جواهر الكلام - ج ٢٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بها في الشرب ، لكن شرب الأبوال محرمة ، فيحرم البيع تبعا له أما الأولى فلأن الانتفاع بغير الشرب نادر ، لا يعتد به ولا يصح البيع لأجله ، كما في فضلات الإنسان ورطوباته ، واما الثانية فلأنها من الخبائث المحرمة بنص الكتاب ، بل‌ روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدة طرق (١) « انه كان يكره الكليتين ولا يأكلهما لكونهما مجمع البول أو لقربهما منه » بل لو سلمنا جوازه فهو نفع نادر غير مقصود للعقلاء ، ولا معدود من المنافع عرفا ، لإعراض الناس عنه وعدم التفاتهم إليه ، كالانتفاع بغير الشرب فلا يصح بيعها للإجماع على اشتراط المنفعة في البيع ، والمراد بها المنفعة الظاهرة المقصودة من الشي‌ء في العادة ولا عبرة بالمنفعة النادرة ، إذ لا يخلو عنها شي‌ء من الأشياء فلو كانت كافية في صحة البيع ، لبطل اشتراط النفع ولزم جواز بيع كل شي‌ء ، وهو خلاف الإجماع ، كل ذلك مضافا إلى عدم عدها في العرف أموالا ، يتحقق فيها الغصب والسرقة والضمان ونحوها ، وإلى ما في كشف الرموز من نسبة عدم الجواز إلى عموم الروايات الواردة بالمنع من التصرف في الأبوال بل ابن إدريس لما نقل عبارة النهاية قال : من ذلك خبر أورده شيخنا إيرادا لا اعتقادا ، لكن يقوى في النظر جواز التكسب بها أيضا ، وفاقا للحلي والفاضل في المختلف والتحرير والابى والشهيدين والكركي وغيرهم ، لنحو ما سمعته في الأرواث ، من عموم الأدلة وغيرها ، بل صرح المرتضى بجواز شربها اختيارا ، مدعيا عليه الإجماع مضافا إلى الأصل ، وعموم الكتاب والسنة وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) « لا بأس ببول ما أكل لحمه » والموثق عن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٣١ من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث ٥ و ١.

(٢) الوسائل الباب ٨ من أبواب النجاسات الحديث ١٧.

٢١

الصادق (١) عليه‌السلام « كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه » بل والموثق الآخر عنه أيضا (٢) « سئل عن بول البقر يشربه الرجل قال : إن كان محتاجا إليه يتداوى به يشربه ، وكذلك بول الإبل والغنم » وخبر سماعة (٣) « سألت أبا عبد الله عن شرب الرجل أبوال الإبل والبقر والغنم ينعت له من الوجع هل يجوز له أن يشرب قال : نعم لا بأس به » ، الظاهرين في تساوي أبوال الإبل وغيرها ، وستعرف جواز بيعها ، على أنه لو سلم عدم جواز شربها فلا يستلزم عدم جواز التكسب بها ، كما سمعته في الروث وعدم عد الناس لها أموالا تساهلا واستغناء عنها غالبا ، لا ينافي جواز التكسب بها عند الحاجة إليها واتخاذها مالا ، لندرة المنفعة المرادة منه ، لا تقتضي عدم جواز التكسب بها ، وإلا لم يجز التكسب بأكثر العقاقير.

ومن ذلك يعلم الأولوية بجواز البيع في بول الإبل ، الذي قد أجازه بعض من منع في غيره ، مدعيا الفرق بينهما بعدم كونه من الخبائث ، لأن العرب لا تستخبثه بل تتداوى به وتشربه عند إعواز الماء وقلته ، وهم المرجع في الفصل بين الطيبات والخبائث ، دون سائر الناس لأنهم المخاطبون بالقرآن والسائلون في قوله (٤) ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) ولأنهم أناس لا تقلب عليهم العيافة من التنعم الحاصل في غيرهم ، وفيه أن ذلك كله جار في بول البقر والغنم ونحوهما ، ودعوى الفرق بينهما بذلك لا وجه له ، وما يذكر من النفع‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من أبواب النجاسات الحديث ١٢.

(٢) الوسائل الباب ٨ من أبواب النجاسات الحديث ١٥.

(٣) الوسائل الباب ٥٩ من أبواب الأطعمة والأشربة الحديث ٧.

(٤) سورة المائدة الآية ٤.

٢٢

في أبوال الإبل بعينه يجري في هذه الأبوال أيضا ، فالمتجه الجواز في الجميع كما عرفت ومن هنا قال المصنف رحمه‌الله والأول أي اختصاص المنع ببول ما لا يؤكل لحمه وروثه أشبه بأصول المذهب وقواعده ، بل الظاهر اختصاص ذلك بالنجس منه وهو ذو النفس منه لا مطلقا لما عرفت فما عن الفاضل في النهاية ، ويحيى بن سعيد في النزهة ، من المنع عن التكسب ببول الإبل فضلا عن غيره واضح الضعف ، وربما خص جواز بيع أبوال الإبل بالاستشفاء بها عند الضرورة ، لا غير ، بل جعل ذلك قولا ، ونسب إلى الشيخ في النهاية بل قيل : إن قول العلامة في القواعد والتذكرة إلا بول الإبل للاستشفاء يحتمله أيضا ، بناء على كون ذلك قيد للمستثنى ، لا تعليلا للاستثناء بل جعل ما في المسالك وغيرها من جواز بيعها إن فرض لها نفع مقصود كغيرها من الأبوال قولا رابعا ، والتحقيق رجوع القولين إلى الأول ، الذي هو الجواز مطلقا ، ولكن ذكر القيد لإرادة إخراج المعاملة عن السفه المعلوم اعتباره في صحة المعاوضات كما هو واضح.

وأما التكسب بالخنزير وجميع أجزائه وجلد الكلب وما يكون منه فلا خلاف أجده في عدم جوازه ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، مضافا إلى ما سمعته من الأدلة السابقة الدالة على ذلك نعم ستسمع فيما يأتي إنشاء الله جوازه في بعض الكلاب ، كما أنه لا إشكال في جوازه بأخيه أي الكافر حربيا كان أم ذميا لمسلم كان أم لكافر ذمي أو حربي وإن كان هو من الأعيان النجسة ، إلا أن ذلك لا يمنع من بيعه بإجماع المسلمين والنصوص كخبر إسماعيل بن الفضل (١) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شراء مملوكي‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من أبواب بيع الحيوان الحديث ٢.

٢٣

أهل الذمة إذا أقروا لهم ، فقال إذا أقروا لهم بذلك فاشتر وانكح » وموثق إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه‌السلام (١) في شراء الروميات « فقال : اشترهن وبعهن » وخبر عبد الله بن الحسن الدينوري (٢) قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام « ما تقول : في النصرانية أشتريها وأبيعها من النصارى؟ قال : اشتر وبع » إلى غير ذلك من النصوص الدالة فما عساه يتوهم من إطلاق بعض الأصحاب تحريم التكسب بالأعيان النجسة المندرج فيها الكافر في غير محله ، ضرورة اختصاص الحكم بما لا يقبل الطهارة من الأعيان ، لأن شرط صحة البيع طهارة العوضين فعلا أو قوة ، والكافر يقبل الطهارة بالإسلام ، بل كلامهم في مباحث سبي الكفار ، وبيع الأناسي وفي مسئلة البيع بشرط الكفر وظهور المبيع كافرا بعد البيع ، واشتراط إسلام المشتري إذا اشترى مسلما وغيرها من المسائل ، والفروع ينادي بسقوط هذا الوهم.

وعن الشيخ في المبسوط التصريح بأن موضع الحكم في مسئلة تحريم بيع النجس ، وهو غير الآدمي من الحيوان ، وغيره والعلامة في التحرير بجواز التجارة في الجارية النصرانية ، والعبد المرتد عن غير فطرة ، بل عنه في المنتهى تجوز التجارة في الجارية النصرانية ، والمغنية بالبيع والشراء لأنهما عينان مملوكتان فيصح أخذ العوض عنهما ، ولا نعلم فيه خلافا وبالجملة فالأمر في ذلك أوضح من أن يتصدى لبيانه ، نعم إنما الكلام في سبي الذكور البالغين في زمان الغيبة ، فإنه قد قيل : لا يصح استرقاقهم ، لأن حكمهم إلى الامام وهو مخير فيهم بين المن والفداء ،

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من أبواب بيع الحيوان الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ١٦ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

٢٤

والاسترقاق وفي ابتياع الحربي من مثله إذا استرقه أنه بيع أو استنقاذ في صورة البيع ، والبحث فيهما يأتي في محل آخر يليق به إنشاء الله.

النوع الثاني مما يحرم التكسب به لتحريم ما قصد به من الغايات التي وضع لها الشي‌ء كآلات اللهو مثل العود والزمر وهياكل العبادة المبتدعة كالصليب والصنم وآلة القمار كالنرد والشطرنج ونحو ذلك بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه والنصوص ففي‌ خبر (١) تحف العقول عن الصادق عليه‌السلام « إنما حرم الله الصناعات التي هي حرام كلها ، التي يجي‌ء منها الفساد محضا ، نظير البرابط والمزامير والشطرنج ، وكل ملهو به والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك ، إلى أن قال : فحرام تعليمه والعمل به وأخذ الأجرة عليه ، وجميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات » وفي‌ خبر أبي بصير المروي (٢) عن مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي عن الصادق عليه‌السلام أيضا « بيع الشطرنج حرام وأكل ثمنه سحت واتخاذها كفر ، واللعب بها شرك والسلام على اللاهي معصية وكبيرة ، والخائض يده فيها كالخائض يده في لحم الخنزير والمرسل المقلب لها أي الشطرنج كالمقلب لحم الخنزير » بل في شرح الأستاد أن ظاهر الإجماع والأخبار عدم جواز العمل ، والاستعمال والانتفاع والإبقاء والاكتساب بجميع وجوهه من عبر فرق بين قصد الجهة المحللة وغيرها ، ولا بين قصد المادة وقصد الصورة لكن في المسالك إن أمكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرم ، على تلك الحالة منفعة مقصودة ، فاشتراها لتلك المنفعة ، لم يبعد جواز بيعها إلا أن هذا الفرض نادر فالظاهر أن ذلك الموضوع المخصوص لا ينتفع به ، إلا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ١٠٣ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤.

٢٥

في المحرم غالبا ، والنادر لا يقدح ، ومن ثم أطلقوا المنع من بيعها وتبعه عليه جماعة من متأخري المتأخرين ، كما أن المحكي عن موضع التذكرة ، جواز بيعها إذا كان لمكسورها قيمة ، وباعها صحيحة لتكسر وكان المشتري ممن يوثق بديانته ، وتبعه عليه أيضا جماعة من متأخري المتأخرين ، وجعله أحد الوجهين في المسالك ومحكي جامع المقاصد ، بل في الأول استحسنه بعد أن حكاه عن التذكرة مع زوال الصفة.

ثم قال : وهل الحكم في أواني الذهب والفضة كذلك يحتمله ، بناء على تحريم عملها والانتفاع بها في الأكل والشرب ، وعدمه لجواز اقتنائها للادخار وتزيين المجلس والانتفاع بها في غير الأكل والشرب ، وهي منافع مقصودة ، وفي تحريم عملها مطلقا نظر ، وفي الأخير ما سمعته في كتاب الطهارة من أن المشهور بين الأصحاب حرمة اتخاذ الأواني من النقدين مطلقا ، من غير فرق بين الاستعمال والتزيين والقنية بل عن التذكرة وغيرها الإجماع على حرمة استعمالها في غير الأكل والشرب كما عن كشف الرموز نفي الخلاف فيه كما تقدم الكلام فيه مفصلا فحينئذ لا فرق بينها وبين ما هنا ، كما أن في سابقه إمكان منع مدخلية الكسر اللاحق في الحكم بالحرمة ، ضرورة صدق كون العوض ثمن شطرنج مثلا ، وإخراجه بعد ذلك عن الاسم بالكسر غير مجد ، كما هو واضح بأدنى تأمل ، بل قد يناقش في الأول بما سمعته سابقا من عدم مدخلية المنفعة النادرة ، بعد فرض كون المقصد المعظم منه محرما ، كما هو المفروض في محل البحث ، ولو فرض أن للشي‌ء منفعتين مقصودتين إحداهما محللة والأخرى محرمة ، دار الحكم مدار القصد ، ولعل ذلك هو المراد له إلا أنه خروج عن المقام.

وكيف كان فلا ريب في بقاء المادة على الملك ولا تخرج عنه‌

٢٦

بالصورة التي يرفع الشارع احترامها ولم يدخلها في الملك وأوجب على المكلفين إتلافها بلا ضمان ، حتى لو استلزم إتلاف المادة ، ويرتفع ضمانهما معا بل قيل بجواز إتلافهما معا بلا ضمان ، من دون استلزام وإن كان لا يخلو من إشكال أو منع ، أما إذا أتلف الصورة وبقيت المادة فلا إشكال في بقائها على الملك وحرمة إتلافها وضمان المتلف لها نعم ليس بيعهما معا من قسم بيع المتغايرين في صفقة ، حتى يصح في البعض دون البعض ضرورة كونهما شيئا واحدا ، ومن ذلك يعلم أنه لا فرق في حرمة التكسب بها بين قصد المادة والصورة ، وبين قصد المادة خاصة ، وليست هي كالعبد المغني والكاهن والساحر ، والمقامر ونحوهم ، مما يصح بيعهم ، مع عدم ملاحظة الصفة وإنما يفسد البيع إذا لوحظت ، كما نص عليه شيخنا في شرحه ، ضرورة الفرق بين المقامين بل قد عرفت فيما تقدم أنه لا فرق في الحرمة بين ملاحظة الغاية المحرمة ، وعدمها بل الظاهر ذلك ، حتى لو قصد الجهة المحللة بعد فرض ندرتها ، كما أنه لا فرق في حرمة التكسب بها بين دفعها للمسلم والكافر ، حتى لو كان حربيا نعم قد يقال ان له تملك العوض المدفوع من الحربي بالاستيلاء وإن أثم بدفع أحد الأعيان المزبورة إليه هذا وفي شرح الأستاد جعل مما نحن فيه في جميع الأحكام المزبورة ، الدراهم الخارجية وبعض التغليطات في الجواهر والأقمشة وهو مشكل ، نعم يشترك ذلك معه في كون الجميع مما يترتب عليه الفساد العام ، فيجب على سائر الناس دفع ما يندفع به ذلك بكسر ونحوه ، لا أن المعاملة عليه بعد الاخبار بحاله بحيث لم يبق غش منه فاسدة ، وأن الثمن المدفوع عنه حرام فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فمن هذا القسم كلما يفضي إلى مساعدة‌

٢٧

على محرم كبيع السلاح لأعداء الدين مع قصد الإعانة أو كانت الحرب قائمة ، للنهي عن الإعانة (١) ول‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر (٢) السراد أو مرسله في جواب « سؤاله عن بيع السلاح لا تبعه في فتنة » وصحيح علي بن جعفر (٣) المروي عن كتاب مسائله وقرب الاسناد « سأل أخاه عن حمل المسلمين إلى المشركين التجارة ، فقال إذا لم يحملوا سلاحا فلا بأس » وما‌ في وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام في خبر حماد بن أنس (٤) « يا علي كفر بالله العظيم من هذه الأمة ، عشرة أصناف إلى أن قال : وبايع السلاح من أهل الحرب » وخبر هند السراج (٥) « قال : لأبي جعفر عليه‌السلام أصلحك الله تعالى إني كنت أحمل السلاح إلى الشام ، فأبيعه منهم فلما أن عرفني الله هذا الأمر ضقت بذلك وقلت لا أحمل إلى أعداء الله فقال : احمل إليهم وبعهم ، فان الله يدفع بهم عدونا وعدوكم يعني الروم ، فان كان الحرب بيننا فلا تحملوا فمن حمل إلى عدونا سلاحا يستعين به علينا فهو مشرك » وحسن أبي بكر الحضرمي (٦) قال : « دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له حكم السراج : ما تقول فيمن يحمل لأهل الشام من السروج وأداتها فقال : لا بأس أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنكم في هدنة وإن كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السروج والسلاح ».

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٢.

(٢) الوسائل الباب ٨ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤.

(٣) الوسائل الباب ٨ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٦.

(٤) الوسائل الباب ٨ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٧.

(٥) الوسائل الباب ٨ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

(٦) الوسائل الباب ٨ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

٢٨

ولإطلاق بعض هذه النصوص أطلق بعض تحريم بيع السلاح لأعداء الدين من غير تقييد بالقصد أو قيام الحرب ، وربما كان ظاهر المتن في وجه ، وما أبعد ما بينه وبين آخر حيث اعتبر في الحرمة القيدين معا ، واقتصر ثالث على اعتبار القصد كما هو الوجه الأخر في المتن ، ورابع على قيام الحرب ، والتحقيق ثبوتها بأحدهما أما مع القصد فلتحقق التعاون ، وأما مع قيام الحرب فلما سمعته من النصوص التي يجب حمل إطلاق غيرها عليها ، وربما علل أيضا بالإعانة وفيه منع صدقها مع عدم القصد ، خصوصا بعد كون المنهي عنه التعاون ، الظاهر في كون الفعل مقصودا للجميع ، وأن كلا منهم صار ظهيرا للآخر في وقوعه لا أن مجرد الاشتراك في شرائط وقوع الفعل يحقق الإعانة وإلا لم يمكن الاستقلال بالفعل ، من أحد ضرورة معلومية عدم كون الشرائط جميعها منه ، وبذلك ظهر لك أن الحرمة في المقام مع عدم القصد إنما هي من النصوص ، فالواجب حينئذ الاقتصار على خصوص المستفاد منها ، مع ملاحظة صلاحية الخبر باعتبار جمعه لشرائط الحجية وعدمها ، ولا يجوز التعدي إلى غيره كما وقع من بعضهم.

نعم لا بأس بالتعدية فيما كان مدرك الحرمة فيه آية التعاون (١) من الفرد الآخر وهو المشتمل على القصد ، ضرورة اشتراك الجميع في الصدق ، بعد فرض ثبوت ما يحققه من القصد على الوجه الذي ذكرناه فلا فرق حينئذ بين السلاح وغيره فيما يحصل به التعاون ، ولا بين المشركين وغيرهم ، ولا بين حال الهدنة وغيرها ، كما لا يخفى على من له أدنى نظر وتأمل ، وعلى كل حال فقد ظهر لك أنه لا حرمة فيما لا تعاون فيه ، ولا هو مندرج في إطلاق النصوص المزبورة ، كبيع السلاح‌

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٢.

٢٩

وغيره عليهم في حال الهدنة مع عدم القصد ، وفي حال الحرب بينهم ، ولو مع قصد إعانة بعضهم على بعض ، كما أومى إليه في الجملة خبر هند السراج السابق.

وأما حرمة التكسب في إجارة المساكن والسفن ونحوها للمحرمات وفي بيع العنب مثلا ليعمل خمرا وبيع الخشب ليعمل صنما مثلا على وجه يبطل العقد معها فلا خلاف أجدها فيها مع التصريح بالشرطية أو الاتفاق عليها على وجه بنى العقد عليها ، بل عن مجمع البرهان نسبته إلى ظاهر الأصحاب ، بل عن المنتهى دعوى الإجماع عليه ، كما عن الخلاف والغنية الإجماع على عدم صحة إجارة المسكن ليحرز فيه الخمر أو الدكان ليباع فيه ، بل عن الأول زيادة نسبته إلى أخبار الفرقة أيضا ، بل قد يظهر من الأصحاب كون الحكم كذلك مع فرض القصد لذلك وإن لم يكن على جهة الشرطية بل إنما كان على جهة الغائية ، بل قد يقال : بكون الحكم كذلك عندهم مع فرض ذلك من البائع خاصة ، فضلا عن اشتراطه وعن اتفاق المشتري معه عليه.

ولعل الدليل على ما لا يندرج منه آية التعاون الذي قد عرفت المراد منه ، الإجماع المحكي وإطلاق بعض النصوص كخبر جابر (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يؤجر بيته ، فيباع فيه الخمر فقال : حرام أجرته » ، وذيل مكاتبة ابن أذينة في الحسن أو الصحيح للصادق عليه‌السلام (٢) « عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه صلبانا قال : لا » وخبر عمر بن حريث (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ٤١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ٤١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

٣٠

التوت أبيعه ممن يصنع الصليب أو الصنم قال : لا » بل هي بإطلاقها شاملة لما أفتى به المصنف وغيره بل المشهور من أنه يكره بيع ذلك لمن يعلم أنه يعملهما خمرا أو صليبا.

لكن يجب الخروج عنه بالنسبة إلى ذلك لمعارضة لما دل على الوفاء بالعقود ، وحليته البيع وغيره من العقود وخصوص‌ صحيح ابن أذينة « كتبت إلى أبي عبد الله (١) عليه‌السلام أسأله عن الرجل يؤجر سفينته أو دابته ممن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنازير فقال : لا بأس » ومكاتبته الأخرى له أيضا (٢) « سأله عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه برابط فقال : لا بأس » وخبر محمد بن أبي نصر (٣) « سألت أبا الحسن عن بيع العصير فيصير خمرا قبل أن يقبض الثمن قال : فقال : لو باع ثمرته ممن يعلم أنه يجعله حراما لم يكن بذلك بأس ، وأما إذا كان عصيرا فلا يباع الا بالنقد » وخبر محمد الحلبي (٤) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن بيع عصير العنب ممن يجعله خمرا قال : لا بأس به ، يبيعه حلالا ويجعله ذلك حراما فأبعده الله عز وجل واستخفه » وصحيح ابن أذينة (٥) « كتبت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله عن رجل له كرم ، أيبيع العنب ممن يعلم أنه يجعله خمرا أو مسكرا؟ فقال : إنما باعه حلالا في الإبان الذي يحل شربه أو أكله‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ٤١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤.

(٥) الوسائل الباب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٥.

٣١

فلا بأس ببيعه » وخبر أبي كهمس (١) « سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام إلى قال : ثم قال : عليه‌السلام هو ذا نحن نبيع تمرنا ممن نعلم أنه يصنعه خمرا » وخبر رفاعة (٢) عن الصادق عليه‌السلام « أنه سأل عن بيع العصير ممن يخمره فقال : حلال ، ألسنا نبيع تمرنا ممن يجعله شرابا خبيثا؟ » وصحيح الحلبي (٣) عن الصادق عليه‌السلام « أنه سأل عن بيع العصير ممن يصنعه خمرا قال بعه ممن يطبخه أو يصنعه خلا أحب إلى ولا أرى بالأول بأسا » وخبر يزيد بن خليفة الحارثي (٤) عن الصادق عليه‌السلام « قال سأله رجل وأنا حاضر ، قال : إن لي الكرم فأبيعه عنبا قال : فإنه يشتريه من يجعله خمرا قال : بعه إذا كان عصيرا قال : انه يشتريه مني عصيرا فيجعله خمرا في قريتي قال : بعته حلالا فجعله حراما فأبعده الله تعالى ».

والمناقشة بإمكان حملها على توهم البائع أن المشتري يعمله خمرا أو على ارادة رجوع الضمير إلى مطلق العصير لا التمر المبيع ، وفي خبر ابن أذينة باحتمال حمل الخمر فيه لإرادة التخليل أو الجبر عليه أو على كونه لأهل الذمة الذين لهم ان يفعلوا ذلك أو على عدم العلم بحمله أو نحو ذلك كما ترى ، فلا إشكال في دلالتها على المطلوب كما لا إشكال في قوتها على المعارض من وجوه ، خصوصا بعد تأيدها بالسيرة على المعاملة مع الملوك والأمراء ، فيما يعلمون صرفه في تقوية الجند‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٦.

(٢) الوسائل الباب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٨.

(٣) الوسائل الباب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٩.

(٤) الوسائل الباب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١٠.

٣٢

والعساكر ، المساعدين لهم على الظلم والباطل واجارة الدور والمساكن والمراكب لهم لذلك ، وبيع المطاعم والمشارب للكفار في نهار شهر رمضان مع علمهم بأكلهم فيه ، وبيعهم بساتين العنب منهم ، مع العلم العادي بجعل بعضه خمرا ، وبيع القرطاس منهم مع العلم بأن منه ما يتخذ كتب ضلال ، ومن ذلك يظهر أن قصد العلية من طرف المشتري غير قادح ، ضرورة حصوله فيما عرفت ، فلو كان قادحا لاقتضى فساد البيع ، لأن فساده من جانب ، فساد من الجانبين ، بخلاف قصدها من البائع المنافي لإطلاق المنع السالم عن المعارض فيه ، ضرورة عدم شمول الأدلة المزبورة لمثله ، بل ربما كان ظاهر قوله في بعضها يبيعه حلالا ، وذلك يجعله حراما خلافه.

وعلى كل حال فما عن ظاهر التهذيب والمختلف وحواشي الشهيد والمسالك والروضة والنهاية الشيخ في خصوص المساكن والحمولات من الحرمة مع العلم مطلقا ، بل عن ثاني الشهيدين وغيره إلحاق الظن به واضح الضعف ، لعدم صدق الإعانة وضعف إطلاق أدلة المنع بالنسبة إلى ما عرفت ، وعدم منافاته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، اللذين قد يسقط وجوبهما لفقد بعض الشرائط ، وكذا ما عن ابن المتوج من الحكم بالحرمة دون الفساد ، ضرورة إمكان تحصيل الإجماع على خلافه بل قوله عليه‌السلام في الخبر السابق حرام أجرته كالصريح في عدم ملكه ، وعدم انتقاله بالعقد ، وما في الكتاب في باب الإجارة أنه ربما قيل بالتحريم أي في نحو إجارة المسكن ليحرز فيه الخمر ، وانعقاد الإجارة لإمكان الانتفاع في غير المحرم لم نتحققه قولا لأحد من أصحابنا ممن تقدم وإنما هو محكي عن الشافعي وأبي حنيفة ولا ريب في ضعفه والله العالم.

٣٣

النوع الثالث ما لا ينتفع به نفعا مجوزا للتكسب به على وجه يرفع السفه عن ذلك بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، إنما الكلام فيما ذكره المصنف مثالا له بقوله كالمسوخ برية كانت كالقرد والدب والكلب والخنزير والذئب والفأرة والضب والأرنب والطاوس والوطواط وهو الخطاف أو الخفاش والعنقاء والثعلب واليربوع والقنفذ والطافي الذي هو قسم من الحيات ، بل قيل والنعامة ، وإن كان الحق خلافه كما بين في محله وفي الفيل تردد والأشبه جواز بيعه للانتفاع بعظمه وبحمله أو بحرية كالجري والدعموص ، وفي المسالك ليس من المسوخ بحرية غيرهما حتى جعل قوله والضفادع عطفا على المسوخ وفسر الطافي بالسمك الميت في الماء ولكن في غيرها أن منها السلاحف والضفادع والنمار والتمساح والسرطان وهو عقرب الماء له ثمانية أرجل وعيناه في كتفه وصدره يمشي على جانب واحد ويقول استغفروا الله يا مذنبون وحينئذ فهما معطوفان على الجري ، بل لعل الطافي منها أيضا بناء على أن المراد به قسم من الحيات لا السمك الميت في الماء إلا أن المنقول أنه من المسوخ البرية لا البحرية ويمكن أن يكون بحرية وحينئذ ينتظم ظاهر العبارة والأمر في ذلك سهل ، بل ألحق بالمسوخ ، العقرب والزنبور والوزغ والدبا والمهرجد نوعان من الجراد وسهيل وزهره دابتان والعنكبوت والوبر والورك والزمير والمارماهي والبعوض والقمل ، ولعل إلحاقها بها لعدم اعتبار ما دل على انها منه بل‌ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « ان الله مسخ سبع مائة أمة فأخذ أربعمائة برا وثلاثمائة بحرا » ولتحقيق ذلك مقام آخر.

إنما البحث في التكسب بها والتحقيق عدم كون المسوخية مانعا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث ٩.

٣٤

منه ، بناء على الأصح من عدم نجاستها بذلك ، عدا الكلب والخنزير كما قدمناه في كتاب الطهارة ، وخصوصا إذا قلنا بقبولها للتذكية فإن الانتفاع حينئذ بها حية وميتة متحقق ، فيندرج في نحو قوله تعالى ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (١) الذي قال الفاضل في المختلف ، أن الفقهاء أجمعوا في جميع الأعصار والأصقاع على عمومية الاستدلال بهذه الآية في كل مبيع فالمتجه حينئذ جواز التكسب بما ينتفع به منها نفعا يخرجه عن السفه بذلك ، بل لا يبعد جواز التكسب بما لا نفع غالبا فيه إذا اتفق حصول النفع المعتد به فيه ، فيتكسب به في ذلك الحال ، ودعوى كونه منفعة نادرة لا يجوز التكسب به لتحقق السفه معها ، يدفعها منع تحققه مع فرض حصول النفع المعتد به فيه بل أقصاه ، أنه يكون كبعض عقاقير الأدوية التي يندر الاحتياج إليها ، نعم لا ريب في تحقق السفه لو تكسب بها حال عدم النفع رجاء لتلك المنفعة النادرة ، والسبب في ذلك غلية وقوعها في كل وقت يحتاج إليها أما لو فرض ندرته وعدم تيسره في كل وقت ، فلا ريب في حسن ادخاره لاحتمال حصول الحاجة به.

وحينئذ فما عن أكثر المتقدمين من إطلاق المنع عن بيعها في غير محله ، مع أنه لا خلاف في جواز بيع بعض الكلاب منها كما تعرفه في محله ، كما أنه لا شك في جواز الانتفاع بعظم الفيل منها المسمى بالعاج وجلود الثعالب والأرانب مع التذكية ، بشرط الدباغ أو مطلقا ، وفي‌ خبر (٢) عبد الحميد بن سعد « سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن عظام الفيل أيحل بيعه وشرائه للذي يجعل منه الأمشاط فقال : لا بأس قد كان لأبي‌

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٧٥.

(٢) الوسائل الباب ٣٧ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

٣٥

منه مشط أو أمشاط » وفي آخر « رأيت أبا الحسن عليه‌السلام (١) يتمشط بمشط عاج واشتريته له » وفي ثالث (٢) « عن العاج قال : لا بأس به ، وأن لي منه لمشطا » مضافا إلى ما عن الخلاف من الإجماع على جواز التمشط به وجواز استعماله ، والسرائر ذلك أيضا على جواز بيع الفيل ، وما عن المبسوط من الإجماع على عدم جواز بيع المسوخ وإجارتها والانتفاع بها واقتنائها بحال إلا الكلب ، مبني على نجاستها عنده فيه وهو معلوم الفساد ، خصوصا فيما لا نفس له منها وخصوصا فيما قام الإجماع عليه من استعمال جلود بعضها ، والخبر الوارد (٣) بالمنع « عن بيع القرد وشرائه مع ضعفه » منزل على حال عدم الانتفاع المعتد به ، أو المحرم كالإطافة به للعب كما هو الغالب ، أو على الكراهة جمعا ، ولعله لذا ونحوه حكي عن ابن الجنيد أنه اختار في أثمان ما لا يؤكل لحمه من السباع والمسوخ أن لا يصرف ثمنه في مطعم أو مشرب له ولغيره من المسلمين ، بل لعله مما ذكرنا ينقدح البحث فيما ذكر مثالا للعنوان المزبور ، من الحشرات من الهوام التي ضبطت بما لا يحتاج إلى الماء ، وشم الهواء كالفأر والحيات والخنافس والعقارب وجميع الدواب الصغار ، وما ينفصل من الإنسان من شعر أو ظفر أو بصاق ونحوها ، تمسكا بالأصل وعدم الدخول في أدلة المكاسب ، والإجماع المنقول عاما وخاصا بل قيل أن عليه المدار في الحجة ، وفيه أن المدار الاحتجاج بعدم النفع ، للاخبار والإجماع على اعتباره.

ولكن ذلك إنما يجري في بعض الأقسام في بعض الأحوال لا مطلقا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٧ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ٦٩ من آداب الحمام الحديث ٤.

(٣) الوسائل الباب ٣٧ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤.

٣٦

فلا مانع حينئذ من التكسب بالعلق ودود القز ، ونحل العسل ونحو ذلك مما قامت السيرة على التكسب به ، بل لا مانع منه في غير ذلك عند الحاجة إليه لدواء ونحوه مما يرتفع معه السفه الحاصل بشرائه عند عدم الحاجة إليه ، ولو لادخاره عند عروضها ، باعتبار غلبة نوعه في كل وقت وحين ، ضرورة كونه حينئذ كبعض عقاقير الأدوية ، ودعوى عدم التمول في ذلك مطلقا يمكن منعها باعتبار صدق التملك بإرادته في كل مباح ، بل ربما تكونت هذه الأشياء من أرضه المملوكة له ، والاستحالة لا ترفع ملكه عنها ، فيكون المدار حينئذ على ما ذكرنا ، ومن هنا جاز تمليكها بلا عوض ، لعدم السفه فيه دونه مع العوض ، ومن ذلك التراب والماء والحجارة ونحوها مما لا تدخل في شي‌ء من موانع الاكتساب إلا من جهة الانتفاع وعدمه ، فيجوز بيعه والاكتساب به مع الانتفاع المعتد به ، ولا يجوز مع عدمه ، بل حبة الحنطة ونحوها كذلك أيضا ودعوى أن ندور المنفعة لا يجوز الاكتساب مع حصولها أيضا واضحة المنع ، بل عموم الأدلة وإطلاقها والسيرة على خلافها.

وكذا لا بأس ببيع المنفصل من لبن الآدميات ، وإن كن حرائر إذ الحر يملك فوائده كما يملك منافعه ، ولا بأس أيضا بشراء دار أو حمام أو بستان أو غيرها من العقار وإن لم يكن له طريق يوصل إليه لاحتمال حصوله احتمالا معتدا به ، ولو بالاذن من الجار أو نحوه ، نعم لو فرض اليأس من ذلك ، كان من المعاملة السفهية ، أما الترياق ففي القواعد لا يجوز بيعه ومراده به المشتمل على نجسين الخمر ولحوم الأفاعي على قول ، أو نجس ومحرم ، لكن قيل الظاهر جواز الانتفاع به في غير الجهة الحرام وفيها مع الاضطرار واقتنائه لذلك ، بل بذل شي‌ء من المال لاستخلاصه وفيه ما عرفته سابقا من عدم جواز الانتفاع بما لا يقبل التطهير من‌

٣٧

المتنجسات ، فضلا عن النجاسات ، إلا ما قامت السيرة عليه.

نعم في الضرورات تباح المحظورات ، كما إذا انحصر التداوي به نحو غيره من المحرمات ، نعم لو لم يكن معه شي‌ء من النجاسات ، أمكن جواز الانتفاع به ، بل جواز التكسب ، بل لو لم يجز أكله أمكن ذلك فيه أيضا ضرورة عدم توقف جواز التكسب على جواز الأكل ، ولذا جاز التكسب في السم المتخذ بما يجوز أكله وإن لم يجز أكله نفسه بل المدار على المنفعة المحللة الرافعة للسفه في المعاوضة بنحوه ، بل الظاهر كفاية حصول ذلك فيه ، وإن لم تكن مقصودة للمتعاقدين ، أو أحدهما حال العقد ، بل وقبله وبعده ، كما هو واضح ، ومن ذلك يعلم ما في تفسير الطافي في المتن بالسمك الميت في الماء ، فان دعوى عدم الانتفاع به ممنوعة ، خصوصا إذا كان له دهن ونحوه ، كدعوى عدم جواز الانتفاع به شرعا ، لكونه من الميتة ، لما عرفت من أن المراد بها نصا وفتوى ميتة ذي النفس لا مطلقا.

وكذا دعوى أن جواز الانتفاع به لا يقتضي جواز التكسب به خصوصا بعد‌ قوله عليه‌السلام (١) « ان الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه » المتناول لذلك ، ضرورة تحقق التحريم فيه بالموت في الماء ، فيحرم التكسب به ، بل منه ينقدح حرمة التكسب بجميع الحيوانات البحرية المحرم أكلها ، لأن المراد منه ما حرم الشارع الأمر المقصود منه ، لو يحلله ، لكن لا يخفى عليك ما في ذلك بعد الإحاطة بما قدمناه سابقا من قضاء الأصل والعمومات جواز التكسب. بكل ذي منفعة معتد بها محللة ، والمراد من الخبر المزبور تحريم ثمن ما حرمه الله إذا بيع في الجهة المحرمة ، تعريضا بما فعله اليهود الذين قد سمعت لعنهم في الخبر‌

__________________

(١) الخلاف ص ٢٢٥ المطبوع بطهران سنة ١٣٧٠.

٣٨

السابق المراد منه ، على الظاهر أنهم باعوها في الجهة التي حرمت عليهم ممن لا يبالي بحرمة ذلك منهم ، أو ممن لا تحريم عليهم من غيرهم ، وحينئذ فيتجه جواز التكسب بدهن الحيوانات البحرية وغيره ، فضلا عن الانتفاع به.

وأما السباع فظاهر ابن أبي عقيل وسلار أنها كلها لا يجوز بيعها وفي النهاية لا الفهود خاصة ، لأنها تصلح للصيد ، وعن المفيد بعد الحكم بتحريمها قال : والتجارة في الفهود والبزاة وسباع الطير التي يصاد بها حلال ، وعن المبسوط والطاهر غير المأكول مثل الفهد والنمر والفيل وجوارح الطير والصقور والبزاة والشواهين والعقبان والأرنب والثعلب وما أشبه ذلك فهذا كله ، يجوز بيعه وإن كان لا ينتفع به فلا يجوز بيعه ، بلا خلاف مثل الأسد والذئب وفي المتن عطفا على الممنوع والسباع كلها إلا الهر والجوارح طائرة كانت كالبازي أو ماشية كالفهد ولم نجد به قائلا بالخصوص ، وقيل : والقائل ابنا البراج وإدريس يجوز بيع السباع كلها تبعا للانتفاع بجلدها وريشها وان حكي عن الأول منهما الصدقة بثمن الهرة ، وانه لا يتصرف فيه بغير ذلك إلا أنه كما في الدروس متروك ، وعلى كل حال هو الأشبه بأصول المذهب وقواعده المقتضية للجواز مضافا إلى‌ الصحيح (١) « لا بأس بثمن الهرة » والآخر (٢) « عن الفهود وسباع الطير هل يلتمس بها التجارة؟ قال نعم » والخبر (٣) « عن بيع جلود النمر فقال :

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ٣٧ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ٣٨ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

٣٩

مدبوغة هي؟ قلت : نعم قال : لا بأس به » (١) والمروي عن قرب الاسناد « عن جلود السباع وبيعها وركوبها أيصلح ذلك؟ قال : لا بأس ما لم يسجد عليها » وإلى النصوص (٢) الدالة على جواز اتخاذ جلودها وركوبها المستلزمة لقبولها التذكية القاضية بطهارتها ، فينتفع بها حينئذ نفعا معتدا به تندرج به في عموم الأدلة وإطلاقها ، وما عن القاضي من التصدق بثمن الهرة وأنه لا يتصرف فيه بغير ذلك لم نعرف له مأخذا ، وبذلك يظهر لك ما في كلام المستثنى لبعضها فضلا عمن أطلق عدم جواز بيعها بل عن التذكرة نسبة جواز بيع الهر إلى علمائنا بل قد يظهر من المصنف في النافع الإجماع على جواز بيع الهرة وجوارح الطير ، بل هو ظاهره هنا أيضا في مطلق الجوارح ، وإن ناقشه فيه في المسالك بل لعله ظاهر الدروس أيضا حيث اقتصر في نقل الخلاف على ما لا يصلح للصيد دونه كالهر والفهد والباز نعم فيها أنه لا يجوز اقتناء الحيات والعقارب والسباع الضارية والترياق المشتمل على محرم والسمومات الخالية عن المنفعة ، وفي القواعد يحرم اقتناء الأعيان النجسة ، إلا لفائدة كالكلب والسرجين لتربية الزرع ، والخمر للتخليل ، وكذا يحرم اقتناء المؤذيات كالسباع والحيات ، بل في شرح الأستاد مزجه بقوله وإن سلمت من الإيذاء بالفعل لما دل على تحريم الانتفاع بالمحرمات ، وما فيها من ضروب الفساد ، مع أخبار وإجماعات ، ولعل ذلك هو العمدة ، ولولاه لأمكن المناقشة بل لعلها متجهة فيما سمعته من الدروس من حرمة اقتناء الترياق المشتمل على محرم والسمومات لعدم الدليل على ذلك بل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٧ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٥.

(٢) الوسائل الباب ٣ من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث ٤.

٤٠