جواهر الكلام - ج ٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين وإذ قد فرغ من الوضوء شرع في البحث عن الغسل فقال :

( وأما الغسل )

فهو بالضم في الأصل اسم مصدر ثم نقل في العرف الشرعي على الأقوى فيه وفي نظائره إلى أفعال خاصة تقف عليها ان شاء الله للصحيح منها ، أو للأعم منها ومن الفاسد فسادا لا ينتفي الاسم عرفا بانتفائه من غير فرق بين الشرائط والأجزاء ، أو مع اختصاص الفساد من جهة الأول خاصة ، وقد فرغنا من تحرير ذلك كله في غير هذا المقام وكيف كان ففيه الواجب والمندوب ، فالواجب ستة أغسال ، غسل الجنابة والحيض والاستحاضة التي تثقب الكرسف والنفاس ومس الأموات من الناس قبل تغسيلهم وبعد بردهم وغسل الأموات بلا خلاف أجده في شي‌ء منها سوى غسل المس ، فعن المرتضى القول باستحبابه ، وستعرف ضعفه مما يأتي إن شاء الله وان لم يذكره المصنف في فصل مستقل ، وممن نص على وجوبه هنا من القدماء الشيخان والقاضي وابن زهرة وسلار وأبو الصلاح وابنا إدريس وسعيد ، وقد نفى الخلاف عنه بعضهم إلا من المرتضى ، بل في الغنية الإجماع عليه ، وأما الخمسة فلا إشكال في وجوبها ، ويدل عليها ـ مضافا الى الكتاب في غسل الجنابة والحيض على بعض الوجوه ـ الإجماع محصلا ومنقولا ، والأخبار التي كادت تكون متواترة ، بل هي كذلك في كثير منها ، بل لعل وجوبها‌

٢

يعد من الضروريات في غير غسل الاستحاضة ، ويظهر من المتن انه لا واجب غيرها ، وهو كذلك على الأصح ، خلافا لسلار في المراسم ، فزاد غسل من تعمد ترك صلاة الكسوف وقد انكسف القرص كله ، وستعرف ضعفه فيما يأتي ، كضعف غيره من إيجاب غسل من سعى إلى مصلوب عامدا بعد ثلاثة أيام وغيره ، كما يظهر لك ذلك كله ان شاء الله في الأغسال المندوبة.

وبيان ذلك أي الأغسال الواجبة في خمسة فصول بترك ذكر فصل مستقل لغسل مس الميت.

( الأول في الجنابة )

هي في اللغة كما قيل البعد ، وشرعا ما يوجب البعد عن أحكام الطاهرين من الإنزال أو الجماع الموجب للغسل ، ولعل الأقوى ثبوت النقل الشرعي فيها للحالة المترتبة على السببين المتقدمين ، وينحصر النظر في البحث فيها في أمور ثلاثة : في السبب والحكم والغسل ، أما سبب الجنابة فأمران لا ثالث لهما‌ الإنزال إذا علم ان الخارج مني بلا خلاف أجده فيه ، بل حكى الإجماع عليه جماعة حكاية تقرب الى التواتر كالسنة من غير فرق بين مقارنته الشهوة والدفق والفتور وعدمها ، ولا بين الرجل والامرأة كما صرح بهذا الإطلاق جماعة حاكين عليه الإجماع ، بل قد يظهر من بعضهم دعوى الإجماع عليه من المسلمين ، سوى ما ينقل عن أبي حنيفة من اعتبار مقارنة الشهوة والتلذذ في وجوب الغسل ، وهو ضعيف جدا ، كالمنقول عن ظاهر الصدوق في المقنع ، حيث قال : وإذا احتلمت المرأة فأنزلت فليس عليها غسل ، وروي ان عليها الغسل إذا أنزلت ، ولعله لما تسمعه من بعض الأخبار (١) مع احتمال أن يريد إذا احتلمت من دون إنزال أو من دون علم بكون الخارج منيا أو نحو ذلك.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢١.

٣

ومن هنا ظهر لك ان ما يوجد في بعض كتب أصحابنا من تقييد سبب الجنابة بإنزال الماء الدافق كما في المقنعة والمبسوط وكافي أبي الصلاح والمراسم والوسيلة وعن جمل السيد محمول على الغالب ، فلا يعتبر المفهوم فيها ، بل الظاهر منها جميعا ، إرادة المني ، أو يراد منها حيث لا يقطع بكونه منيا بدون ذلك ، لما قد عرفت من كون الحكم مجمعا عليه عندنا ، وأخبارنا به كادت تكون متواترة ، كما انه يجب حمل بعض الأخبار الدالة على اشتراط جنابة المرأة بخروج المني عن شهوة على ما تقدم أو غيره من الوجوه ، كخبر إسماعيل بن سعد الأشعري (١) عن الرضا عليه‌السلام قال : « إذا أنزلت من شهوة فعليها الغسل » ‌وخبر محمد بن الفضيل (٢) عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « إذا جاءتها الشهوة فأنزلت الماء وجب عليها الغسل » ونحوهما غيرهما ، خصوصا مع ظهور جميعها في إرادة التميز بذلك ، كما يشعر به وقوعه عقيب السؤال من الراوي في أكثرها عن وقوع الماء منها بعد الملاعبة ونحوها مما يقتضي في الغالب خروج المذي ، فكان الشرط حينئذ لتمييز الخارج منها انه مني أو لا ، فتأمل.

نعم في جملة من الأخبار التي هي صحيحة السند ما يدل على عدم وجوب الغسل مع خروج المني ( منها ) خبر عمر بن يزيد (٣) قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « الذي يضع ذكره على فرج المرأة فيمني عليها غسل؟ فقال : ان أصابها من الماء شي‌ء فلتغسله ، وليس عليها شي‌ء إلا أن يدخله ، قلت : فإن أمنت هي ولم يدخله قال ليس عليها الغسل » و ( منها ) خبره الآخر (٤) قال : « اغتسلت يوم الجمعة بالمدينة ، ولبست ثيابي ، وتطيبت ، فمرت بي وصيفة ، ففخذت لها ، فأمذيت أنا وأمنت هي ، فدخلني من ذلك ضيق ، فسألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٨.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢٠.

٤

ذلك ، فقال : ليس عليك وضوء ولا عليها غسل » و ( منها ) خبر ابن أذينة (١) قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « المرأة تحتلم في المنام فتهريق الماء الأعظم ، قال : ليس عليها غسل » ومثله غيره ، بل في بعض الروايات ما يدل على كون الحكم بذلك أي عدم وجوب الغسل بخروج المني منها يقظة معروف مشهور ، كما يشعر به السؤال عن وجه ذلك في‌ صحيح ابن مسلم (٢) قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : « كيف جعل على المرأة إذا رأت في النوم ان الرجل يجامعها في فرجها الغسل ، ولم يجعل عليها الغسل إذا جامعها دون الفرج في اليقظة وأمنت؟ قال : لأنها رأت في منامها ان الرجل يجامعها في فرجها ، فوجب عليها الغسل ، والآخر انما جامعها دون الفرج فلم يجب عليها الغسل ، لأنه لم يدخله ، ولو كان أدخله في اليقظة وجب عليها الغسل أمنت أو لم تمن » مع ما في‌ خبر عبيد بن زرارة (٣) من بيان العلة في عدم وجوب الغسل على المرأة قال : قلت له : « هل على المرأة غسل من جنابتها إذا لم يأتها الرجل؟ قال : لا ، وأيكم يرضى ان يرى أو يصبر على ذلك أن يرى ابنته أو أخته أو زوجته أو أحدا من قرابته قائمة تغتسل ، فيقول مالك ، فتقول احتلمت وليس لها بعل ، ثم قال : لا ليس عليهن ذلك ، وقد وضع ذلك عليكم ، قال الله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) ولم يقل ذلك لهن ».

وحيث كانت هذه الأخبار مخالفة المجمع عليه بين الأصحاب ، بل قيل بين المسلمين ، ومعارضة للأخبار الأخر التي كادت تكون متواترة وجب طرحها أو تأويلها أما باشتباه كون الخارج منيا ، أو الحمل على أنها رأت في النوم أنها أنزلت فلما انتبهت لم تجد شيئا كما هو ممكن في بعضها ، أو انها أحست بانتقال المني عن محله الى موضع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢٢.

٥

آخر ولم يخرج منه شي‌ء ، فان مني المرأة قل ما يخرج من فرجها ، لأنه يستقر في رحمها ، أو يراد بالمني المذي ، أو غير ذلك ، واحتمل في الوسائل حملها على التقية لموافقتها لبعض مذاهب العامة ، وفيه أنه مناف لما نقله المصنف في المعتبر والعلامة في المنتهى وغيرهما من كون الحكم مجمعا عليه بين المسلمين ، لكن يؤيده اشتمال متنها على ما يشعر به كالتعليل المجازي في حديث ابن مسلم ، والاستدلال الظاهري الإقناعي في خبر عبيد ابن زرارة وغيره.

نعم قد يتجه حملها على التقية بناء على ما ذهب اليه بعض المتأخرين من أصحابنا من عدم اشتراط وجود المخالف في ذلك ، أو يكفي احتمال وجوده ، وقد كانت مذاهبهم في زمن الأئمة عليهم‌السلام منتشرة جدا لا انضباط لها ، وحصر مذاهبهم في الأربعة انما كان حادثا في سنة الستمائة كما قيل ، ولعل الوجه في هذه الأخبار إرادة إخفاء هذا الحكم عن النساء كي لا يتخذنه علة ، كما أشارت إليه بعض الأخبار الدالة على وجوب الغسل عليهن ، كما في‌ صحيح أديم بن الحر (١) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل عليها غسل؟ قال : نعم ، ولا تحدثوهن بذلك فيتخذنه علة » ولعل هذه الرواية التي أشار إليها الكليني في الكافي حيث قال بعد ذكر رواية عبد الله بن سنان الدالة على وجوب الغسل عند الإنزال في النوم : « وفي رواية أخرى قال : عليها غسل ولكن لا تحدثوهن بذلك فيتخذنه علة » انتهى. ومن المحتمل العمل بهذه الرواية لمكان صحتها وموافقتها للاعتبار ، فيحرم حينئذ تحديثهن بذلك ، ويخص بها ما دل على تعليم الجاهل بالحكم ، لكنه بعيد جدا. نعم يحتمل تنزيلها على كراهة التحديث بذلك لهن قبل أن يسألن ويبتلين به خوفا من المحذور المتقدم ، ولم أعثر على من تعرض لما دل عليه هذا الخبر من هذا الحكم في كلام أحد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٢.

٦

من أصحابنا المتقدمين ، فتأمل.

ثم انه لا ريب ولا إشكال كما هو ظاهر النص والفتوى في أن وجوب الغسل معلق على خروج المني إلى خارج الجسد لا مجرد الانتقال من محله وان لم يخرج ، لكن هل المدار على الخروج من الموضع المعتاد على ما هو المشهور في الحدث الأصغر ، وهو خيرة العلامة في القواعد وولده في الإيضاح والشهيد في الذكرى والمحقق الثاني وغيرهم من متأخري المتأخرين للأصل ، مع تنزيل المطلقات على المتعارف المعتاد ، أو على مطلق الخروج من غير فرق بين الاعتياد وانسداد الطبيعي وعدمهما؟ ولعله الظاهر من المصنف وغيره ممن أطلق كإطلاقه ، وتنزيله على ما في الحدث الأصغر بعيد ، وهو المنقول عن المنتهى والتذكرة ونهاية الأحكام ، والموجود في الأول لو خرج المني من ثقبة في الإحليل غير المعتاد أو في خصيته أو في صلبه فالأقرب الوجوب ، ونحوه عن نهاية الأحكام ، وفي التذكرة « لو خرج المني من ثقبة الذكر أو الأنثيين وجب الغسل » انتهى. وهي كما ترى لا إطلاق فيها يقتضي شمول ما فوق الصلب ، ولعله من هنا قال المحقق الثاني : انه لو خرج من غير الثلاثة المذكورة في المنتهى فاعتبار الاعتياد حقيق بان يكون مقطوعا به ، قلت : ولعل الوجه خلافه ، وذلك لاشتراك الدليل بالنسبة للمجموع ، وهو الإطلاقات ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « انما الماء من الماء » ونحوه ، إذ لا تفاوت في شمولها لما تحت الصلب وما فوقه ، وكيف يكون حقيقا بالقطع مع انك قد عرفت قوة القول بنقض الخارج مطلقا في الحدث الأصغر من غير فرق بين الخارج من تحت المعدة وفوقها ، مع كثرة الأخبار (٢) الدالة هناك على تقييد الناقض بكونه الخارج من الذكر والدبر وطرفيك الذين أنعم الله بهما عليك ونحو ذلك ، وقلتها هنا ،

__________________

(١) كنز العمال ـ ج ٥ ص ٩٠ الرقم ١٩١٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

٧

فيكون المقام أولى حينئذ.

ومن التأمل فيما تقدم هناك يظهر لك قوة القول الثاني هنا ، وضعف ما تمسكوا به للأول من انصراف المطلقات الى المتعارف المعهود ، بل لعل التأمل يقضي بأن المسألة في المقام كمسألة الحدث الأصغر ، فيجري فيها حينئذ من الاحتمالات ما يجري هناك لاتحاد المدرك فيهما ، فيحتمل القول بالنقض مطلقا ، والعدم مطلقا ، والتفصيل بالاعتياد وعدمه ، والتفصيل بما دون الصلب وفوقه ، كالتفصيل بما تحت المعدة وفوقها ، لكنه قد يظهر من كلام جملة من الأصحاب في المقامين حصول الفرق بينهما ، والظاهر خلافه ، وطريق الاحتياط غير خفي ، وحكم الخنثى المشكل يظهر مما تقدم ، فلا يحكم بجنابتها إلا بالخروج من الفرجين ، أو من أحدهما مع الاعتياد على القول الأول ، بخلاف الثاني ، فإنه يحكم بجنابتها بمجرد الخروج من أحدهما وان لم يحصل الاعتياد ، وحكم الممسوح كذلك على الظاهر ، وفيه تأمل.

فإن حصل ما يشتبه به المني فإن كان صحيحا وكان الخارج دافقا يقارنه الشهوة واللذة وفتور الجسد أي انكساره جرى عليه حكم الجنب ، فيحرم حينئذ عليه قراءة العزائم ودخول المساجد ووجب عليه الغسل وغير ذلك من الأحكام وإن لم يحصل له القطع من ملاحظتها بكونه منيا ، لما ستعرفه من الأدلة ، وبها يحكم على ما دل (١) على عدم نقض يقين الطهارة إلا بيقين الحدث ، وظاهر المصنف اشتراط وجود الثلاثة ، فلا يكفي الاعتبار بواحد ، كما هو صريح بعض متأخري المتأخرين وظاهر المعتبر والتحرير والمنتهى والإرشاد ونهاية الأحكام ، وربما ظهر من بعضهم اعتبار كون رائحته كرائحة الطلع والعجين رطبا وبياض البيض جافا مع الأوصاف السابقة ، ويظهر من العلامة في القواعد الاكتفاء بالدفق والشهوة ، ومن النافع الاكتفاء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء حديث ٧.

٨

بالدفق وفتور البدن ، وظاهر الوسيلة وعن النهاية اعتبار الدفق خاصة ، وفي كشف اللثام انه قد يظهر ذلك من المبسوط والاقتصاد والمصباح ومختصره وجمل العلم والعمل والعقود والمقنعة والتبيان والمراسم والكافي والإصباح ومجمع البيان وروض الجنان وأحكام الراوندي.

قلت : وكأنه فهم ذلك من قولهم في سبب الجنابة إنزال الماء الدافق ، وإلا فلم يتعرض في بعض ما حضرني ممن نقل عنهم كالمبسوط والمراسم وغيرها لمسألة التمييز بذلك عند الاشتباه ، لكن لعل التأمل يقضي بأنه لا ظهور لتلك العبارة فيما ذكر ، وصريح المحقق الثاني في جامع المقاصد والشهيد الثاني في الروض والمسالك الاكتفاء بحصول واحد من الأوصاف الثلاثة ، بل في الأولين الاكتفاء بالرائحة فقط مع نفي الخلاف عنها في جامع المقاصد ، فصار الحاصل من جميع ما تقدم هو إما اعتبار الثلاثة معا ، أو الأربعة ، أو الدفق والشهوة ، أو الدفق وفتور البدن ، أو الدفق خاصة ، أو يكتفي بواحد من الثلاثة أو الأربعة ، فتنتهي حينئذ إلى سبعة أقوال ، نعم يمكن إرجاع القول بالاكتفاء بالاثنين من الدفق والشهوة أو الدفق والفتور إلى شي‌ء واحد ، لتلازم الشهوة والفتور ، وكذا العكس ، فحينئذ يرجعان الى اعتبار الثلاثة ، فتكون الأقوال خمسة حينئذ ، ولعل ما في الجامع لابن سعيد يكون سادسا ، لأنه قال : وعلامة مني الرجل بياضه وثخانته وريحه ريح الطلع والبيض جافا ، وقد يخرج رقيقا أصفر كمني المرأة.

ثم انه لا خلاف على الظاهر كما قيل في الرجوع الى هذه العلامات عند الاشتباه وان لم نفده يقينا بكونه منيا ، بل ربما يظهر من بعض المتأخرين استظهار الاتفاق عليه من الأصحاب ، ولعله لأنه لم يستظهر الخلاف من بعض قدماء الأصحاب حيث انهم علقوا الحكم على خروج المني مع عدم ذكرهم الرجوع الى هذه العلامات عند الاشتباه ، كما انه لم أعثر على من استظهر ذلك من أحد منهم ولا من نقل خلافا فيه ، لكن قد يظهر للمتأمل في عبارة السرائر عدم اعتبار هذه ، بل المدار على العلم بكونه منيا حيث‌

٩

انه أنكر على الشيخ اكتفاءه بالشهوة بالنسبة للمريض قائلا ما حاصله ان المدار على المني فلا فرق بين الصحيح والمريض في ذلك ، إلا اني لم أعرف أحدا نقل خلافه في المقام.

وكيف كان فيدل عليه مضافا إلى ذلك‌ صحيحة علي بن جعفر (١) عن أخيه عليهما‌السلام قال : سألته « عن الرجل يلعب مع المرأة ويقبلها فيخرج المني فما عليه؟ قال : إذا جاءت الشهوة ودفع وفتر لخروجه فعليه الغسل ، وان كان انما هو شي‌ء لم يجد له فترة ولا شهوة فلا بأس » وهي كما انها دلت على أصل الاعتبار بهذه العلامات دلت على ما استظهرناه من المصنف وما تقدم من كون المعتبر اجتماع الثلاثة ، لا يقال : ان ظاهر هذه الرواية غير معمول به بين الأصحاب ، وذلك لدلالتها على اشتراط هذه الأمور مع كون الخارج منيا ، وقد عرفت انه ممن لا يقول به أحد من الشيعة ، لأنا نقول : أما أولا فالمنقول عن كتاب علي بن جعفر روايته بدل المني الشي‌ء ، فالظاهر حينئذ انه اشتباه من النساخ ، وثانيا لعل السائل بنى ذلك أي كونه منيا على الظن ، فجاء الجواب مفصلا للحكم رافعا للوهم ، أو يراد انه إذا اشتبه على الإنسان فاعتقد انه مني فإنه يعتبره بوجود الصفات ، وعلى كل حال فصرفه عن هذا الظاهر لمكان الإجماع لا يقدح في أصل الاستدلال بها على اعتبار الصفات للمشتبه كما هو واضح ، لا يقال : ان‌ قوله عليه‌السلام في آخر الحديث : « وان كان انما هو شي‌ء » الى آخره ينافي ما ذكرته من الاستدلال بها ، على أن نفي الواحدة تكفي في نفي الحكم بالجنابة ، لظهورها في اشتراط نفي الجنابة بنفي الفترة والشهوة معا ، بل لعل مقتضى مفهومها حينئذ ثبوت الجنابة بحصول أحد الوصفين ، فتكون معارضة لمدلول صدرها ، لأنا نقول : قد يدعى التلازم بين الشهوة والفترة ، فلا يكون عطف قوله ولا شهوة مفيدا فائدة جديدة ، إذ انتفاء الفترة يستلزم انتفاء الشهوة ، وأيضا فالمنساق الى الذهن من الروايات ان المذكور أخيرا انما هو بعض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الجنابة حديث ١.

١٠

ما يقتضيه مفهوم الشرط الأول ، وليس بشرط مستقل يلحظ مفهومه ومنطوقه كما هو واضح ، كل ذا مع موافقة مقتضى الصدر للأصل ، وهو حجة ثانية لهذا المذهب إذ هو يقتضي ان الشك في الحدث ليس حدثا ، فيقتصر في الخروج عن هذا الأصل على محل اليقين ، وهو مع اجتماع الثلاثة بل والأربعة إلا انه لما لم نعثر على اعتبار الوصف الرابع وهو الرائحة المذكورة في شي‌ء من الأخبار بل ظاهر هذه الرواية وغيرها عدمه قوي الظن بعدم مدخليته.

ومنه تعرف ضعف القول به منضما ومنفردا ، ومن العجيب ما سمعته من جامع المقاصد من نفي الخلاف في الاعتماد عليها لو حصلت منفردة ، وبما ذكرناه مع ما تسمع يظهر لك قوة القول بكون الثلاثة خاصة مركبة بالنسبة إلى صحيح المزاج ، وأما ما ذكره في جامع المقاصد وغيره من الاكتفاء بأحد الثلاثة أو الأربعة فلا أعرف له مستندا ، وأقصى ما ذكر هو في توجيهه انها صفات متلازمة إلا لعارض كمرض ونحوه ، فوجود بعضها حينئذ كاف ، وكذلك غيره ممن وافقه ، فإنه قال : انها متلازمة غالبا ، وإلا فلو فرض انفكاكها فالواحد منها كاف في ذلك ، وفيه انه مصادرة مع فرض تجويز الانفكاك ، وخال عن الدليل مع فرض عدمه ، بل ظاهر الصحيحة المتقدمة وغيرها خلافه ، منها الأخبار التي فصلت بين المريض والصحيح كصحيحة ابن أبي يعفور (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : « الرجل يرى في المنام ويجد الشهوة فيستيقظ فينظر فلا يجد شيئا ، ثم يمكث الهوين بعد فيخرج ، قال : إن كان مريضا فليغتسل ، وان لم يكن مريضا فلا شي‌ء عليه ، قلت فما الفرق بينهما؟ قال : لأن الرجل إذا كان صحيحا جاء الماء بدفقة قوية وان كان مريضا لم يجئ إلا بعد » ويقرب منه غيره ، وهو كما أنه دال على انفكاكها بالنسبة للصحيح كذلك دال على نفي الحكم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الجنابة حديث ٣.

١١

بالجنابة مع نفي الدفق خاصة ، وهو أيضا مما يؤيد ما ذكرنا.

فظهر لك بذلك كله ضعف القول بالاكتفاء بواحد منها ، كما ان الظاهر ضعف القول باعتبار الدفق خاصة ، إذ ليس في الأدلة ما يدل على انه يحكم بالجنابة بمجرده ، بل قد عرفت أن فيها ما يخالفه ، وأما الاستدلال عليه بقوله تعالى (١) ( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) فضعيف ، إذ لا دلالة فيه ، على أن لا دافق غيره مما يخرج من الذكر حتى يكون وجوده دليلا على كونه منيا ، وأما ما سمعته من العلامة في القواعد والمصنف في النافع فقد عرفت أن الظاهر رجوعهما الى اعتبار الثلاث ، لمكان تلازم الشهوة للفتور وبالعكس ، ومع فرض العدم فهما محجوجان بما سمعت. لا يقال : ان المني من الموضوعات التي يكتفي فيها بالظن ، ولا ريب في حصوله بواحد من الصفات الثلاثة ، بل وبالرائحة أيضا ، ونحو ذلك. لأنا نقول فرق واضح بين تحقق الموضوع وبين معنى الموضوع ، وأقصى ما يكتفى بالظن انما هو في الثاني دون الأول.

ومما تقدم ظهر لك وجه قول المصنف ولو كان مريضا كفت الشهوة وفتور الجسد في وجوبه مع عدم الخلاف فيه فيما أجد ، ولعله لما سمعته من صحيح ابن أبي يعفور مضافا الى‌ الحسن كالصحيح عن زرارة (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام على ما رواه الصدوق في العلل حكاه في الوسائل قال : « إذا كنت مريضا فأصابتك شهوة فإنه ربما كان هو الدافق ، لكنه يجي‌ء مجيئا ضعيفا ليس له قوة ، لمكان مرضك ساعة بعد ساعة قليلا قليلا ، فاغتسل منه » وصحيحة معاوية بن عمار (٣) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الرجل احتلم فلما انتبه وجد بللا قليلا ، قال : ليس بشي‌ء إلا أن يكون مريضا ، فإنه يضعف ، فعليه الغسل » بل في‌ خبر محمد بن مسلم (٤)

__________________

(١) سورة الطارق ـ الآية ـ ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الجنابة حديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الجنابة حديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الجنابة حديث ٤.

١٢

وجوب الغسل على المريض بالجنابة بمجرد الشهوة واللذة في حال النوم وان لم يجد شيئا ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : « رجل رأى في منامه فوجد اللذة والشهوة ، ثم قام فلم ير في ثوبه شيئا ، فقال : ان كان مريضا فعليه الغسل ، وان كان صحيحا فلا شي‌ء عليه » لكنه قال في الحدائق : انه لم يذهب الى ذلك ذاهب من الأصحاب ولم يرد به خبر آخر في الباب ، بل ربما دلت الأخبار على خلافه ، قلت : وهو كما قال ، فوجب حمل الرواية على ضرب من التأويل إما بأنه لم يجد على ثوبه وان رأى في رأس ذكره شيئا أو غير ذلك ، أو طرحها.

ولو تجرد عن الشهوة والدفق مع اشتباهه لم يجب وهل المرأة كالرجل فيما ذكرنا من الأوصاف كما يقتضيه إطلاق العبارة وغيرها أو لا؟ الأقوى الثاني ، لظهور ما سمعته من الصحيحة المتقدمة في الرجل ، وحينئذ وعلى الثاني فهل يكفي الشهوة من غير اعتبار غيرها أو انها لا تلتفت إلى شي‌ء من الأوصاف حتى تعلم انه مني؟ اختار بعض متأخري المتأخرين الأول ، ولعله لما‌ في بعض المعتبرة (١) « إذا جاءت الشهوة فأنزلت الماء وجب عليها الغسل » ونحوه غيره ، وقد يتأمل في الدلالة على ذلك مع الأصل ، ومنه يظهر وجه الثاني حينئذ ، فتأمل.

وان وجد المكلف على ثوبه أو جسده منيا لا بللا لا يعلم كونه منيا وجب الغسل إذا لم يشركه في الثوب غيره أي بان لا يكون مختصا به ، فيكون عين ما عبر به في المعتبر والقواعد والإرشاد والتحرير والذكرى والدروس ، إلا انه لم يذكر الجسد في المعتبر والتحرير ، ولعله لا خلاف من هذه الجهة بل المقصود التمثيل ، ولذا زاد بعضهم الفراش ونحوه ، نعم يحتمل ذلك بالنسبة إلى غيرها من العبارات ، فوجب التعرض لجملة منها ، قال الشيخ في النهاية : « إذا انتبه فرأى على فراشه أو ثوبه منيا ولم يذكر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٣.

١٣

الاحتلام وجب عليه الغسل ، فان قام من موضعه ثم رأى بعد ذلك فان كان ذلك الثوب أو الفراش مما يستعمله غيره لم يجب عليه غسل ، وان كان مما لا يستعمله غيره وجب عليه الغسل » انتهى. وظاهره اعتبار التفصيل بالاشتراك والاختصاص بعد القيام من موضعه ، ومن هنا اعترض عليه ابن إدريس وتبعه عليه جملة ممن تأخر عنه بأنه لا مدخلية للقيام في ذلك وفي المختلف « التحقيق انه لا تنافي لأن قصد الشيخ وجوب الغسل مع انتفاء الشركة وعدمه مع ثبوتها ، وانما اعتبر هذا التفصيل مع القيام لأنه الغالب ولم يعتبره مع عدم القيام لندوره » انتهى.

قلت وكيف كان فالأمر سهل ، إذ على تقدير إرادته ذلك فمرحبا بالوفاق ، وإلا كان محجوجا بما تسمع إن شاء الله. نعم ظاهر عبارته اختصاص الحكم في صورة الانتباه من النوم ، كما هو ظاهر المصنف في النافع وصريح الفاضل في الرياض وقضية إطلاق كثير من الأصحاب خلافه ، وفي المنتهى والتحرير ذكر مسألتين ، الأولى لو استيقظ الرائي فوجد المني وجب الغسل ، قال : لأنه منه ، ولا اعتبار بالعلم بالخروج في وقته ، ثم استدل عليه في الأول برواية عامية (١) وموثقة سماعة الآتية ، ثم قال : ان سماعة فيه قول إلا أن روايته متقبلة عند الأصحاب ، والنظر يؤيدها. الثانية لو رأى منيا في ثوبه قال : فان اختص به وجب عليه الغسل ، ثم استدل برواية عامية (٢) غير الأولى ورواية سماعة أيضا ، وعلله بأنه لا يحتمل ان يكون من غيره ، وفي التذكرة قال : « ولو رأى المني على جسده أو ثوبه وجب الغسل إجماعا لأنه منه وان لم يذكر الاحتلام ، الى أن قال : ولو رأى في ثوبه المختص منيا وجب عليه الغسل وإن كان قد نزعه ما لم يشك انه مني آدمي » انتهى. فلعل مقصوده في الكتب الثلاثة‌

__________________

(١) كنز العمال ج ٥ ص ٩٠ الرقم ١٩١٩.

(٢) المغني لابن قدامة الحنبلي ج ١ ص ٢٠٣.

١٤

من المسألة الأولى انه حيث يعلم المكلف ان المني خرج منه بهذه النومة مثلا إلا أنه لم يذكر وقت الاحتلام ، فإنه لا إشكال في وجوب الغسل حينئذ ، ولذا نقل الإجماع عليه في التذكرة ، بخلاف ما نحن فيه من الوجدان في الثوب المختص ، فإنه قد يقال : بالاكتفاء فيه إما للعمل بظاهر الحال كما يقتضيه المنقول من ظاهر نهاية الأحكام ، أو غير ذلك ، والذي عثرت عليه في الروايات مما يتضمن هذا الحكم ما رواه‌ الشيخ في الموثق عن سماعة (١) قال : سألته « عن الرجل يرى في ثوبه المني بعد ما يصبح ولم يكن رأى في منامه انه قد احتلم ، قال : فليغتسل وليغسل ثوبه ويعيد صلاته » وما رواه‌ الكليني في الموثق أيضا عن سماعة (٢) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الرجل ينام ولم ير في نومه انه قد احتلم فوجد في ثوبه وعلى فخذه الماء هل عليه غسل؟ قال : نعم » وأما ما في‌ خبر أبي بصير (٣) مما يعارض ذلك قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الرجل يصيب في ثوبه منيا ولم يعلم انه احتلم قال : ليغسل ما وجد بثوبه وليتوضأ » فقد حمله الشيخ على الثوب المشترك ، وغيره على غيره كما ستسمع ، وكلام الأصحاب في المقام لا يخلو من اضطراب.

وكشف الحال ان نقول ان ما ذكروه من وجوب الاغتسال عند الوجدان في الثوب المختص ونحوه محتمل لوجوه ثلاثة ، بل أربعة ، ( الأول ) ان يكون قد جروا به على وفق القاعدة ، ولا خروج فيه بشي‌ء عنها ، فلا بد من تقييد الروايات كما لعله الظاهر من سياقها وكلام الأصحاب بالعلم بخروج المني منه خروجا لم يغتسل منه بمعنى علم الجنابة وان لم يذكر وقت خروجه منه ، فلا يكون فيه مخالفة لقاعدة نقض الطهارة بشك ولا غيره ، وما يقال : من انه يبعد حمل كلام الأصحاب عليه ، إذ هو بيان للبديهيات ، وكان يمكنهم الاكتفاء بما ذكروه قريبا منه متسالمين فيه ان الجنابة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

١٥

تحقق بخروج المني من المكلف من غير اعتبار لشي‌ء آخر أبدا ، وأنه حينئذ لا معنى للفرق بين الثوب المختص والمشترك ، إذ المدار على العلم ، ولا بين الاشتراك بين كونه دفعة أو على سبيل التناوب كما وقع من المحقق الثاني والشهيد الثاني يمكن الجواب عنه بأنه لعل ذلك لمكان تعرض الروايات له ، كما هي عادتهم في ذكر أحكام كثيرة مستغنى عنها ، لمكان وجودها في الأخبار ، أو لمكان الفروع التي تسمعها في مسألة الثوب المشترك ، أو لما وقع فيها من الخلاف بين العامة ، فتعرض ممن عادته التعرض لذلك ، كما يقتضيه عبارة المرتضى المنقولة عنه في السرائر وكلام العلامة في المنتهى وغيره ، وتبعهم غيرهم غفلة عن حقيقة الحال ، ولعل فرقهم بين المختص وغيره انه غالبا يحصل العلم بسببه بخروج المني منه أو لنحو ذلك ، ولعل ذلك وجه الفرق بين الاشتراك النوبي أو الدفعي كما سمعته من المحقق الثاني ، إلا أن الانصاف ان ذلك بعيد في كلامه.

( الثاني ) ان يكون مقصودهم خروج هذه المسألة عن القاعدة المعلومة ، وهي عدم نقض اليقين إلا باليقين ، فتكون مسألة تعبدية صرفة ، فيجب على الواجد الاغتسال حتى فيما لو احتمل انه من غيره ، كما عساه يظهر من الموجز الحاوي ، بل كاد يكون صريحه ، كالمنقول عن نهاية الأحكام من التعليل ، ولعله ظاهر جامع المقاصد والروض وصريح الفاضل في الرياض فإنه قال في شرح عبارة النافع : « ويجب ان يغتسل المستيقظ إذا وجد منيا على جسده أو ثوبه الذي ينفرد به مع إمكان كونه منه وعدم احتماله مني غيره ، للموثق ومثله في آخر وظاهر إطلاقهما جواز الاكتفاء بالظاهر هنا عملا بشهادة الحال ، ونقل القطع به هنا عن الشيخ والفاضلين والشهيد وغيرهم ، وعن التذكرة الإجماع عليه ، وينبغي الاقتصار فيه على ظاهر موردهما من وجدانه عليهما بعد الانتباه ، كظاهر المتن اقتصارا فيما خالف الأصل المتيقن من عدم نقض اليقين إلا بمثله الوارد في الصحاح وغيرها المعتضد بالاعتبار وغيره على القدر المتيقن من الروايتين ، فلا يجب‌

١٦

الغسل بوجدانه مطلقا ، بل في الصورة المزبورة دون غيرها ، وعليه يحمل الخبر أي خبر أبي بصير عن الرجل الى آخره ، وحمله على ما سيأتي من الثوب المشترك كما عن الشيخ بعيد » انتهى.

قلت : وربما يؤيده إطلاق بعض العبارات وما سمعته في الوجه السابق ، إلا ان التأمل في كلام الأصحاب يرشد الى خلافه كالشيخ في المبسوط ، لأنه علل وجوب الاغتسال بتحقق خروجه منه ، وابن إدريس في السرائر ، فإنه نقل عن المرتضى انه قال : عندنا ان من وجد ذلك في ثوب أو فراش مما لا يستعمله سواه ولا يجوز فيما وجده من غيره يلزمه الغسل وان لم يذكر الاحتلام ، وجعل ذلك مدار الفرق بين الثوب المشترك أو المختص ، ثم نقل عنه كلاما طويلا يتضمن التعرض لنقل كلام العامة ورده ، وحاصل ما يتحصل من جميع كلامه ان المدار على العلم ، لعدم جواز نقض يقين الطهارة بغيره ، الى أن قال ابن إدريس بعده : وهو واضح سديد في موضعه ، وقد سمعت عبارة المنتهى وتعليله بكونه لا يحتمل من غيره ، وقد صرح باعتبار العلم في كشف اللثام والمدارك والذخيرة وشرح الدروس وغيرها ، ويؤيده أيضا تعليلهم في مسألة الثوب المشترك بعدم نقض اليقين إلا بمثله ، مع عدم إشارة منهم الى خروج المسألة الأولى عن القواعد ، وانها تعبدية محضة عدا من عرفت ، على انه لا صراحة فيما سمعته من الروايات بإخراجها ، بل ولا ظهور ، بل المتبادر من سياقها حصول العلم كما يتفق لنا في كثير من الأوقات بعد الاستيقاظ من النوم سيما رواية رؤيته على الجسد ، ولعل السؤال عنها للرد على بعض العامة الذي لا يوجب الغسل حتى يذكر الاحتلام ، أو لحصول الاشتباه للراوي من عبارة سمعها منهم عليهم‌السلام انه لا يجب الاغتسال حتى يحصل الشهوة والدفق والفتور ، فتخيل ان ذلك شرط ، أو نحو ذلك ، فلا ينبغي قطع تلك القاعدة المعلومة بمثل هذين الخبرين ، على انهما معارضان بخبر أبي بصير المتقدم ، وما وقع في‌

١٧

عبارة الرياض من انه نقل القطع به عن الشيخ والفاضلين والشهيد وغيرهم وعن التذكرة الإجماع عليه لعله سهو منه ، وكأنه عول في ذلك على عبارة كشف اللثام كما هي عادته قال في كشف اللثام بعد ان اعتبر العلم بكونه منه وذكر رواية سماعة وقال بعدها بلا فاصل : وفي نهاية الأحكام عملا بالظاهر ، وهو الاستناد اليه ، وهو مما قطع به الشيخ وابن إدريس والفاضل والشهيد وغيرهم ، وفي التذكرة الإجماع عليه انتهى.

قلت : والظاهر ان مراده بالضمير أصل الحكم لا ما نقله عن نهاية الأحكام كما يرشد اليه استقراء كلمات من نقل عنهم ، فإن أكثرها كالصريح في اعتبار العلم سيما إجماع التذكرة ، فإنك قد عرفت انه لم ينقله على ما نحن فيه في أحد الوجهين ، على أنه علله بما تقدم ، ومن العجيب ما وقع في الرياض أيضا من تقييده أولا بإمكان كون المني وعدم احتماله من غيره ، ثم اكتفائه بظاهر الحال ، وكأنه تبع في ذلك كاشف اللثام في مزجه لعبارة القواعد ، لكنك قد عرفت انه لم يكتف بظاهر الحال ، بل اعتبر العلم فصح له ذلك ، بخلافه هو ، ثم ان اختياره اختصاص ذلك في صورة الانتباه كأنه في غير محله ، بناء على المنقول اليه من إجماع التذكرة وغيره الذي يكون قرينة على التعدي عن محل سؤال الروايتين ، والحاصل ان التعرض لما في كلامه يحتاج الى تطويل.

( الثالث ) ان يراد بكلام الأصحاب ما هو المتعارف الوقوع الكثير الدوران في غالب أفراد الناس ، وهو انهم يجدون المني في الثوب المختص ويعلمون انه منهم لكن لم يعلموه انه من جنابة سابقه قد اغتسل عنها أو لاحقة متجددة ، فإنه حينئذ بمجرد ذلك أوجبوا الاغتسال ، ويكون المدار على نفي احتمال كونه من غيره ، كما لعله تشعر به بعض كلمات بعضهم ، لا يقال : ان ذكر ذلك أيضا قليل الفائدة كالوجه الأول ، لأنه من المعلوم انه إذا علم كون المني منه يجب عليه الاغتسال ، لأنا نقول : انه اشتباه ، لأن العلم بكون المني منه أعم من وجوب الاغتسال ، إذ قد يكون من جنابة قد اغتسل‌

١٨

عنها ولا ينقض اليقين إلا بيقين مثله ، لا يقال : انه يكون من قبيل من تيقن الطهارة والحدث ولم يعلم السابق منهما ، فإنه يجب عليه الاغتسال حينئذ ، وقد ذكروا ذلك في محله ، فأي فائدة لهم في ذكره هنا ، لأنا نقول : انه فرق واضح بين ما نحن فيه وبين تلك المسألة لأنه في المقام لا يعلم حدوث جنابة غير الأولى ، فكان الأصل عدمها كما هو كذلك في كل ما شك في تعدده واتحاده ، بخلاف تلك ، فإنه من المعلوم وقوع الحدث والطهارة ، لكنه جهل صفة السبق واللحوق ، وهنا لم يعلم أصل الوجود فضلا عن السبق واللحوق ، فحينئذ يكون كلام الأصحاب لبيان مسألة مخالفة للقواعد لمكان الروايات ولا ينافيه ذكر العلم في كلام جملة منهم ، إذ هو أعم من إيجاب الغسل ، وكان هذا الوجه ليس ببعيد بل هو أقرب من سابقه ، إلا أن الأقوى في النظر الوجه الأول ، فلا يجب الاغتسال إلا بالعلم بكونه منه وانه من جنابة جديدة لم يغتسل منها وان لم يعرف وقتها ، وعليه تنزل الروايات ، ويحمل خبر أبي بصير المتقدم الذي ظاهره عدم وجوب الاغتسال على صورة عدم العلم بكونه من جنابة سابقه أو لاحقة وان علم بكونه منه ، فإن رؤيته له بثوبه لا يقضي بأزيد من ذلك.

( الرابع ) احتمال كون المدار على مجرد احتمال كونه منه تعبدا محضا ، ويكون الفرق بين هذا والوجه الثاني اعتبار المظنة في المتقدم دونه ، وإذ قد عرفت ضعفه فهذا بالطريق الأولى ، فكان أصح الوجوه الأول ، وحينئذ لا فرق بين كون الثوب مختصا أو مشتركا تعاقبا أو دفعة ، واحتمال كون التعرض لذلك كما هو قضية عبارة المصنف وغيره من حيث كونه يفيد العلم أو لا يفيده فيه انه ليس من وظائف الفقيه ، إذ هو مختلف باختلاف الأشخاص والأزمان ، نعم يتجه البحث عن ذلك بناء على خروج المسألة عن القواعد سيما على الوجه الثاني والرابع ، فنقول : انك قد عرفت ان الموجود من الروايات ( ثوبه ) ، ومن المعلوم ان المتبادر كون الثوب ثوبه حال الوجدان فلا عبرة‌

١٩

بما وجده على ما كان ثوبه وان علم أنه لم يحدث من الشريك ، لكنه لم يعلم كونه منه ، كما انه من المعلوم شمول اللفظ للمملوك العيني والمنفعتي مع الانتفاع فيه فعلا وعدم المشارك فيه ، وهل يدخل فيه المستأجر أو المستعار؟ إشكال ، سيما مع قصر الزمان ، لصحة السلب عنه ، كالإشكال في المشترك فيه على التعاقب في الحكم بالجنابة على صاحب النوبة أو لا ، وان كان ظاهر إطلاق الأصحاب وتعليلهم بعدم نقض اليقين إلا باليقين الثاني ، واختار بعضهم الأول ، وربما علل بأصالة التأخر ، وفيه انها غير جارية في المقام ، لمعارضتها بأصالة عدم وقوع الحدث منه لاحتمال كونه من الشريك كما هو واضح.

لا يقال : انه يصدق عليه في هذا الحال انه ثوبه ، لأنا نقول : وان صدق الإضافة بأدنى ملابسة لكن حقيقتها خلاف ذلك ، وإلا لوجب الحكم بجنابتهما معا حيث يجدان المني فيه دفعة وان كان في نوبة أحدهما ، لصدق الثوبية على كل واحد منهما ، ومن العجيب ما عن الدروس فإنه استوجه أولا إلحاق ذي النوبة بالمختص ، ثم قال : ولو لم يعلم صاحب النوبة فكالمعية ، ولا يخفى ما فيه ، لأنه إن كان المدار على العلم كما هو قضية العبارة سقط ما قاله أولا وإلا فما قاله ثانيا ، فتأمل جيدا.

وفروع المسألة بناء على ذلك غير متناهية تخرج بالتأمل ، لكن ينبغي ان يقتصر منها على المتيقن ، لمخالفتها للأصول والقواعد ، فلا يجري الحكم على الثوب المشترك فيه دفعة قطعا ، وعلى أحد الوجهين في التعاقب وان قطعا بكونه من أحدهما ، لأصالة البراءة بالنسبة الى كل واحد منهما ، وعدم جواز نقض اليقين إلا بيقين مثله ، واحتمال القول بوجوب غسلهما لصدق إضافة الثوب الى كل واحد منهما مما لا ينبغي ان يصغى اليه ، للقطع بعدم تناول الروايات لمثله ، مع انك قد عرفت ان صدق الإضافة أعم من حقيقتها كالقول بالوجوب من باب المقدمة ، إذ من المعلوم انه لا يجب الفعل من مكلف مقدمة لفعل مكلف آخر ، ومن هنا لم أعثر فيه على خلاف بين أصحابنا ، بل لعله إجماعي كما‌

٢٠