الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

إذا فمثلك في دعاء الذين كفروا ، ام ومثل الذين كفروا في دعاءك إياهم (كَمَثَلِ الَّذِي ...) (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ١٧٢.

فلما لم يؤثر (يا أَيُّهَا النَّاسُ ...) أثره إلّا في الذين آمنوا ، فليكرر لهم الخطاب تشريفا بلقب الإيمان ، (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) وهنا تركه «حلالا» يؤيّد حلّ «حلالا» في آية الناس عن تقيّد (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) إلى ضابطة الحل ، مهما زاد قيدا بعد «طيبات» هو (ما رَزَقْناكُمْ) وليس رزق غيرك رزقك كما ليس رزقك رزق غيرك ، فقد تقيّدت أصالة الحل بما رزقك الله ، وليس رزقك إلّا ما حصلت عليه من حلّه ، ام هو رزق جماعي لا مالك له شخصيا كالأملاك المشتركة قبل خروجها عن الاشتراك ، مثل الغابات والبحار والأنهار حسب الضوابط المقررة في الشرع.

وترى ان الله يرزقنا مع الطيبات غيرها ثم ينهاها عن غيرها ، فلما ذا ـ إذا ـ يرزقنا؟ إنه قد يرزقنا من غير الطيبات أكلا ولكنها من الطيبات لغير الأكل كالأصباغ أما شابه! ثم ومن الطيبات ما يصنع منها غير الطيبات وهي رزق غير حسن بما أساء الإنسان : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) (١٦ : ٦٧) فثمرات النخيل والأعناب هي كأصلها رزق حسن ،

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٥٢ عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الآية : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) في دعائك إياهم ، أي مثل الداعي لهم إلى الايمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم وانما تسمع الصوت ، فكما أن الانعام لا يحصل لهم من دعاء الداعي إلّا السماع دون تفهم المعنى فكذلك الكفار لا يحصل لهم من دعائك إياهم إلى الايمان إلّا السماع دون تفهم المعنى. لأنهم يعرضون عن قبول قولك وينصرفون عن تأمله فيكونون بمنزلة من لم يعقله ولم يفهمه ...

٢٨١

وقد يتخذ منها سكر وهو غير حسن.

وقد تعني (طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) فيما عنت ، أن ما رزقناكم للأكل هي كلها طيبات ، إضافة الصفة الى الموصوف : كلوا من الطيبات التي رزقناكم ، ولكنه كمعنى خاص يخرج الرزق عن عمومه ، الشامل لغير الطيبات التي نصنعها من الطيبات.

(كُلُوا ... وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فمن يحرم نفسه أكل الطيبات المرزوقة فقد عبد هواه دون الله ، ومن لم يشكر الله على الطيبات ، فقد عبد هواه دون الله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٧ : ٣٢).

أجل ـ وإن تحريم ما احلّه الله عمليا او عقيديا او جميعا ، هو من الإشراك بالله وكفر به ، كما وترك شكر الله فيما أنعم من الطيبات هو كفران ، أم كفر وإشراك بالله.

يقول الله في حديث قدسي يرويه عنه الرسول القدسي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري» (١).

و «إن الله طيّب لا يقبل إلّا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : يا أيها الرسول كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم» وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ...) (٢).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٥ : ١٠ عن انس عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ...

(٢) الدر المنثور ١ : ١٦٨ ـ أخرج احمد ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ... ثم ذكر الرجل يطيل السفر اشعث أغبر يمد ـ

٢٨٢

وقد تكفي (طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) معونة تقييدات وتحديدات ، حيث المؤمن لا يستطيب بطبيعة الإيمان مال غيره ، او محاصيل الظلم ، او الإسراف والتبذير ، وهناك بجنبه وفي مرآه ومنظره بطون غرثى لا عهد لها بالشبع ولا طمع لها في القرص.

ف «طيبات» هنا هي ما تستطيبها الأنفس المؤمنة نفسيا بجنب ما تستطيبها جسديا ، كما انها هناك ما تستطيبها الأنفس الإنسانية ، وهنا «طيبات» في ميزان الإقتصاد الإسلامي ، والأخلاق والعواطف الإسلامية السامية ، فهذه أضيق دائرة من «طيبات» في خطاب الناس ، قضية أن الإيمان قيد الفتك ، فالمؤمن يفتش عن طيب أكله وحلّه وأن يكون بمرضات ربه ، فيحتاط عن المخلوط او المشتبه بالحرام.

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ١٧٣.

حصر نسبي في نطاق الأنعام التي حرّم المشركون أقساما منها افتراء على الله كما قال الله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٥ : ١٠٣).

وقد تحمل ذلك الحصر ثلاث أخرى ، فاثنتان من الأربع مدنيتان ، هذه وآية المائدة (٣) وأخريان مكيتان هما آية الأنعام (١٤٥) والنحل (١١٥) وتجد القول الفصل فيها في آية النحل والمائدة.

ومجمل القول فيها لا سيما آية الأنعام ـ وهي نص في الحصر ـ انها تنفي

__________________

ـ يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنىّ يستجاب لذلك!.

٢٨٣

الحرمة في نطاق الأنعام إلّا ما يتلى عليكم ، اللهم إلّا لحم الخنزير خارجا عن الأنعام لتعوّد أكله بين المشركين.

ثم (فَمَنِ اضْطُرَّ) ضابطة لحل المحرمات ، شرط أنه (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) والباغي هو الطالب لا عن اعتدال ، فهو الظالم في هذه الورطة ، ان يكون في معصية الله فاضطر الى أكل شيء من ذلك ، والعادي يشمل المتجاوز عن حد الاضطرار إذا فلا اضطرار ، والعدو إلى حالة الاضطرار ، فهو إذا اضطرار باختيار ، فمن كان له صنع لخلق جوّ الاضطرار ، ام كان ظالما فيه ، فهو آثم رغم اضطراره ، مهما وجب عليه اقتراف الحرام حفاظا على الأهم وهو نفسه (١) وعلّ (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) حالان عن الاضطرار والأكل معا ، ألا يكون الاضطرار ببغي او عدو ، ام في حالهما ، وألّا يأكل بغيا وعدوا ، بغيا على صاحب المال ، وعدوا عن قدر الاضطرار.

والقول الفصل في كل أطراف الآية وزيادة شاملة تأتي في آية المائدة إنشاء الله تعالى.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٥٥ في الفقيه في رواية محمد بن عمرو بن سعيد رفعه ان امرأة أتت عمر فقالت يا امير المؤمنين إني فجرت فأقم علي الحد فأمر برجمها وكان امير المؤمنين (عليه السلام) حاضرا فقال : سلها كيف فجرت فسألها فقالت : كنت في فلاة من الأرض فأصابني عطش شديد فرفعت لي خيمة فأتيتها فأصبت فيها رجلا أعرابيا فسألته ماء فأبي أن يسقيني إلّا ان أكون أمكنه من نفسي فوليت منه هاربة فاشتد بي العطش حتى غارت عيناي وذهب لساني فلما بلغ مني العطش أتيته فسقاني ووقع علي فقال علي (عليه السلام) : هذه التي قال الله : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) هذه غير باغية ولا عادية فخلى سبيلها فقال عمر : لو لا علي لهلك عمر ، وفيه عن التهذيب عن سماعة قال سألته عن الرجل يكون في عينه الماء ـ الى قوله ـ فقال : وليس شيء مما حرّم الله ألا وقد أهله لمن اضطر اليه.

نور الثقلين ١ : ١٥٦ عن الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال (عليه السلام) : ...

٢٨٤

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ١٧٤.

قدمنا شطرا من الكلام حول الكتمان في آيته الأولى ، ثم (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) هو تطلّب ثمن عما يكتمون ، وكل ثمن بديل ذلك الكتمان قليل مهما كان مليء الأرض ذهبا ، فكما أن كل شيء أمام الله ضئيل ، كذلك كل ثمن قبال ما أنزل الله قليل.

«أولئك» البعيدون عن كل هدى ، المتورطون في كل ردى (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) حيث الأكل المحرم هو يوم الدنيا نار ولكنها اليوم خامدة ، ثم يوم القيامة تضطرم: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ـ (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) ولماذا (فِي بُطُونِهِمْ) وليس الأكل إلّا بالأفواه الى البطون؟ علّه لأن فاعلية البطون للمأكول هي أصل الأكل وغايته ، فقد يأكل بفمه ثم يرجع دون ان ينتقل الى بطنه ، او ينتقل ولكنه يرجع كما أكل من فمه ام سواه ، إذا ف (فِي بُطُونِهِمْ) تحديد للأكل والمأكول استقرارا في بطونهم ، مع انه أفظع سماعا وأشد ايقاعا!.

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) حين يكلم المؤمنين ، والمعني هنا هو تكليم الرأفة والعناية : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ) (٣ : ٧٧) دون تكليم التنديد والنكاية كما (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ).

وأما (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) (٤٢ : ٥١) فخاصة بيوم الدنيا ، فقد يكلّم عباده

٢٨٥

المؤمنين دون وسيط يوم القيامة نظرا إليهم ، ويكلم غيرهم تنديدا بهم دون سماح لهم أن يكلموه.

ثم (وَلا يُزَكِّيهِمْ) قد تعم النشأتين ، وهي في الأخرى تزكية الشفاعة والغفران ، وفي الأولى تزكية العقائد والأعمال (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الأخرى ، وقد حملوه معهم من الأولى.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) ١٧٥.

وهل كانت لهم هدى ومغفرة حتى يشتروا بهما الضلالة والعذاب؟ أجل وهي هدى الفطرة والعقلية الإنسانية ، ثم وهدى الرسالات الإلهية الحاضرة لديهم ، وبالنتيجة كانت لهم اسباب المغفرة حاضرة ، ولكنهم (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) تجاهلا وتغافلا عن الهدى والمغفرة (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) هنا وهي أرواحهم النارية ، وبأحرى يوم القرار.

ويكأنما هي صفقة يدفعون فيها الهدى ويقبضون الضلالة ، ويؤدون المغفرة ويأخذون بديلها العذاب ، فما أخسرها من صفقة وأغباها ، فقد كانت الهدى لهم مبذولة في الآفاق وفي أنفسهم فتركوها واعتاضوا بها الضلالة ، وكانت المغفرة لهم متاحة فتركوها إلى النار (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) : «ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيرهم إلى النار».

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) ١٧٦.

«ذلك» العظيم العظيم من اللعنة والعذاب على هؤلاء (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) : بسبب الحق وغايته ومصاحبا للحق الناصع الدال على وحيه

٢٨٦

دون أية ريبة ، وحاملا لكل حق يحق نزوله للعالمين ، وب (إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي) ذلك (الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ) مع الله «بعيد» في الأعماق ، وبعيد عن كل آفاق الشقاق ، فإنه شقاق مع الله الذي نزل الكتاب ، وشقاق مع الرسول الذي أنزل عليه الكتاب ، وشقاق ـ ككل ـ مع الحق الذي لا يشتهونه ، فهم ـ إذا ـ في ثالوث الشقاق ، بعيدا بهذه الأبعاد.

وقد يعني «الكتاب» هنا بجنب القرآن سائر كتابات السماء ، وقد اختلف الكاتمون ما أنزل الله في كل كتاب ، لا سيما في البشارات الخاصة بالرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) كما اختلف فيه المشركون و (إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا ...) تشملها جميعا.

هنا صلة بين هذا البيان وبين تحويل القبلة وما أثاروا حوله من جدل ، بيانا للحقيقة الكبرى ، الحقيقة بالجدل حولها ، دون شكليات الشعائر من تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب ، كشعارات فاضية عن شعورات ، وإنما فائضة بشعورات وواقعيات ايمانية.

فالإيمان الصالح هو نقطة التحول في حياة الإنسان أيا كان وإلى أية قبلة اتجه ، إنه ـ فقط ـ هو نقطة التحول من الفوضى إلى النظام ، ومن التيه الى البلد الأمين ، ومن التفكك الى وحدة الاتجاه.

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ

٢٨٧

وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

٢٨٨

فقد تلمح أولى الآيات هنا ان هناك وجوها من الناس كانوا يولون وجوههم قبل المشرق والمغرب صلاة ودعاء ويحسبون أنه البرّ ـ فقط ـ في حظيرة الإيمان ، فتبادر بتعريف البرّ ابتداء بالإيمان ثم أهم اعمال الإيمان ، دون طقوس جافة خاوية عن الإيمان الحق وحق الإيمان في عشرة كاملة من بنود الإيمان.

١ (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ٢ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ٣ وَالْمَلائِكَةِ ، ٤ وَالْكِتابِ ٥ وَالنَّبِيِّينَ ٦ وَآتَى الْمالَ ٧ وَأَقامَ الصَّلاةَ ٨ وَآتَى الزَّكاةَ ٩ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ١٠ وَالصَّابِرِينَ ...) (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في دعوى الإيمان (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) دون المولّين وجوههم قبل المشرق والمغرب ، بل المولون وجوههم ـ ككل ـ الظاهرة مع الباطنة ، وجاه مرضات الله ، ومنها وجوه الأبدان قبل القبلة التي يوليهم الله إياها ، رمزا الى الاتجاه ـ ككل ـ إلى الله.

وفي (لَيْسَ الْبِرَّ) تعريض عريض على اليهود المولّين وجوههم قبل المغرب والنصارى المولين وجوههم قبل المشرق ، وهم خاوون عن الإيمان بالله واليوم الآخر وسائر العشرة كما يجب ، كما وهو تعريض هامشي على المسلمين من الذين يشابهونهم في تلك التولية القاحلة عن حق الإيمان.

أجل وليست «وجوهكم» في ذلك الخطاب ـ فقط ـ وجوه أهل الكتاب ، بل والأصل هنا هو وجوه المخاطبين ـ أصالة ـ بالقرآن ، وهم المؤمنون ، مهما كان التنديد الأكثر اتجاها إلى أهل الكتاب ، فالخطاب إذا ـ كأصل ـ من باب : إياك أعني واسمعي يا جارة ، ثم و «إياك» مندّد به على هامش الخطاب ، وعلى أية حال (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ...).

هذا ، وكما سئل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن الإيمان فتلاها ثم ثانية فتلاها ثم ثالثة فتلاها وقال : «وإذا عملت حسنة أحبها قلبك وإذا

٢٨٩

عملت سيئة أبغضها قلبك» (١) وقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ... وفي هذه العشرة الكاملة من زوايا البر نجد كل الأصول الإيمانية وفروعها الأصيلة ، إيمانا بالمبدء : «الله» وباليوم الآخر : «المعاد» وما بين المبدء والمعاد من وسائط الرسالات : «والملائكة» وموادها : «والكتاب» وحملة الرسالات : «النبيين» وهذه خمس تتبنى الأصول الإيمانية ، ثم

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٦٩ ـ أخرج ابن أبي حاتم وصححه عن أبي ذر انه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الايمان ... وفيه عن القاسم بن عبد الرحمن قال : جاء رجل إلى أبي ذر فقال : ما الايمان فتلا عليه هذه الآية فقال الرجل : ليس عن البر سألتك ، فقال ابو ذر جاء رجل الى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فسأله عما سألتني فقرء عليه هذه الآية فأبى ان يرضى كما أبيت فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أدن فدناه فقال : المؤمن إذا عمل الحسنة سرته رجاء ثوابها وإذا عمل السيئة أحزنته وخاف عقابها.

وفيه اخرج جماعة عن عمر بن الخطاب انهم بيناهم جلوس عند النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) جاء رجل يمشي حسن الشعر عليه ثياب بياض فنظر القوم بعضهم إلى بعض ما نعرف هذا وما هذا بصاحب سفر ثم قال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) آتيك؟ قال : نعم ، فجاء فوضع ركبتيه عند ركبتيه ويديه على فخذيه فقال : ما الإسلام؟ قال : شهادة أن لا إله إلّا الله وان محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ، قال : فما الايمان؟ قال : ان تؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والجنة والنار والبعث بعد الموت والقدر كله ، قال : فما الإحسان؟ قال : ان تعمل لله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك ، قال : فإذا فعلت ذلك فأنا محسن؟ قال : نعم ، قال : صدقت ، قال يا محمد! متى الساعة؟ قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال : فما أشراطها؟ قال : إذا العراة الحفاة العالة رعاء الشاة تطاولوا في البنيان وولدت الإماء أربابهن ، ثم قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عليّ بالرجل فطلبوه فلم يروا شيئا فمكث يومين او ثلاثة ايام ثم قال : يا ابن الخطاب أتدري من السائل عن كذا وكذا! قال : الله ورسوله اعلم ، قال : ذاك جبرئيل جاءكم ليعلمكم دينكم أقول واخرج مثله البزار عن انس ، وابن مردويه عن أبي هريرة وأبي ذر ، عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) ولكن ليس فيها أشراط الساعة.

٢٩٠

خمس اخرى تتبنّى فروعها العملية ، من صلات جماعية اعتيادية بين الجماهير : (وَآتَى الْمالَ ...) (وَآتَى الزَّكاةَ) ومن صلة عبودية بالله تتوسطها : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) ثم صلة ذات بعدين بالله وبخلق الله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ... وَالصَّابِرِينَ ...).

وترى كيف يكون (مَنْ آمَنَ) برّا مصدرا وهو بار فاعلا؟ علّه لأن حامل هذه العشر يجسّد البر نفسه ، إذا فكأنه نفس البر وكما و (لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) (٢ : ١٨٩).

فالبر عقيديا وإيمانيا فعمليا يأتي بسائر البر كتولي الوجوه قبل القبلة التي يرضاها الله ولا عكس إلّا لمن آمن حقا.

إذا فليس سلب البرّ عن تولية الوجوه سلبا مطلقا لأنها أيضا من طقوس البر ، وإنما هو سلب لأصالة البر عنها ، والتولية حسب الشرعة هي فرعه.

إذا فالإقبال على القشور المصلحية تغافلا عن الألباب ليس من البر ، كما الإقبال على الألباب تغافلا عن القشور المأمور بها ليس كلّ البر ، (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ ...) جامعا بين اللباب والقشور قضية برّ الإيمان والإيمان البر.

هنا (آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) تعني حب المال الى حب الله وحب إيتاء المال جمعا بين المراجع الثلاثة ، مهما كان المال أقرب لفظا ، فان الله هو أقرب معنى وبينهما الإيتاء ف (عَلى حُبِّهِ) إذا لها تعلقات ثلاث أدبيا ومعنويا ، : «آتى المال على حب الله» و «آتى المال على حب المال وعلى حب إيتاءه» إذ (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (٣ : ٩٢) وكما «قيل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ما آتى المال على حبه؟ فكلنا نحبه! قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : تؤتيه حين تؤتيه ونفسك تحدثك بطول العمر والفقر» (١).

__________________

ـ الدر المنثور ١ : ١٧١ ـ أخرج البيهقي في شعب الايمان عن المطّلب انه قيل ... وفيه اخرج

٢٩١

ودرجة عليا من (عَلى حُبِّهِ) ان تكون عنده أموال يفضل بعضها على بعض ، كما (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (٧٦ : ٨) إذ كان مفضلا على سواه مما كان عندهم ، وأما الإنفاق من رذيل المال أم في رذيل الحال «كالذي ينفق او يتصدق عند الموت فمثله مثل الذي يهدي إذا شبع» (١).

إذا ف (عَلى حُبِّهِ) لها درجات ، ثم ما لا يحبه ، ثم ما يترذّله ، والآية تخص الإنفاق بدرجات الحب ، حب المال وحب إيتاء المال على حب الله.

ثم «الفقير هو هدية الله قبل ذلك او ترك» (٢) ف «ردوا السائل ولو بظلف محترق» (٣).

وهنا المؤتون المال على حبه ستة حسب ترتيب الاستحقاق والحاجة ، يتقدمهم (ذَوِي الْقُرْبى) وهم الأقرب إليك نسبا فالأقرب ، من الوالدين

__________________

ـ احمد والبخاري ومسلم وابو داود والنسائي وابن حبان عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أفضل الصدقة ان تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم ، قلت لفلان كذا لفلان كذا الا وقد كان لفلان.

(١) المصدر اخرج احمد وابو داود والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول : مثل الذي ينفق او يتصدق عند الموت مثل الذي يهدي إذا شبع.

(٢) المصدر اخرج ابن شاهين وابن النجار في تاريخه عن أبي بن كعب قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): ألا أدلكم على هدايا الله عز وجل إلى خلقه؟ قلنا : بلى ـ قال : الفقير ...

(٣) عن حواء قالت سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ـ يقول : ...

٢٩٢

والأولاد ، وطبقات القربى هنا هم كطبقات الميراث لأنها أصدق الطبقات إذ قررها الله تعالى(١).

ثم «اليتامى» المنقطعين عمن يعولهم ، وادنى يتيم هو اللطيم المنقطع عن أبويه ، ثم اليتيم المنقطع عن أبيه ، ثم الفطيم المنقطع عن أمه ، وعلّ الأخير خارج عن اليتيم مهما كان له يتم ، ام هو بعد الأولين ، فدوره هو الدور الأخير.

والمساكين هم من أسكنهم العدم ، وهي تعم الفقراء الذين أفقرهم العدم ، فإنهم أسوء حالا من المساكين ، كما ويقدّمون عليهم حين يذكران معا : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ...) (٩ : ٦٠) وهو مسكين ذا متربة (٩٠ : ١٦) ومطلق المسكين يشمله وغيره المتوسطة حاله ، ثم (وَابْنَ السَّبِيلِ) وبالطبع هو ابن سبيل الله ، المنقطع عن ماله وذويه في الله وكما جاء ابن السبيل بعد سبيل الله في آية التوبة (... وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، وأدناه من ليس في معصية الله وسبيل الشيطان.

ثم «السائلين» تعنيهم ككل : فقراء أو مساكين أم سواهم ، ف «للسائل حق وإن جاء على فرس» (٢) واما «في الرقاب» دون «الرقاب» فقد تعني صالح الرقاب ان يشتروا من أصحابهم كلّا أو مبعضا ، دون ان يؤتوا هم أنفسهم مما يؤتى ، فان ذلك أصلح لهم ، إضافة إلى أن الرقاب ليسوا ـ بطبيعة الحال ـ في حاجات شخصية إذ يتحملهم أصحابهم بواجب النفقة وإنما هم

__________________

(١) الدر المنثور : ١٧١ ـ اخرج الخطيب في تالي التلخيص عن ابن عباس أن ميمونة استأذنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في جارية تعتقها فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): أعطها أختك ترعى عليها وصلي بها رحما فانه خير لك.

(٢) الدر المنثور ١ : ١٧١ ـ اخرج ابن عدي عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ... وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن سالم بن أبي الجعد قال قال عيسى بن مريم : للسائل حق وان جاء على فرس مطوق بالفضة.

٢٩٣

بحاجة إلى تحرّرهم ، إذا ف «في الرقاب» تعني في سبيل تحررهم قدر المقدور كلا او مبعضا.

ذلك الترتيب السداسي ـ بما في كلّ ترتيب ـ يراعى في إيتاء المال ، ثم يقدّم من يحمل عنوانين من الستة أم زاد وكما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنان صدقة وصلة» (١).

وهنا «آتى» دون «أنفق ـ أو ـ أعطى» لأنها أعم من الإعطاء والإنفاق ، فكما الصدقة والهبة إيتاء ، كذلك القرض إيتاء ، فمثلا ابن السبيل ليس إيتاءه المال لفقره ، إذ قد يملك أكثر منك في بلده ، فأنت تؤتيه الآن قرضا ثم تأخذه منه بعد الآن ، كما والهبة المعوضة والهدية إيتاء.

ذلك الإيتاء بمراتبه واجب كما الصلاة والزكوة ، فليس يعني الزكوة فانه هنا يقابلها متقدما عليها ، فهو إذا من الضرائب الواجبة قدر المقدور ، إضافة الى ضريبة الزكوة.

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) الله أم خلقه كما يصح أو يجب ، وقد تحدّد (إِذا عاهَدُوا) مدى شمول «بعهدهم» ان ليس منه عهد الفطرة وعهد العقل وعهد الشرعة الإلهية ، فان ذلك المثلث من العهد لزام على المكلفين ، لا يقبل زمانا دون زمان حتى يحدد وجوب الوفاء به ب (إِذا عاهَدُوا).

(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) ولماذا «الصابرين»

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٧١ ـ اخرج ابن أبي شيبة واحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي في سننه عن سلمان بن عامر الضبي قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : وفيه أخرج احمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أتجزي عني من الصدقة النفقة على زوجي وأيتام في تجري؟ لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة.

٢٩٤

نصبا ، وقضيته عطفها على «الموفون» بمن قبلهم ، هي «الصابرون»؟

علّها منصوبة على الإختصاص لاختصاص الصبر في ذلك المراس قضية الاحتراس على الإيمان ببنوده عقيديا وعمليا ، فالصبر في البأساء والضراء وحين البأس ـ إنه في ذلك المثلث البارع ـ تربية للنفوس وإعداد لها ، كيلا تطير شعاعا مع كل نازلة ، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة ، ولا تنهار جزعا أمام الشدة ، تجملا وتماسكا وثباتا حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ، رجاء في الله ، وثقة بالله واعتمادا على الله.

فلا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية أن تتهيأ لوعثاء الطريق ومشاقّ السفر على أية حال ، في كل حل وتر حال ، في البأساء والضراء وحين البأس ، لكي تنهض بواجبها الضخم ، وتؤدي دورها المرسوم.

فالصبر في مثلثه رباط عن التفسخ في كل زوايا الإيمان وقضاياه ، ورزاياه من كتلة اللّاإيمان ، ولذلك يختص هنا بتقدير الإختصاص ، وأخص «الصابرين» بين كل المؤمنين ، وأخص الصبر بين كل سمات الإيمان ، لاختصاصه في مراس الإيمان واحتراسه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) ١٧٨.

«القصاص» لغويا هي المقاصة من القص : تتبع الأثر ، او القصة : محاكات الواقع كما هو ، فهي ـ إذا ـ تتبع الأثر كما أثّر دون إفراط عليه ولا تفريط عنه ، نفسا بنفس كما هنا «في القتلى» أم جرحا بجرح : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ)

٢٩٥

(٥ : ٤٥) ومالا بمال ، ومماثلة بين الأمرين على أية حال ، محلّقة كضابطة ثابتة على كافة الحرمات : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٢ : ١٩٤).

فالقصاص بوجه عام هي ملاحقة المجرم كما أجرم وقدره أم تقل ، دون اعتداء عليه ـ لأكثر تقدير ـ إلّا كما اعتدى ، كما وكيفما ، عددا وعددا ، تسوية عاقلة عادلة بين الجرم وقصاصه.

وهل (الَّذِينَ آمَنُوا) هنا هم أولياء الدم ـ فقط ـ لأنه حقهم؟ وحقه ـ إذا ـ لكم ، لا عليكم ، حيث القصاص هي لصالح أولياء الدم وليس عليهم!.

أم هم القاتلون ، حيث القصاص عليهم هي كحق خاص لأولياء الدم؟ ـ و (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ ...) يخرجه عن كونه حقا ثابتا عليهم!.

أم هم حكام الشرع؟ فكذلك الأمر ، فان حكمهم تابع لما يختاره أولياء الدم! اللهم إلا شذرا (١).

علّهم هؤلاء أجمع ، مكتوب عليهم القصاص ، فعلى أولياء الدم لأنه حق لهم خاص كضابطة مهما جاز لهم التنازل عنه إلى دية ام لا إلى بدل ، كتبصرة على الضابطة ، وعلى القاتلين لأنه حق عليهم ، وعلى حكام الشرع ، لأن عليهم ملاحقة المجرمين حسب اقتراح اولياء الدم ، وملاحقة أخرى حفاظا على الحياد العام للكتلة المؤمنة.

ف «عليكم» هي كأصل تعني القتلة ، وهي كواجب التطبيق بملاحقة ،

__________________

(١) كما في القاتل الساعي في الأرض فسادا ، فانه خارج عن خصوص الحق الى عمومه.

٢٩٦

على حكام الشرع ، ثم كواجب الحق وثابتة على أولياء الدم ، لا سيما إذا كان العفو أم والانتقال إلى الدية محظورا جماعيا.

إذا ف (الَّذِينَ آمَنُوا) في هذا المثلث ، أم هم ككل ، مسئولون في القصاص ، ملاحقة فيه وراء المجرمين ، فان (لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) حياة تعم الكتلة المؤمنة ككل ، وترى كيف تكون قصاص الدم ـ والدماء تختلف في قيمها ـ؟ إنها كما هنا : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى).

فقد يستفاد من نص الآية في الجمل الثلاث شريطة المساوات الثلاثية في القصاص ، ف (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) مساواة في الذكورة ، وأخرى في الحرية والرقية ، ثم (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) مساواة في الأنوثة ، وهذه الثلاث هي بصيغة أخرى مساوات في الجنس وأخرى في القيم الاقتصادية ، بل والأولى أيضا راجعة الى الثانية ، حيث الذكر أثمن من الأنثى ، كما الحر أثمن من العبد.

وذلك نص خلفي على رفض المساوات ـ في حق القصاص ـ في سائر القيم روحية وسواها ، اللهم إلّا العددية فهي من أحق المساوات وأعمقها وأعدلها ، المستفادة من آية المائدة كضابطة (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٤٥) وآية الإسراء (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ...) إضافة الى كل من هذه الثلاث حيث يقابل الواحد في كلّ واحدا.

والمحور الأصيل في زماننا ومنذ أمد بعيد هو تساوي الجنس فيأتي السؤال ـ إذا ـ عن «الأنثى بالذكر والذكر بالأنثى»؟.

فلأن الذكر أثمن من الأنثى فلا يقتل بالأنثى كأصل وضابطة ، إلّا أن يجبر نقص الأنثى القتيلة ـ لقتل الذكر ـ برد نصف ديته إلى ورثته ، كما يدل عليه صحيح الأثر ، ثم الأنثى الأرخص من الذكر تقتل بالذكر بأحرى أولوية قطعية

٢٩٧

وليس بعد شريطة المساوات في الجنس شريطة أخرى في شرعة القصاص من ميزات معنوية أماهيه ، حيث النص مقتصر على ما اقتصر.

ولا تزال ضابطة (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) مرعية عددا ، وعددا اقتصادية ، بجبر النقص في اختلافهما في الثانية ـ فقط ـ ردا على ورثة الذكر قاتلين ومقتولين.

وترى آية القصاص هذه ناسخة لآية (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) في المائدة؟ والمائدة كآخر ما نزلت هي ناسخة غير منسوخة!.

آية المائدة لا تتحدث عن شرعة قرآنية ـ ككل ـ بل هي حاكية عن شرعة القصاص التوراتية : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) كضابطة عامة ، وآية البقرة تنسخ عمومها بشريطة المساوات في الجنس والحرية ، فتبقى الباقية تحت عموم المائدة بلا ناقصة ولا زائدة ، اللهم إلّا نسخا ثانيا في (فَمَنْ عُفِيَ ...).

فآية البقرة ترسم حكما عدلا عوانا بين اليهودية في (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) باختصاص القصاص في القتلى بالقتل ، ودون شريطة تساوى الجنسين ، وبين النصرانية القائلة بالعفو ، والهمجية المشركة المتعدية في القصاص كل أطوار العدالة والأعراف العاقلة الإنسانية ، فقد كانت تقتل قبيلة عن بكرتها بقتيل واحد ، أم لا تقتل واحدا قتل قبيلا ، فالأشراف كانوا يقولون : لنقتلن بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة الرجل منهم ، وبواحد قبيلا منهم ، ويجعلون جروحهم أضعاف خصومهم ، فقد يروى أن واحدا قتل واحدا فاجتمع أقارب القاتل عند والد القتيل قائلين : ماذا تريد؟ فقال : إحدى ثلاث ، قالوا : وما هي؟ قال : إما تحيون ولدي ، أو تملأون داري من نجوم السماء ، أو تدفعوا إليّ جملة قومكم حتى أقتلهم عن بكرتهم ، ثم لا أدري أني أخذت عوضا! وكانوا يظلمون في أمر الدية كما في القود ، فدية الشريف شريفة ودية الوضيع وضيعة!.

وقد خالف الإسلام كلّ هذه الثلاث المفرطة والمفرّطة في أمر القصاص ،

٢٩٨

قصرا للتفاضل في القيم الاقتصادية جنسية وسواها ، ثم التفاضل بالتقوى وسواها من القيم ، مجاله غير هذا المجال ، والأثر المستفيض عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «المسلمون تتكافأ دماءهم» مخصص كآية المائدة بآية البقرة ، فقيمة الأنثى نصف الذكر ، إذا ف (الْأُنْثى بِالْأُنْثى) والذكر بالذكر ، أمّا يدل عليه ثابت الأثر.

وقيمة العبد أقل من الحر ف (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) فضابطة التفاضل محصورة في اختلاف الجنسين ، وفي الحرية والرقية ، دون سائر الميّزات روحية وسواها.

ف (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) ضابطة كما (الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) وكذلك (الْأُنْثى بِالْأُنْثى) فقد تقتل الأنثى بالأنثى ، والذكر بالذكر ، وبأحرى الأنثى بالذكر ، ثم لا يقتل الذكر بالأنثى إلا برد فاضل ديته الى أولياءه (١) إحرازا للمساوات بين النفسين ، وتطبيقا لضابطة (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) عدلا لأولياء الدم كيلا يتصبروا على ضيم الدم ، وعدلا إلى اولياء القاتل برد فائض ديته عليهم ، ففاضل الدية ـ إذا ـ يجبر النقص ويحقق السماوات.

ثم وفي عكس القضية وهو الأنثى بالذكر ، قد يؤخذ ناقص الدية من أوليائها ردا على أولياءه بنفس السند ، على تأمل فيه ، إذ هي لا تملك إلّا نفسها و «الجاني لا يجنى على أكثر من نفسه» وقد جنت عليها فلا فاضل ـ إذا ـ يرد عنها ، ولكنها هدرت بقتلها إياه ضعف نفسها ، فليجبر الناقص بما تركت ، فمثلها كمثل رقّ هدر ضعف ثمنه.

__________________

(١) كما في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في الرجل يقتل المرأة متعمدا فأراد أهل المرأة أن يقتلوه؟ قال : «ذاك لهم إذا أدوا الى اهله نصف الدية» (الاستبصار ٤ : ٦٥ والكافي ٧ : ٢٩٨).

٢٩٩

ذلك حكم بنفس بنفس ، فهل يقتص من جماعة قتلوا واحدا؟ هنا روايات عدة (١) ودعاوى الإجماع تقول لأولياء الدم قتل الجميع برد دية الزائد عن الواحد إلى أوليائهم!.

لكنه تطارده الضابطة العامة في آيتي البقرة والمائدة (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وهذه نفوس بنفس ، وكذلك (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) هذه أحرار بحر ، أم إناث بأنثى ، أم عبيد بعبد ، ولم تنسخ آية المائدة إلّا في غير المتماثلين في الجنس والحرية.

ثم وذلك اعتداء بغير المثل ، إذ لا مماثلة بين واحد وجماعة ، وهو إسراف في القتل وقد منعته آية الأسرى «ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا» وقد يستدل بها الإمام المعصوم في معتبرة (٢).

ذلك ، اللهم إلّا فيما يقتل امرأتان رجلا حيث تقتلان به بضابطة

__________________

(١) كما في خبر ابن يسار على المحكي قلت لأبي جعفر (عليهما السلام) في عشرة قتلوا رجلا؟ فقال : إن شاء أولياءه قتلوهم جميعا وغرموا تسع ديات وان شاءوا تخيروا رجلا فقتلوه وأدى التسعة الباقون الى اهل المقتول الأخير عشر الدية كل رجل منهم ، قال : ثم ان الوالي بعد يلي أدبهم وحبسهم (الكافي ٧ : ٢٨٣) وفي صحيحة عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجلين قتلا رجلا؟ قال : ان أراد اولياء المقتول قتلهما أدوا دية كاملوا وقتلوهما وتكون الدية بين اولياء المقتولين وان أرادوا قتل أحدهما فقتلوه وأدى المتروك نصف الدية الى اهل المقتول وان لم يؤدوا أحدهما ولم يقتل أحدهما قبل دية صاحبه من كليهما وان قبل أولياءه الدية كانت عليهما.(التهذيب باب الاثنين إذا قتلا واحدا تحت رقم ٣ والكافي ٧ : ٢٨٣ تحت رقم ٢).

(٢) هي ما رواه ابن أبي عمير في الحسن او الصحيح على الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إذا اجتمع العدة على قتل رجل واحد حكم الوالي ان يقتل أيهم شاءوا وليس لهم ان يقتلوا اكثر من واحد ان الله عز وجل يقول (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) (الكافي ٧ : ٢٨٤ والاستبصار ٤ : ٢٨٢).

٣٠٠