جواهر الكلام - ج ٢٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

إلى الشمس والقمر والنجوم أن تجري في ذلك (١) ثم أوحى الله إلى ذلك النبي أن يرتفع (٢) هو وقومه على الجبل ، فارتفعوا (٣) على الجبل فقاموا على الماء حتى عرفوا بدء الخلق وآجاله بمجاري الشمس والقمر والنجوم ، وساعات الليل والنهار ، وكان أحدهم يعلم ، متى يموت ومتى يمرض ومن ذا الذي يولد له ، ومن ذا الذي لا يولد له ، فبقوا كذلك برهة من دهرهم ، ثم إن داود قاتلهم على الكفر ، فأخرجوا إلى داود عليه‌السلام في القتال من لم يحضر اجله ، ومن حضر اجله خلفوه في بيوتهم ، فكان يقتل من أصحاب داود عليه‌السلام ، ولا يقتل من هؤلاء أحد ، فقال داود عليه‌السلام : رب أقاتل على طاعتك ، ويقاتل هؤلاء على معصيتك ، فيقتل أصحابي ولا يقتل من هؤلاء أحد ، فأوحى الله عز وجل انى كنت علمتهم بدء الخلق وآجاله ، إنما أخرجوا إليك من لم يحضر أجله ، ومن حضر أجله خلفوه في بيوتهم ، فمن ثم يقتل من أصحابك ولا يقتل منهم أحد ، قال داود عليه‌السلام : يا رب على ماذا علمتهم قال : على مجاري الشمس والقمر والنجوم وساعات الليل والنهار ، قال : فدعى الله عز وجل فحبس الشمس عليهم فزاد في النهار واختلطت الزيادة بالليل والنهار فلم يعرفوا قدر الزيادة ، فاختلط حسابهم قال : علي عليه‌السلام فمن ثم كره النظر في علم النجوم ».‌ ورواه (٤) أيضا فيه عن الدر المنثور نعم زاد فيه « أن النبي‌

__________________

(١) في المصدر في ذلك الماء.

(٢) في المصدر إن يرتقي.

(٣) في المصدر فارتقوا الجبل.

(٤) الدر المنثور ج ٥٨ ص ٣٥.

١٠١

المذكور كان يوشع بن نون » وعن (١) صاحب كتاب التجمل « أن آزر كان منجما لنمرود ، فقال له : يوما لقد رأيت في النجوم أمرا عجيبا ، قال : وما هو؟ قال : رأيت مولودا يولد في زماننا يكون هلاكنا على يديه ، ولا يلبث إلا قليلا حتى يحمل به ، قال : فتعجب من ذلك ، ثم قال : هل حملت (٢) النساء قال : لا ، فحجب الرجال عن النساء ، ولم يدع امرأة إلا جعلها في المدينة (٣) قال : فوقع آزر على أهله فحملت بإبراهيم عليه‌السلام ، فظن أنه صاحبه فأرسل إلى قوابل ذلك الزمان ، وكن أعلم الناس بالجنين (٤) فنظرن فالزم ما في الرحم الظهر ، فقلن : ما نرى في بطنها شيئا قال : وكان مما أوتي من العلم أن المولود سيحرق بالنار ، ولم يؤت أن الله سينجيه منها » في البحار رويت هذا الحديث عن إبراهيم الخراز عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، من أصل قرئ على هارون بن موسى التلعكبري‌ وقد (٥) رواه أيضا بأبسط من ذلك علي بن إبراهيم في تفسيره (٦) ورواه أيضا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في الجزء الأول من تاريخه وهبة الله الراوندي في كتاب قصص الأنبياء والثعلبي في تفسيره وغيرهم من العلماء ، كما أنه تضمنت كتب التواريخ وغيرها الأخبار بنبوة موسى‌

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٨ ص ٢٣٦.

(٢) في المصدر حملت به النساء.

(٣) في المصدر في المدينة ولا يخلص إليها بعلها.

(٤) في المصدر ولا يكون في الرحم شي‌ء إلا عرفنه.

(٥) تفسير القمي ج ١ ص ٢٠٦ الطبع الحديث.

(٦) تاريخ طبري ج ١ ص ٢٥٤ الطبع ليدن.

١٠٢

ورسالته من (١) النجوم ، وكذا نبينا وظهور العرب على الفرس ، كما لا يخفى على من لاحظها ، وفي (٢) خبر عبد الرحمن بن سيابة « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك إن الناس يقولون أن النجوم لا يحل النظر فيها وهي تعجبني فإن كانت تضر بديني ، فلا حاجة لي في شي‌ء يضر بديني ، وإن كانت لا تضر بديني ، فو الله إني لأشتهيها وأشتهي النظر فيها ، فقال : ليس كما يقولون لا تضر بدينك ، ثم قال : انكم تنظرون في شي‌ء (٣) كثيره لا يدرك ، وقليله لا ينتفع به ، تحسبون على طالع القمر ، ثم قال : أتدري كم بين المشتري والزهرة من دقيقة؟ قلت : لا والله قال : أفتدري كم بين الزهرة وبين القمر من دقيقة؟ قلت : لا والله قال : أفتدري كم بين الشمس وبين السكينة من دقيقة؟ قلت : لا والله ما سمعته من أحد من المنجمين قط ، قال : أفتدري كم بين السكينة وبين اللوح المحفوظ من دقيقة؟ قلت : ما سمعته من منجم قط ، قال : ما بين كل واحد منهما إلى صاحبه ستين أو سبعين دقيقة (٤) ثم قال : يا عبد الرحمن هذا حساب إذا حسبه الرجل ووقع عليه عرف القصبة التي في وسط الأجمة ، وعدد ما عن يمينها ، وعدد ما عن يسارها ، وعدد ما خلفها ، وعدد ما في إمامها ، حتى لا يخفى عليه من قصب الأجمة واحدة ».‌ وعن السيد بن طاوس أنه روى هذا الحديث أصحابنا في المصنفات والأصول ، ورواه محمد بن عبد الله في أماليه ، ورواه محمد بن يحيى‌

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٨ ص ٢٣٩.

(٢) روضة الكافي ص ١٩٥ الطبع الحديث.

(٣) في المصدر في شي‌ء منها.

(٤) في المصدر شك عبد الرحمن.

١٠٣

أخو مغلس عن حماد بن عثمان (١) ومرسل جميل بن صالح عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : سئل عن النجوم فقال : ما يعلمها إلا أهل بيت من العرب ، وأهل بيت من الهند ، » وخبر (٢) محمد بن سالم عنه أيضا أنه قال : « اليوم يقولون النجوم أصح من الرؤيا ، وذلك صحيح ، حين لم يرد الشمس على يوشع بن نون وعلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فلما رد الله عز وجل الشمس عليهما ، ضل فيها علماء النجوم ، » وخبر (٣) هشام الخفاف قال : قال لي أبو عبد الله «ع» : كيف بصرك بالنجوم؟ قلت : ما خلفت بالعراق أبصر بالنجوم مني ، فقال : كيف دوران الفلك عندكم؟ قال : فأخذت قلنسوتي من رأسي فأدرتها ، قال : فقال لي : إن كان الأمر على ما تقول : فما بال بنات نعش والجدي والفرقدين لا يرون يدورون يوما من الدهر في القبلة؟ قال : قلت : هذا والله شي‌ء لا أعرفه ، ولا سمعنا أحدا من أهل الحساب يذكره ، فقال : لي كم السكينة من الزهرة جزءا في ضوئها؟ قال : قلت : هذا والله نجم ما سمعت به ، ولا سمعت أحدا من الناس يذكره ، قال : سبحان الله فأسقطتم نجما برأسه ، فعلى ما تحسبون ، ثم فكم الزهرة من القمر جزءا في ضوئه؟ قال : فقلت هذا شي‌ء لا يعلمه إلا الله عز وجل ، قال : فكم جزء القمر من الشمس في ضوئها؟ قال : قلت ما أعرف هذا ، قال : صدقت ثم قال : فما بال العسكرين يلتقيان في هذا حاسب ، وفي هذا حاسب فيحسب هذا لصاحبه بالظفر ، ويحسب‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤.

(٢) الوسائل الباب ١٤ من أبواب آداب السفر إلى الحج الحديث ٩ وفيه عن محمد بن بسام.

(٣) الوسائل الباب ٢٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

١٠٤

هذا لصاحبه بالظفر ، ثم يلتقيان فيهزم أحدهما الآخر ، فأين كانت النجوم ، قال : فقلت لا والله ما أعلم ذلك ، قال : فقال : إن أصل الحساب حق ولكن لا يعلم ذلك إلا من علم مواليد الخلق » وفي المحكي (١) عن نوادر الحكمة عن الرضا عليه‌السلام « قال : قال : أبو الحسن للحسن بن سهل كيف حسابك للنجوم؟ فقال : ما بقي منها شي‌ء إلا وقد تعلمته فقال أبو الحسن عليه‌السلام : كم لنور الشمس على نور القمر فضل درجة؟ وكم لنور القمر على نور المشتري فضل درجة؟ وكم لنور المشتري على نور الزهرة فضل درجة؟ فقال : لا أدري ، فقال : عليه‌السلام ليس في يدك شي‌ء هذا أيسر » ، وفي خبر الريان (٢) ابن الصلت أنه حضر عند الرضا عليه‌السلام الصباح بن بصير الهندي « وسأله عن علم النجوم فقال : هو علم في أصل صحيح ذكر ان أول من تكلم به إدريس عليه‌السلام ، وكان ذو القرنين بها ماهرا ، وأصل هذا العلم من عند الله عز وجل ، ويقال أن الله بعث النجم الذي يقال له المشتري إلى الأرض ، في صورة رجل فأتى بلد العجم ، فعلمهم فلم يستكملوا ذلك ، فأتى بلد الهند فعلم رجل منهم فمن هناك صار علم النجوم بها ، وقد قال قوم ، هو علم من علم الأنبياء خصوا به لأسباب شتى ، فلم يستدرك المنجمون الدقيق منها ، فشاب الحق بالكذب ».

وخبر عثمان (٣) بن أبي عبد الله المدائني عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أن الله خلق نجما في الفلك السابع ، خلقه من ماء بارد ،

__________________

(١) البحار ج ٥٨ ص ٢٤٥.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٤٣٣.

(٣) روضة الكافي ص ٢٥٧ الطبع الحديث.

١٠٥

وسائر النجوم الستة الجاريات من ماء حار ، وهو نجم الأنبياء والأوصياء وهو نجم أمير المؤمنين «ع» يأمر بالخروج من الدنيا ، والزهد فيها ، ويأمر بافتراش التراب ، وتوسد اللبن ، ولباس الخشن وأكل الجشب ، وما خلق الله نجما أقرب إلى الله (١) منهم » وخبر (٢) محمد بن يحيى الخشعي « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن النجوم حق هي؟ قال لي : نعم فقلت له : وفي الأرض من يعلمها قال : وفي الأرض من يعلمها » إلى غير ذلك من النصوص التي لا يمكن حصرها (٣) بل منها يستفاد وجه الجمع بينها وبين ما دل على النهي عن الركون إلى النجوم ، وذم المنجم على وجه صار به كالكاهن والساحر ونحوهما ، بأن المراد مع اعتقاد كونها ذوات ارادة وفاعلة مختارة ، أو مؤثرة أو غير ذلك ، مما هو معلوم فساده ، كالعلم بكفر معتقده أو فسقه ، لا أن المراد النهي عن اتخاذها أمارة دالة على ما جرت العادة من فعل الله له في هذا العالم ، وإن جاز تغييرها بالصدقة والدعاء وغيرهما ، على حسب ما توافقه حكمته (٤) « فان الله يمحوا ما يشاء ( وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) » لكن الإحاطة بتمام دقائق هذا العلم ، مما لا يتيسر إلا لخزان علم الله ، دون غيرهم الذين قد يتخيلون دلالة القرآن المخصوص ، على النحس وهو سعد وبالعكس كما اتفق للمنجم مع أمير المؤمنين عليه‌السلام لعدم الإحاطة بتمام اقتراناتها وأحوالها.

لكن ذلك لا يمنع من النظر فيما دونوه ، من بعض أحوالها الجارية مجرى الغالب ، ولا من العمل بما يقوله أهلها على وجه الاحتياط‌

__________________

(١) في المصدر منه.

(٢) البحار ج ٥٨ ص ٢٤٩.

(٣) البحار ج ٥٨ الباب ١٠ ص ٢١٧.

(٤) سورة الرعد الآية ٣٩.

١٠٦

وعلى ذلك يحمل تعلم جماعة من الشيعة وغيرهم ، وفيهم العلماء والمحدثون وغيرهم من الشيعة ، كالحسن بن موسى النوبختي ، وموسى بن الحسن وغيره من بني نوبخت ، وأحمد بن محمد بن خالد البرقي ، وأحمد بن محمد بن طلحة ، والجلوري البصري ، ومحمد بن أبي عمير ، ومحمد بن مسعود العياشي ، والفضل بن أبي سهل الذي أخبر المأمون بخطإ المنجمين في الساعة التي اختاروها لولاية العهد للرضا «ع» ، فزجره المأمون ونهاه أن يخبر بذلك أحدا ، فعلم أنه تعمده ، وعلي بن الحسن العلوي المعروف بابن الأعلم ، وأبو الحسن النقيب باقيزاط وعلي بن الحسين المسعودي صاحب كتاب مروج الذهب ، وأبو القاسم ابن نافع ، وإبراهيم الفزاري وأبو خالد السجستاني الذي دله علم النجوم على موت أبي الحسن عليه‌السلام ، فترك القول بالوقف ، والفضل بن سهل وزير المأمون الذي أخبره لما وقع بينه وبين أخيه الأمين ما وقع حتى ضاق الأمر عليه وعزم على المفارقة بأن الأمر لك فاصبر قليلا ، فكان كما قال ، والحسن ابن سهل ، وبوران متية ، ويحيى البرمكي ، وجعفر وغيرهم ، ممن وقفنا لهم على أشياء بقطع الإنسان بأنها ليست محض اتفاق ، على ما زعمه المرتضى كما لا يخفى على من تتبع أحوالهم ، ووقف على جملة مما نقل عن اخباراتهم ، ومن الغريب بعد ذلك مبالغة المرتضى في ملحقات درر الغرر في إنكار أصل هذا العلم ، وان جميع ما اتفق من إخبار أهله من باب الاتفاق ، نحو ما يقوله القوالون ، إذ لا ريب في كونه مخالفا للانصاف ، نعم هو علم غامض لا يحيط بكنهه ، إلا من اختارهم الله لسره ، وخزانا لعلمه ، ولقد أطنب المجلسي في كتاب السماء والعالم من بحاره ، بنقل جميع ما له تعلق في ذلك من الأخبار وكلمات العلماء وغير ذلك أيضا ، والتحقيق ما عرفت ، من أنه لا بأس‌

١٠٧

بالنظر في هذا العلم وتعلمه وتعليمه ، والاخبار عما يقتضيه مما وصل إليه من قواعده لا على جهة الجزم ، بل على معنى جريان عادة الله تعالى بفعل كذا عند كذا ، وعدم اطراد العادة غير قادح (١) « فان الله يمحوا ما يشاء ( وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) » بل قد يتوقف في الكراهة فضلا عن الحرمة ، بل يمكن حصول زيادة العرفان بمعرفته والترقي إلى بعض درجات الايمان ، بممارسته ودعوى أن فيه تعريضا للوقوع في المحظور من اعتقاد التأثير فيحرم لذلك ، أو لأن أحكامه تخمينية كما ترى ، خصوصا الثاني ، ضرورة عدم حرمة مراعاة الظنون في أمثال ذلك ، بل لعل المعلوم من سيرة الناس ، وطريقتهم خلافه ، في الطب وغيره والتعريض المزبور مع انه ممنوع ، لا يكفي في الحرمة وإلا لحرم النظر في علم الكلام ، الذي خطره أعظم من ذلك ، فلا ريب في رجحان ما ذكرناه ، بل لا يبعد أن يكون النظر فيه ، نحو النظر في علم هيئة الأفلاك الذي يحصل بسببه الاطلاع على حكمة الله وعظم قدرته ، نعم لا ينبغي الجزم بشي‌ء من مقتضياته ، لاستيثار الله بعلم الغيب.

وكذا الكلام في الرمل والفال ، ونحوهما من العلوم التي يستكشف بها علم الغيب ، فإنها تحرم مع اعتقاد المطابقة لا مع عدمه ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحب الفال ، ويكره الطيرة ، (٢) بل ورد عنهم صلوات الله وسلامه عليهم أمور كثيرة كالاستخارة ، وبعض الحسابات (٣) وغيرهما ما يستفاد منه كثير من المغيبات ، لكن لا على وجه الجزم واليقين ، ولعل ذلك كله من فضل الله على عباده ، وهدايته بهم نحو ما جاء (٤) عنهم في الرقى انها تدفع القدر فقال : انها من القدر وان هذا الباب باب عظيم ليس المقام مقام ذكره ، خصوصا ما يتعلق في‌

__________________

(١) سورة الرعد الآية ٣٩.

(٢) سقية البحار ج ٢ ص ١٠٢ كعلم الجفر سقية البحار ج ٢ ص ١٤٤.

(٣) سقية البحار ج ٢ ص ١٠٢ كعلم الجفر سقية البحار ج ٢ ص ١٤٤.

(٤) الوسائل الباب ١٤ من أبواب الاحتضار الحديث ١٢.

١٠٨

الحروز ، والطلسمات ، وخواص الحروف ، وبعض الأشياء ، وغيرها وما يتولد منها من المصالح ، والمفاسد ، ولكن ينبغي تجنب ما فيه ضرر على الناس ، واستعمال ما فيه نفع لهم ، بما هو ليس بسحر والله العالم‌

ومنه القمار بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، والنصوص مستفيضة ، أو متواترة فيه (١) بل فيها ما يقتضي كونه من الباطل ، الذي نهى الله عن أكل المال به ، وأنه من الميسر الذي هو رجس من عمل الشيطان ، فتتفق حينئذ الأدلة الشرعية الثلاثة على حرمته ، بل حرمة المال الذي يؤخذ به ، سواء كان منهما أو من ثالث بذله لأحدهما لو صار مغلوبا ، بل قيل ان أصل القمار الرهن على اللعب بشي‌ء من الآلة ، كما هو ظاهر القاموس والنهاية أو صريحهما وصريح مجمع البحرين ، نعم عن ظاهر الصحاح والمصباح المنير وكذلك التكملة والذيل ، أنه قد يطلق على اللعب بها مطلقا مع الرهن ودونه ولا فرق في ذلك بين الشطرنج والنرد ، وبين غيرهما من أفراده ، كلعبة الأمير والثلاثة والأربعة عشر ، والجوز والبيض والكعاب ونحوها ، مما اعتيد المقامرة به سابقا أو لاحقا ، أما إذا يعتد المقامرة به ، فالظاهر عدم حرمته مع عدم الرهان ، للأصل وانصراف أدلة المقام إلى غيره ، والسيرة القطعية من الأعوام والعلماء ، في المغالبة بالأبدان وغيرها ، وقد (٢) روى مغالبة الحسن والحسين عليهما‌السلام بمحضر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل ومع الرهان أيضا وإن حرم هو ، لأنه أكل مال بالباطل دونه ، لما عرفت مما لا معارض له ، ودعوى أنه من اللعب واللهو المشغول عنهما المؤمن ، يدفعه منع كونه من اللعب المحرم ، إذ لا عموم ، بل ولا إطلاق على وجه يصلح لشمول ذلك ونحوه ، خصوصا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٥ من أبواب ما يكتسب به.

(٢) ذخائر العقبى ص ١٣٤ كنز العمال ج ٧ ص ١٠٧.

١٠٩

بعد ملاحظة ما عرفته من السيرة المستقيمة ، بل لعله مندرج فيما دل على مداعبة المؤمنين ومزاحمهم ، بل لو أخذ الرهن الذي فرض لهذا القسم بعنوان الوفاء بالوعد الذي هو نذر لا كفارة له ، ومع طيب النفس من الباذل لا بعنوان أن المقامرة المزبورة ، أوجبته وألزمته ، وانها كغيرها من العقود المشروعة ، أمكن القول بجوازه ، نعم هو مشكل في القسم الأول ، وإن فرض الحال فيه أيضا ، بناء على حرمة كل ما ترتب على المحرم ، ولو جزاء أو وعدا أو نحوهما ، كما أشرنا إليه السابق ، وقلنا أن في خبر (١) تحف العقول نوع إيماء إليه ، وإن كان لا يخلو من بحث ، وعلى كل حال فقد ظهر لك حرمة مال المقامرة ، فيجب رده على مالكه ، إذا عرف بعينه ، وإلا فإن كان في محصورين وجب التخلص منهم بالصلح ، واحتمال القرعة لا يخلو من وجه ، وإلا كان له حكم مجهول المالك ، ولا فرق في ذلك بين مقامرة الأطفال وغيرهم ، ولو أكل من مال المقامرة ، ثم علم به بعد ذلك ضمنه.

وهل يجب أيضا استفراغه وجهان أقواهما العدم ، لصيرورته حينئذ من الخبائث التي لا تدخل في الملك لكن‌ (٢) روى « ان أبا الحسن عليه‌السلام أكل من مال المقامرة شيئا من غير علم ، فلما علم قائه » وهو مع أنه لا يخلو من بحث ، بالنسبة إلى منافاة العصمة التي هي الطهارة من الرجس ، لا يدل على الوجوب ، وعليه يشكل حينئذ الصوم ممن في بطنه طعام مغصوب يتمكن من قيئه ، مع فرض اعتبار إخراجه بتعمد قيئه المبطل للصوم ، ولعل الأولى حمل خبر المزبور ، على فرض صحته‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ٣٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

١١٠

على المبالغة في حرمة مال القمار ، كالخبر‌ المروي (١) عن الصادق عليه‌السلام « بيع الشطرنج حرام ، وأكل ثمنه سحت ، واتخاذه كفر ، واللعب به شرك ، والسلام على اللاهي بها معصية ، والخائض فيها يده كالخائض يده في لحم الخنزير ، ولا صلاة له ، حتى يغسلها كما يغسلها من لحم الخنزير ، والناظر إليها كالناظر إلى فرج أمه ، والناظر والمسلم على اللاهي بها سواء معه في الإثم ، والجالس على اللعب بها يتبوء مقعده من النار ، ومجلسها من المجالس التي بأو أهلها بسخط من الله ، يتوقعه في كل ساعة فيعمك معهم » إذ لا ريب في ارادتها من الحكم بنجاسة اليد وبطلان الصلاة بدون الغسل والكفر والشرك ، بل وإطلاق المعصية في السلام والنظر والجلوس ، وإن عمل به بعض الناس في الأخير ، إلا أنه كما ترى ما لم ترجع إلى إعانة أو ترك بالمعروف أو نحو ذلك ، مما يندرج في أحد المحرمات ، نعم لا يبعد القول بحرمة الجلوس ، في مجالس المنكر ، ما لم يكن للرد أو للضرورة ، بل كان للتنزه ونحوه ، مما يندرج به في اسم اللاهين واللاعبين ، خصوصا في مثل حضور مجلس الطبل والرقص ونحوهما ، من الأفعال التي لا يشك أهل الشرع والعرف في تبعيته حاضريها في الإثم لأهلها ، بل هم أهلها في الحقيقة ، ضرورة أن الناس لو تركوا حضور أمثال هذه المجالس ، لم يكن اللاهي واللاعب يفعلها لنفسه ، كما هو واضح والله أعلم.

ومنه الغش للمبيع مثلا بما يخفى كشوب اللبن بالماء بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، كما ان النصوص مستفيضة ، أو متواترة فيه (٢) بل‌ في (٣) بعضها « أن من غش‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٠٣ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤.

(٢) الوسائل الباب ٨٦ من أبواب ما يكتسب به.

(٣) الوسائل الباب ٨٦ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

١١١

المسلمين فليس منهم » بل العقل حاكم بقبحه باعتبار ما فيه من الأعزاء المترتب عليه » فساد ، نعم الظاهر اعتبار الخفاء في حقيقته ، وإلا لم يكن غشا ، فلو كان المزج بما لا يخفى أو أخبر بمزج ما يخفى ، فلا غش فيه ، ولعل من ذلك وضع القطن العتيق ، في القلانس باعتبار تفاوته ولذا‌ (١) قال الصادق عليه‌السلام : « لفاعله أحب أن تبين لهم » ، ولم يوجبه وهل إخفاء العيب وبعض الصفات الذميمة من الغش؟ احتمال بل صرح به بعض الأصحاب ، لكنه لا يخلو من بحث ، والظاهر أن الحرمة في الفعل نفسه ، فلو باع مع ذلك كان البيع صحيحا ، وإن ثبت للمشتري خيار العيب ، أو الوصف ، أو التدليس ، لإطلاق الأدلة ودعوى ظهورها في صيرورة المبيع معه ، كالعذرة ونحوها مما لا يجوز بيعها ، واضحة المنع ، لدى كل متأمل في نصوص المقام ، وقواعد الكتاب وليس ذا من تعارض الاسم والإشارة قطعا ، ضرورة كون المراد واحدا ، من نحو قولك بعتك هذا اللبن ، نعم لو خرج بالغش عن الحقيقة ، وبيع على أنه منها ، بطل البيع قطعا أما مع عدمه ، فالمتجه الصحة ، لما عرفت ولفحوى نصوص خيار العيب (٢) والوصف والتدليس (٣) ، وما في ظاهر بعض الاخبار ، من توجيه النهي إلى نفس المبيع ، فيقتضي الفساد محمول على الكراهة ، كما أومأ إليه بلفظ لا يصلح في (٤) غيره من الأخبار أو ان المراد منه النهي عن الغش للمبيع أو غير ذلك مما‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٨٦ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٩.

(٢) الوسائل الباب ١٦ من أبواب الخيار الحديث ١ و ٤.

(٣) الوسائل الباب ١٥ من أبواب الخيار الحديث ١ ـ ٢.

(٤) الوسائل الباب ٩ من أبواب أحكام العيوب الحديث ٣.

١١٢

لا بأس به ، بعد فرض قوة المعارض ، ولعل من الغش أو في حكمه في الحرمة ، والبيع وغيرهما تدليس الماشطة مثلا ، الامرأة على خطابها والجارية على مشتريها ، بإظهار حسن ليس فيها ، وإخفاء قبحها ، كتحمير وجهها ، ووصل شعرها ، ونحو ذلك بلا خلاف أجده كما عن بعضهم الاعتراف به ، بل عن آخر الإجماع عليه ، وهو الحجة ، مضافا إلى نصوص الغش ، بل ربما استدل عليه بما عن‌ معاني الأخبار (١) مسندا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « انه لعن الناصمة والمنتمصة والواشرة والموتشرة ، والواصلة والمستوصلة ، والواشمة والمستوشمة » أي التي تنتف الشعر ، وتنشر أسنان الامرأة وتحددها ، وتصل شعر المرأة بشعر غيرها ، وتغرز بالإبرة ثم تحشوه بالكحل ، ونحوه بدعوى أن المراد فعل ذلك كله أو بعضه للتدليس ، وفيه أن الظاهر كراهة ذلك في نفسه ، خصوصا وصل الشعر بالشعر ، الذي ورد فيه النهي في (٢) مرسل ابن أبي عمير عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : دخلت ماشطة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : لها هل تركت عملك أو أقمت عليه؟ قالت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا أعمله إلا أن تنهاني عنه ، فانتهى عنه ، فقال : افعلي فإذا مشطت فلا تجلى الوجه بالخرقة فإنه يذهب بماء الوجه ، ولا تصلى الشعر بالشعر » وخبر (٣) علي « سألته عن امرأة مسلمة تمشط ليس لها معيشة غير ذلك ، وقد دخلها ضيق ، قال : لا بأس ولكن لا تصل الشعر بالشعر » وخبر (٤)

__________________

(١) الوسائل الباب ١٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٧.

(٢) الوسائل الباب ١٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ١٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤.

(٤) الوسائل الباب ١٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٥.

١١٣

عبد الله بن الحسن « سألته عن القرامل قال : وما القرامل؟ قلت : صوف تجعله النساء في رؤسهن ، قال : إن كان صوفا فلا بأس به ، وإن كان شعرا فلا خير فيه من الواصلة والموصلة » إلى غير ذلك من النصوص المعلوم عدم ابتناء ذلك فيه على التدليس ، وإلا لم يكن فرق بين الشعر وغيره ، مع أنها في الزوجة لزوجها ، فليس حينئذ إلا ما ذكرناه من الكراهة ، وربما حمل النهي المزبور على المنع من جهة الصلاة بشعر الغير ، وفيه انه لا بأس به كما حررناه في محله ، أو على انه شعر امرأة أجنبية وهو عورة ، وفيه مضافا إلى ترك الاستفصال في النصوص المزبورة ، منع جريان حكم العورة عليه بعد انفصاله ، فليس حينئذ إلا الكراهة ، ولا ينافيها‌ خبر (١) سعد الإسكافي « قال : سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن القرامل التي تضعها النساء في رؤسهن يصلن به شعورهن ، فقال : لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها قال : فقلت : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن الواصلة والموصولة ، فقال : ليس هناك ، إنما لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواصلة التي تزني في شبابها ، فلما كبرت قادت النساء إلى الرجال ، فتلك الواصلة والموصولة » لإمكان حمله على إرادة اللعن المقتضي للحرمة ، وهو ليس إلا ما ذكره ، بخلاف ما سمعته من اللعن السابق المحمول على الكراهة.

وكيف كان فقد دل الخبر المزبور على جوازه للزوج ، بل جواز جميع ما تتزين به الامرأة له ، فتخص حرمة التدليس حينئذ بغيره بل لا يشترط في مطلق التزيين إذن الزوج ، وفي شرح الأستاد إلا فيما يخشى منه النقص على محاسن الزوجة ، بانهدام أسنانها أو ضرر في‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٣.

١١٤

بدنها ونحو ذلك ، اما المالك فيلزم استيذانه مطلقا ، وحيث يحرم التدليس ، يحرم العوض المترتب عليه كما في غيره من المحرمات ، وما حل يحل فيه ، غير انه لا يخلو من كراهة مع الشرط ، بل قيل مطلقا وتزداد معه وكون بعض الأعيان مما يتزين به كالشعر الموصول ، والحمرة المأخوذة من بعض الحشار ونحوهما ، مما لا يسوغ أخذ العوض فيها بعد تسليمه ، غير مناف لان المتعلق بالأصل هو العمل وتلك من التوابع ، والله أعلم.

ومنه تزيين الرجل بما يحرم عليه لبسه كالحرير والذهب ونحوهما ضرورة كونه كغيره من المحرمات ، وفي المسالك ان المراد تزيينه بما يحرم عليه من زينة النساء ، وفيه أن المتجه حينئذ ذكر العكس أيضا ، وهو تزيين الامرأة بما يحرم عليها من زينة الرجال مع أنه قد توقف في دليله بعض متأخري المتأخرين ، لكن قد يقال : ان ما ورد (١) عن النهي عن لباس الشهرة (٢) وخبر جابر « عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في حديث لعن الله تعالى المحلل والمحلل له ، ومن تولى غير مواليه ، ومن ادعى شيئا لا يعرف ، والمتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال » وخبر (٣) زيد بن علي المروي عن العلل « عن آبائه عن علي عليه‌السلام سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال » قال :

__________________

(١) الوسائل الباب ١٢ من أبواب أحكام الملابس الحديث ٣ و ٤.

(٢) الوسائل الباب ٨٧ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ٨٧ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

١١٥

وفي حديث (١) آخر « أخرجوهم من بيوتكم فإنهم أقذر شي‌ء » وعن العلل أيضا بالإسناد السابق (٢) « عن علي عليه‌السلام قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالسا في المسجد ، حتى أتاه رجل به تأنيث ، فسلم عليه فرد عليه‌السلام ثم أكب رسول الله «ص» إلى الأرض يسترجع ، ثم قال : مثل هؤلاء في أمتي انه لم يكن مثل هؤلاء في أمة إلا عذبت قبل الساعة » وفي (٣) خبر العرزمي المروي في أصل أبي سعيد العصفري قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لعنة الله ولعنة الملائكة على رجل تأنث ، وامرأة تذكرت ورجل تحصر ، ولا حصور بعد يحيى ورجل جلس على الطريق يستهزئ بابن السبيل » ولعل ما في السند والمتن من القصور ، منجبر بفتوى المشهور ، ولا يخفى عليك أنه باختلاف الأحوال والمحال تختلف ملابس النساء والرجال ، فقد يختلف حال العجم والعرب ، وحال الفقراء وحال أرباب الرتب هذا.

وأما الخنثى المشكل ففي شرح الأستاد انه يجب عليها ترك الزينتين ولها العمل بما جاز لكل من النوعين ، وهو جيد ، أما الثاني فواضح ، وأما الأول فللقطع بكونه مكلفا بأحد الأمرين ، ولا يتم العلم بامتثاله إلا باجتناب الزينتين والله أعلم.

الخامس مما يحرم التكسب به ما يجب على الإنسان فعله عينا كان كالصلاة والصوم أو كفانيا كتغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم بلا خلاف معتد به أجده فيه ، وفي المسالك انه المشهور وعليه الفتوى وفي المحكي عن مجمع البرهان كان دليله الإجماع ، بل عن غيره أن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٨٧ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ٨٧ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤.

(٣) المستدرك ج ٢ ص ٥٣١ باختلاف يسير.

١١٦

عليه الإجماع في كلام جماعة ، إلا أنى لم أجده وهو إن تم الحجة ، لا منافاة ذلك لإخلاص في العمل المعتبر فيه ، إذ هو مع أنه غير تام فيما لا يعتبر فيه النية من الواجبات كالدفن ونحوه ، ومنقوض بالمستحب ، واضح المنع ، ضرورة كون الإجارة مؤكدة له ، باعتبار تسبيبها الوجوب أيضا ، ولا ما في شرح الأستاد من أن المنافاة بين صفة الوجوب والتملك ذاتية ، لأن المملوك والمستحق لا يملك ولا يستحق ثانيا ، ولأن الإجارة لو تعلقت به ، كان للمستأجر سلطان عليه في الإيجاد والعدم ، على نحو سلطان الملاك ، وكان له الإبراء والإقالة والتأجيل ، وكان للأجير قدرة على التسليم ، وفي الواجب يمتنع ذلك وهو في العيني بالأصل والعارض واضح ، واما الكفائي فلأنه بفعله يتعين له ، فلا يدخل في ملك آخر ، ولعدم نفع المستأجر فيما يملكه أو يستحقه غيره ، لأنه بمنزلة قوله استأجرتك لتملك منفعتك المملوكة لك أو لغيرك ، لأن الظاهر عدم الدخول في عمومات المعاملات في الكتاب والسنة ، فيبقى على أصل عدم الانتقال عن الحالة الأولى ، إذ فيه انه لا مانع من تعدد أسباب الوجوب ، كما يقتضي به صحة نذر الواجب والحلف عليه وأمر الوالد والسيد به ، نعم هو كذلك بالنسبة إلى أسباب الملك ، ولا تعدد فيها هنا والسلطان من حيث الإجارة بالإبراء والإقالة ونحوهما متحقق هنا ، والأجير له قدرة على التسليم في الواجبات التي تعتبر فيها النية ، ونفعها حاصل للغير كأحكام الأموات ونذر خياطة الثوب لزيد مثلا ونحو ذلك ، بل جواز أخذ الأم الأجرة على إرضاع الولد اللبأ مع وجوبه عليها ، كاستحقاق أخذ العوض عما يدفعه للمضطر من المال ، وما يأخذه الوصي عوضا عن عمله ، أوضح شاهد ، على عدم منافاة صفة الوجوب للتكسب ، بل هو مقتضى القواعد‌

١١٧

والضوابط ، جمعا بين ما دل على وجوب بذل المال أو العمل ، وبين ما دل على احترام القاضي بضمانهما ، إذا فرض عدم ظهور دليل الوجوب في المجانية ، إذ كما ان الاذن الشرعية في الأموال والأنفس ، لا تنافي الضمان ، كذلك الأمر الشرعي بدفع المال أو العمل لا ينافي الضمان ، فالمتجه حينئذ القول بعدم المنافاة ذاتا ، نعم لو حصل مانع خارجي كالجمع بين العوض والمعوض عنه ، ونحوه مما تكون المعاملة به سفهية عبثية ولو من جانب واحد ، أو فهم مما دل على الوجوب كونه بصفة المجانية ، اتجه المنع.

ودعوى أن كل واجب وإن كان مورده عملا ينتفع به الغير كذلك واضحة المنع ، ضرورة تعدد الفوائد للوجوب من حيث الإجارة مثلا دون وجوب غيرها وذلك نظير اشتراط خيار المجلس والعيب مثلا مع فرض ثبوتهما بسبب آخر غير الشرط ، وبذلك يندفع الإشكال بإعطاء الأجرة ، في الواجب الكفائي الصناعي ، حتى في مثل الطبابة ، ولا حاجة إلى الالتزام في حله ، بأن الحكم مخصوص بالواجب العبادي دون غيره ، كي يشكل ذلك بالدفن ونحوه ، مما صرحوا بعدم أخذ الأجرة عليه ، مع انه ليس من العبادة في شي‌ء ، ولا إلى التزام عدم أخذ الأجرة عليه الا في حال عدم وجوبه ، لقيام الغير به مثلا والصناعات في كل قطر قد وجد من يقوم بها ، فلذلك جاز أخذ الأجرة وان الإجارة على الجهاد تجوز إذا علم أو ظن قيام من فيه كفاية ، أو أن الموجر ممن لا يجب عليه أصلا ، ومقتضاه عدم جواز أخذ الأجرة مع عدم القيام بل يشكل في حال القيام بعدم تعين الفرد الواجب الذي يسقط به التكليف في الواقع من غيره ، حتى يصح أخذ الأجرة عليه ، على أن ما دل على الإجارة في الجهاد مطلق ، لا اشارة فيه إلى شي‌ء مما ذكره من‌

١١٨

التقييد ، فليس هو إلا لما ذكرناه من عدم المنافاة ، وانه قد علم من الأدلة كون الجهاد من الأفعال القابلة للنيابة ، فالمكلف مخير بين أن يجاهد عن نفسه ، فيكون هو أحد أفراد الكفاية ، أو يؤجر نفسه فيكون نائبا ويصير المنوب عنه أحد أفراد الكفاية ، الذين يسقط بهم الوجوب عن الغير فتأمل جيدا ، فإنه دقيق نافع وقد سلف في الجهاد ما يؤكد ذلك ولا إلى التزام عدم وجوبها إلا بالشرط ، فهي قبلة غير واجبة ، من غير فرق بين الانحصار وعدمه ، وكذا بذل المال للمضطر ، إذ هو مع أنه ممنوع في الأخير قطعا ، ضرورة وجوب البذل مطلقا ، وإن استحق الباذل العوض في الذمة ، مناف لصريح كلامهم في الأول ، فإنهم قد صرحوا بأن الصناعات ونحوها من الواجبات الكفائية ، وإن كان لا يخلو من إشكال ، ولو سلم فالمراد منه وجوب وجود العارف بها ، لا أنه يجب عليه العمل.

وقد يدفع بأنه لا مانع من ذلك ضرورة توقف النظام عليه ، كما أومأ إليه بقوله تعالى (١) ( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) ولا بأس بالوجوب مع العوض فتأمل ، ولا إلى أن الأصل التحريم إلا ما خرج بنص أو إجماع ، ولا إلى غير ذلك من التجشمات التي من الواضح فسادها بأدنى نظر.

بل التحقيق ما عرفته من عدم المنافاة بين صفة الوجوب ، واستحقاق العوض للوقوف على التراضي في صورة قيام الغير ، والتقدير بأجرة المثل في صورة عدمه ، كبذل المال للمضطر ، ولا ينافي ذلك تصريح غير واحد بعدم جواز أخذ الأجرة ، على ما في المتن حتى حكى‌

__________________

(١) سورة الزخرف الآية ٣٢.

١١٩

الإجماع عن جماعة ، بل في شرح الأستاد أن دعوى المحصل غير بعيد عند المحصل إذ لعله لما ذكرناه ، من ظهور الأدلة في وجوب هذه الاعمال مجانا ، لا للمنافاة المزبورة ، إذ قد عرفت أن محل البحث فيما لم يظهر من الدليل مجانيته ، وإلا حرم التكسب به ، لكن للظهور المزبور لا للمنافاة المذكورة التي قد عرفت انتفاءها ، وأنه لا فرق بين الواجب والمندوب ، والمباح والمكروه ، في ذلك فما كانت المعاملة فيه سفهية ، ولو لعود المنفعة للمستأجر ، فيكون جامعا بين العوض والمعوض عنه ، أو ظهر من الأدلة مشروعيته على المجانية ، لم يصح التكسب به ، وإلا اتجه مراعاة الضوابط والقواعد فيه من احترام عمل المسلم وماله ، كدمه وعرضه ، والوجوب والاستحباب لا ينافي ذلك ، نعم المستحب الذي لا نفع له إلا الثواب ، كالحج والزيارة وقراءة القرآن ونحوها ، يتوقف صحة الاستيجار عليها على صحة النيابة فيها ، فما يثبت فيه ذلك صح الاستيجار عليه وإلا فلا ، بل نحوه يجري في بعض الواجبات كما سمعته في الجهاد ، ولعل الأقوى كفاية ما دل على ذلك ، في الحج والصلاة وغيرهما من فعل القربات عن الأموات ، مضافا إلى إطلاق أدلة الإجارة ، مثلا في الحكم بجواز النيابة فيها على الإطلاق عن الاحياء والأموات ، إلا ما خرج بالدليل ، الذي فيه ما قيل من الإجماع من الكركي على عدم جواز النيابة في الصلاة والصوم إلا عن الميت ، ان تم والمباشرة المنساقة من الخطابات الواردة فيها ، لا ظهور فيها على جهة الشرطية ، بل هي كغيرها مما هو مورد الخطاب الوارد في غيرها مما علم جواز النيابة فيه هذا.

ولا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه ، ما في كلام جملة من‌

١٢٠