جواهر الكلام - ج ٢٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الأفاضل في المقام ، الذي هو من مزال الاقدام ، ولا ينافيه ما ادعوه من الإجماع على عدم الاستيجار على الواجب في حق الأموات ، من التغسيل والتكفين والدفن والصلاة عليهم ، حتى أن ما حكي عن المرتضى من الخلاف فيه ليس خلافا في الحكم ، بل هو خلاف في الوجوب على غير الولي ، ولذا جوز استيجاره عليه ، وكان الذي دعاه إلى ذلك ظهور الأدلة في توقف صحة فعل الغير على إذن الولي ، فظن أن الوجوب على الولي.

وقد أطلنا الكلام في أحكام الأموات في بيان عدم المنافاة ، وأن المراد من ذلك تقديم الولي في الفعل لو أراده وإن كان الكل مخاطبين وإن توقف صحة فعل الغير على الاذن لا ينافي الوجوب ، كما في الوصي والناظر والأمر في الجهاد مثلا ونحوه ، وذلك لما عرفت من ظهور الأدلة في الوجوب المجافي وأنه لا نيابة فيه ، نعم هو عملي محض لا يجب فيه بذل المال من الماء والكفن ونحوهما كما قرر في محله ، بل لعله إلى ذلك لمح القاضي في إطلاقه عدم جواز أخذ الأجرة ولو على ما زاد على الواجب من الغسلات والتكفين في القطع الزائدة ، والتعميق في القبر باعتبار ظهور الأدلة في المشروعية مجانا ، وإن كان المشهور نقلا وتحصيلا خلافه أو أنه لمح إلى أن كل ما جي‌ء به من ذلك فهو من الأفراد الواجبة وإن كانت هي الأفضل من غيرها ، فالاستئجار عليها استيجار على الواجب أيضا.

ودعوى كون الاستيجار إنما يقع على ما زاد على الواجب بعد الفراغ منه خلاف مفروض البحث ، ضرورة كونه أعم من ذلك ومن إيجاده دفعة واحدة فيما يمكن فيه ذلك كالحفر بل لعله على كل حال هو أحد أفراد الواجب فلا ريب في أن الأحوط عدم الأجرة مطلقا ،

١٢١

والله أعلم هذا.

وقد يحرم الاكتساب بأشياء أخر تأتي في أماكنها إن شاء الله‌ « مسئلة » أخذ الأجرة على الأذان حرام ولا بأس بالرزق من بيت المال كما أشبعنا الكلام فيها في بحث الأذان من كتاب الصلاة فلاحظ وتأمل ، وكذا يحرم أخذ الأجرة على الصلاة بالناس جماعة بلا خلاف أجده فيه ، من غير فرق بين الواجبة كما في الجمعة والمندوبة للنص (١) ولظاهر نصوص مشروعيتها ، بل هي رتبة الامام وعليه أن يجتنب جميع المنفرات ليزيد الاعتماد عليه ويحصل الركون إليه ولأنها من العبادات المطلوبة لنفس العامل كالمأمومية التي لم أجد من تعرض لها إلا أن الظاهر حرمة الاستيجار والجعالة عليها أيضا لذلك كما هو واضح.

وأما القضاء بين الناس فقد اضطربت فيه كلمات الأصحاب اضطرابا شديدا ، حتى أن المصنف منهم جعل حرمة الأجرة عليه على تفصيل يأتي في كتاب القضاء ، والتحقيق عدم جواز أخذ العوض عنه مطلقا عينيا كان عليه أو كفائيا ، أو مستحبا مع الحاجة وعدمها ، من المتحاكمين أو أحدهما أو أجنبي أو أهل البلد أو بيت المال أو غير ذلك ، سواء كان ذا كفاية أو لا ، لأنه من مناصب السلطان الذي أمر الله تعالى بان يقول (٢) ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) وأوجب التأسي به والصحيح الذي رواه المحمدون الثلاثة (٣) « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قاض بين فريقين يأخذ من السلطان على‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٠ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٢) سورة الأنعام الآية ٩٠.

(٣) الوسائل الباب ٨ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

١٢٢

القضاء الرزق فقال : ذلك السحت » ولبعض أخبار الرشوة (١) التي ربما أطلقت على مطلق العوض في بعض النصوص ، وصريح الإجماع المحكي عن الخلاف وظاهره في المبسوط على تحريم الجعل الذي هو أعم من الأجرة أو لا فرق بينها وبينه ، بل مطلق العوض مؤيدا ذلك كله بالاعتبار وهو اشتماله على اللطف الذي يقرب العبد معه إلى الطاعة ويبعد عن المعصية وعدم التهمة والنفرة ونحو ذلك مما لا يخفى.

فما عن المقنعة والنهاية والقاضي من إطلاق جواز أخذ الأجرة من بيت المال واضح الضعف ، أو منزل على الارتزاق للحاجة لا عوضا عن القضاء ، كما يرتزق غيره من الفقراء والضعفاء والغزاة والمجاهدين وغيرهم ، ممن هو مشغول بسياسة الدين ومصالحه عن التكسب لقوته وقوة عياله وباقي ضرورياته ، وكذا ما عن جملة من كتب الأصحاب من الارتزاق من بيت المال مع تعين القضاء عليه وإن كان ذا كفاية فإن مرجعه أيضا إلى العوضية التي قد عرفت حالها ، ومن هنا كان المتجه العدم مطلقا من هذه الحيثية مع التعيين وعدمه والحاجة وعدمها ، كما هو مقتضى كلام جماعة ، وإنما يرتزق لا بعنوان العوضية ، إذا كان أحد المصارف ومقدار رزقه منوط بنظر الامام على حسب حال غيره من المحاويج.

ومن الغريب ما عن بعضهم من أنه لا خلاف في الرزق من بيت المال في صورة المنع من الأجرة ، مع أن جماعة قد صرحوا برزقه منه مع كفايته وتعينه للقضاء أولا ، كما لا يخفى على من لاحظ كلامهم في المقام وباب القضاء مع التأمل والتدبر فلاحظ وتأمل ، وعلى كل حال فمقدمات القضاء كسماع الشهادة والجرح والتعديل ونحوهما‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١١.

١٢٣

كالقضاء في تحريم العوض ، بل لا يبعد استفادة حرمة الأجرة عليها من حرمتها على القضاء.

نعم لا بأس بأخذ الأجرة على ما كان خارجا عن القضاء ومقدماته كالكتابة والرسم ونحوهما ، مع أنه لا ينبغي استعماله من قوام الشرع وحفظته ولا استعمال بعض الأرذال الذين يحتالون لأخذ الجعل على القضاء بذلك وبالتحاكم في مكان مخصوص ونحوه من الأمور الزائدة على القضاء ، لما فيه من النفرة وجلب التهمة وعدم رغبة الناس في الدين وأهله ، ويلحق بالقضاء الإفتاء في مسائل الحلال والحرام والموضوعات الشرعية ، من غير فرق بين الواجبة والمندوبة والمكروهة والمباحة لما عرفته من عدم سؤال الأجر وكونه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك.

نعم لا بأس بأخذ الأجرة وغيرها من الأعواض على عقد النكاح وغيره من العقود والإيقاعات التي تجري فيها الوكالة فيأخذ عليها الجعل والعوض لأنها من الأعمال المحللة الداخلة تحت ما دل على الإجارة والجعالة وغيرهما أما تعليم نفس الصيغة أي بيان أن الصيغة الشرعية ، هي كذا ، فالظاهر عدم جواز أخذ الأجرة عليه لكونه من باب بيان حكم الشرعي ، وإن كان وضعيا ، كما أن الظاهر عدم جوازه أيضا على أداء الشهادة عينيا كان أو كفائيا أو مستحبا ، أما التحمل فقد أطلق جماعة أيضا عدم الجواز عليه معللين ذلك بالوجوب ، لكن التعليل والمعلل لا يخلو من إشكال ، وعلى كل حال فوجوب الأداء على الشاهد بدني لا مالي ، فلا يجب حينئذ إذا توقف عليه كما لو احتاج إلى سفر ونحوه ، نعم لو بذل له الراحلة ونحوها وتعذر شاهد الفرع ولم يكن السفر متعذرا أو متعسرا وجب عليه ، كذا قيل :

١٢٤

ولتمام البحث فيه محل آخر.

ومنها بيع المصحف كما صرح به جماعة ، بل استدل الفاضل منهم في المحكي من نهايته عليه بمنع الصحابة ، وعدم العلم بالمخالف وإن كان العمدة في ذلك النصوص المستفيضة كخبر عبد الرحمن بن سيابة (١) « عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن المصاحف لن تشترى فإذا اشتريت فقل إنما أشترى منك الورق وما فيه من الأدم وحليته وما فيه من عمل يدك بكذا وكذا‌ وموثق سماعة عنه (٢) أيضا سألته عن بيع المصاحف وشرائها؟ فقال : لا تشتر كتاب الله ولكن اشتر الحديد والورق والدفتين ، وقل أشتري منك هذا بكذا وكذا » ونحوه‌ مضمر عثمان بن عيسى وخبر عبد الله سليمان (٣) « قال : سألته عن شراء المصاحف فقال : إذا أردت أن تشتري فقل أشتري منك ورقه وأديمه وعمل يدك بكذا وكذا » وخبر جراح المدائني (٤) عنه أيضا في بيع المصاحف « قال : لا تبع الكتاب ولا تشتره وبع الورق والأديم والحديد » وخبر سماعة ابن مهران (٥) « قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا تبيعوا المصاحف فان بيعها حرام ، قلت : فما تقول في شرائها؟ قال : اشتر منه الدفتين والحديد والغلاف وإياك أن تشتري منه الورق وفيه القرآن مكتوب ، فيكون عليك حراما وعلى من باعه حراما ».

ولعله من ذلك قال في الدروس. ويحرم بيع خط المصحف دون‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٣١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ٣١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ٣١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٣ و ٦.

(٤) الوسائل الباب ٣١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٧.

(٥) الوسائل الباب ٣١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١١.

١٢٥

الآلة لكنه مناف ظاهرا للخبر الأخير الدال على عدم جواز بيع الورق وفيه القرآن مكتوب كما أن الخبر مناف للاخبار السابقة الدالة على جواز ذلك إذا كان المقصود بالبيع ما عد الكتابة ، اللهم إلا أن تحمل على إرادة شراء الورق قبل أن يكتب بها على أن يكتب بها ، فيكون العقد في الحقيقة متضمنا لمورد البيع ومورد الإجارة ، بقرينة قوله وما عملته يدك بكذا ضرورية عدم صلاحية العمل موردا للبيع ، فلا بد من تنزيله على الإجارة اللهم إلا أن يراد منه ما عد الكتابة مع حمل لفظ الشراء على معنى الصلح ، إن أريد غيرها من الأعمال ولكن الجميع كما ترى

والتحقيق الجواز لإطلاق الأدلة وإطلاق كثير من الفتاوى في مقام ذكر شرائط البيع وغيره حتى في مسئلة بيع المصحف من الكافر فان كلامهم هناك بإطلاقه شامل لجواز بيعه من المسلم من غير تقييد بالآلات بل السيرة القاطعة أقوى شاهد على ذلك ، ودعوى أنها على البيع ولعله للآلات دون الكتابة كما ترى ، فإنه لا ريب في ملاحظة الكتابة ببذل الثمن سواء قلنا أنها من الأوصاف كالصبغ ، ولا ينافيه إمكان الإزالة بعد إمكان منعه خصوصا في بعض أفرادها ، أو قلنا بكونه جزء من المبيع باعتبار أعيان أجزاء المداد المكيفة بهذه الكيفية ، فتكون كهيئة الدار مثلا الداخلة في المبيع تبعا ، لأنها كالوصف للمبيع أيضا ، بل ربما قيل إن قصد البيع للورق المكتوب قرآنا مجردا عن الكتابة غير ممكن ، بل مقتضاه عدم دخولها في الملك ، ولا يستحق فسخا ولا أرشا لو بان عيب فيها ، بل لا مانع من بيعه حينئذ للكافر على هذا الفرض ، اللهم إلا أن يقال بالدخول في الملك تبعا ، أو بوضع يد المشتري بعد إعراض البائع ، أو نحو ذلك مما لا يليق بالفقيه التزامه.

للنصوص المزبورة التي يشتم منها رائحة الاستحباب ، وأن المراد‌

١٢٦

منها عدم مقابلة الثمن في صورة اللفظ للكتابة ، بل تجعل من أوصاف الأوراق ، أو نحو ذلك مما لا مقابلة فيه بالثمن ، للنقوش التي هي رسم كلام الله تعظيما وتأدبا عن أن تشتري بآيات الله ثمنا قليلا ، وعن مساواته لباقي المبيعات في الابتذال ، كما أومى إليه في خبري سماعة وعثمان بن عيسى دون أصل المعاملة ، ضرورة أن المقصود الأصلي منه شراه النقوش دون الحديد والورق والجلد ، والعقود إنما تتبع المقصود‌ وقال عبد الرحيم (١) « سألت الصادق عليه‌السلام عن شراء المصاحف وبيعها؟ فقال : إنما كان يوضع الورق عند المنبر ، وكان ما بين المنبر والحائط قدر ما تمر الشاة ، أو رجل منحرف ، قال : فكان الرجل يأتي فيكتب من ذلك ثم إنهم اشتروا بعد ، قلت فما ترى في ذلك؟ فقال لي : أشتري أحب إلى أن أبيعه قلت : فما ترى أن أعطي على كتابته أجرا؟ قال : لا بأس ، ولكن هكذا كانوا يصنعون » وقال أبو بصير (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن بيع المصاحف وشرائها فقال : إنما كان يوضع عند القامة والمنبر قال : كان بين الحائط والمنبر قدر ممر شاة ورجل وهو منحرف ، فكان الرجل يأتي فيكتب البقرة ويجي‌ء آخر فيكتب السورة كذلك كانوا ثم اشتروا بعد ذلك فقلت : فما ترى في ذلك؟ قال : أشتريه أحب إلى من أن أبيعه » وهما مع دلالتهما على ما قلناه من الجواز ، دالان أيضا على استعماله في ذلك الزمان وإن كان حادثا.

__________________

(١) الوسائل الباب ٣١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤ وفيه قال روح بن عبد الرحيم.

(٢) الوسائل الباب ٣١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٨.

١٢٧

ومنه يعلم ما فيما سمعته من النهاية من منع الصحابة وفي‌ خبر عبد الرحمن (١) « عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيضا إن أم عبد الله ابن الحارث أرادت أن تكتب مصحفا ، فاشترت ورقا من عندها ودعت رجلا فكتب لها على غير شرط ، فأعطته حين فرغ خمسين دينارا ، وإنه لم تبع المصاحف إلا حديثا » وهو دال أيضا على كون السيرة في هذا الزمان حاصلة في زمانهم عليهم‌السلام ، فتكون أقوى من الإجماع ، ولعل الفقيه الماهر إذا أعطى النظر حقه في نصوص المقام وفي الأصول والقواعد يقطع بما قلناه ، خصوصا إذا لاحظ رمزهم بقولهم عليهم‌السلام وما عملته يداه ، وقولهم أشتريه أحب إلى من أبيعه ، بل لعل استعمال هذه الصورة في كتب الحديث ونحوها ، مما يرجع إلى أولياء الله الذين كلامهم كلام الله لا يخلو من رجحان ، بل وكتب الفقه أيضا التي يرجع ما فيها إليهم بنوع من الاعتبار.

ومما يؤيد ما ذكرناه أيضا ضرورة الدين على جواز بيع الكتب المتضمنة للايات وإن كثرت مع أن مدرك المنع لو صح لكان عاما إذ لا خصوصية له في المصحف ، سيما بعد قوله في‌ خبر عثمان بن عيسى لا تشتر كلام الله (٢) وفي خبر سماعة « لا تشتر كلام الله » (٣) المعلوم كون المراد منه لا تشتر رسم كلام الله ، من غير فرق بين قليله وكثيره ، وكونه مجموعا أو مفرقا ، نعم لا بأس بالحكم بكراهة بيعها وشرائها كما أفتى به العلامة الطباطبائي في مصابيحه ، للنهي المزبور في الخبر السابق المعلوم قصوره لما سمعت من وجوه ، بل الاولى ترك الاشتراط في الأجرة على كتابته ، للخير المحمول على ذلك بقرينة ففي‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٣١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١٠.

(٢) الوسائل الباب ٣١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ٣١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٣.

١٢٨

البأس عن الأجرة على كتابته في الخبر الآخر ، المعتضد بإطلاق الأدلة وعمومها ، وغيرها وكذا يكره تعشيره بالذهب‌ للموثق « لا يصلح » (١) وحرمه بعضهم ، ويدفعه الأصل ، وإن النص لا يصلح للتحريم وما ورد في القرآن (٢) المختم المعشر بالذهب المكتوب في آخره سورة بالذهب أنه لم يعب منه شيئا إلا كتابة القرآن بالذهب ، وقال : « لا يعجبني أن يكتب القرآن إلا بالسواد كما كتب أول مرة » والله أعلم.

وأما المكروهات فكثيرة قد ذكر المصنف منها هنا ثلاثة‌ الأول ما يكره لأنه يفضى إلى محرم أو مكروه غالبا كالصرف الذي لا يسلم صاحبه من الربا ، وبيع الأكفان الذي يسر بائعها الربا ، وبيع الطعام الذي يؤدي إلى الاحتكار وحب الغلاء بل وسلب الرحمة من القلب ، والرقيق فان شر الناس من باع الناس ، واتخاذ الذبح والنحر صنعة الذي قد يؤثر قساوة في القلب ، واعتبار الاتخاذ صنعة وحرفة على وجه يكون صيرفيا ، وبياع أكفان وحناطا ، ونخاسا ، وجزارا ، معتبر في الجميع وإنما خص الأخير به تنصيصا ، على احتمال كراهيته مطلقا‌ قال (٣) بن فضال : « سمعت رجلا يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام فقال : إني أعالج الرقيق فأبيعه ، والناس يقولون لا ينبغي ، فقال الرضا عليه‌السلام : وما بأسه؟ كل شي‌ء مما يباع إذا اتقى الله فيه العبد فلا بأس » بناء على إرادة عدم كونه نخاسا بذلك ، مع احتمال إرادة بيان أصل الجواز ، فلا دلالة فيه حينئذ على المطلوب ، كما أنه على ما عن بعض‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ٣٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ٢٠ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٥.

١٢٩

النسخ من إبدال الرقيق بالدقيق كذلك والأمر سهل.

وكيف كان فلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك والنصوص به مستفيضة ، منها‌ خبر إسحاق بن عمار (١) « قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فخبرته أنه ولد لي غلام ، قال : ألا سميته محمدا؟ قلت : قد فعلت ، قال فلا تضرب محمدا ولا تشتمه ، جعله الله قرة عين لك في حياتك ، وخلف صدق بعدك ، قلت : جعلت فداك في أي الأعمال أضعه ، قال : إذا عزلته عن خمسة أشياء ، فضعه حيث شئت لا تسلمه صيرفيا فإن الصيرفي لا يسلم من الربا ، ولا تسلمه بياع أكفان فإن صاحب الأكفان يسره الوباء إذا كان ، ولا تسلمه بياع طعام فإنه لا يسلم من الاحتكار ، ولا تسلمه جزارا فان الجزار تسلب منه الرحمة ، ولا تسلمه نخاسا فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : شر الناس من باع الناس » وغيره من النصوص (٢) وقد عدت معها الصائغ أيضا معللة له بأنه يعالج زين أمتي بالزاء المعجمة ما يتزينون به مما يلههم عن الآخرة أو بالراء المهملة أي ما يختم به على قلوبهم من الرين بمعنى الختم ، قال الله تعالى (٣) ( بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) وربما روى عين أمتي أي دراهمهم أو دنانيرهم.

ثم إن ظاهر الأصحاب أن ما ورد من تعليلها بذلك جار مجرى الحكم والمقتضيات ، فلا ترفع الكراهة مع فرض عدمه لكن في‌ خبر سدير الصيرفي (٤) « قلت : لأبي جعفر عليه‌السلام حديث بلغني عن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٢١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ٢١ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢ و ٤.

(٣) سورة المطففين الآية ١٤.

(٤) الوسائل الباب ٢٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

١٣٠

الحسن البصري فإن كان حقا فانا لله وإنا إليه راجعون قال : وما هو؟ قلت بلغني أن الحسن كان يقول لو غلى دماغه من حر الشمس ما استظل بحائط صيرفي ولو تفرثت كبده عطشا ، لم يستق من دار صيرفي ماء ، وهو عملي وتجارتي ، وفيه نبت لحمي ودمي ، ومنه حجتي وعمرتي ، قال : كذب الحسن خذ سواء ، وأعط سواء ، فإذا حضرت الصلاة فدع ما بيدك وانهض إلى الصلاة أما علمت؟ أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة » ولذا خص بعض متأخري المتأخرين الكراهة فيمن لم يأمن السلامة منه دون من أمنها ، بالتزام الصرف بغير المجانس أو بالوزن أو نحو ذلك ولا بأس به في خصوص الصرف ، أما غيره من الصنائع المزبورة فلا ، لأنها مقتضيات لحصول تلك الأخلاق الرذيلة ، ولا سبيل له إلى التحفظ منها بخلافه.

بل يظهر من المتن وما شابهه ثبوت الكراهة في كل مفض غالبا إلى أحد الأمرين وكأنه أخذ مما ذكر في النصوص من التعليل بالأمور المزبورة هذا ولا يخفى عليك الحرمة في عاقبة الأول منها أما محبة الوباء وتمني الغلاء فقد جزم في المسالك بحرمته ، ولا يخلو من نظر وأما بيع الرقيق فالظاهر الكراهة كما في المسالك ، لأن المراد بالشر قلة الخير والبركة ، لا أن المراد حصول الشر في بيعهم على وجه يترتب عليه محرم ، وإلا كان منه أيضا وأما قساوة القلب التي هي عاقبة القصابة ، وتورث البعد عن رحمة الله فهي مكروهة هذا ، وفي المسالك أيضا إن في بعض الأخبار تعليل بيع الطعام بعدم السلامة من الاحتكار وهو مكروه أو محرم ، فيلحق بأحد الوصفين قلت : تعليله بذلك لا ينافي تعليله بتمني الغلاء في آخر وقد جزم هو بحرمته كما عرفت والأمر سهل.

والثاني ما يكره لضعته كالنساجة التي يراد منها‌

١٣١

الحياكة لا خصوص نسج الرقيق ، فتكون مقابلة للحياكة ، بناء على أنها نسج غيره ، ولا أنها أعم منها مطلقا ، بل الظاهر اتحاد المراد منهما فتكون حينئذ مدلولة للنصوص المشتملة على ذم هذه الصنعة والنهي عنها (١) حتى ورد في بعضها النهي عن الصلاة خلف الحائك (٢) بل ورد أن ولده لا ينجب إلا سبعة أبطن ، نحو ما ورد في ولد الزنا (٣) إلا أنه يمكن أن يكون المراد من هذا الخبر بالخصوص حائك الكلام كما أومأ إليه في‌ مرسل (٤) أحمد بن محمد عن الصادق عليه‌السلام « قال : ذكر الحائك عنده انه ملعون فقال : إنما ذلك الذي يحوك الكذب على الله ورسوله » وعلى كل حال هو غير مناف لما دل على النهي عن هذه الصنعة في غيره من النصوص التي لا تحتمل التأويل بذلك ، ولا فرق في أفرادها بعد صدق مسماها ، نعم الظاهر خروج نسج الخوص ونحوه منها فإنه كان عمل بعض الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام بل لعله غير مندرج في مطلق الحياكة.

وأما الحجامة فقيدها المصنف وجماعة بما إذا اشترط الأجرة على العمل المضبوط بالمدة أو العدد ، ومقتضاه عدم الكراهة إذا لم يشترط ، بل قيل أنه المفهوم من كلام الأصحاب ، بل هو صريح الروضة ، ومحكي المنتهى قال في الأخير : كسب الحجام إذا لم يشترط حلال طلق ، وأما إذا شرط فإنه يكون مكروها ، وليس بمحظور عملا بالأصل ، ولعله لقول الصادق عليه‌السلام (٥) « لما سأله أبو بصير عن كسب الحجام؟ فقال : لا بأس به إذا لم يشارط » ‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٣ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٢) المستدرك ج ١ ص ٤٩١.

(٣) ما عثرنا على هذه الرواية.

(٤) الوسائل الباب ٢٣ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٥) الوسائل الباب ٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

١٣٢

وقوله أيضا في‌ خبر سماعة (١) « السحت أنواع كثيرة منها كسب الحجام إذا شارط » ولموثق زرارة (٢) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن كسب الحجام؟ فقال : مكروه له أن يشارط ، ولا بأس عليك أن تشارطه وتماسكه وإنما يكره له لا بأس عليك » لكن قد يستفاد إطلاق كراهة أكله من‌ صحيح الحلبي (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيضا أن رجلا سأل عن كسب الحجام فقال : لك ناضع فقال : نعم فقال : اعلفه إياه ولا تأكله‌ وخبر رفاعة (٤) الذي هو مثله ولعله لذا أطلق في اللمعة فيحمل التقييد حينئذ في النصوص المزبورة على شدة الكراهة مؤيدا ذلك بالتسامع في أدلة السنن.

اللهم إلا أن يقال إن ذلك ليس بأولى من حمل الكسب في الخبرين على ما أخذ بالشرط لا مطلق المأخوذ ، ولو على جهة الكرامة لأجل فعل الحجامة ، بل ينبغي القطع بعدم كراهة ذلك مع فرض عدم استحقاق الحجام الأجرة شرعا ، لتبرعه بالعمل أما مع استحقاقه لأمره بالعمل مثلا ، إلا أنه لم يشترط مسمى مخصوصا أو مطلق الأجرة ، فهو محل إشكال ، ولعل القول بعدم الكراهة فيه لا يخلو من وجه ، لمفهوم الشرط السابق المنزل عليه‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر معاوية (٥) « لما سأل عن كسب الحجام فقال : لا بأس به ».

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٩.

(٣) الوسائل الباب ٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢ وفيه ان رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٤) الوسائل الباب ٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٣.

(٥) الوسائل الباب ٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤ و ٦.

١٣٣

وإن أمكن حمله على إرادة بيان عدم الحرمة التي ربما توهمها بعض الناس ، كما يومي إليه‌ خبر حنان بن سدير (١) « قال : دخلنا على أبي عبد الله عليه‌السلام ومعنا فرقد الحجام فقال له : جعلت فداك إني أعمل عملا ، وقد سألت عنه غير واحد ، فزعموا انه عمل مكروه وأحب أن أسألك فإن كان مكروها انتهيت عنه وعملت غيره من الأعمال فإني منته في ذلك إلى قولك قال : وما هو؟ قلت حجام قال : كل من كسبك يا ابن أخي وتصدق منه وحج وتزوج ، فإن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد احتجم واعطى الأجر ولو كان حراما ما أعطاه » لكن يرجح ذلك ما سمعته من تقييد الأصحاب والأمر سهل ، بعد القطع بانتفاء الحرمة نصا وفتوى للأصل وغيره بل يمكن القطع بعدم كراهة فعل الحجامة مع عدم اتخاذها صنعة ومكسبا ، كما لا يخفى على من لاحظ النصوص والفتاوى اللهم إلا أن يكون ذلك لضعة العمل نفسه ، المنبئ عن دنائة طبع العامل ، كما عساه يفهم أيضا من مثل المتن ، هذا كله بالنسبة إلى الحاجم.

أما المحجوم فلا يكره له مشارطته ، كما سمعته في الخبر السابق بل الظاهر كراهة تركها له ، نحو غيره من العاملين بالأجرة ، وربما تصور اجتنابهما معا عن الكراهة فيما لو كان المشترط والجاعل للأجرة المحجوم ، وأما الحاجم فلم يصدر منه إلا الرضا بما شرط له المحجوم من غير مشارطة معه ، لكن قد يشكل ذلك بان مثله يعد شرطا من الحاجم أيضا ، فإن المراد به مطلق ذكر الأجرة ، معينة كانت أو غير معينة فتأمل والله العالم.

وأما التكسب بضراب الفحل بان يأجره لذلك مع‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٥.

١٣٤

ضبطه بالمرة والمرات المعينة أو بالمدة أو بغير الإجارة ، فلا خلاف أجده في كراهة كسبه ، بين من تعرض له‌ للمرسل (١) في الفقيه « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عسب الفحل وهو اجرة الضراب » لكن في الحدائق الظاهر أن هذا التفسير من كلام الصدوق ، الذي يدخله غالبا في الأخبار ، ثم حكي عن الأردبيلي نسبة هذا المرسل إلى رواية الجمهور ، قال : وحينئذ يضعف الاعتماد عليه في تخصيص‌ الخبرين (٢) اي خبر بن حنان بن سدير « عن الصادق عليه‌السلام قال : فيه قلت له جعلت فداك ان لي تيسا أكريه ما تقول في كسبه قال : كل كسبه فإنه حلال لك والناس يكرهونه قال حنان قلت : لأي شي‌ء يكرهونه وهو حلال قال : لتعيير الناس بعضهم بعضا » وصحيح معاوية (٣) بن عمار فان فيه قلت : « فاجر التيوس قال : ان العرب تتعاير به ولا بأس به » وفيه انه لا دلالة فيهما على عدم الكراهة المتسامح بها ، التي يكفي فيها المرسل السابق ، المفتي به بين الأصحاب ، بل يمكن استفادة الكراهة منهما أيضا ، بقرينة تغيير الناس ونحوه ، ولا ينافيه نفي البأس المحمول على إرادة بيان عدم الحرمة ، المنقولة عن بعض العامة نعم لا كراهة فيما كان بطريق الاهداء والإكرام عوضا عن ذلك ، لعدم صدق التكسب به بعد فرض عدم الإجارة ونحوها كما هو واضح ، والله العالم.

والثالث ما يكره لتطرق الشبهة ككسب الصبيان‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ١٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ١٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

١٣٥

المجهول أصله لما يدخله من الشبهة الناشئة من اجترائه على ما لا يحل لجهله أو علمه بارتفاع القلم عنه ، أما لو علم اكتسابه من محلل فلا كراهة ، وإن أطلق بعضهم ، بل قيل الأكثر ، كما انه لو علم تحصيله أو بعضه من محرم ، وجب اجتناب ما علم منه أو اشتبه ، ومحل الكراهة تكسب الولي به أو أخذه منه أو الصبي بعد رفع الحجر عنه ، وكذا الكلام في كسب من لا يجتنب المحارم لتطرق الشبهة فيه أيضا ولعل من ذلك يعلم جواز تناول ما في يد الصبي ، للولي ومأذونه بل الظاهر الحكم بملكيته له ، مع فرض احتمال تملكه بحيازة ونحوها فحينئذ يده كيد البالغ ، في الحكم بملكية ما فيها لديها وإن وسوس به بعض القاصرين من المعاصرين والله العالم‌ وقد يكره التجارة بأشياء تذكر في أبوابها إنشاء الله تعالى وما عدا ذلك مما لا دليل على رجحانه أو مرجوحيته فمباح متساوي الطرفين كما هو واضح والله العالم.

مسائل‌ الأولى لا يجوز بيع شي‌ء من الكلاب بلا خلاف بل الإجماع بقسميه عليه والنصوص بالخصوص (١) فضلا عما مر في النجاسات والمحرمات والسباع (٢) دالة عليه إلا ما خرج بالدليل منها ك‍ـ ( كلب الصيد ) بلا خلاف معتد به بل الإجماع بقسميه عليه ، بل المحكي منها مستفيضة أو متواترة ، كالنصوص فما عن العماني من المنع منه واضح الضعف ، كضعف تخصيص الجواز في النهاية والمقنعة بالسلوقي منه ، وهو المنسوب إلى سلوق قرية باليمن ، ضرورة مخالفته لإطلاق‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ من أبواب ما يكتسب به.

(٢) الوسائل الباب ٥ و ١٤ و ٥ ٤٠ من أبواب ما يكتسب به.

١٣٦

نصوص الجواز (١) ، ومعاقد إجماعاته ، وأضعف منه لذلك أيضا استثناء الأسود البهيم منه ، كما عن الإسكافي مع انا لم نتحققه وفي استثناء كلب الماشية غنما أو غيرها والزرع وإن لم يكن في حائط والحائط وان لم يكن فيه زرع خلاف وتردد منشأه ما ستعرف.

ولكن الأشبه بأصول المذهب وقواعده جواز بيعها ، ككلب الصيد لا المنع وفاقا لأبي علي واجارة المبسوط والخلاف والمراسم والوسيلة والسرائر وكشف الرموز والمختلف والتذكرة والتحرير والإرشاد والتبصرة والإيضاح وشرح الإرشاد والدروس واللمعة وحواشي الشهيد والمقتصر والمهذب البارع والتنقيح وإيضاح النافع وجامع المقاصد وغاية المرام والمسالك والروضة ومجمع البرهان وشرح الفقيه للمجلسي على ما حكي عن البعض ، واقتصار أبي علي والمراسم والمبسوط والخلاف على اثنين منها غير قادح ، بعد الإجماع بقسميه على عدم الفرق بين الثلاثة ، كما يشهد له نسبة القول إليهم في الأربعة ، من غير واحد من الأصحاب ، مع أن أبا علي منهم ، قال : في بعض كلماته لا خير في الكلاب إلا كلب الصيد والحارس ، فلا بأس حينئذ بدعوى الشهرة على الجواز ، بل ربما حكي عن ظاهر إجارة التذكرة الإجماع عليه ، بل لعله كذلك إذ لم يحك الخلاف في ذلك ، إلا عن الشيخين في المقنعة والنهاية وتجارة المبسوط والخلاف والغنية والقاضي ويحيى بن سعيد وبعض متأخري المتأخرين ممن لا يعتد بوفاقه وخلافه ، فخصوا الجواز بكلب الصيد أو السلوقي منه ، ويمكن إرادتهم منه المثال بذلك لكل ما ينتفع به منفعة محللة ، بل في ديات الأول وكذلك أي يضمن من أتلف على مسلم شيئا من سباع الطير وغيرها مما قد جعل للمسلمين‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من أبواب ما يكتسب به.

١٣٧

الانتفاع به ، كالبازي والصقر والكلب السلوقي وكلب الحائط وكلب الماشية والفهد وما أشبه ذلك ، كان عليه غرم قيمته حيا يوم إتلافه ، إلا الكلب خاصة فإنه قد وظف (١) في قيمة السلوقي المعلم للصيد أربعون درهما ، وفي قيمة كلب الحائط والماشية عشرون درهما ، ونحو منه في النهاية وربما أشعر قوله جعل للمسلمين إلى آخره بجواز البيع الذي هو أحد أفراد الانتفاع ، والمبسوط والخلاف مع انهما صرحا بجواز البيع في كتاب الإجارة ، فإن فيهما يصح اجارة كلب الزرع والماشية كما يصح بيعهما ، ليس في تجارتهما ما يقتضي الخلاف في ذلك قال : في الأول الكلاب على ضربين أحدهما لا يجوز بيعه بحال ، والآخر يجوز ذلك فيه ، فما يجوز بيعه ما كان معلما للصيد وروي (٢) ان كلب الماشية والحائط مثل ذلك‌ وما عدا ذلك فلا يجوز بيعه ، ولا الانتفاع به ، وما يجوز بيعه يجوز إجارته ، لأن أحدا لا يفرق بينهما ويجوز اقتناء الكلب للصيد وحفظ الماشية وحفظ الزرع بلا خلاف ، وكذلك يجوز اقتناؤها لحفظ البيوت إلى آخره ، ولعله عامل بالرواية المزبورة خصوصا مع ملاحظة كلامه في الإجارة ، وقال : في المحكي عن الثاني يجوز بيع كلاب الصيد إذا كانت معلمة ، ولا يجوز بيع غير المعلم على حال واستدل بالإجماع والأخبار ، وظاهره التفصيل في الكلاب المتعارف استعمالها في الصيد خاصة كالسلوقيات والبوجيات ، بين المعلم منها وغير المعلم ، فجوز بيع الأول منها دون الثاني ، وستعرف قوة إرادة ذلك من النصوص أيضا ، لا أن مراده من غير المعلم ما يشمل الكلاب الثلاثة ، خصوصا مع ملاحظة كلامه في الإجارة ، بل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٩ من أبواب ديات النفس الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ١٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٩.

١٣٨

يؤيده ان ابن إدريس لم يحك الخلاف عنه فيهما ، بل حكاه عن النهاية وقال : إنه رجع عنه في مسائل خلافه ، وعن القاضي أنه قال : في باب الإجارة مثل ما في المبسوط والخلاف أيضا ، وأما الغنية فظاهرها إرادة المثال من كلب الصيد قال : فيها واشترطنا أي في ضابط ما يجوز بيعه أن يكون منتفعا به ، تحرزا مما لا منفعة فيه كالحشرات وغيرها وقيدنا بكونها مباحة ، تحفظا من المنافع المحرمة ، ويدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره ، إلا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلم للصيد ، والزيت النجس ، ضرورة ظهورها في إرادة جواز بيع كل ما ينتفع به منفعة محللة ، ولا ريب في حصولها في الكلاب الثلاثة ، إذ لا خلاف في جواز اقتناؤها والانتفاع بها لذلك ، فانحصر الخلاف المحقق حينئذ في المصنف وابن عمه مع أنه تردد فيه في المنافع ، وقال :

هنا نعم يجوز إجارتها وقد عرفت انه في المبسوط ومحكي الخلاف قال : إن أحدا لم يفرق بين البيع والإجارة ، ولذا استدل في التنقيح على الجواز بأنه يجوز إجارتها باتفاق الشيخ أيضا ، فيجوز البيع لعدم الفارق ، بل استدل عليه في محكي حواشي الشهيد بأن من قال : بجوازه في كلب الصيد ، قال : بالجواز فيها ، لأن المسوغ وهو المنفعة المحللة موجودة في الجميع ، وهو مؤيد لما قلناه من عدم تحقق الخلاف ، أو عدم العبرة به ، وفي التذكرة ان سوغنا البيع في كلب الصيد ، سوغناه فيها لذلك أيضا ، وهو مؤيد أيضا بل قد يقال بأولويتها منه في ذلك ، باعتبار عظم الانتفاع بها ، بل قيل أن جملة من البلدان لا يستقيم مواشيهم وزروعهم وبساتينهم بدونها ، مضافا إلى أنه مقتضى الضوابط الشرعية‌

١٣٩

المستفادة من آية (١) ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٢) « و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) » (٣). « و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) » وتسلط الناس على أموالها ، إذ لا خلاف في أنها مملوكة ولإتلافها غرامات ، ويجوز إجارتها وهبتها ووقفها والوصية بها ، وأن تكون مهرا للنكاح ، وعوضا للخلع ، بل يجوز أن تكون ثمنا في الإجارة وغيرها ، بل إن كان المانع يقتصر في المنع ، على خصوص ما تسمعه من النصوص ، اتجه جواز كونها ثمنا للبيع ، إذ المنهي عنه الثمن لها ، لا عن أن تكون هي أثمانا لغيرها ، إلى غير ذلك من أحكام الملك والتمليك ، في العين والمنفعة ، فإخراج خصوص البيع من بينها محتاج إلى دليل قاهر صالح ، للحكم به على ذلك ، وليس الا دعوى ما دل عليه في النجاسات والمحرمات ، ونصوص (٤) ان ثمن الكلب سحت » وخصوص‌ صحيح بن مسلم (٥) وعبد الرحمن « عن أبي عبد الله عليه‌السلام ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت » وخبر العامري (٦) « سأله أيضا عن ثمن الكلب الذي لا يصيد ، فقال سحت وأما الصيود فلا بأس » وخبر أبي بصير « سأله أيضا عن ثمن كلب الصيد قال : لا بأس بثمنه والآخر لا يحل ثمنه » وخبره الآخر (٧) « عنه أيضا في حديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ثمن الخمر ومهر البغي وثمن الكلب الذي لا‌

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٧٥.

(٢) سورة المائدة الآية ١.

(٣) سورة النساء الآية ٢٩.

(٤) الوسائل الباب ١٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

(٥) الوسائل الباب ١٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٣.

(٦) الوسائل الباب ١٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١.

(٧) الوسائل الباب ١٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٥.

١٤٠