جواهر الكلام - ج ٢٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وفي إطلاق الفاضل حرمة اقتناء الأعيان النجسة كما هو واضح.

النوع الرابع ما هو محرم في نفسه لا لنجاسة ولا لغاية ولا لعبث‌ كعمل الصور المجسمة لذوات الأرواح ، ولعل ترك التقييد بذلك لظهور لفظ الصور في ذلك ، وعلى كل حال فلا خلاف في حرمة عملها ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل المنقول منه مستفيض ، كالنصوص ففي‌ خبر المناهي عن الحسين بن يزيد عن الصادق عليه‌السلام (١) « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التصاوير وقال : من صور صورة كلفه الله تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ ، ونهى أن ينقش شي‌ء من الحيوان على الخاتم » وفي‌ خبر محمد بن مروان (٢) عنه أيضا « ثلاثة يعذبون يوم القيامة من صور صورة الحيوان يعذب حتى ينفخ فيها » والمرسل عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) « من صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بفاعل » وفي‌ صحيح محمد بن مسلم (٤) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن تماثيل الشجر والشمس والقمر فقال : لا بأس ، ما لم يكن شيئا من الحيوان » بل في‌ صحيح أبي العباس (٥) عنه أيضا « إشعار أو ظهور في ذلك ، قال : في قوله تعالى ( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ ) إلى آخرها والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ، ولكنها الشجر وشبهه » وكذا خبره الآخر (٦) وفي‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٩٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٦.

(٢) الوسائل الباب ٩٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٧.

(٣) الوسائل الباب ٩٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٩.

(٤) الوسائل الباب ٩٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٣.

(٥) الوسائل الباب ٩٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٦) الوسائل الباب ٩٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث بعد ذكر الحديث الأول.

٤١

خبر تحف العقول (١) « وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن فيه مثال الروحاني فحلال تعلمه وتعليمه » بل قد يشعر بذلك ، أيضا‌ صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام (٢) « لا بأس بتماثيل الشجر » وإن لم نقل بحجية مفهوم اللقب ، خصوصا بعد ملاحظة انجبار ما كان من ضعف في سند أو دلالة بما عرفت ، بل لإطلاق الصورة في النصوص المزبورة أفتى جماعة بحرمة تصوير ذوات الأرواح مطلقا ، مجسمة أو غير مجسمة ، بل قيل أنه لو حملت الصفة فيما هو نحو المتن على الممثل لا المثال كان ظاهرا لجميع ذلك.

لكن قد يقال ما في بعض النصوص التي تقدمت في كتاب الصلاة (٣) من أنه لا بأس إذا غيرت رؤسها ، وفي آخر قطعت (٤) وفي ثالث (٥) كسرت نوع إشعار بالتجسيم ، كالتعليل بالنفخ في الأخبار الأخر ، ونحوها مما هي ظاهرة في كون الصورة حيوانا لا ينقص منه شي‌ء سوى الروح بل قد يظهر من مقابلة النقش للصورة في خبر المناهي ذلك أيضا ، ومن ذلك كله يقوى حينئذ القول بالجواز في غير المجسمة الموافق للأصل ، وإطلاق الآيات والروايات ، في الاكتساب والمشي في طلب الرزق بأي نحو كان ، كقوة القول بجواز التصوير لغير ذي الروح مجسما أو غير مجسم لذلك أيضا ، وللنصوص السابقة المنجبرة بالشهرة التي كادت تكون إجماعا.

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ٩٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ٤ من أبواب أحكام المساكن الحديث ٣.

(٤) الوسائل الباب ٣٢ من أبواب مكان المصلي الحديث ٥ ولكن فيه تقطع وتكسر.

(٥) الوسائل الباب ٣٢ من أبواب مكان المصلي الحديث ١٠ ولكن فيه تقطع وتكسر.

٤٢

فما عن القاضي والتقي من إطلاق (١) المنع « للنهي عن تزويق البيوت الذي فسره عليه‌السلام بالتصاوير والتماثيل » وإطلاق‌ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لعلي عليه‌السلام (٢) لا تدع صورة إلا محوتها ولا كلبا إلا قتلته » والأخبار المستفيضة (٣) المعربة عن عدم نزول الملائكة بيتا يكون فيه تماثيل » واضح الضعف ضرورة قصوره عن المعارضة ، من وجوه بل الخبران الأولان غير صالحين للاستدلال سندا ، فضلا عن المعارضة وأما أخبار عدم نزول الملائكة فمع أنها محمولة على الكراهة ، يمكن تقييدها بذي الروح ظلية أو غير ظلية على الخلاف السابق.

ثم إن المدار في صورة الحيوان على صدق الاسم ، وتصوير البعض مع عدم صدقه عليه ، وكون المقصود من أول الأمر البعض خاصة ، لا مانع منه ، ولو حصل الصنع من اثنين دفعة كانا مصورين ، ومع التدريج ففي شرح الأستاد أن المدار على الأخير ، قلت : لعل الأقوى التعلق بالأول أيضا ، إذا فرض كون المقصود لهما ذلك من أول الأمر ، لصدق الاستناد إليهما ، ومنه يظهر ما في إطلاق قوله أيضا بعد ذلك ، ومع التفريق يتعلق بالحكم الجامع ، ولو اشتركت الصورة بين الحيوان أو غيره اتبع القصد ، إن لم يكن لأحدهما ظهور فيها ، والظاهر إلحاق تصوير الملك والجني بذلك ، بل قد يقوى جريان الحكم في تصوير ما يتخيله في ذهنه من صورة حيوان مشارك للموجود في الخارج ، من الحيوان في كلي الأجزاء دون أعدادها وإرضاعها مثلا وتصوير البيضة والعلقة والمضغة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ من أبواب أحكام المساكن الحديث ٨.

(٢) الوسائل الباب ٣ من أبواب أحكام المساكن الحديث ٨.

(٣) الوسائل الباب ٣٣ من أبواب مكان المصلي الحديث ١ ـ ٤.

٤٣

وبزر القز ونحو ذلك مما هو نشو الحيوان لا بأس به ، بل لعله لا بأس بعدم منع الصبيان ونحوهم ممن هو غير مكلف عن العمل أيضا للأصل وغيره ، لكن في شرح الأستاد أن القول بوجوب المنع لا يخلو من قوة هذا كله في عمل الصور.

أما بيعها واقتنائها ، واستعمالها والانتفاع بها والنظر إليها ونحو ذلك ، فالأصل والعمومات والإطلاقات تقتضي جوازه ، وما يشعر به بعض النصوص من حرمة الإبقاء كأخبار عدم نزول الملائكة ونحوها ، محمول على الكراهة أو غير ذلك خصوصا مع أنا لم نجد من أفتى بذلك عدا ما يحكى عن الأردبيلي من حرمة الإبقاء ، ويمكن دعوى الإجماع على خلافه ، ومن ذلك يظهر لك جواز النظر إلى الصورة في المرأة ونحوها مع عدم الشهوة إذ احتمال الفرق بالخصوصية وعدمها لا وجه له كما هو واضح ، والله أعلم.

ومنه أيضا الغناء بالكسر والمد ككساء بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه ، والسنة متواترة فيه ، وفيها ما دل على أنه من اللهو واللغو والزور المنهي عنها في كتاب الله (١) فيتفق حينئذ الأدلة الثلاثة على ذلك ، بل يمكن دعوى كونه ضروريا في المذهب ، فمن الغريب ما وقع لبعض متأخري المتأخرين تبعا للمحكي عن الغزالي من عدم الحرمة فيما لم يقترن بمحرم خارجي ، كالضرب بالعود ، والكلام بالباطل ونحو ذلك ، وأغرب من ذلك إن أراد عدم كون المجرد عن ذلك غناء ضرورة مخالفته لكلام أهل اللغة والفقهاء والعرف والنصوص لاتفاق الجميع على أنه من مقولة الأصوات أو كيفياتها من غير مدخلية‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٩٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٩ و ١١ و ١٩.

٤٤

لأمر آخر ، ولا ينافي ذلك عده من لغو الحديث وقول الزور ونحوها ، مما يمكن كون المراد منه أنه كذلك باعتبار هذه الكيفية الخاصة ، كما أنه لا ينافيه أيضا‌ خبر علي بن جعفر (١) عن أخيه المروي عن قرب الاسناد « سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والأضحى قال : لا بأس به ما لم يعص به » إذ هو مع وضوح قصوره عن معارضة غيره من وجوه ، ورواه علي بن جعفر (٢) في المحكي عن كتابه بإبدال ما لم يعص به بما لم يؤمر به ، فهو كالمضطرب محمول على التقية أو على ارادة خصوص العرس في اليومين أو على إرادة التغني بالشعر على وجه لا يصل إلى حد الغناء ، فيكون ذلك هو المراد من قوله ما لم يعص به ، أو غير ذلك مما هو خير من الطرح الذي لا بأس بالتزامه إذا أبيت الحمل وكذلك غيره من النصوص التي قد يشم منها اختصاص حرمة الغناء بالمقترن بالعود ونحوه لا مطلقا ، وذلك لقوة المعارض على وجه لا يصلح ذلك ونحوه لمعارضته ، ودعوى أن ظاهر كلام الشيخ في الاستبصار ذلك أيضا يدفعها ، ملاحظة كلامه فيه وفي غيره ، ومن هنا كان الإطناب في إفساد ذلك من تضييع العمر بما لا ينبغي.

إنما الكلام في موضوعه ففي جملة من كتب الأصحاب أنه مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب ، بل ربما قيل أنه المشهور وفي القاموس غناء ككساء من الصوت ما طرب به ، وفي شهادات القواعد وبعض كتب اللغة ترجيع الصوت ومده ، وعن الشافعي انه تحسين الصوت وترقيقه ، وفي محكي النهاية أن كل من رفع صوتا ووالاه فصوته عند العرب غناء ، وعن السرائر والإيضاح أنه الصوت المطرب ، وعن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٥.

(٢) الوسائل الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٦.

٤٥

بعض أنه مد الصوت ، وعن المصباح المنير أنه الصوت إلى غير ذلك من كلمات أهل اللغة التي يقطع الماهر بملاحظتها بكون المراد منها ، بيان أن الغنى من هذا الجنس نحو قولهم سعدانة نبت ، ضرورة عدم خلو غالب الأصوات ، في قراءة القرآن والأدعية والخطب والشعر في جميع الأعصار والأمصار من العلماء وغيرهم ، من تحسين ومد وترجيع في الجملة ، كما لا يخفى على من له أدنى معرفة وإنصاف ، فيعلم كون المراد كيفية خاصة منها موكولة إلى العرف ، كما هي العادة في بيان أمثال ذلك ، نعم لا عبرة بعرف عامة سواد الناس ، فإنه الآن مشتبه قطعا ، لعدهم الكيفية الخاصة من الصوت في غير القرآن والدعاء وتعزية الحسين عليه‌السلام غناء ، ونفى ذلك عنها فيها ، وما ذاك إلا لاشتباهه للقطع بعدم مدخلية خصوص ألفاظ فيه ، لما عرفت أنه كيفية خاصة للصوت بأي لفظ كان ، ودعوى التزام جواز ذلك فيها ، وإن كان غناء في غيرها ، لإطلاق ما دل على الأمر بها (١) الشامل لهذه الكيفية الخاصة ، بل جاء في خصوص القرآن الأمر بالتغني فيه ، وما يقضي بجواز الغناء فيه ، واضحة الفساد ، لمعلومية تحكيم النهي في أمثال ذلك وليس من تعارض العموم من وجه المحتاج إلى ترجيح ، بل فهم أهل العرف كاف فيه ، نحو العام والخاص والمطلق والمقيد وإلا لتحقق التعارض من وجه ، بين ما دل على قضاء حاجة المؤمن مثلا ، والنهي عن اللواط والزنا والكذب وغيرها من المحرمات ، المعلوم بطلانه بضرورة الشرع ، أنه لا يطاع من حيث يعصى ، وما ورد في خصوص القرآن مما لا ريب في قصوره عن معارضة ما دل على الحرمة من وجوه ،

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٤ من أبواب قراءة القرآن الحديث ٥ و ٦.

٤٦

مطرح أو مأول أو موضوع ، خصوصا (١) بعد‌ قوله عليه‌السلام « أقروا القرآن بألحان العرب وإياكم ولحون أهل الفسوق » فإنه سيجي‌ء قوم يرجعون القرآن ترجيع الغناء.

نعم قد يحتمل إرادته اختصاص الغناء بالصوت المشتمل على التحسين بالمد والترجيع المتخذ للهو وانشراح النفس والطرب ، كما عساه يومي إليه لهو الحديث وأخذ الطرب في تعريفه ، ومعروفية مجالس الغناء بذلك ، بعد العلم بعدم زيادتها في المد والترجيع على ما يستعمل في غيرها ، مما لم يرد به اللهو كالتعزية والأذان وغيرهما.

وقد يؤيد بما ذكر في استثناء النوح منه ، من أنه ليس داخلا في موضوعه باعتبار مقابلة النوح له عرفا ، وما ذاك إلا لعدم اتخاذ اللهو به لكنه أيضا ، لا يخلو من إشكال ، ضرورة عدم اعتبار ذلك في حقيقته ، وإن تعارف استعماله في مجالس اللهو ، وإلا فربما كان من أفراد الغناء الأصوات المشجية والمثيرة للحزن والبكاء ، كما يستعمله العشاق في فقد المحبوب وعدم نيل المطلوب ، وهو مع ذلك نوع من الطرب ، ولذا حكي عن القاموس التصريح بفساد وهم من خص الطرب بالسرور ، وأنه قول العوام ، والتحقيق الرجوع في موضوعه إلى العرف الصحيح الذي لا ريب في شموله للمقامات المعلومة ، وشعبها المعروفة عند أهل فنها ، بل لا ريب في تناوله لغير ذلك مما يستعمله سواد الناس من الكيفيات المخصوصة ، بل الورع يقتضي اجتناب جميع الافراد المشكوك في اندراجها في موضوعه ، وإن كان الأصل يقتضي الإباحة في شبهة الموضوع ، الراجعة إلى شبهة الحكم.

ودعوى وجوب الاجتناب هنا باعتبار كون الشبهة في ذلك للشبهة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٤ من أبواب قراءة القرآن الحديث ١.

٤٧

في مفهوم الموضوع لا مصداقه ، فيجب الاجتناب للمقدمة ، ضرورة كونه كالتكليف بالمجمل ، يدفعها منع كون المقام من ذلك بعد معلومية جملة من الأفراد المحتملة ، لكون تمام ماهية الغناء ما اشتملت عليه ، فيشك حينئذ في حرمة الزائد وينفى بأصل البراءة الذي لا يعارضه ، حرمة الغناء المحتمل كون تمام ماهيته ما في الافراد المعلومة ، اللهم إلا أن يقال أنه حينئذ لم يحصل اليقين بتمام امتثال نهى الحرمة المتيقن شغل الذمة بها ، وفيه منع وجوب تحصيل مثل هذا اليقين ، في مثل هذا الفرض ، بعد أن لا يقين بفرد محرم في الأفراد المشبهة ، كي يتجه اجتناب الجميع من باب المقدمة ، ضرورة كون أحد المحتملات إباحة جميع هذه الأفراد المشتبهة ، وانحصار الحرمة في الأفراد المعلومة كما هو واضح.

وكيف كان فقد ذكر غير واحد ورود الرخصة في إباحة أجرة المغنية في الأعراس ، بل نسبه بعض مشايخنا إلى الشهرة ، ومقتضاه جواز غنائها فيه ، ضرورة التلازم بين إباحة الأجرة عليه وبين إباحته نعم قيده بعضهم بما إذا لم تتكلم بالباطل ، ولم تلعب بالملاهي ، ولم تدخل عليها الرجال ، وآخر بالأول والأخير ، لكن فيه ان ذلك كله محرمات خارجة عنه لا مدخلية له فيها ، خصوصا الأخير الذي قد يتوهم أخذه من دليل الجواز ، وهو‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح أبي بصير (١) « أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس ليست بالتي تدخل عليها الرجال » وقوله في خبره (٢) أيضا « حين سأله عن كسب‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

٤٨

المغنيات التي يدخل عليها الرجال حرام ، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس » لكن فيه أنهما خصوصا الأخير ظاهران في المقابلة ، لا التخصيص ، بمعنى أن هذه أجرها حلال لا المغنية في غير الأعراس وهي التي يدخل عليها الرجال لاتخاذ مجالس اللهو ، وحينئذ لا دلالة فيهما على أزيد مما في‌ قوله في الخبر الثالث (١) « المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها » على أنه لم يعلم المراد من اللعب بالملاهي ، فإن كان هو من قبيل اللعب بالدف ونحوه مما لا مدخلية له في الغناء ، ففيه مضافا إلى ما عرفت من كونه محرما خارجيا وليس في الأدلة ما يقضي بحرمة الغناء حاله بل ظاهرها خلافه ، أنه صرح جماعة كما قيل بجواز لعبها في العرس بالدف الذي لا صنج فيه ولا جلاجل ، وإن كان هو لا يخلو من إشكال ، وإن أريد به ما له مدخلية في الغناء كالصرناج والرباب والزمار ونحو ذلك ، أمكن أن يكون الوجه فيه حينئذ اتحاده في الخارج مع الغناء ، فيتجه استثنائه.

بل وكذا الكلام بالباطل ، ضرورة أنك قد عرفت أن الغناء من كيفيات الأصوات ، والكلام ليس هو إلا اللفظ الذي هو عبارة عن الصوت ، فمع فرض إبرازه بكلام باطل يحرم ، لكونهما فردا واحدا في الخارج ، والأمر في ذلك سهل ، إذ المراد بيان الحكم في نفسه فلا ينافيه اتفاق جهة الحرمة في بعض الأفراد.

وقد عرفت أن الأقوى الجواز للنصوص السابقة المعتضدة بالشهرة المحكية ، خلافا للمحكي عن الحلي والفخر ، بل لعله ظاهر المصنف وغيره ممن أطلق الحرمة من دون استثناء ترجيحا لإطلاق النهي وعموماته بل قيل أن تحريم الغناء كتحريم الزنا أخباره متواترة ، وأدلته متكاثرة ، عبر عنه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٣.

٤٩

بقَوْلَ الزُّورِ (١) و ( لَهْوَ الْحَدِيثِ ) في القرآن ، ونطقت الروايات بأنه الباعث على الفجور والفسوق ، فكان تحريمه عقليا لا يقبل تقييدا ولا تخصيصا فيحمل حينئذ ما دل على الجواز على التقية أو يطرح ، لكنه كما ترى ضرورة عدم كونه كذلك فان الطرب والخفة ونحوهما قد حلل كثير من أسبابها كالجماع وتقبيل المحبوب المحلل وضمه والمسامرة معه ونحوها مما يفيد الإنسان طربا أشد من الغناء فليس تحريمه حينئذ إلا سمعيا وقد عرفت اعتبار دليل الجواز في نفسه ، فضلا عن انجباره فلا محيص عنه حينئذ بمقتضى قواعد الإطلاق والتقييد ، ودعوى عدم المقاومة خالية عن الشاهد ، كالمناقشة بعدم الدلالة باعتبار عدم التلازم بين نفي البأس عن الأجرة ، وبين إباحة الغناء ضرورة كون ما التزمناه من التخصيص أسهل من ذلك ، لتواتر الأدلة في عدم إباحة اعواض المحرمات كما هو واضح.

نعم ينبغي الاقتصار على خصوص المغنية ، دون المغني ، وعلى العرس دون الختان ونحوه ، كما أنه قد يتوقف في استثناء المصنف في باب الشهادات ، والفاضل والشهيد والخراساني الحداء ، كدعاء لسير الإبل من الغناء المحرم ، بل ربما قيل أنه المشهور لعدم الدليل سوى الأصل المقطوع ، والنبوي المرسل (٢) « أنه قال : لعبد الله بن رواحة حرك بالنوق » فاندفع يرتجز وكان عبد الله جيد الحداء ، وكان مع الرجال ، وكان أنجشة مع النساء فلما سمعه تبعه ، فقال : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأنجشة « رويدك ، رفقا بالقوارير الذي لا جابر له » لعدم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٩٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٩ و ١٠ و ١١.

(٢) سنن بيهقي ج ١٠ ص ٢٢٧ والمجازات النبوية طبع مصر ص ٣٢.

٥٠

تحقق الشهرة ، بل لعل المحقق خلافها ، وعدم معلومية كون ذلك منه على صفة الغناء ، بل ربما ادعي أن الحداء قسيم للغناء ، بشهادة العرف وحينئذ يكون خارجا عن الموضوع ، لا عن الحكم ولا بأس به.

كما أن ما حكي عن بعضهم من استثناء مراثي الحسين عليه‌السلام إن أريد به الخروج عن الموضوع باعتبار اندراجه في النوح الذي ستعرف جوازه ، فلا إشكال فيه ، وإلا كان ممنوعا لعدم الدليل الصالح وكونه معينا على البكاء المرغب فيه طاعة لله بمعصيته ، ودعوى استمرار السيرة عليه ممنوعة ، كما هو واضح ، نعم لا بأس بالهلهولة على الظاهر لكونها صوتا من غير لفظ ، والغناء من الألفاظ وأما الترديد المسمى بالحوراب في عرفنا فربما ظهر من بعض مشايخنا معلومية حليته في حال الحرب ، وحث الرجال على القتال المحلل ».

نعم قال : الحزم اجتنابه ، واجتناب الرقص والهلهولة في غير ذلك بل لعله يحرم فعله ، لأنه من اللهو والباطل ، والحازم يتجنب الشبهات خصوصا عند اشتباه الموضوعات » وفيه أنه مع فرض عدم اندراجه في الغناء يمكن فرضه فيما لا يدخل في اللعب واللهو ، أما مع فرض اندراجه فيه فيشكل جوازه فيه ، فضلا عن غيره من الأحوال لإطلاق أدلة النهي بل قد اقترنت بمؤكدات تقتضي إرادة جميع الأفراد على وجه أظهر دلالة من العموم اللغوي فتأمل جيدا والله العالم.

ومنه معونة الظالمين بما يحرم ، كما عن المقنعة والمراسم والإرشاد ، ولعل المراد به بقرينة ذكر الظالمين ما يحرم من الظلم ، فيوافق عنوان الأكثر معونة الظالمين في الظلم ، بل قد يدعى انصرافه أيضا ممن أطلق أيضا ، كالمحكي عن النهاية لكن فيه أن ذلك غير مختص بالظالمين ضرورة حرمة إعانة كل عاص على معصيته ، واحتمال‌

٥١

ارادة ذلك من الظالمين ، بدعوى عمومه ولو للظالم نفسه كما ترى ، نعم يمكن أن يكون الوجه في ذكر ذلك بالخصوص بيان المراد من المستفيض أو المتواترة من النصوص الواردة في النهي عن إعانة الظالمين ، على معنى أن المحرم إعانتهم على مظالمهم ونحوها مما هو حرام في نفسه لا غيرها مما هو مباح في نفسه ، وإن كان ذلك هو المستفاد من جملة منها ، قال : ابن أبي يعفور (١) « كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فدخل عليه رجل من أصحابنا فقال : له أصلحك الله إنه ربما أصاب الرجل منا الضيق والشدة فيدعى إلى البناء يبنيه والنهر يكريه أو المسناة يصلحها فما تقول في ذلك؟ فقال : أبو عبد الله عليه‌السلام ما أحب أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء وأن لي ما بين لابتيها لا ولا مدة بقلم إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله عز وجل بين العباد » بل في‌ خبر يونس بن يعقوب (٢) « لا تعنهم ولو على بناء مسجد » وفي‌ خبر صفوان الجمال (٣) « النهي عن كرائه لهم جماله ، لسفر مكة » ومن هنا قال العلامة الطباطبائي : انه ان انعقد إجماع على هذا التفصيل ، وإلا فالمتجه التحريم مطلقا لاستفاضة النصوص في المنع عن إعانتهم في المباح بطريق العموم والخصوص ، مع اعتبار سندها وموافقتها الاعتبار فإن إعانتهم في المباحات تفضي إلى إعانتهم في المحرمات ، كما أشير إليه‌ في الخبر (٤) « لو لا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم ويجئ لهم الفي‌ء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٦.

(٢) الوسائل الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٨.

(٣) الوسائل الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١٧.

(٤) الوسائل الباب ٤٧ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

٥٢

لما سلبونا حقنا ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئا إلا ما وقع في أيديهم » ولأن ذلك لا ينفك عن الميل والركون إليهم وحب بقائهم ، كما أشير إليه في رواية صفوان وغيرها وقد قال الله تعالى (١) ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ ).

قلت : إلا أن السيرة القطعية على خلاف ذلك ، بل هو مناف لسهولة الملة وسماحتها وإرادة اليسر ، ضرورة عدم سوق مخصوص للشيعة ، وعدم تمكنهم من الامتناع عنهم ، بل هو مناف لما دل (٢) « على مجاملتهم ، وحسن العشرة معهم ، والملق لهم وجلب محبتهم ، وميل قلوبهم ، كي يقولوا رحم الله جعفر بن محمد ما أحسن ما كان يؤدب به أصحابه » فالمتجه حينئذ في الجمع بين الجميع ، تخصيص الحرمة في الإعانة على المحرم في نفسه ، كما في كل عاص وإعداد نفسه لها ، من غير تقييد بمحلل ومحرم على وجه يندرج في أعوانهم (٣) « فإن من علق سوطا بين يدي سلطان جائر ، جعل الله ذلك السوط يوم القيامة ثعبانا من نار يسلطه الله عليه في نار جهنم » والإعانة لهم عن ميل لظلمهم ، وبقصد السعي في إعلاء شأنهم ، وحصول الاقتدار على رعيتهم ، وتكثير سوادهم وتقوية سلطانهم ، فإنه لا ريب في حرمتها إذ هي كالإعانة ، بل هي منها في الحقيقة.

وأما ما عدا ذلك من خياطة ثوب أو بناء جدار أو نحو ذلك مما هو مباح في نفسه ، ولم يكن من قصد الفاعل ما سمعت ، فالظاهر‌

__________________

(١) سورة الهود الآية ١١٣.

(٢) الوسائل الباب ١ و ١٢١ من أبواب أحكام المعاشرة الحديث ٢ و ١ ـ ٥.

(٣) الوسائل الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١٠.

٥٣

جوازه ، وإن كان هو لا يخلو من كراهة ، ما لم تدع الضرورة من تقية ونحوها إليه ، فإن القرب إليهم مطلقا مظنة الهلاك ، هذا كله في ظلمة المخالفين وسلاطينهم.

وأما سلاطين أهل الحق فالظاهر عدم الكراهة في إعانتهم على المباحات ، لكن لا على وجه يكون من جندهم وأعوانهم ، بل لا يبعد عدم الحرمة في حب بقائهم ، خصوصا إذا كان لقصد صحيح من قوة كلمة أهل الحق وعزهم ، والله العالم.

ومنه نوح النائحة بالباطل‌ للنهي عن النوح في النصوص الكثيرة ، والاستماع له (١) « وأنه يؤذي في الليل الملائكة » والإجماع المحكي عن المنتهى لكن للجمع بين ذلك وبين ما دل على الجواز من السيرة والنصوص المستفيضة المعتضدة بالمحكي من فعل فاطمة عليها‌السلام بل والفاطميات في كربلاء وغيرها ، بل والمحكي في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) في المدينة « من فعل نساء المسلمين بل زوجاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، خصوصا أم سلمة منهن في ندبتها للوليد » بل‌ هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « قد أمر بندب حمزة » كما ان‌ الباقر عليه‌السلام (٣) قال : للصادق عليه‌السلام فيما رواه عنه يونس : « يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب يندبنني عشر سنين بمنى أيام منى » حمل المحرم على النوح بالباطل ، والمحلل على خلافه بشهادة‌ قوله عليه‌السلام في الخبر « لا ينبغي لها أن تقول هجرا فإذا جاء الليل فلا تؤذي الملائكة بالنوح » وغير ذلك ولعله المراد من الباطل في الفتاوي ، فان الهجر‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٦.

(٢) الوسائل الباب ١٧ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ١٧ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

٥٤

بالضم الإفحاش والخنا ، فيراد به حينئذ تعداد أفعاله القبيحة وصفاته المذمومة شرعا ، نحو النياحة على بعض الناس بذكر تهتكهم في المحرمات من الزنا واللواط وقتل النفوس والسرقة ، والنهب ونحو ذلك ، ما لا يشمل المبالغة في المدح ، لكن عن جماعة أن المراد به ما لا يجوز ذكره مثل الكذب بل عن جامع المقاصد أنه قد يلحق به أو يدخل فيه ، ما إذا سمع صوتها الأجانب ، وفيه منع حرمة ما يدخل في المبالغة منه وما لا يقصد به الخطاب مع أحد مما يذكر للمدح وقرينته معه ، وأما الأخير فليس مما نحن فيه قطعا على أنه مبني على حرمة سماع الأجانب ذلك من غير ريبة ، وفيه منع كما ذكرناه في محله ، وخصوصا مع عدم تمييز الألفاظ.

وعلى كل حال فمن ذلك كله يعلم ما عن محكي المبسوط وابن حمزة ، من إطلاق حرمة النياحة ، بل في الأول الإجماع عليه اللهم إلا أن يريدا ما ذكرنا ، خصوصا بعد الإجماع عن المنتهى على جواز أخذ الأجرة على النوح بالحق ، المستلزم لجوازه المصرح به في كلام كثير بل المشهور ، نعم لا يبعد الحكم بكراهته مطلقا ، للخبر بل لا يبعد شدتها مع الشرط ، لخبر حنان أيضا ، بل لا يبعد كراهة أصل النوح خصوصا في الليل ، إلا على الحسين صلوات الله وسلامه عليه والشهداء معه بل وغيره من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام ، بل يمكن إلحاق العلماء بهم ، وعلى كل حال فالظاهر عدم استثناء النوح الجائز من الغناء ، ضرورة عدم اندراجه فيه عرفا ، للفرق الواضح بين صوت البلبل ونوح الحمام والبوم ، فلا يقدح حينئذ ما فيه من المد والترجيع بعد الخروج عن الموضوع ، نعم ربما يكون منه نوح العشاق والمتيمين على إشكال كما أن ما يستعملونه بعنوان النوح من مقامات الغناء وشعبه‌

٥٥

لا يخرج بذلك عن حقيقة الغناء ولا عن حكمه كما هو واضح والله العالم.

ومنه حفظ كتب الضلال ونسخها لغير النقض كما صرح به غير واحد ، بل عن التذكرة والمنتهى نفي الخلاف عنه ، بل عن كثير تقييد النقض بما إذا كان من أهله ، نعم في القواعد وغيرها إضافة الحجة على أهلها إليه ، وآخرون التقية والمراد حفظها عن التلف أو على ظهر القلب بل يحرم مطالعتها وتدريسها ، بل الظاهر أن حرمة الحفظ لوجوب إتلافها ، باعتبار دخولها تحت الوضع للحرام ، وتحت ما من شأنه ترتب الفساد عليه ، بل هي أولى حينئذ بالحرمة من هياكل العبادة المبتدعة ، كما أنها داخلة في‌ قول : الصادق عليه‌السلام (١) في خبر تحف العقول « وكل منهي عنه مما يتقرب به لغير الله تعالى أو يقوى به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي ، أو باب يوهن به الحق ، فهو حرام محرم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلب فيه إلا في حال تدعوا الضرورة فيه إلى ذلك » بل وفي‌ قوله « فيه إنما حرم الله الصناعة التي هي حرام كلها التي يجي‌ء منها الفساد محضا ، نظير البرابط والمزامير والشطرنج ، وكل ملهو به والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك ، من صناعات الأشربة الحرام وما يكون منه وفيه الفساد محضا ولا يكون منه ولا فيه شي‌ء من وجوه الصلاح فحرام » إلى آخره بل وفي غير ذلك من كلماته بل قد يستفاد حرمته أيضا مما دل على وجوب اجتناب قول الزور ولهو الحديث والكذب والافتراء على الله ، وأنه من كتابة الكتاب باليد ، على أنه من الله ليبتغوا به ثمنا قليلا » ‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

٥٦

بل ويستفاد أيضا مما دل على وجوب جهاد أهل الضلال ، وأضعافهم بكل ما يمكن ، ضرورة معلومية كون المراد من ذلك تدمير مذهبهم ، بتدمير أهله فبالأولى تدمير ما يقتضي قوته.

ومنه يظهر الوجه في استثناء النقض لأنه إتلاف لكلها الذي هو أولى من إتلاف احادها الغير المقتضى لرفع فسادها بخلاف ردها بطرق الاستدلال ، وأما الحجة على أهلها فإن رجع إلى ذلك ، وإلا كان استثناؤه لا يخلو من إشكال ، وأشكل منه ما ذكره بعض مشايخنا من أنه ليس غرض من زاد أو نقص في الاستثناء الحصر ، لأنه لو كان الغرض الاطلاع على الفرق الفاسدة ، أو تحصيل ملكة البحث ، أو نقل الفروع الزائدة فلا بأس ، ضرورة أنه مناف لما ذكرناه مما دل على وجوب إتلاف كل ما وضع للحرام وترتب عليه الفساد.

وكيف كان فمن الغريب بعد ذلك ما وقع للمحدث البحراني من إنكار أصل الحكم لعدم نص بالخصوص على ذلك حتى أنه ربما أساء الأدب مع الأصحاب الذين هم حفاظ السنة والكتاب ، نسأل الله العفو عنا وعنه.

إنما الكلام في المراد من كتب الضلال ففي شرح الأستاد أنه ليس الغرض من كتب الضلال ما اشتمل على الضلال في الجملة وإلا لم يمكن الرجوع إلى كتب اللغة والعربية والتفسير وغيرها من كتب المقدمات. ووجب إتلافها لعدم الخلو من ذلك ، ولا ما كان من الكتب مشتملا على ما يحتاجه الفقيه في طرق الاستدلال للاطلاع على مذاهب القوم مما يتوقف عليه ، ترجيح الروايات بعضها على بعض ، ولا ما كان مستندا إلى أهل الضلال ، لأن فيه رشادا كالكتب الأصولية المشتملة على الضوابط الشرعية الموصلة إلى معرفة تحصيل الاستدلال ، فان ذلك من‌

٥٧

الواجبات للتوصل إلى معرفة الأحكام الشرعية ، بل المراد والله أعلم التي وضعت للاستدلال على تقوية الضلال يجب إتلافها ، فضلا عن غيره من نسخ وغيره إلا مع قصد الابطال ونحوه كما ذكرنا ، سواء تقوت بها كلمة الكفر الإسلامي أو الإيماني أو خلاف الشرعي الفرعي الثابت بالدليل القطعي وأما الخالية عن الحجاج ، وإنما هي أحكام تذكر ، وأخبار تسطر ككتب الفقه والحديث لغير أصحابنا فلا تجوز قنيتها ولا استعمالها ولا نسخها للانتفاع بها إلا بقصد ما ينفع في الأمور العلمية أو غيرها ولا يجب إتلافها وأما ما كان من كتب أهل الضلال فما وضع لمعرفة كيفية الاستدلال أو الاهتداء إلى معرفة معاني الكتاب والسنة ، والكتب المنسوخة مع قصد الاطلاع على المواعظ ، كالزبور ونحوه من كتب الأنبياء أو على التواريخ والسير والأمور السائغة ، فلا بأس به وربما وجب ، وفيه أن ما سمعته من الدليل لا يقتضي الاختصاص بذلك بل مقتضاه الحرمة في كل ما كان فيه ضلال ، قل أو كثر وضع لذلك أو لا ، ولذا صرح في المسالك ومحكي جامع المقاصد بوجوب إتلاف خصوص موضع الضلال من الكتاب ، المشتمل عليه وعلى غيره ، بل قد أعد ووضع لغيره ، فالمراد حينئذ من الكتب كل كتابة ضلال أي غير رشاد.

ومن ذلك يظهر ما في كلام بعض مشايخنا أيضا من أن الظاهر من الأصحاب كون المراد بكتب الضلال ما كان كلها ضلال ، قال : ولا سيما المقنعة والنهاية والمراسم وبه صرح صاحب إيضاح النافع والمولى الأردبيلي بل ظاهر الأول الإجماع على ذلك ، حيث قال : والحق ان إفراد الحق عن الضلال غير مستحسن ، وليس من عادة الأصحاب إلى آخره وهو الذي يقتضيه حقيقة اللفظ من دون تجوز ، وهو معقد‌

٥٨

الإجماع ، ومصب الفتاوى كالتوراة والإنجيل ، فإنه قد نص الفاضل في التذكرة والمقداد والكركي والقطيفي على أنهما محرفان ومعلوم أنهما منسوخان ، وككتب القدماء من الحكماء القائلين بقدم العالم ، وعدم المعاد ، وكتب عبدة الأصنام ، ومنكري الصانع ، وأما كتب البدع في هذه الملة فهي أصناف منها كتب الجبر ونفي الغرض المفردة التي ليس معها غيرها ، والكتب المفردة في خصوص امامة الثلاثة ، وكتب الخوارج أصولا وفروعا والفتاوى المفردة لأحد الأربعة ، فهذه حالها حال ما تقدمها.

وأما ما اشتمل على كتبهم ، مع كونه مشحونا بما يوافق العدلية ككتب المعتزلة وبعض كتب الأشاعرة وتفاسيرهم وأصول فقههم والصحاح الست ، فلا حرمة بها كما نص على بعض ذلك صاحب إيضاح النافع ، والبعض الآخر المولى الأردبيلي ، وفيه ما عرفت من أنه ليس في النصوص هذا اللفظ ، كي يقتصر على المنساق منها من كونه معدا أو كون مجموعه ضلالا أو نحو ذلك ، وإنما العمدة ما سمعته من الدليل الذي لا فرق فيه بين المعد وغيره والكل والبعض ، والأصلي والفرعي ، الذي علم كونه ضلالا ولو للتقصير في الاجتهاد ونحوه ، ولعل ملاحظة الأصحاب كتب فروع العامة وذكرها في كتبهم ، لأن لها مدخلية في تمييز الحق باعتبار ما ورد من الأمر بأخذ ما خالفهم ، وطرح ما وافقهم ، وهو موقوف على ذلك وهو واضح ، كما أنه قد يقال بخروج غالب كتب المخالفين ، والملل الفاسدة عن الضلال في هذه الأوقات ، باعتبار ما وقع من جملة من أصحابنا من نقضها وإفسادها فهي حينئذ كالتالفة ، فلا يجب حينئذ إتلافها بمعنى إعدامها عن الوجود ، بل لا بأس ببيعها وشرائها والاستيجار على كتابتها ، ونحو ذلك ضرورة صيرورتها بذلك‌

٥٩

كالكلام المنقوض في كتب أهل الحق ، مثل الشافي وكشف الحق ونحوهما إذ من المعلوم أعمية النقض للأمرين معا فتأمل جيدا ، وليس من كتب الضلال كتب الأنبياء السابقين ، ما لم يكن فيها تحريف ، إذ النسخ لا يصيرها ضلالا ، ولذا كان بعضها عند أئمتنا عليهم‌السلام ، وربما أخرجوها لبعض أصحابهم ، بل ما كان منها مثل الزبور ونحوه من أحسن كتب الرشاد ، لأنها ليست إلا مواعظ ونحوها على حسب ما رأيناها والله أعلم.

ومنه هجاء المؤمنين بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، وهو الحجة مضافا إلى ما دل على حرمة إيذاء (١) المؤمن وظلمه ، وهتك حرمته ، وإدخال النقص عليه ومحبة شياع الفاحشة فيه واغتيابه والغمز عليه وعلى أن ماله ودمه وعرضه محرمة وغير ذلك ، نعم ذلك كله عدا الإجماع المزبور لا يختص بالهجاء ، بناء على كونه ذكر المعايب بالشعر ، كما في المسالك بل قيل انه ظاهر القاموس والنهاية والمصباح ، لكن من غير قصر على المعايب التي فيه ، نحو ما في الصحاح وإن كان لم يخصه بالشعر ، حيث قال : انه خلاف المدح ومن ذلك ينقدح الاستدلال عليه بالإجماع ، ضرورة عدم معلومية اعتبار الشعر فيه حينئذ ، اللهم إلا أن يدعى العرف على ذلك ، ولا ينافيه إطلاق ما في الصحاح بعد احتمال إرادته له أيضا ، اتكالا عليه ، كما أنه يمكن كون المراد للشهيد بالمعايب مطلق ما يعيبه ويشينه ، سواء كان فيه أو لا وحينئذ يبقى على إطلاق حرمته من غير فرق بين الفاسق متجاهرا أو لا وغيره.

وما دل على جواز الغيبة للاول ، وأنها من الممحصات للذنب ، لا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤٥ من أبواب أحكام العشرة.

٦٠