جواهر الكلام - ج ٢٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

١

حمداً خالدا لولى النعم حيث اسعدنى بالقيام بنشر هذا السفر القيم في الملا الثقافي الدينى بهذه الصورة الرائعة. ولرواد الفضيلة الذين وازونا في انجاز هذا المشروع المقدس شكر متواصل.

الاخوندى

٢

كتاب الحجر‌

الحجر مثلثا لغة هو المنع والتضييق ومنه سمى الحرام حجرا لما فيه المنع قال الله تعالى (١) ( وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) ، أي حراما محرما وسمى العقل حجرا ، لانه يمنع صاحبه من ارتكاب القبيح وما تضر عاقبته ، قال الله تعالى (٢) ( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ).

والمحجور شرعا هو الممنوع عند الشرع من التصرف في ماله ولو البعض ، إذ هو مفرد مضاف لا يدل على العموم ، وكذا لفظ التصرف ، ولكن يصلح له إن أريد به ، فيشمل حينئذ المريض الممنوع من بعض ماله ، والصبي والمجنون ، والعبد بناء على ملكه والحجر عليه كما مال اليه المصنف سابقا.

وحينئذ فلا يرد ما قيل : من أنه أراد جميع المال خرج المريض ، وإن أراد بعضه خرج الصبي والمجنون ، وإن العبد لا يملك شيئا فلا يدخل في التعريف ، فلا معنى لذكر الرق من الأسباب ، وان أحدا لا يمنع من التصرف في ماله بالأكل والشرب ونحو هما من الأمور الاضطرارية ، إذ قد عرفت أنه ليس في التعريف ما يدل على التعميم والتخصيص ، بل من صدق عليه المنع في ماله على أي وجه كان فهو محجور عليه ، ودخول العبد مبني على ما ذهب اليه المصنف كما عرفت.

نعم في المسالك « ربما ينتقض في طرده بالممنوع من التصرف فيه لغصب ونحوه فإنه لا يسمى محجورا عليه شرعا فلو أضاف إليه ما يدل على المنع الشرعي كان حسنا » ‌

__________________

(١) سورة الفرقان الآية ـ ٢٣.

(٢) سورة الفجر الآية ـ ٥ ـ.

٣

وفيه ـ بعد سهولة الأمر في نحو هذه التعريفات كما أوضحناه غير مرة ، ولذا تجوز وعرف الفلس بهذا التعريف مع أنه أخص من الحجر ـ وضوح إرادة المنع الشرعي من الممنوع فيه ، والأمر سهل.

وكيف كان فتمام النظر في هذا الباب يستدعي فصلين : الأول في موجباته وهي كثيرة متفرقة في تضاعيف الأبواب كالرهن ، والبيع ، والمكاتبة ، والمرتد ، وغير ذلك ، لكن التي جرت عادة الفقهاء بالبحث عنها وعقد كتاب لها ستة : الصغر ، والجنون ، والرق ، والمرض ، والفلس ، والسفه ولعل مرجع الصور إلى قسمين : من يحجر عليه لحق نفسه ، ومن يحجر عليه لحق غيره ، فالأول الصبي والمجنون والسفيه ، والثاني الباقي.

ثم الحجر إما عام في سائر التصرفات ، أو خاص ببعضها ، والأول إما أن يكون ذا غاية يزول سببه فيها أو لا والأول الصغر ، والثاني الجنون ، والخاص إما أن يكون فيه مقصورا على مصلحة المحجور أو لا ، والأول السفه ، والثاني إما أن يكون موقوفا على حكم الحاكم أو لا ، والأول الفلس ، والثاني المرض ، وباقي الأسباب تعرف بالمقايسة ، والأمر في هذا سهل. إنما الكلام في تفصيل البحث فيها وقد تقدم الكلام في الرق والفلس.

أما الصغير فمحجور عليه ، ما لم يحصل له وصفان : البلوغ والرشد بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل الكتاب والسنة دالان عليه أيضا ، والمراد بالأول الذي هو في اللغة الإدراك بلوغ الحلم ، والوصول إلى حد النكاح بسبب تكون المني في البدن ، وتحرك الشهوة والنزوع إلى الجماع ، وإنزال الماء الدافق الذي هو مبدأ خلق الإنسان بمقتضى الحكمة الربانية فيه وفي غيره من الحيوان لبقاء النوع ، فهو حينئذ كمال طبيعي للإنسان يبقى به النسل ، ويقوى معه العقل ، وهو حال انتقال الأطفال إلى حد الكمال والبلوغ مبالغ النساء والرجال.

ومن هنا إذا اتفق الاحتلام في الوقت المحتمل حصل به البلوغ ولم يتوقف على بيان الشارع ، فإن البلوغ من الأمور الطبيعية المعروفة في اللغة والعرف ، وليس من الموضوعات الشرعية التي لا تعلم إلا من جهة الشرع كألفاظ العبادات ، بل قد ذكر أهل‌

٤

اللغة في ترتيب أحوال الإنسان وأن له بكل حال اسما مخصوصا في الرجال والنساء من أول الخلقة التي يسمى به جنينا إلى حال الشيخوخة في الرجال ، والقلع والطلطا في النساء.

وعلى كل حال فلا يخفى على من لاحظ كلماتهم ان من المعلوم لغة كالعرف كون الغلام متى احتلم بلغ وأدرك ، وخرج عن حد الطفولية ودخل في حد الرجولية وكذا الجارية إذا أدركت واعصرت فإنها تكون امرأة ، كغيرها من النساء نعم يرجع إلى الشرع في مبدء السن الذي يحصل به البلوغ مثلا إذا حصل فيه الاشتباه ، بخلاف الاحتلام والحيض والحمل ونحوها مما لا ريب في صدق البلوغ معها لغة وعرفا ، ولو للتلازم بينها.

أما الأمور المقارنة له في العادة غالبا كقوة التمييز وغلظ الصوت وشق الغضروف ونتو الحنجرة ونهود الثدي ونحو ذلك ، فأقصاها افادة الظن بحصوله ، لعدم ثبوت التلازم المورث للقطع ، ولا دليل على اعتباره في المصداق ، بل الدليل على خلافه قائم ، ودعوى أنها كإنبات الشعر الخشن على العانة ـ يدفعها أن الفارق بينهما الدليل.

وكيف كان فلا ريب في أنه يعلم بلوغه أي الصغير بإنبات الشعر الخشن على العانة التي هي حول الذكر والقبل سواء كان مسلما أو مشركا خلافا للشافعي في أحد قوليه ، ففي حق الكفار خاصة لكونه علامة مكتسبة تستعجل بالمعالجة ، وإنما اعتبرت في الكفار لانتفاء التهمة بالاستعجال في حقهم ، ولأنه لا طريق إلى معرفة بلوغهم سوى ذلك بخلاف المسلمين ، لجواز الرجوع إليهم في معرفة البلوغ والجميع كما ترى ، إذ الاستعجال قائم في الفريقين ، وكذا الحاجة إلى هذه العلامة ، فإن الاحتلام والسن كثيرا ما يشتبه الأمر فيهما بخلافها ، مضافا إلى ما ستعرفه من إطلاق الأدلة ، ولذا اتفاق أصحابنا ظاهرا على خلافه.

نعم ربما نسب ذلك إلى الشيخ ولم نتحققه ، بل قال في الخلاف : « الإنبات دليل على بلوغ المسلمين والمشركين بإجماع الفرقة » وفي التذكرة « نبات هذا الشعر دليل على البلوغ في حق المسلمين والكفار عند علمائنا ، وبه قال مالك وأحمد والشافعي في‌

٥

أحد قوليه » وقال أبو حنيفة « إنه لا اعتداد بالإنبات مطلقا ، لأنه كغيره من الشعر ، الرأس والبدن ».

ويدل عليه ـ مضافا إلى ما عرفت مؤيدا بالعادة ـ الأخبار المروية من الطرفين فمن طريق الجمهور ما روي (١) « أن سعد بن معاذ لما حكم على قريظة كان يكشف عن عورات المراهقين ، ومن أنبت منهم قتل ، ومن لم ينبت جعل في الذراري ».

وما‌ روى عن عطية القرضي (٢) « قال » : عرضنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم قريظة ، وكان من أنبت قتل ، ومن لم ينبت خلى سبيله ، فكنت فيمن لم ينبت فخلى سبيلي ».

ومن طريق الأصحاب‌ خبر أبي البختري (٣) « عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرضهم يومئذ على العانات ، فمن وجده قتله ، ومن لم يجده أنبت ، ألحقه بالذراري ».

وما‌ في خبر حمزة بن حمران (٤) عن أبي جعفر عليه‌السلام « من أن الغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع ، ولا يخرج عن اليتم حتى يبلغ خمس عشر سنة أو يحتلم أو يشعر أو ينبت » وما‌ في خبر يزيد الكناسي (٥) « أن الغلام إذا زوجه أبوه ولم يدرك كان الخيار له إذا أدرك وبلغ خمس عشر سنة أو يشعر في وجهه أو ينبت في عانته ».

وفي المحكي‌ عن تفسير علي بن إبراهيم (٦) في قوله تعالى ( وَابْتَلُوا ) إلى آخره « قال : ومن كان بيده مال بعض اليتامى فلا يجوز له أن يعطيه حتى يبلغ النكاح ويحتلم ـ إلى أن قال ـ وإن كانوا لا يعلمون أنه قد بلغ فإنه يمتحن بريح إبطه أو‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٦ ص ٥٨.

(٢) المستدرك ج ـ ١ ـ ص ـ ٧.

(٣) الوسائل الباب ـ ٦٥ ـ من أبواب جهاد العدو الحديث ـ ٢ ـ والباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ـ ٨.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمات العبادات الحديث ـ ٢.

(٥) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب عقد النكاح الحديث ـ ٩.

(٦) المستدرك ج ـ ٢ ـ ص ٤٩٦.

٦

نبت عانته ، فإن كان ذلك فقد بلغ » بناء على أن الضمير في قوله ـ قال ـ راجع الى الصادق عليه‌السلام المذكور في الآية السابقة كما عن الصافي (١) روايته عنه مسندا إليه ولعله وجده كذلك فيما وصل اليه من النسخ ، وإلا كان من كلامه على عادة القدماء ، وهو وإن لم يكن حجة لكنه لا يخلو من تأييد ، وعلى كل حال فلا ينبغي التوقف في أصل الحكم.

نعم قد يشكل عمومه للإناث بظهور النصوص في الذكور خاصة ، بل قد يظهر من بعض الأصحاب اختصاصها بهم وان لم يعرف نقل الخلاف في ذلك ، لكن قد عرفت العموم في معقد إجماعي الخلاف والتذكرة ، بل صرحا به وإن لم يكن في العقد المزبور مؤيدا بتتبع أكثر العبارات وبأن الإنبات أمارة طبيعية اعتبرها الشارع لكشفه عن تحقق الإدراك فلا يختلف ، وبقضاء العادة بتأخر إنبات هذا الشعر عن تسع سنين بكثير ولعل ذلك هو السبب في ترك التعرض له في النصوص ، لندرة الاحتياج اليه فيهن كالاحتلام.

وانما اعتبر الأصحاب الخشونة مع عدم التقييد به في النصوص لمعلومة عدم اعتبار الزغب والشعر الضعيف الذي قد يوجد في الصغر ، ولأن الخشن هو المعهود في اختبار البلوغ فيحمل عليه الإطلاق لوجوب صرفه إلى المعهود.

والتقييد بالعانة لإخراج سائر الشعور فلا يكون دليلا على البلوغ ، وفي المسالك « لا عبرة بها عندنا ، وان كان الأغلب تأخرها عن البلوغ ، إذ لم يثبت كون ذلك دليلا شرعا خلافا لبعض العامة » قلت : هو قواه في صوم الروضة فقال : « وفي إلحاق اخضرار الشارب ونبات اللحية بالعانة قول قوي » وقال الشيخ في المبسوط في كتاب الحجر : « لا خلاف أن نبات اللحية لا يحكم بمجرده بالبلوغ ، وكذلك سائر الشعور ، وفي الناس من قال إنه علم على البلوغ وهو الأولى ، لأنه لم تجر العادة بخروج اللحية من غير بلوغ » وفي كتاب الصوم « وحده ـ أي البلوغ ـ الاحتلام في الرجل ، والحيض في النساء ، والإنبات والإشعار » إلى آخره.

__________________

(١) تفسير الصافي ج ١ ص ٣٣٢ طبع إسلامية ١٣٩٣.

٧

وفي النهاية « وحد بلوغ الصبي إما بأن يحتلم أو يكمل عقله أو يشعر » وعن ابن البراج في المهذب « وحد بلوغ الغلام احتلامه أو كمال عقله أو يشعر » وفي التحرير « الأقرب أن إنبات اللحية دليل على البلوغ ، أما باقي الشعور فلا » وحكى في التذكرة عن الشافعية وجهين في إلحاق اللحية والشارب بالعانة ، أحدهما الإلحاق ثم قال : « ولا بأس به عندي بناء على العادة القاضية بتأخر ذلك عن البلوغ ، بل هو لا يخلو من قوة للعادة ، وللخبرين السابقين الذين لا يقصر سندهما عن حجية اخبار الآحاد ، فينقطع الأصل حينئذ بهما.

وأما ما قيل ـ من أنه لو كان علامة لاستغنى بها عن اختبار شعر العانة ، بل لم يجز الكشف عنها ـ فضعفه ظاهر ، ضرورة خروج العانة عن العورة أولا ، وعدم الاستغناء عنها لتقدم نباتها على اللحية والشارب ، بل يقوى إلحاق العذار والعارض والعنفقة ونحوها بهما ، لعموم المستند ، إلا أن ظاهر باقي الأصحاب الاختصاص بالعانة ، بل هو صريح بعضهم ، ولذا اقتصروا عليها في العلامات ، ويمكن أن يكون ذلك منهم لتأخر نباتهما عن البلوغ عادة بكثير ، ومدارهم على ذلك العلامات النافعة عند الاشتباه ، لا حال معلومية البلوغ الحاصلة غالبا نباتهما بحيث لا يحتاج إلى استناد العلامات ، وخرق العادات لا ينافي الاطمئنان المعتبر في الأحكام الشرعية.

نعم لا عبرة بسائر الشعور عدا ما عرفت في ظاهر كلام الأصحاب ، للأصل وعمومات الكتاب والسنة من غير معارض يعتد به ، وفي التذكرة « ولا اعتبار بشعر الإبط عندنا ، وللشافعي فيه وجهان » ومن ذلك يعلم شذوذ ما في بعض الاخبار من عد شعر الإبط من العلامات ، وإلا فنصوص الاشعار خاصة يمكن حملها على الإنبات خاصة ، أو مع غيره مما عرفت من اللحية والشارب ونحوها.

وكيف كان فقد استفيد من المتن هنا والصوم والنافع في المقام كونه بلوغا لا دليلا على سبقه كالحمل ، بل في مفتاح الكرامة نسبته إلى صلاة التهذيب ، وصوم المبسوط وحدوده ، ووصايا النهاية والمهذب ، وخمس الوسيلة ، وصوم السرائر ، ووصاياها ، وكشف الرموز ، وصوم الجامع ، وحجره ، وجهاد المنتهى ، والتذكرة ، وصوم التحرير‌

٨

وحجره وحجر الإرشاد والتبصرة ، وصوم اللمعة والروضة ، ومجمع البيان وجامع الجوامع ، والغنية وكنز العرفان والجعفرية ، بل في الغنية وظاهر حدود المبسوط ومجمع البيان ونوادر قضاء السرائر وكشف الرموز وكنز العرفان وصوم المسالك الإجماع عليه.

لكن لم أتحقق كثيرا من نسب إليهم ذلك ، وانما في كثير منها ظهور بل اشعار لا يثق به الفقيه ، لأنهم ليسوا بصدد بيان ذلك ، على أن جملة منها كالمبسوط والتذكرة والتحرير والمسالك قد صرحت في مقام آخر بأنه دليل لا بلوغ ، ومنه يعلم عدم الوثوق بتلك الإشعارات ، وأنها لم تسق لبيان ذلك ، بل عنون بعضهم البحث بمثل هذه العبارات التي ادعي ظهورها في البلوغ ، ثم صرح بعد ذلك بأنه دليل لا بلوغ ، فعلم عدم إرادتهم من أمثال تلك العبارات ذلك.

ويؤيده أن العلامة الطباطبائي على شدة تتبعه في المسألة حتى أنه حكى عبارات القوم بالفاظها على طولها ونقر في كل واحدة منها قد اعترف بأنه لم يجد بهذا القول مصرحا من الأصحاب ، قال : وإنما حكاه العلامة في التذكرة عن الشافعي في أحد وجهيه ، لكنه ظاهر ابن حمزة وابن إدريس والمحقق بل يؤيد أيضا أنه في المسالك نسب القول بكونه دليلا إلى المشهور ، ولو صحت النسبة المزبورة كان الأمر بالعكس ، لانه نسب القول الثاني أي أنه دليل لا بلوغ في الكتاب المزبور إلى حجر المبسوط ، والخلاف ، وحجر التذكرة ، وكشف الحق ، وجامع المقاصد ، والمسالك ، وظاهر الإيضاح ، ولا ريب في أن الشهرة حينئذ بالعكس ، ومن الغريب دعواه أن الشيخ في الخلاف ادعى الإجماع عليه ، ومن لاحظ عبارة الخلاف قطع بأنه ليس في صدد ذلك ، وإنما بحثه مع الشافعي.

وكيف كان فلا ريب أن الأقوى كونه دليلا لا بلوغا قيل : « لتعليق الأحكام في الكتاب والسنة على الاحتلام ولأن البلوغ غير مكتسب ، والإنبات قد يكتسب بالمعالجة » وفيهما نظر واضح ، والأولى الاستدلال بأنه تدريجي الحصول ، والبلوغ لا يكون كذلك ، وعدم معلومية أول آنات تحقق الشعر الخشن ، وقضاء العادة بتأخره عنه ،

٩

وكذلك الكلام فيما الحق به من الشعر ، وتظهر فائدة الخلاف في قضاء ما يجب قضاؤه من العبادات ، وفي نفاذ إقراره وتصرفاته المتقدمة على الاختبار بزمان يعلم عدم تأخر بلوغه عنه والله اعلم.

وكذا يعلم البلوغ بخروج المني الذي يكون منه الولد من الموضع المعتاد كيف كان بلا خلاف من المسلمين ، فضلا عن المؤمنين ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا الى الكتاب والسنة المستفيضة قال الله تعالى (١) ( وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ) (٢) ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ) (٣) ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) و‌قال الصادق عليه‌السلام في خبر هشام بن سالم (٤) « انقطاع يتم اليتيم الاحتلام ، وهو أشده » وقال في موثق ابن سنان (٥) « سأله أبي وأنا حاضر عن قول الله تعالى ( حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) قال : الاحتلام ».

وفي النبوي (٦) الذي رواه المخالف والمؤالف بل عن ابن إدريس أنه مجمع على روايته « رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى ينتبه » وفي المحكي‌ عن الخصال (٧) انه روى بإسناده عن ابن ظبيان « قال أتي عمر بمجنونة قد زنت فأمر برجمها ، فقال علي عليه‌السلام : أما علمت أن القلم يرفع عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ ».

وعلى كل حال فهو حديث مشهور رواه الفريقان وذكره أصحابنا في كتب الفروع والإمامة في مطاعن الثلاثة وفي الفقيه عن حماد بن عمر وانس بن محمد عن أبيه جميعا‌

__________________

(١) سورة النور الآية ـ ٥٩.

(٢) سورة النساء الآية ـ ٦.

(٣) سورة الإسراء الآية ـ ٣٦.

(٤) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب الحجر الحديث ـ ١.

(٥) الخصال ج ١ ص ٨ الوسائل الباب ـ ٤٤ من أبواب الوصايا الحديث ـ ٨.

(٦) مستطرفات السرائر سنن البيهقي ج ٦ ص ٥٧.

(٧) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ـ ١١.

١٠

عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام في وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي (١) « يا علي لا يتم بعد احتلام » وفي المصابيح رواه الشيخ في المبسوط وغيره ، وهو أيضا من الأحاديث المشهورة المتلقاة بالقبول والمرسل فيه (٢) أيضا « على الصبي إذا احتلم الصيام ، وعلى المرأة إذا حاضت الصيام » وخبر طلحة بن يزيد (٣) عن الصادق عليه‌السلام « إن أولاد المسلمين الموسومون عند الله بشافع ومشفع فإذا بلغوا اثنى عشر كتبت لهم الحسنات ، فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات » ، وخبر (٤) علي بن جعفر عن أخيه المروي عن قرب الاسناد « سألته عن اليتيم متى ينقطع يتمه قال : إذا احتلم وعرف الأخذ والإعطاء »

إلى غير ذلك من النصوص التي لا يقدح تعبيرها بالاحتلام كبعض الأصحاب ، للقطع بعدم إرادة خصوصية بل قيل المراد منه هنا خروج المني مطلقا ، سواء كان في النوم أو اليقظة ، وليس المراد منه معناه اللغوي الذي هو الرؤية في المنام ، فإنه قد يتحقق بدون خروج المني كما أن خروج المني ربما يتحقق بدونه ، والعبرة حينئذ في البلوغ بالخروج دون الرؤية.

ولعله لذا جعل الحمل دليلا على سبقه في الأنثى ، لكونه مسبوقا بالإنزال ، وقد سمعت قول الله تعالى (٥) ( حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ) فإنه لو كان الاعتبار بالاحتلام لزم أن لا يتحقق البلوغ في الرجال ما لم يتحقق الاحتلام ، وإن نكحوا وأولدوا وهو واضح البطلان ، بل قد يقوى كون العلامة الاستعداد لخروج المني بالقوة القريبة من الفعل ، وذلك بتحريك الطبيعة والإحساس بالشهوة سواء انفصل المني معه عن الموضع المعتاد أو لم ينفصل ، لكن بحيث لو أراد ذلك بالوطي أو الاستمناء تيسر له ذلك.

وكونه شرطا في الغسل لا يقضى بكونه كذلك في البلوغ ضرورة دوران الأمر في الأول على الحديثة المتوقف صدقها ولو شرعا على الخروج ، بخلاف الثاني الذي‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ٩.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ١٠.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ٦.

(٥) سورة النساء الآية ـ ٦ ـ.

١١

هو أمر طبيعي لا يختلف بظهور الانفصال وعدمه ، خصوصا مع تهيؤ النطفة للانعقاد ، بل تكون الولد في الأنثى لا يكاد يتحقق معه الخروج إلى خارج ، بل عن المفسرين أن المراد بقوله تعالى (١) ( بَلَغُوا النِّكاحَ ) شهوة النكاح والوطء والقدرة على الإنزال ، بل قد عرفت سابقا أن البلوغ من موضوعات الأحكام الشرعية التي مرجعها العرف والعادة ، ومثل هذا لا شك في كونه بالغا فيهما ، وإنما يتعين الرجوع إلى الشرع في تحديد الموضوعات مع الشك ، دون اليقين الذي قد عرفت حصوله في المقام ، وقد أومأنا سابقا إلى أن البلوغ حال في الإنسان بل مطلق الحيوان يخرج بها من حد الطفولية إلى غيرها ، وانها ينبعث عنها خروج المني ونحوه ، وإن لم يجعل خروج المني علامة على سبقه ، لاحتمال مقارنة خروجه لتلك الحالة ، فالمدار عليها لا عليه ، فمتى علم حصولها تحقق البلوغ وان لم يحصل الخروج الحسي.

لكن في عبارات الأصحاب اشتباه على غير المحصل ، إذ المصنف والفاضل وغير هما قيدوا خروج المني بكونه من الموضع المعتاد ، وقال ثاني الشهيدين : « انما اعتبر ذلك مع إطلاق الأدلة لوجوب حمل كلام الشارع على ما هو المعهود المتعارف ، خصوصا وفي بعضها بلوغ النكاح ، وإنما يكون من المعتاد ، فلو خرج من جرح ونحوه لم يعتد به ، والجميع موهم اعتبار ذلك فيه كالغسل » لكن قد عرفت التحقيق فلاحظ وتأمل كما أنه قد يتوهم من المتن ونحوه اعتبار تكون الولد منه ، فلا عبرة بالذي لا يتكون منه.

بل في المسالك نسبة هذا الفهم من العبارة إلى جماعة قال : « وفي حاشية الشهيد على القواعد نقلا عن بعض العلماء يعلم المني الذي منه الولد مما ليس منه بأن يوضع في الماء فإن طفي فليس ، وإن رسب فمنه الولد ، » ولا يخفى عليك فساد هذا التوهم ضرورة كون المعتبرة مطلق خروج المني ، للإطلاق فتكون الصفة في عبارة المتن وغيره كاشفة باعتبار إرادة المنشأية ، فلا يقدح تخلف التكون من بعض الافراد ، بل لعل المراد التخلف من صنفه فلا يقدح عدمه في بعض الأشخاص كما هو واضح لا يحتاج‌

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ٦ ـ.

١٢

الى إطناب.

نعم يشترط في خروج المني كونه في الوقت المحتمل للبلوغ ، فلا عبرة بما ينفصل بصفته قبل ذلك ، كما صرح به بعض الأساطين ، بل في التذكرة « البلوغ منوط بخروج المني مع إمكانه باستكمال تسع سنين مطلقا عند الشافعي ، وعندنا في المرأة خاصة ، وأما في جانب الذكر فما وقفت له على حد لأصحابنا ـ إلى أن قال ـ لأن في النساء حدة في الطبيعة وتسارعا إلى الإدراك » وفي المسالك « وحد الإمكان عندنا في جانب القلة في الأنثى تسع سنين ، وأما في الذكر فما وقفت له على حد يعتد به ـ الى أن قال ـ ولا يبعد أن يكون ما بعد العاشرة محتملا » ومقتضى كلامه الامتناع فيما دون العشر ، وهو كذلك تمسكا بمقتضى العادة ، وأما ما تجاوز العشر فالظاهر فيه الإمكان ، فيحكم بالبلوغ مع تحقق الاحتلام فيه ، عملا بعموم الأدلة فيما لم يثبت امتناعه ، بل فيما دل على تحديد السن في الذكور بعشر سنين تنبيه عليه ، وكذا ما دل على التفريق بينهم في المضاجع بعشر.

نحو‌ خبر القداح (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « يفرق بين الغلمان والنساء في المضاجع إذا بلغوا عشر سنين » وخبره (٢) عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « الصبي والصبية يفرق بينهم في المضاجع بعشر سنين » ويؤيد ذلك ما عن الآبي في شرح النافع « كل رواية دلت على البلوغ فيما بين الخمسة عشر والعشر محمولة على ما إذا كان الغلام قد احتلم أو أنبت شعر العانة ، توفيقا بين الروايات ، ولأن الاحتلام في تلك السنين قد يقع كثيرا ، ولقد شاهدنا من احتلم في ثلاث عشر سنته واثنتي عشر سنته ».

وقال بعض الأفاضل « ينبغي القطع بالإمكان في الثلاثة عشر فما فوقها لقضاء العادة بالاحتلام في ذلك غالبا ولما رواه‌ المشايخ عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ( إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) ثلاث عشرة سنة ودخل في الأربع عشرة وجب عليه ما وجب على المحتلمين ، احتلم أو لم يحتلم » (٣).

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧٤ ـ من أبواب أحكام الأولاد الحديث ٦.

(٢) الوسائل الباب ـ ٧٤ ـ من أبواب أحكام الأولاد الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث ـ ٣.

١٣

و‌عن عيسى بن زيد (١) عنه أيضا « قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يثغر الصبي لسبع سنين ، ويؤمر بالصلاة لتسع ، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر ، ويحتلم لأربع عشرة » قلت على كل حال : لم يظهر له فائدة في الأنثى بناء على عدم الحكم به الا بعد التسع ومع فرض العلم بها لم يحتج اليه نعم قد يقال : إن الفائدة تظهر في مجهوله السن ، فإنه إذا خرج المني منها حكم ببلوغها ، وإن لم يعلم قدر سنها ، وكذا في الغلام ، ونظير ذلك قدمناه في باب الحيض ، فلاحظ لكن عليه يكون خروج المني من الأنثى دليلا على البلوغ كالحيض ، لا بلوغا في نفسه ، وهو خلاف كلمات الأصحاب فتأمل.

ثم لا يخفى عليك عدم العبرة بأوصاف المني بعد العلم به ، أما إذا اشتبه فالوجه الرجوع إليها ، لإناطة الحكم بالجنابة ووجوب الغسل بها مع انتفاء العلم ، والسبب فيها منحصر في الوطء وإنزال المني اتفاقا ، فإذا انتفى الأول تعين الثاني ، ويحتمل العدم لان اعتبارها فيهما لا يستلزم اعتبارها في البلوغ ، لجواز تقدم الأسباب عليه ، ولا يثبت بها ، لكنه مبني على إمكان خروج المني قبل البلوغ ، وفيه بحث بل منع ، لأن الظاهر عدم تكونه إلا حال وصول الطفل إلى حد البلوغ ، كما يومئ إليه إطلاق ما دل على أن خروجه علامة البلوغ من النصوص السابقة وغيرها ، ومن ذلك يعرف ما في الكلام السابق ـ من اعتبار الإمكان في خروج المني احترازا من خروجه في غير زمن الإمكان ، كما إذا كان السن خمسا أو أربعا ـ من النظر والتأمل اللهم إلا أن يراد الحكم بكونه غير مني ، وان جمع صفاته نحو الدم الخارج من الجارية قبل التسع ، فإنه ليس بحيض وإن جمع وصفه ، لا أن المراد عدم العبرة به وإن كان منيا ظاهرا وواقعا ، حتى يستلزم إمكان خروجه من غير البالغ فتأمل والله اعلم.

وكيف كان فلا خلاف بيننا في أنه يشترك في هذين العلامتين الذكور والإناث وقد عرفت الحال في الأولى ، وأما الثانية فقد نص على التسوية المزبورة غير واحد بل في التذكرة « الاحتلام خروج المني ، وهو الماء الدافق الذي يخلق منه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧٤ ـ من أبواب أحكام الأولاد الحديث ـ ٥ ـ لكن عن أبي عبد الله عليه‌السلام بلا نسبة الى أمير المؤمنين (ع).

١٤

الولد ، بلوغ في الرجل والمرأة عند علمائنا أجمع ، ولا نعلم فيه خلافا في الذكور ، وهو في النساء كذلك ، وللشافعي قول ـ بأن خروج المني من النساء لا يوجب بلوغهن لأنه نادر فيهن ـ ساقط العبرة قال : وإطباق أكثر العلماء على خلاف هذا » وفي المسالك في شرح المتن « هذا عندنا وعند الأكثر موضع وفاق ، » وإنما نبه به على خلاف الشافعي ـ إلى أن قال ـ وفساده واضح ».

قلت : قد يلوح ـ من الفقيه ، ووصايا النهاية ، وصوم المبسوط ، وباب الأوصياء من المهذب ، ونكاح الوسيلة ، وخمسها ، ونوادر القضاء من السرائر ، موافقة الشافعي ، أو يظهر ، خصوصا في بعضها لكن ما ذكره من الندرة فيهن وانه لا يحصل إلا بعد العلم ببلوغ التسع جعل للاقتصار عليه في الرجال وجها وجيها ، بل ولبعض النصوص المقتصر فيه على كونه علامة للرجال ، بل الفقيه الماهر يقطع بكون النص والفتوى مبنيين على ذلك ، خصوصا بعد معروفية ذكر الحمل في كلامهم علامة على سبق البلوغ بالإنزال ، وخصوصا بعد تصريح الشيخ وابني حمزة وإدريس في مقام آخر بالاشتراك.

فإجماع التذكرة مما يشهد التتبع مع التأمل بصحته ، فهو الحجة مضافا إلى عموم (١) ( وَابْتَلُوا ) إلى آخره ، و‌ « لا يتم بعد احتلام » (٢) وأصالة الاشتراك في الاحكام ما لم يثبت خلافه ، وما عرفت من أن البلوغ حال طبيعي ينبعث عنها ذلك من غير فرق بين الرجال والنساء ، كما هو المشاهد في العرف ، وإلى ما عن الشيخ والفاضل من أنهما استدلا عليه بما‌ روي (٣) ، من أن أم سلمة « سألته عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل ، فقال : إذا رأت ذلك فلتغتسل ، » ولكنه مبني على استفادة الفورية المقتضية لثبوت التكليف المشروط بالبلوغ ، والا فسببية الاحتلام للغسل بناء على حصوله من الصغير لا ينافي عدم البلوغ حال وجود السبب ، كما في الحدث الأصغر والأمر سهل‌

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ٦.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ـ ٩.

(٣) سنن البيهقي ج ـ ١ ـ ص ـ ١٢٧.

١٥

بعد قطعية الحكم ، والله أعلم.

وكذا يعلم البلوغ شرعا ان لم يكن عرفا بالسن : وهو بلوغ خمس عشرة سنة للذكر على المشهور بين الأصحاب في المقام شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا ، كما اعترف بذلك في المسالك ، بل نقلها مستفيض أو متواتر كالإجماع صريحا وظاهرا على ما في مفتاح الكرامة حيث قال : « كادت تبلغ إجماعات المسألة : اثنى عشر إجماعا من صريح وظاهر ومشعر به ، بل هو معلوم ».

وربما يشهد له التتبع ، بل ربما يزيد على ذلك مع إطلاق الإشعار لأنه كما حكاه العلامة الطباطبائي عن صريح الغنية ، والظاهر كالنص عن الخلاف والتذكرة ، وظاهر مجمع البيان ، وكنز العرفان ، وكنز الفوائد ، والمسالك ، والمسالك الجوادية ، وتلويح المنتهى ، وكشف الرموز ، وتلخيص الخلاف ، ونقد الشرائع ، وقضية انحصار المخالف في ابن الجنيد على ما يظهر من المختلف والمهذب البارع وشرح الشرائع وغوالي اللئالي ، وهو مع أنه معلوم النسب لا يقدح في الإجماع ، خصوصا مع ضعف مأخذه وشدة وهنه وشذوذه ، على أنه لو تطرق المنع إلى الإجماع من خلافه وخلاف بعض متأخري المتأخرين فلا ارتياب في تحققه فيما بينهما حيث ارتفع الخلاف من زمن ابن زهرة إلى زمن ثاني الشهيدين ، كما تشهد به تصانيفهم المضبوطة ، بل قطع بعضهم بالحكم ولم يعتد بخلافه فحكى الإجماع بل نفى الخلاف.

فلا ينبغي للفقيه التردد بعد ذلك في فساد قوله ، بل وما حدث في هذه الأزمنة المتأخرة خصوصا بعد ملاحظة غير ذلك من الأدلة من الاستصحاب ، فإن الأصل عدم البلوغ والتكليف ، وبقاء الحجر والولاية ما لم يعلم الناقل عنه ، ولا يعلم إلا بإكمال الخمسة عشر فيكون بلوغا دون ما قبله ، ولا وجه للمناقشة في الاستصحاب هنا ، بعد كون المطلوب منه إثبات الحكم ، إذ المشتبه حكم السن المعلوم ، لا أصل السن المعلوم الحكم ، ضرورة اقتضاء الاستصحاب فيه نفي الأكثر ، فالموضوع والحكم هنا متعاكسان في الاستصحاب ، فلو علم سن البلوغ ولم يعلم بلوغ ذلك السن فمقتضى الاستصحاب نفي الأكثر ، بخلاف ما لو بلغ سنا ، ولم يعلم أنه بلوغ فإن الأصل عدم البلوغ ، كما‌

١٦

عرفت ، ومقتضاه نفي الأقل.

اللهم إلا أن يقال كما أومأنا إليه سابقا أن البلوغ شرعا هو بلوغ الحلم ، فيكون حالة طبيعية مخصوصة في الإنسان ، بل مطلق الحيوان وجميع ما ذكر علامة له ، فهو كاشف عن الوصول إليها حتى السن ، فيكون المشتبه حينئذ الموضوع ، والمنفي بالاستصحاب الأقل ، إذ الأصل عدم بلوغ الحد الكاشف : لكنه خلاف ما عليه الأصحاب من أن السن بلوغ في الشرع ، وإن كانت العلة فيه كشفه عن غيره ، ومتى كان كذلك فالمشتبه الحكم دون الموضوع ، وموضوعية البلوغ لبعض الاحكام لا ينافي كونه حكما ، لأن الحكم قد يكون موضوعا لحكم آخر ، ولا استحالة في ذلك ، مع اختلاف الجهة ، ومثله كثير.

فالاستصحاب بجميع وجوهه المذكورة حينئذ حجة في المسألة ، وإن كان ألصقها بالمدعى ، وأغناها عن الضمائم استصحاب عدم البلوغ ، فإنه نفي صريح ، والمطلوب منه عين المستصحب دون لازمه ، والتمسك به لا يتوقف على ضميمة عدم القول بالفصل ونحوه ، على أنه من الأمور القارة الثابتة كغيره ، وإضافته إلى ما يرجع إلى الزمان لا يخرجه عن القرار ، فمعنى أصل عدم البلوغ أن الأصل عدم حضور زمان البلوغ ، لإبقاء زمان عدم البلوغ ، واستصحاب غير القار إنما يلزم لو أريد الثاني ، دون الأول.

وقد يتمسك بأصل البراءة من التكليف على المطلوب ، لا لكونه حادثا منفيا بأصل العدم لرجوعه إلى الاستصحاب ، ولا للأصل الشرعي المستفاد من نحو‌ قولهم (١) « كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي » (٢) و « الناس في سعة ما لم يعلموا » وغيرهما ، فإن المفهوم من ذلك سقوط التكليف كما يظهر بالتدبر ، بل لأن التكليف فرع البيان وهو مفقود في محل النزاع ، ودعوى ـ وجود البيان وهو الخطاب العام الصالح لكل مميز ـ يدفعها أنه مشروط بالبلوغ ، ولم يثبت قبل إكمال الخمسة عشر اللهم إلا أن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صفات القاضي الحديث ـ ٦٠.

(٢) لم نقف على هذا النص بعد الفحص عنه في مظانه والذي وقفنا عليه مما يوافقه في المعنى وان يحتمل اختصاصه بمورده وهي رواية السفرة المروية في الوسائل في الباب ٢٣ من أبواب اللقطة الحديث ١.

١٧

يمنع الشرطية على وجه ينافي الاستدلال بالعمومات في المجهول ، وفيه بحث ذكرناه في غير المقام.

والأمر سهل بعد الغنية عن ذلك بما سمعته أولا ، ومضافا إلى ظاهر الكتاب كقوله تعالى (١) ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) ضرورة دلالته بمفهومه على انتفاء الحكم بالدفع المشروط بإيناس الرشد بانتفاء بلوغ النكاح ، فهو متناول لاسنان التمييز وحدود الابتلاء التي هي في الغالب من العشر إلى الخمسة عشر ، وأحقها بالدخول سن الاحتلام ، وتوقع بلوغ النكاح وهي من الثانية عشر إلى السادسة عشر ، إلا أن الإجماع على خروجها ، فيتعين كون الخمسة عشر هي البلوغ بحسب السن.

وربما نوقش : بأن « إذا » قد تخرج عن الظرفية فلا تكون شرطا ، ومنه المقام فإن المراد وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغ النكاح ، وحينئذ فلا دلالة فيها على الاشتراط المزبور ، ويدفعه : بعد تسليم خروجها عن الظرفية أنه نادر جدا لا يحمل عليه التنزيل بل يقتضي انقطاع الابتلاء بالبلوغ ، وليس كذلك كما ستعرف ، لاستمراره إلى ظهور الرشد أو اليأس منه ، بل ذلك مع ظهور كون المراد إيناس الرشد المسبب عن الابتلاء المأمور به السابق على البلوغ.

ومقتضى ذلك الحجر على البالغ الرشيد إذا لم يونس منه رشد قبل البلوغ ، وارتفاعه عمن لم يبلغ إذا أونس منه الرشد ، لانتفاء الشرط في الأول ووجوده في الثاني ، إذ المراد بالأمر بالابتلاء إلى بلوغ النكاح حصوله قبله ، لا استمراره إليه ، لأن الابتلاء متى وجد وتبين به الحال لم يتكرر ، فالمرة تكفي في هذا الأمر ، ولو بنى الكلام في الشرط على خلاف الظاهر ، فإما أن يراد به إيناس الرشد مطلقا ، أو إيناسه بعد البلوغ ، ويلزم على الأول جواز دفع المال إلى غير البالغ إذا ابتلي وأونس منه الرشد ، وإهماله بدونه إلى أن يظهر الرشد بنفسه وإن طال الزمان وسهل الاختبار وأما الثاني فمع حصول المطلوب يلزمه جواز الإهمال ، كما في الأول.

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ٦.

١٨

فبان من ذلك كله أن « إذا » في الآية ظرف على الأصل فيه ، وأن الكلام لا ينظم إلا به ، والمعنى لا يستقيم بدونه فسقط احتمال خروجها عن الظرفية.

نعم على الظرفية يحتمل الخروج عن الشرطية بتقدير العامل ، ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ) نظرتم ، أو ابتلوهم حتى تنظروا في وقت بلوغهم النكاح ، ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ).

وهذا وإن صح ، وصح الاستدلال به ، غير أنه يستدعي تقديرا في الكلام ، وخروجا عن الظاهر في « إذا » من تضمنها معنى الشرط في الغالب.

ومن هنا قال الفاضل الطباطبائي : « الأصوب أن تكون إذا للشرط كما هو الأصل فيها ، وجوابها مجموع الشرط والجزاء ، وهو قوله ( فَإِنْ آنَسْتُمْ ) وحتى حرف ابتداء وغايتها مضمون الجملة التي بعدها ، وهو دفع المال عقيب إيناس الرشد الواقع عقيب بلوغ النكاح ، وإنما كان كذلك ، لأن دفع المال في الآية مشروط بايناس الرشد ، فيكون مؤخرا عنه ، وهذا الدفع المشروط بالايناس مشروط بالبلوغ فيكون المشروط بشرطه المتقدم عليه متأخرا عن البلوغ الذي هو شرط فيه ، وترتب الشروط بحسب الوقوع ، ترتيبها في الذكر ، فإنها في الآية قد وقعت على التوالي ، ولو تعاكست كان الشرط المتقدم في الذكر مؤخرا في الوجود ، والمؤخر في الذكر مقدما في الوجود ، فلو أردت نقل المضمون إليه قلت : « ادفعوا إليهم أموالهم أن رشدوا إن بلغوا » ولا يصح إن بلغوا إن رشدوا ، لأنه يقتضي أن يكون الرشد شرطا في البلوغ والأمر بالعكس ، ومن ثم لو قال قائل لله علي نذر إن شربت إن أكلت ، فأكل ثم شرب التزم ، بخلاف ما لو شرب ثم أكل ، ولو عكس انعكس ».

قلت : هو جيد لكن قد يقال : المنساق من الآية أنهما معا شرطان مستقلان في الدفع ، لا أن أحدهما شرط في الأخر كالمثال الذي ضربه فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فالمناقشة المزبورة واضحة الدفع ، كالمناقشة في أصل حجية مفهوم الشرط ، وفي عمومه ، وفي خصوص « إذا » من أدواته بل وغيرها مما هو ليس بعريق في الشرطية ، بخلاف « إن » وبأنه لو سلم ذلك كله ، فإنما يقتضي المفهوم عدم وجوب‌

١٩

الدفع ، لا حرمته ، ضرورة اندفاع الأولى ، بل والثانية بما حررناه في الأصول ، والعرف أعدل شاهد به.

والثالثة : بأنه لا فرق بين إن ، وغيرها من أدوات الشرط ، لابتناء العموم ، على أن الاختصاص بمورد الشرط يقتضي الانتفاء في غيره فيعم ، وليس الحكم في المنطوق بعموم الإثبات ، ليكون المفهوم سلب العموم ، بل بنفس الإثبات في محل النطق ، ومفهومه السلب عما عداه ، ويلزمه عموم السلب ، وهذا المعنى لا يتفاوت في الأدوات كأصل المفهوم ، وكلمات الأصحاب في الأصول والفروع شاهدة بذلك ، وأنه لا فرق بينها جميعها في ذلك كله.

واما الرابعة : فواضحة بناء على أن المفهوم في الشرط النهي كما يقتضيه كلام بعضهم ، ومال إليه العلامة الطباطبائي ، وربما يشهد له العرف بل وإن لم نقل بذلك وكان المراد من الأمر هنا رفع الحجر المفهوم من قوله (١) ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) إلى آخره بل وإن لم يكن المراد منه ذلك ، لكن المقام منحصر بين الوجوب والحرمة إذ الخطاب للأولياء ، والدفع إما أن يجب عليهم أو يحرم ، ولا ثالث لهما ، فتكون الحرمة حينئذ من لوازم عدم الوجوب هنا والله أعلم.

وكذا المناقشة : بأن الاستدلال في الآية انما يتم لو أريد ببلوغ النكاح حصول الإنزال ، أو صلاحية خصوص الشخص لأن ينزل بالوطي ونحوه ، وهو غير متعين ، لاحتمال كون المراد بلوغ وقت الصلاحية للنكاح صلاحية نوعية وإن تخلفت عن خصوص الشخص ، وهذا المعنى حاصل فيمن كان سنه أربعة عشر وثلاثة عشر فلا دلالة في الآية على نفي البلوغ بهما.

إذ يدفعها أولا : أن بلوغ النكاح عرفا هو أن يبلغ الصبي ويدرك ، وهو غير بلوغ زمان النكاح ، لصحة سلب الأول عمن ثبت له الثاني ، وأقل ما يصدق معه ذلك صلاحية الشخص لأن ينكح ، وأما مجرد القابلية النوعية فلا يتحقق معه الصدق عرفا.

وثانيا : أنه لو أريد الزمان فالظاهر إرادة الوقت الذي يغلب فيه ذلك ويكثر‌

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ٥.

٢٠