جواهر الكلام - ج ٢٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

يقتضي جواز الهجاء بعد فرض اختصاصه بالشعر ، ودعوى كون التعارض من وجه ، بناء على كون الهجاء أعم من الغيبة بعد فرض تسليمها ، يمكن دفعها بترجيح دليل الحرمة باعتضاده بما عرفت.

نعم لو دخل هجاء الفاسق في النهي عن المنكر ، بحيث يتوقف ردعه عليه ، ففي المسالك أمكن جوازه حينئذ إن فرض ، وإليه أشار شيخنا في شرحه بقوله ، لو كان الهجاء لمصلحة عظيمة أو دفع مفسدة عن المهجو دنيوية كدفع الهلكة عن نفسه أو المؤاخذة بعد الحلول في رمسه بالنهي عن الفساد ولو بالهجو على رؤس الاشهاد ، ولعل ذلك كله ترجيحا لما دل على النهي عن المنكر مثلا ، على ما دل على حرمة الهجو وهو لا يخلو من إشكال سيما بالنسبة إلى بعض الأفراد ، كالإشكال فيما لو أريد من ذلك تعميم الحكم لكل محرم عدا القتل ، توقف عليه دفع المنكر ، ولكن من المعلوم إرادة اعتبار الميزان ، كمعلومية تفاوت حرمة الهجو شدة وضعفا ، بحسب حال المهجو ونفس الهجو ونحوهما ، بل في شرح الأستاد أنه كلما كان الشعر أجود كان الوزر أشد كما ان مسجع النثر وأفصحه أشد إثما من غيره ، هذا كله في المؤمنين.

أما المشركون فلا إشكال كما لا خلاف في جواز هجوهم وسبهم ولعنهم وشتمهم ما لم يكن قذفا مع عدم شرائطه أو فحشا (١) « وقد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسانا يهجوهم وقال : إنه أشد عليهم من رشق النبال » نعم لو رجعوا عن عقيدتهم ، لزم محوه إن كان قد نقش ، بناء على وجوب محو كتابة هجو المؤمن ، كما صرح به الأستاد في شرحه ، قال : ومن كتب هجو المؤمن في ديوانه وجب عليه كفاية محوه ووجب على الناس ردعه ، وإن كان لا يخلو من إشكال في الجملة‌

__________________

(١) سنن بيهقي ج ١٠ ص ٢٣٨.

٦١

وعلى كل حال فالظاهر إلحاق المخالفين بالمشركين في ذلك لاتحاد الكفر الإسلامي والإيماني فيه ، بل لعل هجاؤهم على رؤس الاشهاد من أفضل عبادة العباد ما لم تمنع التقية ، وأولى من ذلك غيبتهم التي جرت سيرة الشيعة عليها في جميع الأعصار والأمصار علمائهم وأعوامهم ، حتى ملأوا القراطيس منها بل هي عندهم من أفضل الطاعات ، وأكمل القربات فلا غرابة في دعوى تحصيل الإجماع ، كما عن بعضهم بل يمكن دعوى كون ذلك من الضروريات ، فضلا عن القطعيات.

فمن الغريب ما عن المقدس الأردبيلي وظاهر الخراساني في الكفاية من أن الظاهر عموم أدلة التحريم الغيبة من الكتاب والسنة للمؤمنين وغيرهم ، لأن قوله تعالى (١) ( وَلا يَغْتَبْ ) إلى آخره للمكلفين أو للمسلمين لجواز غيبة الكافر والسنة أكثرها بلفظ الناس والمسلم ، وهما معا شاملان للجميع ، ولا استبعاد في ذلك إذ كما لا يجوز أخذ مال المخالف وقتله ، لا يجوز تناول عرضه ، ثم قال في ظني أن الشهيد في قواعده جوز غيبة المخالف من جهة مذهبه ودينه ، لا غير إذ هو كما ترى مخالف لما سمعت ولعل صدور ذلك منه لشدة تقدسه وورعه ، لكن لا يخفى على الخبير الماهر الواقف على ما تظافرت به النصوص ، بل تواترت من لعنهم وسبهم وشتمهم وكفرهم وانهم مجوس هذه الأمة ، واشر من النصارى وأنجس من الكلاب ، أن مقتضى التقدس والورع خلاف ذلك ، وصدر الآية الذين آمنوا وآخرها التشبيه بأكل لحم الأخ بل في جامع المقاصد أن حد الغيبة على ما في الأخبار أن يقول في أخيه ما يكرهه لو سمعه مما فيه ، ومعلوم أن الله تعالى عقد الأخوة بين المؤمنين بقوله تعالى (٢) ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) دون غيرهم ، وكيف‌

__________________

(١) سورة الحجرات الآية ١٢.

(٢) سورة الحجرات الآية ١٠.

٦٢

يتصور الاخوة بين المؤمن والمخالف ، بعد تواتر الروايات وتظافر الآيات ، في وجوب معاداتهم ، والبراءة منهم ، وحينئذ فلفظ الناس والمسلم ، يجب إرادة المؤمن منهما ، كما عبر به في أربعة أخبار.

وما أبعد ما بينه وبين الخواجه نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي وغيرهم ممن يرى قتلهم ، ونحوه من أحوال الكفار ، حتى وقع منهم ما وقع في بغداد ونواحيها ، وبالجملة طول الكلام في ذلك كما فعله في الحدائق من تضييع العمر في الواضحات ، إذ لا أقل من أن يكون جواز غيبتهم لتجاهرهم بالفسق ، فان ما هم عليه أعظم أنواع الفسق بل الكفر ، وإن عوملوا معاملة المسلمين في بعض الأحكام للضرورة ، وستعرف إنشاء الله أن المتجاهر بالفسق لا غيبة له فيما تجاهر فيه وفي غيره ، ومنه يعلم فساد ما حكاه عن الشهيد ، وعلى كل حال فقد ظهر اختصاص الحرمة بالمؤمنين ، القائلين بإمامة الأئمة الاثنى عشر دون غيرهم من الكافرين والمخالفين ولو بإنكار واحد منهم عليهم‌السلام.

إنما الكلام في موضوعها ، وقد سمعت ما ذكره في جامع المقاصد ويقرب منه ما في القاموس غابه ، عابه وذكره بما فيه من السوء ، ضرورة غلبة الكراهة لو سمع ذلك ، وكذا ما عن المصباح المنير اغتابه إذا ذكره بما يكرهه من العيوب وهو حق ، والصحاح ومجمع البحرين أن يتكلم خلف انسان مستور بما يغمه لو سمعه وفي‌ المرسل (١) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أتدرون ما الغيبة ، فقالوا : الله ورسوله أعلم قال : ذكرك أخاك بما يكره قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول : فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته » ونحوه‌

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٢ ص ٣٨٥.

٦٣

خبر (١) وصايا أبا ذر وفي رسالة ثاني الشهيدين ان في الاصطلاح لها تعريفين أحدهما مشهور ، وهو ذكر الإنسان حال غيبته ، بما يكره نسبته إليه مما يعد نقصانا في العرف بقصد الانتقاص والذم ، والثاني التنبيه على ما يكره نسبته إليه قال : وهو أعم ، من الأول لشمول مورده اللسان ، والإشارة والحكاية وغيرها ، وهو أولى لما سيأتي من عدم قصر الغيبة على اللسان ، قلت : قد صرح بذلك غيره أيضا ويؤيده (٢) ما‌ روي عن عائشة ، « انها قالت دخلت علينا امرأة ، فلما ولت أومأت بيدي اي قصيرة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اغتبتيها » بل المعلوم أن حرمتها بالقول باعتبار إفادته السامع ما ينقصه ويعيبه وتفهيمه ذلك وحينئذ فيعم الحكم كل ما يفيد ذلك ، من الكتابة التي هي إحدى اللسانين والحكاية التي هي أبلغ في التفهيم من القول والتعريض والتلويح وغيرها ، بل لعل التعريف الأول أيضا كذلك ، ضرورة إرادة الأعم من القول بالذكر ، إذ دعوى أنه بمعنى القول واضحة المنع.

وكذا لا فرق فيما ينقصه بين تعقله بالبدن والنسب والخلق والفعل والقول والدين والدنيا ، بل والثوب والدابة والدار ، كما أشار إلى ذلك‌ الصادق عليه‌السلام (٣) بقوله « وجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخلق والفعل والمعاملة والمذهب والجهل وأشباهه » نعم ظاهر المشهور اعتبار الغيبة فيها كما هو صريح ما سمعته من الصحاح ، ولا بأس به وإن كان ذكر ذلك في حال الحضور مساويا له في الحرمة أو أشد‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٥٢ من أبواب أحكام العشرة الحديث ٩.

(٢) الدر المنثور ج ٦ ص ٩٤ نقلا عن البيهقي.

(٣) المستدرك ج ٢ ص ١٠٦.

٦٤

للإيذاء الفعلي والتبكيت ونحوهما ، كما أن الظاهر أيضا اعتبار وجود العيب فيه فيها وإلا كان بهتانا وإليه أومى فيما سمعته من المرسل وغيره‌ وروى أيضا (١) « انه ذكر عنده «ص» رجل ، فقالوا ما اعجزه فقال : اغتبتم صاحبكم ، قالوا يا رسول الله «ص» قلنا ما فيه قال : إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتوه » بل يعتبر فيها أيضا تعيين الشخص عند السامع فلا غيبة مع فرض عدمه‌ (٢) « وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كره من أحد شيئا قال : ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ولا يعين » ويكفي في معرفة عدم العلم به الأصل ونحوه ، وجعل شيخنا في شرحه ذلك من مستثنيات الغيبة ، قال : ومنها ذم من لا يشخصه ولا يميزه ولا يحصره فإنه لا بأس به وإن دخل تحتها.

ومنها تعليق الذم بطائفة أو أهل بلد أو قرية مع قيام القرينة على عدم إرادة الجميع ، كذم العرب والعجم ، وأهل الكوفة والبصرة وبعض القرى ، لكن لا يخفى عليك الإشكال في دليل الاستثناء بعد فرض الدخول في موضوع الغيبة ، اللهم إلا أن يدعى انسياق غير هذا الفرد منها أو قيام السيرة القاطعة على عدم البأس في ذلك ، بل وقع منهم عليهم‌السلام في مقامات متعددة ، والأمر سهل بعد ثبوت الحكم الذي لا ريب في أن الأحوط الترك في بعض أفراد موضوعه ، كذم أحد الرجلين أو الرجال مع حصرهم وتعيينهم أو ذم الطائفة مع إرادة الأغلب منها ، ونحو ذلك بل لعل لازم في مثل الأول خصوصا بعد ملاحظة ما دل على حرمتها ، من إجماع المسلمين ، بل لعله من ضروريات الدين فضلا عما دل عليه من كتاب رب العالمين ، والمتواتر من سنة سادات‌

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ٨ ص ٩٤.

(٢) مسند أبي داود ج ٢ ص ٥٥٠.

٦٥

المؤمنين ، بل في بعضها كالخبر المشتمل على وصايا‌ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر قال : فيه « إياك والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا قلت : يا رسول الله ولم ذاك : بأبي أنت وأمي قال : لان الرجل قد يزني ويتوب فيتوب الله عليه ، وإن صاحب الغيبة لا يغفر الله له حتى يغفرها صاحبه » وفي آخر (١) « إن المغتاب في يوم القيامة يأكل لحمه » وفي ثالث (٢) « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما رجم الرجل في الزنا قال رجل لصاحبه هذا أقعص كما يقعص الكلب ، فمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهما بجيفة فقال : أنهشا منها ، فقالا : يا رسول الله «ص» ننهش جيفة ، فقال ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه » وفي تفسير قوله تعالى (٣) ( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) (٤) الطعان في الناس واللمزة الذي يأكل لحوم الناس لكن استثنى منها بعض الأصحاب أمورا.

منها تظلم المظلوم بذكر ظلم الظالم عند من يرجو رفعه الظلم عنه‌ كقول (٥) زوجة أبي سفيان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن زوجي شحيح ولم يعطني تمام النفقة لي ولولدي » بل في الحدائق وغيرها جوازه مطلقا لإطلاق الآية وخصوص ما ورد في تفسيرها ، من الروايات التي في بعضها إدخال سوء الضيافة في ذلك أيضا ، إلا أنه يشكل التعويل عليه في مقابلة ما سمعت من أدلة التحريم ، كما أن الظاهر عدم جواز الاستماع قبل تحقق الظلم ، ودعواه لا تكفي بالنسبة إلى السامع ،

__________________

(١) الوسائل الباب ١٥٢ من أبواب أحكام العشرة الحديث ٩.

(٢) الوسائل الباب ١٦٤ من أبواب أحكام العشرة الحديث ٥.

(٣) المستدرك ج ٢ ص ١٠٦.

(٤) تفسير تبيان ج ١٠ ص ٤٠٧.

(٥) المستدرك ج ٢ ص ١٠٨.

٦٦

ويدخل في هذا ، الاستفتاء وإن ذكره بعضهم مستقلا ممثلا له بما سمعت من حكاية هند ، ومستدلا عليه باستمرار الطريقة.

ومنها تحذير المؤمن من الوقوع في الضرر لدنيا أو دين ، كتحذير الناس من الرجوع إلى غير الفقيه مع ظهور عدم قابليته ، ومن التعويل على طريقة من تعلم فساد طريقته ، ولأهل التحصيل عن بعض القواعد التي تعد من الأباطيل وأما أهل البدع فقد ورد الأمر بالوقيعة فيهم.

ومنها نصح المستشير لورود الأخبار الكثيرة في أنه يجب أن ينصح المؤمن أخاه المؤمن (١) ول‌ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة بنت قيس لما شاورته في خطابها ، « معاوية صعلوك لا مال له ، وأبو الجهم لا يضع العصي عن عاتقه » قلت : لعل هذا وسابقه راجع إلى نصح المؤمن الذي أمر به في النصوص ، من غير فرق بين سبق الاستشارة وعدمها ، لكن التعارض بين ما دل على حرمة الغيبة وبينها من وجه ، ولعل الترجيح لها إلا أنه على إطلاقه لا يخلو من إشكال فالمتجه مراعاة الميزان في الموضوعات مع المحافظة على مقدار ما يتوقف عليه النصح ، من غير تعد وتجاوز ، بل يمكن عند التأمل عدم كون ذلك من التعارض في الأدلة ، وإلا لاقتضى ذلك التعارض بين أدلة المستحبات والمباحات وأدلة المحرمات ، ومن هنا كان المتجه الاقتصار في هذا الباب على خصوص ما جرت السيرة به ، وما دلت عليه الأدلة المخصوصة لا مطلقا ، وإن أوهمه بعض العبارات استنادا إلى ما ورد في نصح المؤمن ، المعلوم كونه من قبيل ما ورد في قضاء حاجة المؤمن لا يراد منه الأفراد المحرمة أو المستلزمة لها فتأمل جيدا.

وكيف كان فلعل من هذا الباب أيضا باب الترجيح والتعديل في‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ١٠٨.

٦٧

الرواة لأجل معرفة قبول الخبر وعدمه ، ومعرفة صلاحيته للمعارضة وعدمها ، والا لا نسد باب التعادل والتراجيح الذي هو أعظم أبواب الاجتهاد ، وجرت السيرة عليه من قديم الزمان ، كجريانها على الجرح في باب الشهادة وعلى ترجيح ما دل على وجوب إقامتها ، على ما دل على حرمة الغيبة على وجه لا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه ، والا لضاعت الحقوق في الدماء والأموال وغيرها ، ولغلب الباطل على الحق ، ومن ذلك أيضا ذكر المبتدعة الذين أمرنا بالوقيعة فيهم حذرا من اغترار الناس بهم ، بل ربما دخل في ذلك أيضا نفي نسب من ادعى نسبا ، وإن كان معذورا أو عرف به فينفي عنه ، بل ربما وجب دفعا للخلل في المواريث والنفقات والأنكحة وغيرها ، فيكون ذلك أحد المستثنيات إذا فرض كونه غيبة ، وقلنا بجوازه في غير مقام الشهادة والأمر بالمعروف ، كما هو مقتضى ذكر شيخنا له في المستثنيات منها ، بل من هذا الباب أيضا ما يقع بين العلماء في بيان الصحيح من الفاسد ، ضرورة كونه من جملة النصح في الدين إلا أن الانصاف كون هذا المقام من مزالق الشيطان فلا بد لمرتكب ذلك من تصحيح النية ، فإن الناقد لا يخفى عليه شي‌ء من ذلك.

ومنها ما يقصد به دفع الضرر عن المذموم في ذم أو عرض أو مال وقد وقع الطعن (١) منهم في زرارة معللين بذلك ، ولعل منه ما وقع في الهشامين لكن لا يخفى عليك أن ذلك وشبهه ليس من الغيبة في شي‌ء ، بعد ما عرفت من اعتبار قصد الانتقاص فيها الذي به خرج باب المزح والهزل المأمور به في بعض النصوص تأكيدا للالفة وتحقيقا للمحبة ، إلا أن ذلك كسابقه ينتقده الله فإنه ربما صدر عن بعض‌

__________________

(١) جامع الرواة ج ١ ص ٣٢٥.

٦٨

الناس بصورة الهزل ، وكذا الكلام في الغيبة للتقية على الذام في نفس أو مال أو عرض ، ضرورة عدم قصد الانتقاص بها أيضا.

ومنها ما دخل في النهي عن المنكر ، لتوقفه عليه ، فيجب الوقيعة في بعض العصاة حتى يرتدعوا عن معصيتهم ، لكن ينبغي في هذا أيضا مراعاة الميزان إذ مع فرض كونه من التعارض بين الأدلة فهو من وجه كما هو واضح.

ومنها غيبة المتجاهر بالفسق فيما تجاهر فيه ، وإن أحب الخفاء عند خصوص ذلك السامع ، لانه هو الهاتك لحرمته ، وقد (١) قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « من القى جلباب الحياء عن نفسه فلا غيبة له » والسيرة المستمرة ولأن العيب بالتجاهر به صار كالمعلوم لدى كل أحد ، بل في شرح الأستاد جواز غيبته بغير المتجاهر به ، فضلا عنه ولعله للعموم في الخبر السابق ، بل ربما قيل بجواز مطلق غيبة الفاسق تجاهر أو لا فيما فسق فيه أو لا‌ للمرسل (٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لا غيبة لفاسق » لكنه كما ترى مناف لما دل على حرمتها على وجه لا يصلح المرسل المزبور لمعارضته من وجوه ، خصوصا بعد احتماله النهي والاختصاص بالمتجاهر به ، بل لعله الظاهر منه ، فالأحوط إن لم يكن الأقوى ، ترك غيبة غير المتجاهر ، بل الأحوط تركها في المتجاهر في غير ما تجاهر به.

نعم يلحق به شهرة الكنية أو اللقب ، ببعض عيوبه ، خصوصا إذا توقف التعريف عليه ، بل لعله ليس من الغيبة لعدم قصد الانتقاص به ولعل منه وصف الإمام الامرأة بالحولاء ولا يستلزم ذلك جواز الغيبة بالأوصاف الظاهرة كالعور والعرج والقصر ونحوها ، مما لم يشتهر وصفه‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ١٠٨.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ١٠٨.

٦٩

به ، ولذلك‌ قال : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « لعائشة لما أشارت إلى قصر الامرأة بيدها انك اغتبتها » نعم قد يقال بجواز ذكر الأوصاف المزبورة عند العالم بها كغيرها ، من العيوب المعلومة بين المتكلم والمخاطب فإنه قد يشك في شمول أدلة المنع لمثله ، باعتبار عدم حصول أمر جديد لكن مع ذلك الأحوط الترك خصوصا مع احتمال النسيان أما مع القطع به فالأقوى عدم الجواز.

ومنها ذكر من لا عقل له ولا تمييز كالمجانين وبعض أطفال المؤمنين ، بل لعله ليس من الغيبة إذا كان المذكور منهم في حال لا نقص فيه عليهم به ، فضلا عن قصد الانتقاص به ، نعم لو ذكر عيوب المجنون قبل جنونه أو بعد عقله أو الصغير بعد بلوغه أمكن المنع للصدق وعدم التكليف لا ينافي حرمة الغيبة ، ولذا حرمت بالنسبة إلى الميت الذي حرمته كحرمة الحي ، بل يقوى حرمتها في المميز مع فرض كونها بحيث تعيبه.

وفي شرح الأستاد أن منها أيضا الرد عليه في ذكر قدح عليه أو على مؤمن فإنه يجوز ولو كان معذورا واستلزم قدحا فيه ، ومنها ما لو فعل خيرا من عبادة أو إكرام ضيف أو نحو ذلك فدل على بخل الغير مثلا ، إذ لا يلزمه ترك العبادة لذلك مع أنه من أقسام الغيبة على بعض التفاسير وفيه أنه ليس منها مع عدم قصد الانتقاص قطعا كما أن الرد في الأول ينبغي أن يكون بما ليس غيبة وإلا كان غسلا للدم بالدم.

ومنها ذكر أولاده واتباعه ببعض الصفات تأديبا لهم ، وخوفا عليهم من الوقوع فيما هو أعظم منه ، لقضاء الحكمة والسيرة به ، ولان التابع والقريب له حكم آخر في التأديب ، كما يظهر من التتبع قلت :

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٩٤.

٧٠

ولأن نقصهم في الحقيقة راجع إليه ، فهو كذكر الإنسان عيوب نفسه ، بل قد يقال بانسياق غير ذلك من أدلة الغيبة.

ومنها ذكر المعايب والمناقص في شخص ثم يعقبها بما يدل على رجوعه وعود كماله كالنقل عن الحر واضرابه ، لكن ذلك كما ترى إطلاقه لا يخلو من اشكال بل منع فتأمل جيدا.

ومنها روايتها عن شخص وتكذيبه في نقله لها فلو سمينا الناقل مغتابا والنقل غيبة لم يدخل في المنع ، ومنها ذكر عيوب المملوك لإسقاط الخيار ، ومنها ذكر عيوب المرأة في النكاح ، خوفا مما يترتب على التدليس إلى غير ذلك مما لا يخفى عليك وجهه ، بعد الإحاطة بما ذكرناه هذا كله في الغيبة نفسها.

أما استماعها لا للرد فلا خلاف كما لا إشكال في حرمته ، بل في‌ المرسل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « المستمع أحد المغتابين » بل‌ عن علي عليه‌السلام (٢) « السامع للغيبة أحد المغتابين » لكن الظاهر ارادة معنى المستمع منه ضرورة عدم تصور الحرمة في السامع اتفاقا ، ويجب ردها مع الإمكان قطعا ، بل‌ في الحديث « أن وزر غير‌

__________________

(١) لم نعثر على هذا الحديث بعد الفحص عند مضانه والذي وجدناه في الوسائل في الباب ٢٥ الحديث ١٣ عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام في حديث المناهي ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الغيبة والاستماع إليها وفي مجمع الزوائد ج ٨ ص ٩١ نقلا عن الطبراني عن ابن عمر قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الغيبة وعن استماع الغيبة.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ١٠٨ والرواية منقولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٧١

الراد يعادل وزر المغتاب سبعين مرة وان الله يرد عن رادها ألف باب من الشر في الدنيا والآخرة » والظاهر أنها كحقوق الله وإن كانت متعلقة بالناس ، فيكفي فيها التوبة ولا يحتاج إلى التحليل من المغتاب ، والخبر السابق مطرح ، لعدم جمعه لشرائط الحجية في السند وغيره ، ولمعارضته بالنبوي ، الأخر كما ستسمع ، فلا يصلح معارضا لما دل على اجزاء التوبة عن المعاصي ، وأن الله يغفر عن العبد بها جميع المعاصي ، والتعلق بالناس أعم من كونه كالمال الثابت بقاؤه في الذمة ، المتوقف فراغ الذمة منه على الإبراء ، ونحوه بدليل خاص ، كما أن ما‌ ورد (١) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « من أن كفارة الاغتياب الاستغفار له » محمول على ضرب من الاستحباب دون الفرض والإيجاب ولذا لم يذكروه في الكفارات ، فمن الغريب عمل بعض الناس به ، مع عدم صلاحيته لإثبات الوجوب من وجوه ، إلا أنه مع ذلك الاحتياط لا ينبغي تركه هذا كله في الغيبة من حيث الحكم الشرعي.

وأما البحث فيها من حيث أسبابها المثيرة لها ، وعلاجها وبيان الأفراد الخفية منها ، في الافعال والأقوال ، فموكول إلى كتب الأخلاق المصنفة في ذلك فلاحظ عصمنا الله وإياك منها ومن غيرها.

كتعمد الكذب الذي حرمته من الضروريات ، ويزداد إثما إذا كان على المؤمنين ، ثم على أئمتهم عليهم‌السلام ثم على الله تعالى شأنه البحث في موضوعه مفروغ منه في غير المقام ، نعم قد يقال : انه وإن كان من صفات الخبر لكن يجري حكمه في الإنشاء المنبئ عنه مع قصد الإفادة وأما الكذب بالأفعال فلا يخلو من إشكال والتورية والهزل ، من غير‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٥٢ من أبواب أحكام العشرة الحديث ١٣.

٧٢

قرينة داخلان في اسمه أو حكمه ولا فرق في المحرم منه بين الشعر والنثر نعم ما يرجع إلى المبالغة ليس منه ، كما انه لا حرمة فيما كان منه لمصلحة يرجح مراعاتها ، على مراعاة تجنب المفسدة الكائنة فيه ، ولا تجب التورية حينئذ ولو تمكن منها ، للأصل وغيره نعم ينبغي الاقتصار فيه على مقدار ما تحصل به المصلحة المفروضة.

وكالنميمة بين المؤمنين بل المسلمين ، التي تطابقت الأدلة الثلاثة أو الأربعة على حرمتها ، فيحرم حينئذ التكسب بها ، بل يحرم كل ما يؤخذ جزاء عنها ، بل في بعض الأخبار ما يدل على حرمة استماعها أيضا وعلى كل حال ، فالمراد بها السعاية بنقل حديث كل إلى الآخر أو ما كان بمنزلته لإيقاع فتنة أو وحشة ولعلها المراد بقوله تعالى (١) ( وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) (٢) بل‌ عن الصادق عليه‌السلام « انها من السحر الذي يفرق بين المتحابين ، ويعادي بين المتصافين ويسفك به الدماء ويهدم به الدور ويكشف به الستور ، وان النمام أشر من وطئ الأرض بقدم ».

نعم قد تجوز وتستحب أو تجب لإيقاع الفتنة بين المشركين ، وتقوية المتقين على المبطلين ، والظاهر عدم اختصاصها بالأقوال ، كما أومأنا إليه سابقا ، بل تكون بالكتابة والرمز والغمز ، وعدم اختصاصها بكون المنقول قولا. أو عيبا أو ما يقتضي نقصا ، ضرورة كون حقيقتها إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه.

وكيف كان فالنمام غير ذي اللسانين والوجهين ، الذي يتردد بين اثنين سيما المتعاديين ، ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه ، وإن كان‌

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢١٧.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ١١١.

٧٣

هو أيضا (١) « من المنافقين وشر عباد الله تعالى » (٢) و « في يوم القيامة يجعل الله له لسانين من نار ، دالعا أحدهما من قفاه وآخر من قدامه يلتهبان خده ، ويعرف بذي اللسانين في ذلك اليوم » (٣) وبئس العبد ، عبد همزة لمزة يقبل بوجه ويدبر بآخر » نعم ربما يجتمعان في فرد كما أنهما قد يجتمعان مع غيرهما من المعاصي ، السابقة وغيرها ، نعوذ بالله العظيم من هذه الخصال الذميمة ، ومما يولدها من الأغراض الدنية والصفات الرذيلة.

ولقد تكفل علم الأخلاق شرح دائها ودوائها وبيان كثيرها الخفية ولقد تصدى ثاني الشهيدين في رسالته ، في المقام لكثير من ذلك ، وكسب المؤمنين وشتمهم والنيل منهم ، لغير مصلحة ترجح على المفسدة من غير فرق بين الأخيار والأشرار ، عدا الظالمين منهم والمتجاهرين منهم بالكبائر ، فإن السيرة على التقرب إلى الله بسبهم ، وإن (٤) ورد أن سباب المؤمن فسق ، بل تطابقت الأدلة الثلاثة أو الأربعة على حرمة (٥) إيذاء المؤمن وإهانته وهتك حرمته وظلمه في نفس أو مال أو عرض وكمدح المذموم بما استحق الذم عليه وذم الممدوح كذلك على وجه يترتب عليه فساد وإغراء بالجهل ، أما مدح الأول بما فيه من الصفات الحسنة ، وذم الأخر بما فيه من صفات الذم على وجه لا يكون غيبة ونحوها فلا بأس به ، وإن استحق كل منهما الذم والمدح من جهة أخرى‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤٣ من أبواب أحكام العشرة الحديث ٦.

(٢) الوسائل الباب ١٤٣ من أبواب أحكام العشرة الحديث ٥.

(٣) الوسائل الباب ١٤٣ من أبواب أحكام العشرة الحديث ٣.

(٤) الوسائل الباب ١٥٢ و ١٥٨ من أبواب أحكام العشرة الحديث ١٢ و٣.

(٥) الوسائل الباب ١٤٥ من أبواب أحكام العشرة الحديث ١ ـ ٢.

٧٤

فإن الذي ينبغي ، إعطاء كل ذي حق حقه ، فمن لم يكن فيه صفة للذم فليس له إلا المدح ، وبالعكس فذو الجهتين يستحق الأمرين ، ودعوى أن مستحق الذم يحرم مدحه ، ومستحق المدح يحرم ذمه كذلك ، ممنوعة بالسيرة القاطعة وغيرها فضلا عن دعوى الإجماع عليها والله أعلم.

ومنه إي المحرمات لنفسها تعلم شي‌ء من السحر للعمل وتعليمه كذلك وعمله ، بلا خلاف أجده فيه في الجملة بين المسلمين ، فضلا عن غيرهم ، بل هو من الضروريات التي يدخل منكرها في سبيل الكافرين ، والكتاب والسنة قد تطابقا على حرمته ، وأنه من عمل المفسدين الذين لا يفلحون بل في ظاهر (١) « آية ( هارُوتَ وَمارُوتَ ) » ما يقتضي كفر عامله ومعلمه وأما النصوص فقد تظافرت أو تواترت فيه ، ففي‌ خبر السكوني (٢) عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام « قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ساحر المسلمين يقتل ، وساحر الكفار لا يقتل ، قيل يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم لا يقتل ساحر الكفار ، قال : لان الشرك أعظم من السحر ولان السحر والشرك مقرونان » وفي‌ خبر أبي البختري المروي (٣) عن قرب الاسناد عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام « ان عليا عليه‌السلام قال : من تعلم شيئا من السحر قليلا أو كثيرا فقد كفر ، وكان آخر عهده بربه أن يقتل إلا أن يتوب » إلى غير ذلك من النصوص سيما الواردة في قصة هاروت وماروت ، وفي حده.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٠٢.

(٢) الوسائل الباب ٢٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ٢٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٧.

٧٥

نعم في‌ حسن (١) إبراهيم بن هاشم عن شيخ من أصحابنا الكوفيين « قال : دخل عيسى بن ثقفي على أبي عبد الله عليه‌السلام وكان ساحرا يأتيه الناس ويأخذ على ذلك الأجر فقال : جعلت فداك أنا رجل كان صناعتي السحر ، وكنت آخذ عليه الأجر وكان معاشي ، وقد حججت منه ومن الله علي بلقائك وقد تبت إلى الله عز وجل ، فهل لي شي‌ء من ذلك مخرج؟ فقال : له أبو عبد الله عليه‌السلام حل ولا تعقد » ما يقتضي جوازه في الحل بل عن‌ علل الصدوق (٢) روى « ان توبة الساحر أن يحل ولا يعقد » ولعله فهم الخبر المزبور كذلك فأرسله بما سمعت وفي‌ المروي عن العيون (٣) وتفسير الإمام في قوله عز وجل ( وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) إلى آخرها أنه كان بعد نوح قد كثرت السحرة ، والمموهون فبعث الله سبحانه ملكين إلى بني ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة وذكر ما يبطل به سحرهم ، ويرد كيدهم ، فتلقاه النبي عليه‌السلام عن الملكين ، واداه إلى عباد الله فأمر الله تعالى أن يتقوا به السحر وأن يبطلوه ، ونهاهم عن أن يسحروا به ، » إلى آخره‌ وفي الآخر (٤) المروي عن العيون أيضا « وأما هاروت وماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليحترزوا به من سحر السحرة ويبطلوا به كيدهم » وفي‌ خبر العلاء (٥) عن محمد بن مسلم « سألته عن المرأة يعمل لها السحر يحلونه عنها قال : لا أرى بذلك بأسا ».

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ٢٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٣.

(٣) الوسائل الباب ٢٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤.

(٤) الوسائل الباب ٢٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٥.

(٥) لم نعثر على هذه الرواية والتي وجدناه في المستدرك ج ٢ ص ٤٣٤ عن الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام من النشرة للمسحور فقال : ما كان أبي عليه‌السلام يرى به بأسا.

٧٦

بل في شرح الأستاد أن عليه كثير من أصحابنا وليس بذلك البعيد لأن الظاهر من أخبار الساحر والسحرة إرادة من يخشى ضرره ، وإن كان فيه انا لم نتحقق النسبة المزبورة ، بل في جملة من كتب الفاضل والدروس وغيرها ، جواز حله بالقرآن والذكر والاقسام ، ونحوها لا بشي‌ء منه ، نعم نص الشهيدان والفاضل الميسي والكاشاني على ما حكى عن بعضهم ، على جواز تعلمه للتوقي به ، ولدفع المتبني بالسحر بل قالوا ربما وجب للأخير ، مع أن المحكي عن الفاضل وظاهر الأكثر المنع أيضا ، ولعله لإطلاق أدلته واحتمال استلزامه ، للتكلم بمحرم أو فعل محرم ، والنصوص السابقة ، مع قصورها عما دل على الحرمة من وجوه محتملة للحل بغيره ، ولإرادة كشف حقيقة السحر على وجه لا يغتر به الناس ، ويلبس عليهم الأمر في الفرق بينه وبين المعجز الدال على النبوة وآيات الله المستدل بها على وجوده ووحدانيته ، لا أن المراد منها فعل السحر لذلك ، بل لعل تعليم الملكين الناس السحر لذلك أيضا

مع أنهما كما‌ قال (١) الصادق عليه‌السلام : في خبر الاحتجاج « موضع ابتلاء وموقف فتنة تسبيحهم اليوم لو فعل الإنسان كذا وكذا لكان كذا ولو يعالج بكذا وكذا لصار كذا أصناف السحر فيتعلمون منهما ما يخرج عنهما فيقولان لهم إنما نحن فتنة فلا تأخذوا عنا ما يضركم ولا ينفعكم » وفي ذيل خبر العيون (٢) وتفسير الامام المتقدم « وهذا كما يدل على أن السم ما هو وعلى ما يدفع به غائلة السم ثم يقال للمتعلم ذلك هذا السم فمن رأيته يسم فادفع غائلته بكذا وإياك أن تقتل بالسم » ، إلى آخره ونبوة المتنبي بالسحر‌

__________________

(١) الاحتجاج ج ٢ ص ٨٢ الطبع الحديث.

(٢) الوسائل الباب ٢٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤.

٧٧

ونحوها يدفعها اللطف السماوي ، كما أومى إليه بقوله تعالى (١) ( ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) وقال (٢) ( وَلا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) وحينئذ فعمل السحر حرام لنفسه ، كما هو مقتضى الأدلة السابقة الدالة على ذلك ، وعلى اقترانه بالشرك المعتضدة بالاعتبار ، ضرورة كونه منبع فساد مورث الشك في كثير من آيات الله ، وموهم للشركة مع الله في خلقه ، وفي عجائبه كما هو واضح ، لا أن حرمته حيث يترتب الإضرار ونحوه عليه ، حتى يكون محرما لغايته فيقال : بحليته عند عدم الإضرار ، أو عند حصول النفع ، نعم لو فرض توقف دفع مفسدة ، ترجح على مفسدة عمله عليه ، اتجه الجواز ، كما في غيره من المحرمات ، مثل الكذب وشرب الخمر وغيرهما ، وربما جمع بين ما دل على الحرمة والجواز في الحل ونحوه بذلك ، وهو وإن كان أولى من الجمع بتنزيل أخبار الحل على الحل بغيره ، لبعده عن ظاهر بعضها ، لكنه لا يخلو من بعد أيضا ، لا لندرة الاضطرار ، فان غلبة التوقيف عليه ، في حل الربط ونحوه عليه ، لا يكاد ينكر بل لعدم الإشارة في شي‌ء من النصوص ، إلى مراعاة حال الاضطرار ، بل قد عرفت أن الصدوق أرسل كون توبة الساحر أن يحل ولا يعقد ، إلا انه هو وغيره مما عرفت ، خير من الطرح والأمر سهل ، هذا كله في عمله ولو للحل والتوقي ودفع بنوة المتنبي ، ونحو ذلك.

أما تعلمه لانه من العلوم أو لأنه قد يحتاج إلى عمله ولو عند الاضطرار فالظاهر جوازه ، وفاقا للأستاد في شرحه بل عن تفسير الرازي أنه اتفق المحققون على ذلك ، للأصل ولأن العلم في حد ذاته شريف ، وأنه خير‌

__________________

(١) سورة يونس الآية ٨١.

(٢) سورة طه الآية ٦٩.

٧٨

من الجهل وأنه لا يستوي من يعلم ومن لا يعلم ، بل ربما يجب حيث يتوقف الفرق بين المعجز والسحر عليه ، ودعوى استلزام العلم به للمحرم من الكفر ونحوه ممنوعة أشد المنع ، بل قيل : انه لا يخلو منه الأنبياء وأرباب المكاشفات لان العلم حسن في الذات ، والكراهة في الصناعات من الحياكة والصياغة والحجامة ونحوها فالخطر فيها إنما هو باعتبار العمل ، وإلا فعلمها خير من جهلها ، والتعلم والتعليم بتلك النية ، أو لتحذير نفسه أو غيره من الوقوع بالبلية متصف بصفة الراجحية ، وأصل الإباحة قاض بإباحته ولفظ السحر والساحر والسحرة منصرف إلى عمله ، ونقل قصة الملكين المعلمين في القرآن لأهل هذه الملة شاهد على حل التعليم ، وعدم قصدهما الإعانة ، يدفع إشكال حرمتها منهما أو انهما لم يعلما العمل ممن علماه أو أن ذلك لهما بالخصوص جائز ، لكون نزولهما فتنة وابتلاء ، أو غير ذلك ، وما في بعض الروايات السابقة من تحريم التعلم ، محمول على إرادة التعلم الذي يتبعه العمل كما يومي إليه ما فيه من كون حده القتل ، والله أعلم هذا كله في حكمه

أما موضوعه فعن بعض أهل اللغة أنه ما لطف مأخذه ودق ، وعن آخر صرف الشي‌ء عن وجهه ، وعن ثالث إخراج الباطل بصورة الحق ورابع الخديعة ، وفي القواعد وغيرها انه كلام يتكلم به أو يكتبه أو رقية أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة ، ونحوه عن المنتهى مع زيادة عقد ، وفي المسالك زيادة أقسام وعزائم وإبدال يعمل بقوله يحدث بسببها ضرر ، وفي الدروس يحرم الكهانة والسحر بالكلام والكتابة والرقية والدخنة بعقاقير الكواكب وتصفية النفس ، والتصوير ، والعقد ، والنفث والاقسام والعزائم بما لا يفهم معناه ويضر بالغير فعله ، ومن السحر الاستخدام للملائكة‌

٧٩

والجن والاستنزال للشياطين ، في كشف الغائب وعلاج المصاب ، ومنه الاستحضار بتلبس الروح ببدن منفعل ، كالصبي والمرأة وكشف الغائب عن لسانه ، ومنه النيرنجات وهي إظهار غرائب خواص الامتزاجات ، واسرار النيرين ، ويلحق به الطلسمات ، وهي تمزيج القوى العالية الفاعلية بالقوى السافلة المنفعلة ، ليحدث عنها فعل الغرائب ، وهو صريح في أن الاستخدام منه.

لكن عن المنتهى أن ما يقال من العزم على المصروع ، ويزعم أنه يجمع الجن فيأمرها لتطيعه فهو عندي باطل لا حقيقة ، وإنما هو من الخرافات ، وفي المسالك ان الاستخدام من الكهانة وأنها غير السحر قريبة منه ، وعن بعضهم أن السحر عمل يستفاد منه ملكة نفسانية ، يقتدر بها على أفعال غريبة ، وأسباب خفية ، وعن فخر المحققين في الإيضاح أنه استحداث الخوارق ، إما بمجرد التأثيرات النفسانية ، وهو السحر أو بالاستعانة بالفلكيات فقط ، وهو دعوة الكواكب ، أو على تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية ، وهو الطلسمات ، أو على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة ، وهو العزائم ويدخل فيه النيرنجات ، والكل حرام في شريعة سيد المرسلين.

أما إذا كان على سبيل الاستعانة بخواص الأجسام السفلية ، فهو علم الخواص أو الاستعانة بالنسب الرياضية ، وهو علم الحيل وجر الأثقال وهذان ليسا من السحر ، إلى غير ذلك من كلماتهم التي لا يخفى ما فيها من الاختلاف الشديد ، لذلك قال : الأستاد في شرحه إنه لا يرجع بعده إلا إلى العرف العام ، ومحصوله أنه عبارة عن إيجاد شي‌ء تترتب عليه آثار غريبة ، وأحوال عجيبة ، بالنسبة إلى العادة ، بحيث تشبه الكرامات‌

٨٠