جواهر الكلام - ج ٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

١

ِبسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

( الثالث ) في ( ما يستقبل له )

ويجب الاستقبال شرعا ولو لأنه شرط في فرائض الصلاة مع الإمكان بلا خلاف بين المسلمين ، بل هو مجمع عليه بينهم إن لم يكن ضروريا عندهم ، والكتاب (١) كالمتواتر من النصوص (٢) دال عليه ، بل قد يندرج فيها ما وجب بالعارض من النفل بنذر ونحوه في وجه ، كما أنه يندرج في النفل ما كان واجبا بالأصل ثم صار ندبا كصلاة العيد ، فيجري حينئذ فيه ما تسمعه من وجوب الاستقبال فيه وعدمه ، نعم قد يستثنى من ذلك الفريضة المعادة للاحتياط ندبا ، أو لتحصيل فضيلة الجماعة باعتبار مدخلية الاستقبال في موضوع حكم النفل ، ضرورة عدم حصول الإعادة والتدارك الذي شرع الاحتياط له بدون الاستقبال وغيره من أحكام الفريضة ، ولا فرق في الفرائض بين اليومية وغيرها حتى صلاة الجنازة والأدائية والقضائية والسفرية والحضرية ، كما أن الظاهر إلحاق ركعات الاحتياط والأجزاء المنسية بها ، بل يقوى إلحاق سجدتي السهو‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٣٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ١ من أبواب القبلة.

٢

كما تسمعه في محله ان شاء الله.

وتسمع وجوب الاستقبال بالمذبوح والمنحور عند الذبح والنحر مع الإمكان في محله أيضا إن شاء الله. وأما وجوبه بالميت عند احتضاره ودفنه فقد تقدم الكلام فيه وفي كيفيته ، ويأتي وجوبه عند الصلاة عليه قال في المهذب هنا بعد أن ذكر الوجوب في أحواله الثلاثة من غير ذكر خلاف : « ويختلف استقباله باختلاف حالاته ، ففي الاحتضار يكون مستلقيا ، وظاهر رأسه مستدبرا ، ووجهه وباطن قدميه مستقبلا ، وفي حال الصلاة يكون مستلقيا أيضا ، ورأسه الى المغرب ، ومقدم جنبه الأيمن مستقبلا ، وفي حال دفنه يكون مضطجعا ، رأسه الى المغرب ، ووجهه وبطنه ومقاديم بدنه الى القبلة ، ومستند هذا التفصيل نصوص الطائفة وعملهم عليه » انتهى.

( وأما النوافل فـ ) لا يشترط في صحتها ذلك ، نعم الأفضل استقبال القبلة بها فيجوز حينئذ فعلها لغير القبلة اختيارا مطلقا ، وفاقا للمحكي عن ابن حمزة ، وللفاضل في الإرشاد وعن التلخيص وأبي العباس في المهذب وعن الموجز وكشف الالتباس ومجمع البرهان ، بل ربما نقل أيضا عن علم الهدى والشيخ في الخلاف ، بل في مكان المصلي من الذكرى نسبته الى كثير ، للأصل والنقل المستفيض كما اعترف به غير واحد أن قوله تعالى (١) ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) نزل في النافلة ، فإطلاقه حينئذ حجة على المطلوب ، وما عرفته سابقا من استحباب التنفل في الكعبة مع النهي عن الفريضة للاستدبار ، وكلما دل على عدم اشتراطه للراكب والماشي من غير ضرورة مما ستعرفه من النصوص (٢) لاشتراك الجميع في الاختيار ، وأولوية المقام بالصحة ، للاستقرار ، ومعلومية عدم‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٠٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ١٥ و ١٦ من أبواب القبلة.

٣

وجوب حمل المطلق على المقيد في المندوبات ، بل يحمل على الندب في الندب ، فينزل حينئذ ما ظاهره الاشتراط لو كان على ذلك ، ويبقى الإطلاق سليما ، وظهور‌ المروي (١) عن مسائل علي بن جعفر في كراهية الالتفات في النافلة المستلزم لعدم وجوب الاستقبال « سأل أخاه عن الرجل يلتفت في صلاته هل يقطع ذلك صلاته؟ فقال : إذا كانت الفريضة والتفت الى خلفه فقد قطع صلاته ، وإن كانت نافلة لم يقطع ذلك صلاته ولكن لا يعود » ولامتناع ندب الفعل ووجوب الكيفية.

وفي الجميع نظر ، ومن هنا كان المشهور نقلا وتحصيلا الاشتراط إلا فيما استثني مما ستعرف ، بل قيل إنه المصرح به في جميع كتب الأصحاب إلا ما قل ، بل يمكن إرادة ما لا ينافي ذلك من عبارة المصنف وما ضاهاها التي هي أظهر ما نسب إليها الخلاف بدعوى حملها على بيان أفضلية الصنف من غيره مما رخص فيه بعدم الاستقبال كالصلاة على الراحلة وما شيئا وغيرهما ، لا أنه أفضل من الصلاة مستقرا مستدبرا كي يقتضي الجواز حينئذ ، وكذا قوله فيما بعد : « والى غير القبلة » أو يكون معطوفا على ما قبله على معنى إرادة بيان جواز فعل النافلة على الراحلة سفرا وحضرا وإلى غير القبلة ، ولعله لذا قال المحقق الثاني في حاشية الكتاب يلوح من المصنف عدم الاشتراط ، ولم يجعله صريحا ولا ظاهرا.

وكيف كان فقد يستدل للمطلوب بالتأسي بناء على عدم اشتراط معرفة الوجه في تحققه ، أو على عدم اعتبار معرفة شرطية الكيفية وعدمها في حصول معناه لو سلم اشتراط معرفة الوجه في أصل الفعل في حصوله ، ضرورة صدق الفعل مثل فعله وان لم تعلم الشرطية المزبورة ، نعم قد يشكل الاستدلال به بالإطلاقات المقتضية لجواز غير ما فعله من الكيفية ، بناء على ما هو التحقيق من عدم إجمالها بالنسبة الى ذلك وغيره‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٣ من أبواب قواطع الصلاة الحديث ٧.

٤

مما شك في اشتراطه ، اللهم إلا أن يشك ولو من الشهرة السابقة وما تسمعه في شمول المراد منها لذلك كما ذكرناه سابقا في الصلاة الواجبة ، فحينئذ يتم الاستدلال عليه أيضا مع قطع النظر عن التأسي بتوقيفية العبادة ، وأن الأصل فيها الفساد إلا ما ثبت ، بل قد يستدل عليه مع قطع النظر عنهما بقوله (ص) : « صلوا كما رأيتموني أصلي » بناء على تناوله للفرض والنفل ، وإيجاب المساواة في الكيفية لو فعل لا ينافي الندب في الأصل ، فيكون الأمر حينئذ مستعملا في الوجوب الشرعي خاصة لا الأعم منه والشرطي كي يكون مجازا ، إذ ليس وجوب الفريضة مستفادا من هذا الأمر ، بل المستفاد منه وجوب المساواة التي ينافيها المخالفة في الكيفية لا الترك أصلا ، ودعوى أن إطلاق وجوب المساواة يقتضي وجوب الفعل مقدمة لتحصيلها ، ولا يتم إلا في الفريضة يدفعها الفهم العرفي من هذه العبارة ، ونحوها ما سمعته ، ومن ذلك يعرف الجواب عن الأخير ، على أنه من المعلوم عدم التنافي بين الوجوب المزبور والندب عقلا ولا شرعا ، قال في جامع المقاصد بعد ذكره ذلك دليلا للخصم وجوابه : إن الوجوب هنا يراد به أحد الأمرين ، إما كونه شرطا للشرعية مجازا ، لمشاركته الواجب في كونه لا بد منه ، فمع المخالفة يأثم بفعل النافلة الى غير القبلة ، أو كون وجوبه مشروطا بمعنى أنه ان فعل النافلة وجب فعلها النافلة الى غير القبلة ، أو كون وجوبه مشروطا بمعنى أنه ان فعل النافلة وجب فعلها إلى القبلة ، فمع المخالفة يأثم بترك الاستقبال ويفعلها الى غير القبلة معا ، وهذا المعنى يثبت على دلالة‌ قوله (ص) : « صلوا كما رأيتموني أصلي » على وجوب الاستقبال ، وإلا فالمعنى الأول ، وفي بعض كلامه نوع تأمل ، لكن الأمر سهل بعد ما عرفت.

وقد يستدل أيضا بعموم قوله تعالى (١) ( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٤٥.

٥

الذي لا ينافيه خروج البعض الدليل ، نعم قد يشكل بظهور قول أبي جعفر (ع) في‌ صحيح زرارة (١) في أنها مختصة في الفريضة قال : « استقبل القبلة بوجهك ، ولا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك ، فان الله عز وجل يقول لنبيه (ص) في الفريضة : ( فَوَلِّ وَجْهَكَ ). الى آخره » بل الظاهر أيضا عدم الدلالة في الأمر بالاستقبال والنهي عن القلب في صدره لإرادة الفريضة من الصلاة فيه بقرينة الاستدلال ، وإمكان عموم الدعوى وخصوص الدليل تجشم ، كما انه قد يقال بإرادة الفريضة من‌ قوله (ع) في صحيحه (٢) أيضا : « لا صلاة إلا الى القبلة » لقوله فيه : « قلت فمن صلى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت قال : يعيد » لكن الإنصاف انه لا صلاحية فيه ، خصوصا بعد كونه من السائل لصرف الظهور المستفاد من النكرة بعد « لا » النافية للجنس التي هي كالنص في إفادة العموم ، فدلالة هذا الصحيح على المطلوب لا ينبغي إنكارها ، بل يمكن دعوى دلالة‌ قوله (ع) أيضا في صحيحه (٣) أيضا : « لا تعاد الصلاة إلا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود » وذكر الوقت فيه مع أن من النوافل ما هو موقت أيضا بحيث لو صلى قبل الوقت مثلا أعيد لا يصلح قرينة لإرادة الفريضة ، ضرورة كون المراد منه حينئذ والوقت فيما اعتبر الوقت فيه من الصلاة ، ولا يأتي مثله في القبلة ، لعدم معلومية كون محل النزاع مما لا يعتبر فيه القبلة من الصلاة ، بل من ذلك يظهر دلالة جملة من النصوص التي تدل بها على اشتراط القبلة في الفريضة ، وعلى أن الالتفات في الأثناء يبطلها ، للتعبير بلفظ الصلاة الشاملة للنافلة لا الفريضة في أكثرها ، وذكر بعض خواص الفريضة فيها كالوقت ونحوه لا يصلح مقيدا لذلك فلاحظ وتأمل.

بل مفهوم‌ قول الصادق (ع) (٤) كما عن تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : ( فَأَيْنَما

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٩ من أبواب القبلة الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ٩ من أبواب القبلة الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ٩ من أبواب القبلة الحديث ١.

(٤) البحار ـ ج ١٨ ـ ص ١٤٧ من طبعة الكمباني.

٦

تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) : « انها نزلت في صلاة النافلة فصلها حيث توجهت إذا كنت في سفر » ظاهر في المطلوب أيضا ، كالمروي (١) في الوسائل عن نهاية الشيخ عن الصادق (ع) في قوله تعالى ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا ) ، الى آخره « هذا في النوافل خاصة في حال السفر ، فأما الفرائض فلا بد فيها من استقبال القبلة » وفيها أيضا عن‌ مجمع البيان (٢) عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام في قوله تعالى ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا ) الى آخره « انها ليست بمنسوخة وانها مخصوصة بالنوافل في حال السفر » بل منها يظهر عدم كون المراد الإطلاق من النقل المستفيض انها نزلت في النوافل ، خصوصا ولم يكن مساقا لبيان ذلك ، بل المراد من الآية عند التأمل ولو بمعونة النصوص أنه أينما تؤمروا بأن تولوا وجوهكم فثم وجه الله من غير فرق بين بيت المقدس والكعبة وغيرهما ، إذ العمدة الأمر ، فتعيير اليهود للمسلمين وسؤالهم أنه ما ولا هم عن قبلتهم في غير محله ، وربما فسرت الآية بذلك من غير ذلك للنوافل ، وعلى كل حال من ذلك يعرف ما في استدلال الخصم بالنقل المستفيض في معنى الآية ، بل في كشف اللثام أنه يجوز أن يكون لجواز الاستدبار في النوافل لأدنى حاجة ، فتختص بالسائر في حاجته أو ماشيا ، وبه يفرق عن المستقر ، فلا ريب حينئذ في ضعفه كسابقه الذي هو بعد تسليمه يقطعه أدنى دليل ، بل ولاحقه ، بناء على ما سمعته منا سابقا من صحة الفريضة في جوف الكعبة ، فلا جهة حينئذ للاستدلال المزبور ، بل وعلى غيره أيضا ، إذ هو انما يعطي جواز استدبار بعض القبلة ، والتتميم بعدم القول بالفصل كما ترى ، وليس بأولى من القول يكون التعدي عن ذلك قياسا محرما ، بل ومع الفارق كالاستدلال بحكم الماشي والراكب الذين من الواضح الفرق بينهما وبين المقام ، خصوصا والمراد بحسب الظاهر التنفل في حال المشي في حاجة مثلا والركوب كذلك لا المشي والركوب لفعل النافلة ، ولعله الى ذلك أومأ في كشف اللثام بما سمعته سابقا منه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب القبلة الحديث ١٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب القبلة الحديث ١٨.

٧

وأما الاستدلال بقاعدة الإطلاق والتقييد في المندوبات ففيه أنه بعد تسليمها حتى في مثل المقام الذي هو من بيان الكيفية ولم يعلم استحباب المطلق فيه وإن لم يكن بعنوان الخصوصية يجب الخروج عنها هنا بما عرفته مما هو موافق لفتاوى الأصحاب عدا النادر ، وخبر المسائل (١) مع احتماله السهو وعدم الجابر له لا يستلزم جواز الترك ابتداء قطعا

ومن ذلك كله ظهر لك وجه النظر في الأدلة المزبورة ، كما انه ظهر لك شدة ضعف القول بالندب ، خصوصا مع ملاحظة المعلوم من حال المتشرعة من شدة الإنكار على الصلاة الى غير القبلة مع الاختيار والاستقرار ، بل هو الفارق عندهم بين الإسلام والكفر

نعم قد يستثنى من ذلك النافلة حيث تجوز راكبا وماشيا ، فلا يشترط فيها الاستقبال حتى في تكبيرة الإحرام منها من غير فرق بين السفر والحضر ، لإطلاق النصوص (٢) المستفيضة في الأول ، سيما مع غلبة عدم التمكن من الاستقبال حال الصلاة عليها ، وخصوص‌ صحيح عبد الرحمن بن الحجاج (٣) « سأل أبا عبد الله (ع) عن الرجل يصلي النوافل في الأمصار وهو على دابته حيث ما توجهت به قال : لا بأس » وخبر إبراهيم الكرخي (٤) عن أبي عبد الله (ع) قال له : « اني أقدر أن أتوجه نحو القبلة في المحمل فقال : ما هذا الضيق ، أما لكم في رسول الله (ص) أسوة » وخبر الحلبي (٥) « سأل أبا عبد الله (ع) عن صلاة النافلة على البعير والدابة فقال : نعم حيث كان متوجها ، وكذلك فعل رسول الله (ص) » والمروي عن قرب الاسناد عن محمد ابن عيسى والحسن بن ظريف وعلي بن إسماعيل كلهم عن حماد بن عيسى (٦) قال :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٣ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب القبلة.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٥ من أبواب القبلة الحديث ١.

(٤) الفقيه ج ١ ص ٢٨٥ من طبعة النجف.

(٥) الوسائل الباب ـ ١٥ من أبواب القبلة الحديث ٦.

(٦) الوسائل الباب ١٥ من أبواب القبلة الحديث ٢٠.

٨

« سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : خرج رسول الله (ص) الى تبوك فكان يصلي صلاة الليل على راحلته حيث توجهت به ويومئ إيماء » وعن كشف الغمة نقلا من كتاب الدلائل لعبد الله بن جعفري الحميري عن فيض بن مطر (١) قال : « دخلت على أبي جعفر (ع) وأنا أريد أن أسأله عن صلاة الليل في المحمل قال : فابتدأني فقال : كان رسول الله (ص) يصلي على راحلته حيث توجهت به » وعن‌ تفسير العياشي عن حريز (٢) قال أبو جعفر (ع) : « أنزل الله هذه الآية في التطوع خاصة ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) إن الله تعالى واسع عليم ، وصلى رسول الله (ص) إيماء على راحلته أينما توجهت به حيث خرج الى خيبر وحين رجع من مكة وجعل الكعبة خلف ظهره » مضافا الى ما عن المعتبر والمنتهى من الإجماع عليه في حال السفر.

وأما الماشي فكذا يدل عليه إطلاق النصوص أيضا كقول الصادق عليه‌السلام في حسن معاوية بن عمار (٣) : « لا بأس أن يصلي الرجل صلاة الليل في السفر وهو يمشي ، ولا بأس إن فاتته صلاة الليل أن يقضيها بالنهار وهو يمشي يتوجه إلى القبلة ، ثم يمشي ويقرأ ، فإذا أراد أن يركع حول وجهه إلى القبلة وركع وسجد ثم مشى » وصحيح يعقوب بن شعيب (٤) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ـ الى أن قال ـ قلت : يصلي وهو يمشي قال : نعم يومئ إيماء ، وليجعل السجود أخفض من الركوع » ومرسل حرير (٥) عن أبي جعفر عليه‌السلام « انه كان لا يرى بأسا بأن يصلي الماشي وهو يمشي ولكن لا يسوق الإبل » والمروي في المعتبر نقلا من كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر عن حماد بن عثمان عن الحسين بن المختار (٦) عن أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب القبلة الحديث ٢٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب القبلة الحديث ٢٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ١٦ ـ من أبواب القبلة الحديث ـ ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ١٦ ـ من أبواب القبلة الحديث ـ ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ١٦ ـ من أبواب القبلة الحديث ـ ٥.

(٦) الوسائل ـ الباب ١٦ من أبواب القبلة الحديث ٦.

٩

« سألته عن الرجل يصلي وهو يمشي تطوعا قال : نعم » قال أحمد بن محمد بن أبي نصر : وسمعته أنا من الحسين بن المختار ، وعن المنتهى نسبة جواز التنفل له في السفر إلى علمائنا ، ولا ريب في اقتضاء إطلاق ما عدا الأول منها عدم الفرق بين السفر والحضر ، وبين الصلاة الى القبلة وعدمها ، بل صريح الأول الثاني فيما عدا التكبير والركوع والسجود ، مع انه لم يشترطه أصحابنا في الأخيرين ، وانما اشترطه الشافعي كما اعترف به بعضهم ، بل عن الخلاف الإجماع على استثنائه من اشتراط الاستقبال في غير التكبير ، فلا بد من حمل ذلك في الخبر المزبور على التقية أو الندب ، ولعل الثاني أولى ، خصوصا بعد حمل ذلك في التكبير عليه أيضا كما هو الأقوى ، تحكيما للإطلاقات المزبورة المعتضدة بإطلاق استثنائه من اشتراط القبلة في أكثر كتب الأصحاب ، وبالآية التي قد عرفت استفاضة النقل في نزولها في النافلة وغير ذلك مما سمعته سابقا في دعوى عدم الاشتراط مطلقا ، مضافا الى خلو بعض النصوص هنا المشتملة على بيان كيفية الصلاة ماشيا عن التعرض للاستقبال ، كخبر إبراهيم بن ميمون (١) وغيره (٢) والى موافقته للاعتبار كما أومأ إليه في المحكي عن المنتهى بقوله : إن التنفل محل الترخص ، فأبيحت هذه كغيرها طلبا للمداومة على فعل النافلة وكثرة التشاغل بالعبادة.

كما أنه يحمل ما في‌ صحيح عبد الرحمن (٣) المتضمن للأمر بالاستقبال للراكب في التكبير على ذلك أيضا ، قال فيه : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الصلاة في الليل في السفر في المحمل فقال : إذا كنت على غير القبلة فاستقبل القبلة ثم كبر وصل حيث ذهب بك بعيرك » الى آخره. ضرورة قصوره عن تقييد تلك الإطلاقات المعتضدة بكثير مما عرفته في الماشي ، بل وبغيره ، بل لا يخفى أولويته من الماشي بذلك ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٦ من أبواب القبلة الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ١٦ من أبواب القبلة الحديث ٣.

(٣) الوسائل الباب ١٥ من أبواب القبلة الحديث ١٣.

١٠

لقوة أدلته سندا ودلالة واعتضادا كما هو واضح ، بل ورد في السفينة التي قد جعل المحمل بمنزلتها في خبر ابن عذافر (١) الرخصة بتكبير النافلة الى غير القبلة ، ففي‌ خبر زرارة (٢) عن الصادق عليه‌السلام المروي عن تفسير العياشي « قلت : أتوجه نحوها ـ أي القبلة ـ في كل تكبير فقال : أما النافلة فلا ، انما يكبر الى غير القبلة ، ثم قال : كل ذلك قبلة للمتنفل ، أينما ( تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) » الى غير ذلك.

فما عساه يظهر من المحكي عن المبسوط والخلاف والجامع ـ من اشتراط الاستقبال بالتكبيرة للماشي ومنها ومن الاقتصاد والمصباح ومختصره والسرائر والجامع وابن فهد والنهاية من اشتراطه فيها للراكب ، بل عن ابن إدريس منهم نسبته إلى جماعة الأصحاب إلا من شذ للأصل ، والخبرين المزبورين ـ ضعيف جدا ، نعم هو أولى ، كما عن جمل العلم والعمل والمراسم التعبير بذلك في الراكب ، بل صريح المبسوط استحباب الاستقبال له في غير التكبير من الصلاة أيضا ، أما فيه فهو شرط عنده ، وان كان يمكن المناقشة فيه في الجملة بإطلاق الأخبار السابقة ، خصوصا المتضمنة لفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها الذي لا يفعل إلا الأفضل ، كما أومأ اليه خبر إبراهيم الكرخي السابق (٣) إلا أن الأمر سهل في الحكم الاستحبابي الذي يتسامح فيه.

وعلى كل حال فلا ريب في ضعف الاشتراط المزبور ، كضعف القول بعدم جواز أصل فعل النافلة للراكب والماشي حضرا ، كما عساه يظهر من المحكي عن ابن أبي عقيل والحلي وسلار ، بل هو ظاهر النافع والمحكي عن النهاية وجمل العلم والعمل ، ولعل المستند كما في الرياض إما الاقتصار فيما خالف الأصل ـ الدال على لزوم الصلاة الى القبلة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٤ من أبواب القبلة الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ١٣ من أبواب القبلة الحديث ١٧.

(٣) الفقيه ـ ج ١ ص ٢٨٥ من طبعة النجف.

١١

مطلقا ولو نافلة من العموم وتوقيفية العبادة ـ على المجمع عليه وهو السفر خاصة ، وفيه أنه أخص من الدعوى ، ولو أضاف إلى القبلة غيرها من الاستقرار ونحوه مما يعتبر في الصلاة ولو نافلة كان الدليل أتم ، ويجاب عنه حينئذ بأن الاقتصار على المتيقن غير لازم بعد النصوص الصحيحة المتقدمة الظاهرة في الجواز حضرا على الراحلة ، قيل ولا قائل بالفرق بينه وبين الماشي ، مضافا الى ما سمعته فيه أيضا مما يدل بإطلاقه عليه سفرا وحضرا ، وإما ظهور بعض الصحاح المتقدمة المرخصة لها فيه في التقييد بالسفر مؤيدا بجملة من النصوص الواردة في تفسير قوله تعالى ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) انه ورد في النافلة في السفر خاصة ، وفيه (١) انه غير مقاوم الأدلة الجواز ، خصوصا مع ضعف النصوص المفسرة سندا بل ودلالة ، إذ غايتها بيان ورود الآية فيه خاصة ، وهو لا يستلزم عدم المشروعية في غيره ، والصحيح غير صريح بل ولا ظاهر في التقييد إلا بالمفهوم الضعيف بورود القيد فيه مورد الغالب ، بل لو سلم وضوح الدلالة في الجميع لا ريب في رجحان أدلة الجواز عليها ، سيما بعد الاعتضاد بالشهرة العظيمة ، وإطلاق معاقد الإجماعات ، بل عن الخلاف الإجماع عليه في الحضر ، وغير ذلك مما لا يخفى على المتأمل ، بل يمكن إنكار ظهور الخلاف من جملة من العبارات بعدم إرادة تخصيص الرخصة فيما ذكروه من السفر ، كما أنه لا يراد خصوص الراحلة أو الركوب ممن ذكرهما ضرورة عموم الحكم لركوب غير الراحلة في السفر ، بل ولعدم الركوب فيه كالماشي أيضا.

فما عساه يتوهم من المتن لقوله ويجوز أن تصلى على الراحلة سفرا وحضرا وإلى غير القبلة على كراهية متأكدة في الحضر وغيره من الخلاف في النافلة ماشيا حتى‌

__________________

(١) علق القمشهي على النسخة الأصلية بأن الصحيح « ففيه » لأنه جواب « أما » بفتح الهمزة. وما ذكره غير صحيح لأن لفظة « إما » بكسر الهمزة لأنه معادل لقوله قدس‌سره « إما الاقتصار ».

١٢

في السفر الذي قد نسب جوازه في المحكي من المنتهى الى علمائنا في غير محله ، كما أنه لا ينبغي توهم اختلاف من اشترط الاستقبال من الأصحاب هنا لما وقع لهم من العبارات ، إذ المحكي عن ابن أبي عقيل استثناء الحرب والسفر على الراحلة ، وفي كشف اللثام وكذا جمل العلم والعمل والمراسم والنهاية والنافع والسرائر والجامع ، لكن ليس فيها الحرب ، وفي الأخيرين الإحرام بها مستقبلا ، وفي الأولين النص على أنه أولى ، قال : وعلي ابن بابويه استثنى الركوب ، والصدوق في المقنع الركوب في سفينة أو في محمل ، وظاهره السفر ، وابن فهد والنهاية ركوب سفينة أو راحلة بعد الاستقبال بالتحريمة ، والشيخ في الجمل والفاضل في التحرير ركوب الراحلة ، ولو لا ما في الخلاف والمنتهى ـ وسيأتي ـ من أنه يجوز التنفل على الراحلة حضرا جاز أن يستظهر منه السفر ، وفي الاقتصاد والمصباح ومختصره أيضا ركوب الراحلة واشتراط الإحرام مستقبلا ، وفي المبسوط والخلاف السفر على الراحلة أو ماشيا بعد الإحرام مستقبلا ، وكذا التذكرة لكن فيها النص على عدم اشتراط الاستقبال عند الإحرام أيضا ، وفي المختلف عن الشيخ استثناء الركوب والمشي سفرا وحضرا ، واختياره ، والذي رأيناه في كتب الشيخ جواز التنفل راكبا وماشيا سفرا وحضرا ، وفي الجامع استثناء المشي مطلقا بعد الاستقبال بأولها ، قلت : والظاهر أن مراده فيما رد به على المختلف انه لا تصريح في كلام الشيخ بالاستثناء حتى يكون قائلا بسقوط الاشتراط الاستقبال ، وحكمه بالجواز أعم من ذلك ، إذ لعله يعتبر الاستقبال معهما ، وفيه أولا انه لا قائل بجواز ذلك واشتراط الاستقبال في جميع الصلاة ، وثانيا حكى في مفتاح الكرامة انه قال في الخلاف بعد أن نقل الإجماع على جواز صلاة النافلة على الراحلة في غير السفر : « مسألة إذا صلى على الراحلة نافلة لا يلزمه أن يتوجه إلى جهة سيرها ، بل ، يتوجه كيف شاء ، لعموم الآية والأخبار ، وقال الشافعي : إذا لم يستقبله القبلة ولا جهة سيرها بطلت صلاته » ولو لا ما سلف له كما قيل من اعتبار الاستقبال في‌

١٣

التكبير أمكن حمل كلامه هذا على عدم اشتراط الاستقبال رأسا ، فيوافق ما حكاه في المختلف عنه كما انه يوافقه فيما عداها ، أو جعل هذا منه عدولا ، أو أن مراده بما سبق الفضل والاستحباب لا الشرطية كما هو محتمل المبسوط أيضا ، قال فيه على ما في المفتاح : « وأما النوافل فلا بأس أن يصليها على الراحلة في حال الاختيار ، وكذلك حال المشي ويستقبل القبلة ، فان لم يمكنه استقبل بتكبيرة الإحرام القبلة ، والباقي يصلي الى حيث تصير الراحلة ، ويتوجه إليه في مشيه ، فان كان راكبا منفردا وأمكنه أن يتوجه إلى القبلة كان ذلك هو الأفضل ، فان لم يفعل لم يكن عليه شي‌ء لأن الأخبار الواردة في جواز ذلك على عمومها ، هذا إذا لم يتمكن في حال كونه راكبا من استقبال القبلة ، فإن تمكن من ذلك بأن يكون في كنيسة واسعة يمكنه أن يدور فيها ويستقبل القبلة كان فعل ذلك أفضل » فتأمل جيدا.

وكيف كان فقد عرفت التحقيق على كل حال ، وهو الجواز للراكب والماشي سفرا وحضرا والى القبلة وغيرها في التكبير وغيره من غير فرق بين المحمل وغيره وبين البعير وغيره وبين كيفية الركوب والمشي المتعارفة وغيرها ، بل يمكن إدراج السفينة في إطلاق الركوب نصا وفتوى ، وإن أبيت فالظاهر الاتحاد في الحكم ، بل لعله أولى كما لا يخفى على من لاحظ ما قدمناه سابقا فيها ، وتوهم الخلاف ممن اقتصر في الرخصة على ما لا يشملها من العبارات السابقة وغيرها بعيد ، وعلى تقديره ضعيف ، وان كان لم نعثر على نصوص خاصة في النوافل في السفينة عدا‌ صحيح زرارة (١) « سأل أبا جعفر عليه‌السلام في الرجل يصلي النوافل في السفينة قال : يصلي نحو رأسها » وانما هو في الكيفية التي لا تستلزم الرخصة في الجواز مع الاختيار ، وعدا‌ خبره الآخر المروي (٢) عن تفسير العياشي « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الصلاة في السفر في السفينة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٣ من أبواب القبلة الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ١٣ من أبواب القبلة الحديث ١٧.

١٤

والمحمل سواء ، قال : النافلة كلها سواء تومئ إيماء أينما توجهت دابتك وسفينتك ، والفريضة تنزل لها عن المحمل إلى الأرض إلا من خوف ، فان خفت أومأت ، وأما السفينة فصل فيها قائما ـ الى أن قال ـ : فأتوجه نحوها في كل تكبير ، قال : أما النافلة فلا ، إنما يكبر على غير القبلة ـ ثم قال ـ : كل ذلك قبلة للمتنفل ، أينما ( تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) » وهو إن لم يكن كذلك فهو قريب منه ، على أنه غير معلوم الصحة سندا ، وعدا‌ مضمر سليمان ابن خالد (١) « يصلى النافلة وهو مستقبل صدر السفينة إذا كبر ثم لا يضره حيث دارت » وهو كذلك أيضا ، لكن النصوص (٢) المطلقة في الصلاة في السفينة قد سمعتها سابقا ، وعدم قولنا بمقتضاها في الفريضة للمعارض المتقدم لا يستلزم عدم القول به هنا ، بل فحوى نصوص (٣) التنفل راكبا وماشيا يكفي في ذلك ، خصوصا بعد ما في خبر ابن عذافر (٤) من جعل المحمل بمنزلة السفينة ، كما أنه يكفي فيه ما ورد (٥) من النصوص في تفسير قوله تعالى ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) انها في النافلة في السفرالشامل للسفينة المتمم بعدم القول بالفصل بينه وبين الحضر ، فضلا عما ورد (٦) من أنها في النافلة مطلقا ، وخروج غير ذلك عندنا بالأدلة السابقة التي لا تشمل الفرض لما سمعته ، لا أقل من الشك لا يقدح ، فتأمل.

نعم لا يبعد الاحتياط في مراعاة القبلة فيها مع الإمكان ، لاحتمال الفرق بينها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٤ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ١٠ وحذف ما يضر بالمعنى في الجواهر.

(٢) الوسائل الباب ١٣ من أبواب القبلة.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٥ و ١٦ من أبواب القبلة.

(٤) الوسائل الباب ١٤ من أبواب القبلة الحديث ٢.

(٥) الوسائل الباب ١٥ من أبواب القبلة الحديث ١٨ و ١٩ و ٢٢.

(٦) الوسائل الباب ١٣ من أبواب القبلة الحديث ١٧.

١٥

وبين الدابة في ذلك بالضيق وعدمه ، لا أنه لا تشرع النافلة فيها إلا مع تعذر الشرط كما قلناه في الفريضة وكيف وقد سبق ظهور كلمات جملة من الأصحاب في جواز ذلك في الفريضة فضلا عن النافلة كما تقدم البحث فيه مستوفى. فما عساه يلوح من الديلمي كما قيل من اشتراط ذلك في النافلة أيضا لا ريب في ضعفه ، بل وكذا ما عن المبسوط والنهاية من اشتراط جواز استقبال الصدر بما إذا لم يتمكن من استقبال القبلة فيها ، فتخالف الراحلة حينئذ من هذا الوجه ، نعم تساويها فيما نص الشيخ عليه من الجواز ، وإن أمكنه الخروج الى الجدد البري ، وعن الوسيلة « يجوز له أن يصلي النافلة في السفينة ، وإن راعى القبلة كان أفضل » ولعله بناه على ما سمعته من مذهبه من عدم اشتراط الاستقبال في النافلة مطلقا.

ثم لا يخفى أن الظاهر من كل من أطلق الاستثناء وصريح بعضهم إرادة سقوط الاشتراط في الأحوال المستثناة لا الانتقال الى بدل تجري عليه أحكام القبلة بحيث لو ترك استقباله بطلت صلاته وان كان الى القبلة في وجه ، أو ما لم يكن للقبلة ، وما في بعض العبارات أن قبلة الراكب طريقه ومقصده ، كالذي في آخر من أن قبلته رأس دابته حيث ما توجهت محمول على إرادة بيان الرخصة في الترك والبقاء على حاله الغالب من غير تكلف انحراف طلبا للقبلة. وكذا ما في النصوص السابقة من الصلاة الى حيث ما كان متوجها أو الى حيث ما توجهت دابته أو الى صدر السفينة ، لا أن المراد وجوب ذلك بدلا عن القبلة ، فلو توجه حينئذ حال صلاته الى غير رأس دابته أو طريقه بأن كان متوركا كما هو المتعارف في الركوب على ما قيل بين أهل الحسا والقطيف صحت صلاته عندنا ، حتى لو فرض توجه الدابة والطريق إلى القبلة فضلا عن غيره ، بل ينبغي القطع به لو كان العدول عن توجه الدابة مثلا إلى القبلة ، قال في المحكي عن التحرير والمنتهى : قبلة المصلي على الراحلة حيث توجهت ، فلو عدل إلى القبلة جاز إجماعا ،

١٦

وان كان الى غيرها فالأقرب الجواز ، قلت : ولا يتوهم من التعبير بلفظ الأقرب وقوع خلاف في ذلك ، بل الظاهر أنه للاحتمال دون القول ، فانا لم نعثر على من حكي عنه ذلك ، بل ظاهر نسبة الشيخ ذلك للشافعي عدم كونه لأحد من أصحابنا. وهو كذلك على الظاهر ، نعم حكي عن نهاية الأحكام وكشف الالتباس في الفريضة حيث تجوز على الراحلة أنه لا بد أن يستمر على جهة واحدة ، قالا : « المصلي لا بد أن يستمر على جهة واحدة لئلا يتشوش فكره ، وجعلت الجهة التي يصلى إليها اختيارا الكعبة لشرفها ، فإذا عدل عنها لضرورة السير وجب التزام الجهة ، ثم الطريق لا يستمر على جهة فلا بد فيه من معاطف يمنة ويسرة ، فيتبعه كيف كان للحاجة » ولعلهما لا يقولان به في النافلة ، أو لم يريد الوجوب الشرطي ،. وغير ذلك ، وإن أبيت فلا ريب في ضعفه كما لا يخفى على من لاحظ نصوص المقام الظاهرة في إرادة التوسعة وعدم الالتزام بالجهة ، خصوصا المشتملة على الاستدلال بقوله تعالى ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) وتخصيصها توجه الدابة مع أنه في مقام توهم الحظر جريا على الغالب من إرادة الراكب ذلك ، فلاحظ وتأمل.

ولا فرق في ذلك بين الابتداء وغيره ، فلو صلى من أول الأمر الى غير توجه دابته مثلا صح وإن كان توجه دابته إلى القبلة فضلا عن غيره ، فله الركوب حينئذ مقلوبا ثم الصلاة ، إلا أن الاحتياط مراعاة توجه الدابة ، وإن كان الأقوى ما ذكرناه ، كما أن الأقوى إرادة الرخصة أيضا مما تضمنته النصوص من الإيماء لا العزيمة ، فلو ركع الماشي وسجد وكذلك الراكب لكونه في كنيسة واسعة مثلا صح قطعا ، بل كاد يكون صريح حسن بن عمار (١) المتقدم في الماشي ، إذ حمل الركوع والسجود فيه على الإيماء لهما لا داعي إليه ، بل لا يبعد عدم قيام الإيماء مقامهما الراكب السفينة المتمكن منهما كما‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٦ من أبواب القبلة الحديث ١.

١٧

هو الغالب ، لعدم الدليل ، بل ظاهر نصوص (١) كيفية صلاة السفينة العدم ، نعم قد تضمن خبر العياشي (٢) المتقدم الإيماء فيها ، والخروج به عن مقتضى الإطلاقات كما ترى ، اللهم إلا أن يكون الحكم ندبيا ، وخصوصا قد ثبت الإيماء في المحل الذي جعل بمنزلة السفينة ، لكن لا ريب ان الاحتياط المحافظة على الركوع والسجود ، كما انه ينبغي المحافظة على ما تضمنه بعض النصوص (٣) من الأمر يجعل السجود أخفض من الركوع حيث يومي ، وان كان يحتمل عدم وجوب ذلك أيضا فيها ، حملا للأمر بذلك على الندب ، كما هو الأصل في الإطلاق والتقييد في المندوبات. أما رفع ما يسجد عليه ليضع الجبهة عليه فلا يجب هنا قطعا وان أوجبناه في الفريضة ، لإطلاق أكثر النصوص وصريح البعض (٤).

نعم ينبغي أن يعلم أن المراد في النافلة للماشي والراكب رفع مانعية المشي والركوب وما يلزمهما غالبا كعدم التمكن من الاستقبال وعدم الركوع والسجود عن الصحة لا إسقاط غير ذلك من الموانع كالفعل الكثير ومباشرة النجاسة ونحوهما ، ضرورة سلامة أدلة المنع فيها عن المعارض ، ولعل في‌ قول أبي جعفر عليه‌السلام في مرسل حريز (٥) : « ولكن لا يسوق الإبل » تنبيها على ذلك ، لأنه من الفعل الكثير ، كما أنه ينبغي أن يعلم انه بناء على اختصاص الرخصة في النافلة للماشي والراكب في السفر وان كان خلاف المختار كما عرفت يراد المشي والركوب في حال التشاغل في قطع مسافة السفر ، فلا تصح حينئذ لهما حال إقامتهما في منزل أو بلد مثلا وإن لم تكن إقامة شرعية اقتصارا في المخالف للأصل على المتيقن المنساق من النصوص ، ولعله إليه أومأ ما في‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٣ من أبواب القبلة.

(٢) الوسائل الباب ١٣ من أبواب القبلة الحديث ١٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب القبلة الحديث ١٤ و ١٥ والباب ١٦ الحديث ٣ و ٤.

(٤) الوسائل الباب ٢٠ من أبواب السجود ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل الباب ١٦ من أبواب القبلة الحديث ٥.

١٨

المحكي عن الإيضاح من تقييد استثناء الراكب في سفر القصر من اشتراط الاستقبال بحال السير ، والله أعلم.

ويسقط فرض الاستقبال في كل موضع لا يتمكن منه كصلاة المطاردة ، وعند ذبح الدابة الصائلة والمتردية بحيث لا يمكن صرفها إلى القبلة كما تسمع ذلك مفصلا في محالها إن شاء الله‌

( الرابع في أحكام الخلل )

وهي مسائل : الأولى قد تقدم سابقا أن الأعمى يرجع الى غيره ، لقصوره عن الاجتهاد المتيسر لغيره وإن قلنا هناك إن التحقيق كون ذلك اجتهادا بالنسبة إليه ، كما يومي اليه في الجملة قول المصنف وغيره هنا فان عول على رأيه مع وجود المبصر لأمارة ظنية أقوى من قول المبصر وجدها صح صلاته من هذه الحيثية ، ضرورة ابتناء ذلك على كون المدار على ظنه ، وقد فرض حصول إمارة له أقوى من قول المبصر أو مساوية له ، وهو لا يتم إلا على ما قلناه ، نعم هو مقيد قطعا بما يأتي من عدم ظهور الخطأ الموجب للتدارك ، كما اعترف به في جامع المقاصد وكشف اللثام وغير هما ، لا طلاق الأدلة الآتية ، وخصوص‌ صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله (١) « سأل الصادق عليه‌السلام عن رجل أعمى صلى على غير القبلة فقال : إن كان في وقت فليعد ، وان كان قد مضى الوقت فلا يعد » الحديث. وخبر أبي بصير (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « الأعمى إذا صار لغير القبلة فإن كان في وقت فليعد ، وان كان قد مضى الوقت فلا يعيد » مضافا الى مساواته المجتهد أو أولويته منه بالإعادة ، كما يومي اليه‌ صحيح الحلبي أو حسنه (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الأعمى يؤم القوم وهو على غير القبلة قال : يعيد ولا يعيدون فإنهم قد تحروا » وإن كان لا بد من حمله على إرادة غير المتحري من الأعمى.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١١ من أبواب القبلة الحديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ١١ من أبواب القبلة الحديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ١١ من أبواب القبلة الحديث ٧.

١٩

فمن الغريب ما في المدارك من أن إطلاق العبارة أنه يقتضي أنه لا إعادة على الأعمى مع التعويل على الامارة مطلقا وإن تبين الخطأ ، فيكون التفصيل الآتي مخصوصا بغير الأعمى ، وأشكله بعموم الأخبار الآتية ، وخصوص صحيح عبد الرحمن السابق ، ثم قال : ويمكن حمل النفي المدلول عليه بالسياق في العبارة على نفي الإعادة مطلقا أي جميع الأحوال بقرينة أن الإعادة في الصورة الثانية ، وهي ما إذا عول على رأيه من دون أمارة ثابتة على كل حال وإن ظهرت المطابقة ، لدخوله في الصلاة دخولا منهيا عنه ، وحينئذ فلا ينافيه ثبوت الإعادة في الصورة الأولى على بعض الوجوه ، وهو كما ترى فيه من التكليف ما لا يخفى ، على أنه لا داعي إليه ، ضرورة كون المراد عدم الإعادة من هذه الحيثية دفعا لما عساه يتوهم من كون تكليف الأعمى الرجوع الى غيره ، وأنه لا يجوز له التعويل حينئذ على رأيه وان كان أقوى عنده من قول المبصر ، بل قد يوهمه فرض المسألة في الذكرى في لمس الأعمى الكعبة بيده ، أو محراب مسجد لا يشك فيه ، ونحوها مما لا يدخل تحت الامارة الظنية ، لكن قد عرفت أن التحقيق دوران أمره على أقوى الظنون الحاصلة له من غير فرق بين الغير وغيره.

وكيف كان فالمراد التعويل على رأيه للأمارة سواء سأل المبصر وأخبره بخلاف تلك الأمارة التي هي مساوية أو أقوى عنده من إخباره ، أو لم يسأله إلا أنه علم بذلك لو أخبر المبصر بخلافها ، أما إذا احتمل إخبار المبصر بخلافها وانه لو كان فهو أقوى من تلك الامارة لم يجز له التعويل عليها ، لعدم كونه من التحري جهده ، وهل يجب عليه سؤال المبصر في الصورة الأولى ، لوجوب أقوى الظنون عليه بعد تعذر العلم ، فيحتمل وفاقة للأمارة فتزداد قوة ، أو لا يجب ، لكون المفروض قوة الامارة على فرض خلاف المبصر ، والأصل براءة الذمة من وجوب طلب ترك المرتبة من الظن الموافق؟ وجهان ، قد يومي الى الأول مع كونه أحوط ما في كشف اللثام ، فإنه بعد قول الفاضل :

٢٠