ، وابن حجر ، وصاحب

٣٧

شذرات الذهب وغيرهم ذكروا مثل هذه المأثرة لإسماعيل بن محمد الحضرمي ، المتوفّى (٦٧٦) من دون أيّ غمز ونكير.

قال السبكي في طبقات الشافعيّين (١) (٥ / ٥١) : ممّا حكي من كرامات الحضرمي واستفاض ، أنّه قال يوماً لخادمه وهو في سفر : قل للشمس تقف حتى نصل إلى المنزل. وكان في مكان بعيد وقد قرب غروبها ، فقال لها الخادم : قال لكِ الفقيه إسماعيل : قفي. فوقفت حتى بلغ مكانه ، ثمّ قال للخادم : أما تطلق ذلك المحبوس؟ فأمرها الخادم بالغروب فغربت ، وأظلم الليل في الحال.

وقال اليافعي في مرآة الجنان (٤ / ١٧٨) : من كرامات إسماعيل الحضرمي وقوف الشمس له ، حتى بلغ مقصده لمّا أشار إليها بالوقوف في آخر النهار ، وهذه الكرامة ممّا شاع في بلاد اليمن وكثر فيها الانتشار. ومنها : إنَّه نادته سدرةٌ والتمست منه أن يأكل هو وأصحابه من ثمرها ، وإليه أشرت بقولي :

هو الحضرمي نجل الوليِّ محمدِ

إمام الهدى نجل الإمام الممجَّدِ

ومن جاهه أومى إلى الشمس أن قفي

فلم تمشِ حتى أنزلوه بمقصدِ

ومن بعض قصائد اليافعي أيضاً قوله في الحضرمي :

هو الحضرمي المشهور من وقفت له

بقول قفي شمسٌ لأبلغ منزلي

وقال ابن العماد في شذرات الذهب (٢) (٥ / ٣٦٢) : له ـ للشيخ إسماعيل الحضرمي ـ كرامات ، قال المطري : كادت تبلغ التواتر ـ إلى أن قال ـ ومنها : أنّه قصد بلدة زبيد فكادت الشمس تغرب وهو بعيدٌ عنها فخاف أن تغلق أبوابها ، فأشار إلى

__________________

(١) طبقات الشافعية الكبرى : ٨ / ١٣٠ رقم ١١١٧.

(٢) شذرات الذهب : ٧ / ٦٣٠ حوادث سنة ٦٧٨ ه‍.

٣٨

الشمس فوقفت حتى دخل المدينة ، وإليه أشار الإمام اليافعي بقوله :

هو الحضرمي نجل الوَليّ محمد

إلى آخر البيتين المذكورين.

وقال ابن حجر في الفتاوى الحديثيّة (١) (ص ٢٣٢) : ومن كراماته ـ يعني الحضرمي ـ : أنَّه كان داخلاً لزبيد وقد دنت الشمس للغروب فقال لها : لا تغربي حتى ندخلها. فوقفت ساعةً طويلةً ، فلمّا دخلها أشار إليها فإذا الدنيا مظلمة ، والنجوم ظاهرةُ ظهوراً تامّا.

قال العلاّمة السماوي في العجب اللزومي :

وا عجباً من فرقةٍ قد غلتْ

من دَغَلٍ في جوفِها مضرمِ

تنكرُ ردَّ الشمس للمرتضى

بأمرِ طه العيلم الخضرمِ

وتدّعي أنْ ردَّها خادمٌ

لأمرِ إسماعيلٍ الحضرمي

وللباحث أن يستنتج من هذه القضيّة ـ إن أخبت بها ـ أنّ إسماعيل الحضرمي أعظم عند الله تعالى من النبيّ الأعظم ووصيّه أمير المؤمنين ؛ لأنَّ ردّ الشمس لعليٍّ كان بدعائه تارةً وبدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طوراً ، وأمّا إسماعيل فقد أمر خادمه أن يأمرها بالوقوف ثمّ أمره بأن يفكَّ قيد إسارها بأمرها بالانصراف ، أو أشار هو إليها بالوقوف فوقفت ، هذه هي العظمة والزلفة إن صحّت الأحلام ، لكن العقلاء يدرون ورواة القصّة أيضاً يعلمون بأنّها متى صيغت ، ومهما لُفِّقت ، ولما ذا نُسجت.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) (٢)

__________________

(١) الفتاوى الحديثيّة : ص ٣١٦.

(٢) التوبة : ٣٢.

٣٩

ـ ٢ ـ

صلاة ألف ركعة

قد تضافر النقل بأنّ كُلاّ من مولانا أمير المؤمنين ، والإمام السبط الشهيد الحسين ، وولده الطاهر عليٍّ زين العابدين كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة (١) ، ولم تزل العقائد متطامنةً على ذلك ، والعلماء متسالمين عليه ، حتى جاء ابن تيميّة بهوسه وهياجه ، فحسب تارةً كراهة هذا العمل البارّ ، وأنَّه ليس بفضيلة ، وأنَّ القول بأنّها فضيلة يدلّ على جهل قائله ؛ لأنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يزيد في الليل على ثلاث عشرة ركعة ، وفي النهار على عدّة ركعات معيّنة ، وأنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يقوم تمام الليل ، كما كان لا يصوم كلّ يوم ، فقال : فالمداومة على قيام جميع الليل ليس بمستحبّ بل مكروهٌ ، وليس من سنّة النبيّ الثابتة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهكذا مداومة صيام النهار.

وزعم تارةً أنَّه خارج عن نطاق الإمكان ، فقال : وعليٌّ رضى الله عنه أعلم بسنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأتبع لهديه ، وأبعد من أن يخالف هذه المخالفة ، لو كان ذلك ممكناً فكيف وصلاة ألف ركعة في اليوم والليلة مع القيام بسائر الواجبات غير ممكن ، فإنّه لا بدَّ من أكل ونوم ... إلخ.

__________________

(١) العقد الفريد : ٢ / ٣٠٩ و ٣ / ٣٩ [٢ / ٢٥٨ و ٤ / ١٧١] ، تاريخ ابن خلّكان : ١ / ٣٥٠ [٣ / ٢٧٤ رقم ٤٢٥] ، صفة الصفوة لابن الجوزي : ٢ / ٥٦ [٢ / ١٠٠ رقم ١٦٥] ، طبقات الذهبي : ١ / ٧١ [١ / ٧٥ رقم ٧١] نقلاً عن الإمام مالك ، تهذيب التهذيب لابن حجر : ٧ / ٣٠٦ [٧ / ٢٦٩] نقلاً عن مالك ، طبقات الشعراني : ١ / ٣٧ [١ / ٣٢ رقم ٣٧] ، روض الرياحين لليافعي : ص ٥٥ [ص ١١٦ رقم ٧١] ، مشارق الأنوار للحمزاوي : ص ٩٤ [١ / ٢٠١] ، إسعاف الراغبين لابن الصبّان في هامش المشارق : ص ١٩٦ [ص ٢١٨] ، وغيرها. (المؤلف)

٤٠