جواهر الكلام - ج ٢٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

قال : الشيخ في المبسوط في فصل أقسام الغزاة ما يحتاج إليه من الكراع وآلات الحرب ، كان من بيت المال ، من أموال المصالح ، وكذلك رزق الحكام وولاة الأحداث ، والصلاة وغير ذلك من وجوه الولايات ، فإنهم يعطون من المصالح ، وهي تخرج من ارتفاع الأرضين المفتوحة عنوة ، وكذا قال : العلامة حاكيا عن الشيخ وقد سلف لنا في الجهاد ما يقتضي عموم الاذن فيه في زمن الغيبة ، ولكن الأحوط ما هنا هذا كله في الخراج ، وما شابهه من الجزية ونحوها مما هو راجع للمسلمين ، وولاية قبضه والتصرف فيه لإمامهم فغصبه الجائر.

وأما ما يأخذه من الأنعام وغيرها من الأموال الظاهرة التي لا يمكن سترها على حكام الجور باسم الزكاة فظاهر الأصحاب بل هو من معقد إجماعاتهم أن حكمه حكم الخراج فـ ( يجوز ) حينئذ ابتياعه وقبول هبته وغير ذلك من التصرفات فيه التي عرفت تفصيلها في الخراج ، ولا يجب اعادته على أربابه وإن عرف بعينه وقد سمعت ما يدل عليه من النصوص ، لكن في المسالك أنه يشترط هنا أن لا يأخذ الجائر زيادة عن الواجب شرعا في مذهبه ، وأن يكون صرفه لها على وجهها المعتبر عندهم ، بحيث لا يعد عندهم عاصيا ، إذ يمتنع الأخذ منه عندهم أيضا ، وفيه ما عرفت سابقا في الخراج الذي له أرباب مخصوصون أيضا من المخالفة ، لإطلاق النص والفتوى وأن اعتقاده الحلية غير مؤثر وإلا لآثر في الإباحة له ، ولذا قال : ويحتمل الجواز مطلقا نظرا إلى إطلاق النص (١) والفتوى ، بل الظاهر براءة الذمة من أدائها مرة أخرى ، كالخراج ، ولصيرورتها زكاة بقبض الجائر أو عامله ، ولذا رخص في شرائها منه ، كما سمعت التصريح به في النص‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٠ من أبواب المستحقين للزكاة.

٢٠١

السابق ، إذ لو لم تكن زكاة كانت غصبا لا يجوز لأحد شرائها منه ، فغصب الجائر لها كغصبه للخراج في إجراء حكم قبض الامام ونائبه من تشخيص كونه خراجا وزكاة مبرأ لذمة من كان عليه.

وحكم التصرف فيها ما سمعته في الخراج من إذنهم عليهم‌السلام في شرائها وغيره ، وكما عن جامع المقاصد الاعتراف به في الجملة ، قال : إن ظاهر الأخبار والعبارات جواز أخذها لكل أحد وإن كان غنيا إلى آخره ، وحينئذ فينوي المالك عند الدفع إليه ، ويجتزى به ولا ينافيه كونه غير نائب للمستحقين كما لا ينافي براءة الذمة من الخراج بقبضه له وإن كان غير نائب عن المستحقين ، بل هنا أولى لكون الزكاة في العين فإذا قسمها معه الجائر كان كعزله لها ثم غصبت منه ، أو كانت كغصب الغاصب حصة شريك مخصوص ، بناء على قيامه مقام المالك في القسمة فلا يشارك حينئذ في الباقي لحديث نفي الضرر والضرار (١) وغيره وإن كان لنا فيه بحث يأتي في محله إنشاء الله.

هذا كله مضافا إلى ظواهر‌ الصحاح المستفيضة منها (٢) « ما أخذه منكم بنو أمية فاحتسبوا به ولا تعطوهم شيئا ما استطعتم فان المال لا لا يبقى على هذا أن يزكيه مرتين » ومنها (٣) « عن صدقة المال يأخذه السلطان فقال : لا أمرك أن تعيد » بل قد يستفاد من كثير من المعتبرة التي قد تقدمت في كتاب الزكاة وفيها الصحيح وغيره ، جواز احتساب ما يأخذه باسم الخراج مكان الزكاة ، إلا أن ظاهر الأصحاب الإطباق على ردها ، بل عن المنتهى الإجماع عليه ، فتكون شاذة مع أنها محتملة للتقية من أبى حنيفة الذي يحكى عنه القول بمضمونها.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الخيار الحديث ٣ و ٤ و ٥.

(٢) الوسائل الباب ٢٠ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ٣.

(٣) الوسائل الباب ٢٠ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ٥.

٢٠٢

فما في المسالك حينئذ من أن الأقوى عدم الاجتزاء بذلك ، بل غايته سقوط الزكاة عما يأخذه إذا لم يفرط فيه ، ووجوب دفعه أعم من كونه على وجه الزكاة أو المضي معهم في أحكامهم والتحرز عن الضرر بمباينتهم واضح الضعف ، وإن كان قد يحتج له بالأصل والعمومات التي يجب الخروج عنها بما عرفت وبالصحيح (١) « أن هؤلاء المصدقين يأتون فيأخذون منا الصدقة فنعطيهم إياها أتجزي فقال : لا إنما هؤلاء قوم غصبوكم أو ظلموكم ، وإنما الصدقة لأهلها » المحمول لقصوره عن المعارضة ، من وجوه على الندب أو على ما عن الشيخ من الإعطاء اختيارا ، وإن بعد الثاني بالتعليل بالظلم ، ودعوى الفرق بين الزكاة وغيرها ، أن من كانت عليه يمكنه الاعتذار من الجائر بأني قد دفعتها إلى مستحقها ، لعدم وجوب تسليمها إليه عندهم ، واضحة الفساد ، لمنع عدم الوجوب عندهم مع الطلب من ولي الأمر الذي يزعمه أنه هو ، ولأن محل البحث فيما لا يمكن التخلص منه كما عرفته سابقا في الخراج ضرورة كون الحكم دائرا مدار التقية التي لا فرق معها بين دفع الزكاة من العين ، أو من غيرها عوضا لما عرفت من معاملته في ذلك معاملة سلطان العدل ، والله اعلم.

الفصل الثاني في عقد البيع وشروطه وآدابه‌ العقد أي عقد البيع هو اللفظ الدال على نقل الملك من مالك إلى آخر بعوض معلوم وظاهره كاللمعة أن البيع نقل الملك بعوض معلوم وبه صرح الكركي حيث عرفه بأنه نقل الملك من مالك إلى غيره بصيغة مخصوصة لا انتقال عين مملوكة من شخص إلى غيره ، بعوض مقدر على وجه التراضي ، كما في المبسوط والسرائر والقواعد والتذكرة والتحرير ونهاية‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٠ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ٦.

٢٠٣

الاحكام وتلخيص المرام ، ولا العقد الدال على الانتقال المذكور ، كما في الوسيلة والمختلف مدعيا في الأخير أنه المتبادر من لفظ البيع عند الإطلاق ، بل ربما أيد بشيوع إطلاق العقد على البيع وغيره ، من المعاملات ، وتقسيم العقود إليهما في مقابل الإيقاعات ، وقد سبقهما الحلبي إلى تعريفه بالعقد ، فقال : في المحكي من كافيه أنه عقد يقتضي استحقاق التصرف في المبيع والثمن وتسليمهما ، وفي معناه الإيجاب والقبول كما في النافع والدروس والتنقيح على اختلافها في القيود ، ففي الأخير اعتبار التراضي وكمال المتعاقدين ومعلومية العوضين ويوافقه الثاني إلا في معلومية العوض ويخالفهما الأول إلا في معلومية العوض ، وفيه زيادة تقييد المعوض بالملك ، كذا قيل : فيكون كلام الأصحاب في تفسير البيع ، على اختلافه في القيود زيادة ونقصا منحصرا في ثلاثة ، نقل مخصوص أو انتقال أو عقد كذلك لا مطلقها قطعا ، كما عساه يتوهم من تفسيره بأحدها في بعض العبارات ، على حسب تفسير أهل اللغة غيره بالأعم ، كسعدانة نبت ، ونحوها مما يعلم منه إرادة كونه من هذا الجنس لا كشف تمام المعنى ، كما أن من المعلوم كون البيع وغيره للأعم من الصحيح والفاسد ، وأنه لا حقيقة شرعية لشي‌ء منها كما هو مفروغ منه في محله ، بل في مصابيح العلامة الطباطبائي الاتفاق عليه هنا ، وقول : بعض الأصحاب في بعضها لغة كذا ، وشرعا كذا ، محمول على إرادة الشرعي ، ولو من حيث الشرائط هذا.

ولكن في شرح الأستاد البيع لغة أو عرفا عاما أو خاصا عند المتشرعة ، أو عند الشارع كسائر ألفاظ المعاملات ، ويضعف احتمال الأخيرين منها ، نقل أو انتقال أو هما مطلقين ، أو مقيدين بكونهما مستفادين ، من ألفاظ مطلقة أو خاصة أو ما دل على أحدهما أو عليهما‌

٢٠٤

من لفظ خاص أو مطلق أو ما يقوم مقامه من إشارة ونحوها أو أخذ أو إعطاء إلى آخره ، وهو كما ترى مشتمل على ما هو مجرد احتمال عقلا ، وإن قطع بفساده ، وعلى كل حال. فلم نجد في شي‌ء مما وصل إلينا من كتب الأصحاب تعريفا له جامعا مانعا مقتصرا فيه ، على ذكر ما ينكشف به نفس المعنى الموضوع له اللفظ ، من غير ذكر ما هو من الشرائط ، ونحوها مما لا مدخلية له في نفس المعنى ، ضرورة كونه للأعم وهي للصحيح منه المعلوم عدم إرادتهم إياه بالتعريف ، وإلا لوجب الاستقصاء في ذكر الشرائط ، ولا ينافيه ذكرهم النقل والانتقال والعقد ضرورة كون المراد من الأولين ما يعم الصورة ولو مجازا ومن الأول العقد الصالح للنقل لا خصوص المستجمع للشرائط ولا خصوص المتحقق من النقل والانتقال دون الصوري ، كما هو واضح بأدنى تأمل.

ومن ذلك يعلم عدم كون المراد لهم فيما يذكرونه من الحدود إلا الكشف في الجملة ، نحو تفسير أهل اللغة لا التحديد على طريقة أهل الميزان ، فلا وجه للإطناب في المناقشة فيما يذكرونه منها في الطرد والعكس ونحوهما ، وقد قيل أن أجودها تعريف الحلبي له ، بأنه عقد يقتضي استحقاق التصرف في المبيع والثمن وتسليمهما ، والكركي بأنه نقل الملك من مالك إلى غيره بصيغة مخصوصة ، والأول منهما مع كونه مبنيا على أنه عقد وستعرف ما فيه ، مشتمل على الدور لذكر المبيع فيه ، بل لعل الثاني كذلك أيضا ، ضرورة إرادة صيغة البيع من الصيغة المخصوصة فيه ، وإلا انتقض بغيره ، مضافا إلى منافاته ما عنده من كون المعاطاة بيعا ، مدعيا الاتفاق عليه ، اللهم إلا أن يدفع الدور بأن الموقوف معرفة البيع بالرسم أو الوجه الأتم ، والموقوف عليه معرفته بالوجه الظاهر المعلوم لكل أحد ، وفي مصابيح العلامة الطباطبائي أن‌

٢٠٥

الأخصر والأسد ، تعريفه بأنه إنشاء تمليك العين بعوض على وجه التراضي ، فإنه مع سلامته عن وصمة الدور والمجاز ، خال عن القيود المستدركة والخارجة عن الحقيقة.

وفيه مع كونه مبنيا على أصالة البيع في نقل الأعيان بالعوض ، من دون توقف على قصد البيع ، ينتقض بالصلح والهبة المعوضة ، ودفعه باعتبار القيد به فيه دونهما ، يشكل بأن ذلك ليس من القيود التي لها مدخلية في تمييز الأفراد الخارجية ، ويرد عليه أيضا بعد تسليم كون العين والعوض معتبرين في مفهوم البيع الذي هو أعم من الصحيح والفاسد ، أن التراضي غير معتبر في مفهومه قطعا ، ضرورة صدقة على بيع المكره كما هو واضح ، وكيف كان فليس زيادة القيود ونقصها في الحدود بعد الاتفاق على كونه أحد الثلاثة السابقة اختلافا في أصل المعنى ، بل هو من اختلاف طرق الكشف في الجملة.

إنما الكلام في تعيين أحدها ، والظاهر أنه النقل للتبادر الذي لا ينافي اقتضاءه الحقيقة إطلاقه على العقد المبني على المسامحة ، كما نبه عليه ثاني الشهيدين في الروضة ، والعقود المقابلة للإيقاعات في اصطلاحهم ما توقفت على الإيجاب والقبول ، فلا تأييد فيه للقول بكون البيع نفس العقد ، ولأن البيع فعل فلا يكون انتقالا لانه انفعال ولا عقدا لما تعرفه إنشاء الله تعالى ولانه لفظ من مقولة الكيف ، والمقولات العشرة متباينة ، فلا يصدق بعضها على بعض ، وحمل العقد على المعنى المصدري ليكون فعلا بعيد جدا فان المفهوم منه اصطلاحا هو المعنى الاسمي لا المصدري ولأن الانتقال أثر البيع ، وغايته المترتبة عليه ، والعقد سببه المؤدي إليه ، والسبب غير المسبب ، فيمتنع تعريف أحدهما بالاخر ، بالقول عليه وإن جاز أخذه قيدا للمقول ، ولان النقل هو الموافق لتصاريف‌

٢٠٦

البيع ، وما يشتق من الافعال والصفات بخلاف غيره ، إذ لا يراد ببعت مثلا معنى الانتقال كما هو ظاهر ولا العقد ، وإلا لكان إيجابا وقبولا معا ، وهو معلوم البطلان ، وكذا البائع فإنه ليس بمعنى المنتقل ، ولا بمعنى الموجب والمقابل والمطرد في الجميع هو النقل ، فيكون البيع موضوعا له اجراء له على الأصل من لزوم التوافق مع الإمكان ، فلا يقدح تخلفه في النكاح ، لثبوت وضعه للعقد ، وامتناع الموافقة في أنكحت ونحوه ، فوجب صرفه إلى معنى آخر ، كتمليك الانتفاع ، والتسليط على الوطي وغيرهما مما يناسب العقد ، بخلاف المقام الذي لم يثبت وضعه فيه للعقد.

بل قد عرفت ثبوت الخلاف ، وأنه موضوع للنقل ، بل ربما تكلف ورد تعريفه بأحدهما إليه ، إما بتقدير مصحح في الكلام ، أو بإطلاق اسم المسبب أو السبب على الأخر ، أو بحمل الانتقال والعقد على البيع مبالغة ، كما في زيد عدل وإن كان مجازا ، إلا أنه جاز اتكالا على الظهور ، ولما قدمناه من أن التعاريف في مثل المقام مراد منها الكشف في الجملة ، شبه التعاريف اللغوية ، فلا يضر ارتكاب التجوز فيها ، على أنه قد يقال بكون الممنوع في التعريف ، خصوص المجاز العقلي لعدم النسبة بين الحد والحدود ، لا بالإسناد ولا بالتقييد أو يقال : بأن اختلاف الحدود لاختلاف البيع في الإطلاق ، لا لاختلاف في معناه ، ولا تجوز حينئذ في شي‌ء من الحدود ، ضرورة كونه حينئذ في البيع المحدود بالعقد والانتقال دون الحد ، بل ربما قيل : ان التعريف بالانتقالى للبيع مصدرا للفعل المبني للمجهول ، فيوافق حينئذ تعريفه بالنقل مصدرا للفعل المعلوم ، ويسلم من التجوز في الحد المحدود وإن كان فيه ما فيه ، والأمر في ذلك كله سهل بعد ما عرفت.

٢٠٧

نعم ينبغي أن يعلم أن البيع كما يطلق على إنشاء التمليك المذكور فقد يطلق على فعل المشتري ، وهو إنشاء التملك لما ملكه البائع فإنه كالشراء من الأضداد ويطلق البيع إطلاقا شائعا ، ويراد به المعاملة القائمة بالبائع والمشتري معا ، وهي المعنى الحاصل بالعقد الجامع لمعنى البيع والشراء ، واستعماله في المعاملة وحملها عليه وتقسيمها إليه وإلى غيره ظاهر معروف ، وعن المصباح المنير الأصل في البيع مبادلة مال بمال ، وهذا هو المناسب في نحو قوله تعالى (١) ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) وقوله سبحانه (٢) ( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) وقوله عز وجل (٣) ( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) وقولهم كتاب البيع وأقسام البيع وأحكام البيع ويوصف البيع بالصحة والفساد واللزوم والجواز واقترانه بالمعاملات كالإجارة والصلح ونحوهما ، ويعرف البيع بهذا المعنى بأنه معاملة موضوعة لتمليك عين بعوض وتملكها به ، ووجه القيود والاكتفاء بها ظاهر مما سبق.

ولعل نظر الأستاد فيما سمعته من كلامه إلى هذه الإطلاقات للفظ البيع وحينئذ حمل لفظ أو في كلامه على معنى الواو ممكن في كثير مما ذكره ولو بالنظر إلى الإطلاقات المتعددة ، ثم لا خلاف ولا إشكال في اعتبار كون المبيع عينا ، ولذلك اشتهر بينهم انه لنقل الأعيان كاشتهار أن الإجارة لنقل المنافع ، نعم لا فرق فيها بين كونها مشخصة وكلية مستقرة في الذمة كالدين ، ومضمونة كالمسلم فيه ، والموصوف المبيع حالا ، والكلي المشاع‌

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٧٥.

(٢) سورة النور الآية ٣٧.

(٣) سورة الجمعة الآية ٩.

٢٠٨

فإن ذلك كله من الأعيان ، فما عساه يتوهم من بعض الاخبار من اعتبار العين فعلا ، ضعيف السند قاصر الدلالة ، معارض بما هو أصح وأوضح ، أما الثمن فالظاهر من إطلاق الأدلة والفتاوى ما صرح به في المصابيح من أنه مطلق المقابل ، فيدخل فيه الشخصي والكلي والعين والمنفعة ، فيكون البيع حينئذ بالنسبة إلى ذلك كالإجارة والصلح ، يقع لكل منهما ولا فرق بينهما من هذه الجهة ، وإنما الفرق في المعوض ، فيختص البيع بالعين ، والإجارة بالمنفعة ، ويقع الصلح عليهما كما يقع بهما.

وعن بعض المتأخرين اعتبار عينية العوضين ، وهو وهم نشأ من قولهم : البيع لنقل الأعيان ، وليس المراد به على العموم بل خصوص المعوض ، كقولهم في الإجارة لنقل المنافع نعم في شرح الأستاد اعتبار عدم كونه حقا مع أنه لا يخلو من منع لما عرفته من الإطلاق المزبور المقتضي لكونه كالصلح الذي لا إشكال في وقوعه على الحقوق ، فلا يبعد صحة وقوعها ثمنا في البيع وغيره ، من غير فرق بين اقتضاء ذلك سقوطها كبيع العين بحق الخيار والشفعة على معنى سقوطهما ، وبين اقتضائه نقلها كحق التحجير ونحوه ، وكان نظره رحمه‌الله في المنع إلى الأول باعتبار معلومية كون البيع من النواقل لا من المسقطات بخلاف الصلح ، وفيه أن البيع بيع الدين على من هو عليه ، ولا ريب في اقتضائه حينئذ الإسقاط ولو باعتبار أن الإنسان لا يملك على نفسه ما يملكه غيره عليه ، الذي بعينه يقرر في نحو حق الخيار والشفعة ، والله أعلم.

وكيف كان فقد ظهر لك من ذلك كله المراد بالبيع أما عقده فهو ما ذكره المصنف من اللفظ الدال عليه بلا خلاف معتد به أجده فيه بل يمكن تحصيل الإجماع على كونه كذلك في العقود اللازمة ، بل لعله‌

٢٠٩

من ضروريات المذهب ، فضلا عن دعوى التواتر فيه من سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام كقوله عليه‌السلام « إنما يحلل ويحرم الكلام » (١) وغيره مما دل على توقف عقد البيع وغيره على الألفاظ ، بل هي المرادة من العقود بالمعنى الاسمي.

وحينئذ فـ ( لا يكفي ) في حصول العقد التقابض ولا غيره من الأفعال التي لا فرق بين ما ورد النهي عن العقد بها (٢) كالمنابذة واللمس ورمي الحصاة وغيرها في عدم الاكتفاء بها في العقد من غير لفظ وإن حصل من الامارات ما يدل على إرادة إنشاء البيع في الحقير أو الخطير للأصل المقرر بوجوه الإجماع بقسميه أو الضرورة ، وصدق البيع مثلا بعد التسليم ، والتجارة عن تراض ، لا يستلزم تحقق العقد الذي يترتب عليه اللزوم ونحوه كما هو واضح ، خلافا لأحمد بن حنبل ومالك فاكتفيا به (٣) وبغيره من الأفعال مطلقا ، ولبعض الحنفية والشافعية وابن شريح في خصوص الحقير ، وإن اختلفوا في تفسيره ، فبين من أحاله على العرف ، وبين من قدره بما دون نصاب السرقة ، وقد استقر إجماعنا على خلاف ذلك ، نعم قد اشتهر نقل قول ابن حنبل عن شيخنا المفيد بل اختاره الكاشاني والأردبيلي بعد أن حكيا عنه ، بل كأنه مال إليه ثاني الشهيدين في المسالك ، حيث قال : ما أحسنه وأمتن دليله إن لم ينعقد الإجماع على خلافه ، وفيه ما عرفت من أن الضرورة من المذهب ، فضلا عن الإجماع على خلافه ، وليس فيما وصل إلينا من‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من أبواب أحكام العقود الحديث ٤.

(٢) الوسائل الباب ١٢ من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث ١٣.

(٣) التذكرة ج ١ ص ٤٦٢.

٢١٠

كلام المفيد تصريح بما نسب إليه بل ولا ظهور.

نعم قال : في المقنعة في المقام ينعقد البيع على تراض بين الاثنين فيما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعا ، وتراضيا بالبيع وتقابضا وافترقا بالأبدان ، والظاهر إرادته من ذلك بيان الشرائط لصحة البيع ولزومه لأن المراد تحققه بذلك من دون صيغة ، بل لعل قوله وتراضيا بالبيع وتقابضا ظاهر في تحقق البيع قبل التقابض لا به ، كما أن الظاهر في سبب عدم تعرضه للصيغة ، معلومية اعتبارها وأنها من الضروريات التي استغنت بذلك عن ذكرها في النصوص وغيرها ، كما يومي إليه ترك التعرض لها في الكتاب المزبور في النكاح والطلاق ونحوهما ، مما لا إشكال في اعتبار الصيغة فيه ، وأن بتركها يتحقق الزنا وإن حصل التراضي ، بل هو من ضروريات الدين ، بل يومي إلى اعتباره العقد ما ذكره في كيفية كتابة السجلات إذا تأمله المتأمل ، بل لعل الظاهر من المفيد اعتبار اللفظ المخصوص في تحقق البيع فضلا عن عقده ، وان المعاطاة عنده ليست بيعا أصلا فضلا عن كونها عقدا ، ويرشد إلى ذلك ما عن الآبي من نسبة اعتبار اللفظ المخصوص في البيع إليه وإلى الطوسي ، وفي المختلف للمفيد قول يوهم الجواز ، أي جواز العقد بالمعاطاة ، ثم حكى عبارته السابقة ، وقال : ليس في هذا تصريح بصحته إلا أنه موهم.

ولقد أجاد الأستاد في شرحه في قوله : بأنا نعلم يقينا أن للصيغ الخاصة أثرا خاصا ، ولو كان اللزوم غير موقوف عليها لم يكن لها أثر على أن العوام حتى النساء والأطفال إذا أراد واحد منهم أن يرد سلعته يعلل بأني ما صفقت معك صفقة البيع ، وهو السر في خلو الأخبار عن البيان قلت : ومنه يعلم فساد ما حكاه في المسالك عن بعض مشايخه المعاصرين ، من عدم اعتبار لفظ مخصوص في العقد ، بعد اعتبار كونه‌

٢١١

من الألفاظ محافظة على حصر التحليل والتحريم بالكلام ، وغيره مما يقضي باعتبار الألفاظ من النصوص وغيرها ، لكن لا دليل على اللفظ المخصوص فيكفي فيه حينئذ مطلق اللفظ ، من غير فرق بين الصريح وغيره ، والحقيقة وغيرها والماضي وغيره ، بل عن الآبي اختياره أيضا بعد حكايته عن المطلق ، وكأنه أخذه من الإطلاق في تعريفه ، الذي قد عرفت عدم إرادة كشف الحقيقة به ، ولا جمع شرائط الصحة ، وأنه يشبه تعريف أهل اللغة في كون المراد به أن المعرف من هذا الجنس أو الصنف ، بل اختاره بعض المحدثين من الأخباريين ، حتى أطنب في ترجيحه إلا أنه لم يأت بشي‌ء يصلح للخروج به عن الأصول ، فضلا عن الإجماع المحصل والمنقول.

بل الضرورة على أن للصيغ المخصوصة أثرا بينا ولذلك تصدى الأصحاب إلى ضبط مواردها وكيفياتها وأحوالها ، وإجازة الفضولي على القول بأنها ناقلة ليست بيعا حتى يقال إنه يلزم القائل بها جوازه بكل لفظ وخلو النصوص عن التعرض لها بالخصوص ، لضرورية حكمها أو لتعارف المعاطاة أو لغير ذلك ، على أنه لا يقتضي ذلك بعد عدم إطلاق يقتضي تحقق العقد بكل لفظ ، بل المتجه حينئذ الاقتصار في مخالفة الأصل على المتيقن ، وليس هو إلا اللفظ المخصوص.

ومن الغريب استناده إلى إطلاق بعض النصوص ، وآية « التجارة عن تراض » (١) ، المعلوم عدم كون المراد منه تحقق العقد وأحكامه بذلك ، كما أن من الغريب أيضا الاستناد إلى عموم (٢) « آية ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) » ‌

__________________

(١) سورة النساء الآية ٢٩.

(٢) سورة المائدة الآية ١.

٢١٢

التي من المعلوم كون المراد منها ما هو المنساق من العقود المعهودة بالتعارف والاستعمال المأخوذة يدا بيد ، المستغنية بذلك عن التعرض لها بالخصوص ، بل الظاهر الاكتفاء عن ضبطها بضبط أسماء المعاملات على معنى ان الأصل في لفظ عقد البيع بعت ، والصلح صالحت وهكذا ، فلا ينافيه حينئذ قيام دليل على إلحاق بعض الألفاظ غيرها بها لا أن المراد منها كل ما يقصد العقد به ، أو كل لفظ كذلك كما هو واضح بأدنى تأمل ، فلا ريب في اشتراك القول المزبور مع القول الأول في وضوح الفساد وإن اختلفا فيه شدة وضعفا.

إنما الكلام في أن الألفاظ المخصوصة شرط اللزوم في العقود اللازمة ، فتصح حينئذ بغيرها من الأقوال والأفعال المقصور بها إنشاء البيع والإجازة مثلا على وجه يجري عليه أحكامها ، عدا اللزوم ، كما أنه يشترط فيه شرائطها أيضا ، فيكون البيع حينئذ مثلا قسمين بصيغته وهو الذي يكون لازما وبدونها وهو الذي لا يكون لازما أو انها شرط للصحة أيضا ، فلا يقع أصل البيع مثلا بدونها قيل : ثم على الثاني تكون من البيع الفاسد ، فتجري عليه أحكامه أو انها تفيد اباحة التصرف في وجوه الانتفاعات ، خلاف بين الأصحاب ومعركة عظيمة ، خيرة الكركي في الجامع وغيره وبعض من تأخر عنه الأول ، بل ربما ظهر منه دعوى الإجماع عليه ، قال : المعروف بين الأصحاب أنها أي المعاطاة بيع ، وإن لم تكن كالعقد في اللزوم ، خلافا لظاهر عبارة المفيد.

ولا يقول أحد من الأصحاب بأنها بيع فاسد سوى المصنف في النهاية وقد رجع عنه في كتبه المتأخرة عنها وقول الله تعالى (١) ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) » يتناولها لأنها بيع بالاتفاق ، حتى من القائلين بفسادها ، لأنهم يقولون‌

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٧٥.

٢١٣

إنها بيع فاسد ، وقوله تعالى (١) ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) عام إلا ما أخرجه دليل ، وما يوجد في عبارة جمع من متأخري الأصحاب من أنها تفيد اباحة ، وتلزم بذهاب أحد العينين ، يريدون به عدم اللزوم في أول الأمر ، وبالذهاب يتحقق اللزوم ، ولامتناع إرادة الإباحة المجردة عن أصل الملك ، إذ المقصود للمتعاطيين إنما هو الملك فإذا لم يحصل كانت فاسدة ، ولم يجز التصرف في العين ، وكافة الأصحاب على خلافه ، وأيضا فإن الإباحة المحضة لا تقتضي الملك أصلا ورأسا فكيف يتحقق ملك شخص بذهاب مال آخر في يده ، وإنما الأفعال لما لم تكن دلالتها على المراد في الصراحة كالقول ، وإنما تدل بالقرائن ، منعوا من لزوم العقد بها ، فيجوز التراد ما دام ممكنا فمع تلف أحد العينين يمتنع التراد ، فيتحقق اللزوم لأن إحداهما في مقابل الأخرى.

ويكفي تلف بعض احدى العينين لامتناع التراد في الباقي ، إذ هو موجب لقبض الصفقة والضرر ، ولأن كون إحداهما في مقابل الأخرى ونحو ذلك كلامه في المحكي من تعليقه على الإرشاد ، فنزل عبارة الأصحاب على أنها تفيد ملكا متزلزلا وجعله مقتضاها قال : وإلا لما لزمت بالتلف ، وأيضا فلولا ذلك لم تحصل الإباحة لأن المقصود للمتعاطيين إباحة مترتبة على ملك الرقبة كسائر البيوع فان حصل مقصودهما ثبت ما قلناه ، وإلا وجب أن لا تحصل إباحة بالكلية ، بل يتعين الحكم بفساد ذلك ، إذ المقصود غير واقع ، فلو وقع غيره لوقع بغير قصد وهو باطل ، وعليه يتفرع النماء وجواز وطئ الجارية بالمعاطاة ومن منع ذلك فقد أغرب ، ومما يرشد إلى ما قلناه مضافا إلى ما تقدم عبارات القوم فان بعضها كالصريح فيما قلناه.

__________________

(١) سورة النساء الآية ٢٩.

٢١٤

ثم تساق عبارة التحرير وهي الأقوى ، ان المعاطاة غير لازمة لكل منهما فسخ المعاوضة ما دامت العين باقية ولعله لأن تجويز الفسخ يقتضي ثبوت الملك في الجملة ، وكذا تسميتها معاوضة ، بل لعل قول غيره من الأصحاب تلزم بالتصرف يقتضي ذلك ، ضرورة ظهوره في كونه مفيدا للزوم ، فيكون الملك قبله حاصلا ، لأن المراد أنه يفيد الملك ، ويفيد لزومه ، وهو وإن كان في غاية الجودة ، بل يؤيده مضافا إلى ما ما ذكره ، ما ستعرفه من جريان السيرة على المعاملة المأخوذ بها ، معاملة الأملاك في جميع التصرفات ، فالتي منها ما لا يصح وقوعه إلا من المالك كالعتق والوطء ونحوهما ، وغير التصرفات كالإرث والفقر والغنا واستطاعة الحج والزكاة والخمس والربا ونحوها ، إلا أنه يصعب تنزيل عبارات الأصحاب عليه ، ففي المبسوط بعد أن ذكر وجوب تقديم الإيجاب على القبول وغيره ، مما يعتبر في البيع قال : فإذا ثبت هذا فكل ما جرى بين الناس إنما هي استباحات وتراض ، دون أن يكون ذلك بيعا منعقدا مثل أن يعطي درهما للخباز فيعطيه الخبز أو قطعة للبقلي فيناوله البقل وما أشبه ذلك ، ولو أن كلا منهما يرجع فيما أعطاه كان له ذلك ، لأنه ليس بعقد صحيح هو بيع.

قيل : ومثله عبارة الخلاف والسرائر ، وفي الغنية بعد أن صرح باعتبار الإيجاب والقبول في الصحة مقابلا لما يعتبر في اللزوم ، قال : واعتبرنا حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري تحرزا من القبول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري ، إلى أن قال واحترازا أيضا من القول بانعقاده بالمعاطاة ، نحو أن يدفع إلى البقلي قطعة ويقول أعطني بقلا فيعطيه ، فان ذلك ليس ببيع وإنما هو اباحة للتصرف يدل على ما قدمناه الإجماع المشار إليه وأيضا فما اعتبرنا مجمع على صحة العقد‌

٢١٥

به ، وليس على صحته بما عداه دليل ، ولما ذكرناه ، نهى عليه‌السلام عن بيع الملامسة والمنابذة وعن بيع الحصاة (١) على التأويل الآخر ومعنى ذلك أن يجعل اللمس للشي‌ء والنبذ له وإلقاء الحصاة بيعا موجبا ، وفي الدروس بعد أن صرح فيها كالنافع ، بأن البيع هو الإيجاب والقبول قال : ولا تكفي المعاطاة وإن كانت في المحقرات ، نعم يباح التصرف في وجوه الانتفاعات ، ويظهر من المفيد الاكتفاء بها مطلقا وهو متروك وكذا التنقيح في التصريح بأنه الإيجاب والقبول ، ثم قال : ولا يكفي مجرد الرضا في حصول الملك بدونها في الجليل والحقير لحصر الشارع أسباب الملك في العقود ، فالمعاطاة تفيد إباحة لا غير.

نعم لو ذهبت احدى العينين أو انتقلت عنه ملك الأخرى إلى غير ذلك ، من عباراتهم التي لا يخفى ما في تنزيلها أو بعضها على ما ذكره من التكلف بل في مفتاح الكرامة أن صريح الخلاف والسرائر والمختلف وحواشي الشهيد والقواعد والتنقيح عدم كفاية المعاطاة في المقصود بالبيع ، وهو الملك ، بل قال : فيه أيضا أن ظاهر قواعد الشهيد الإجماع على أنها لا تفيد الملك ، وإنما تفيد الإباحة ، بل قال فيه أيضا ان صريح الخلاف والمبسوط والسرائر والغنية والجواهر وجامع الشرائع والميسية والروضة والمسالك عدم كونها بيعا حقيقة وإنما هي اباحة وإن كنا لم نتحقق بعض ما حكاه أولا وآخرا الميسية أن المشهور بين الأصحاب أنها ليست بيعا محضا ، ولكنها تفيد فائدته ، بل في المسالك والروضة في أثناء كلام له دعوى إطباقهم على أنها ليست بيعا حال وقوعها وإن كان كلامه خصوصا في الأول منهما في غاية التشويش بل لا يخلو بعضه من التدافع أو عدم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٢ من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث ١٣.

٢١٦

الوجه ، كما لا يخفى على من لاحظه مع التأمل ، وحينئذ فإطلاق البيع عليها مجاز أو على إرادة المبادلة التي هي أحد إطلاقاته كما عرفته سابقا وبالجملة فتنزيل جميع كلمات الأصحاب على إرادة الإباحة من حيث الملك ، نحو قولهم إباحة المناكح والمساكن والمتاجر ، وأن المراد عدم كونها بيعا منعقدا وموجبا أي لازما كالبيع بالصيغة لا يخلو من تجشم ، بل لعل تنزيلها أو جملة منها على ما يوافق ما سمعته من النهاية أولى على معنى أن الصيغة شرط في صحة البيع ، فلا بيع صحيح بالأفعال مثلا ، لقصورها عن ذلك ، وما شابهه مما يفيد الملك والتمليك المعاوضي باعتبار انهما وما شابههما ، لما كانا من أعظم المقاصد التي بها معاش للإنسان ، وإنشاء قصدهما من الأمور الباطنة أراد الشارع ضبطها ، بما يرتفع معه النزاع والمخاصمة ، وليس إلا البيان الذي علمه الله تعالى للإنسان ، بخلاف الأفعال ونحوهما مما يدل على المقصود بالكناية فلم يجعلها ضابطا لذلك.

وعليه يحمل‌ قوله عليه‌السلام « إنما يحلل ويحرم الكلام » (١) على معنى إرادة التحليل التابع للملك الذي من شخص إلى آخر ، فيحل لكل واحد ما كان حراما عليه ، ويحرم على كل واحد منهما ما كان حلالا له ، لزوال ملك وحصول آخر وإنما تفيد الافعال إباحاة مجانية أو بأعواض كذلك ، ولا تفيد ملكا وتمليكا ، فمن أراد إباحة شي‌ء لآخر كان له الاكتفاء في الدلالة عليها بالأفعال مثلا ، ومن ذلك المعاطاة ويكون المراد هذا ما ذكروه من الإباحة ، لا أنها هي حكم ما قصد به المتعاطيان الملك على جهة البيع ، جهلا منها بالشرع أو ابداعا ، ضرورة كون المتجه في مثله الفساد ، بناء على شرطية الصيغة في الصحة ، كما‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من أبواب أحكام العصور الحديث ٤.

٢١٧

صرحوا به في تحقيق البيع الفاسد الذي حكموا بحرمة التصرف فيه ، وضمان ما يقبض به لا الإباحة التي هي كإباحة الطعام التي لم يقصداها ، بل قصدا غيرها ، فما وقع لم يقصد ، وما قصد لم يقع ، مع‌ قولهم عليهم‌السلام (١) « لكل امرء ما نوى » و « لا عمل إلا بنية » (٢) و « إنما الأعمال بالنيات » (٣) ومن ذلك يتجه تحرير المقام بتصوير صور.

أحدها قصد الإباحة بالأفعال ونحوها مصرحا بذلك ولو بالقرائن الدالة على إرادة الإباحة المطلقة ، والتسليط على التصرف نحو التسليط بالبيع وغيره مما يفيد الملك ، بل ربما يذكر لفظ البيع ونحوه مريدا به الدلالة على هذا القسم من الإباحة ، في مقابلة الإباحة لقسم خاص من التصرفات ، لا أن المراد منه الملك والتمليك البيعي مثلا ، وهذه الصورة تسمى بالمعاطاة ، ومفادها إباحة مطلقة للمال بعوض كذلك على نحو المعاوضة بالتمليك ، والظاهر أنه لا خلاف في مشروعيته ولو على جهة المعاوضة ، كما لا خلاف في مشروعيته بدونها ، لعموم تسلط الناس على أموالهم ، وبطيب أنفسهم ، والتجارة عن تراض ونحوها.

ثانيها قصد البيع بذلك على إرادة النقل البيعي من غير تعرض للزوم وعدمه ، أو مع قصد عدمه ، والمتجه الفساد فيه بناء على اشتراط الصيغة فيه ضرورة أن المشروط عدم عند عدمه ، كما صرح به الفاضل في النهاية بل لعله هو مقتضى كل من جعل البيع عبارة عن العقد ، أو صرح باشتراط الصيغة فيه إذ حمله على إرادة اشتراط ذلك في اللزوم يأباه جملة من عباراتهم ،

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ٥ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ٣ و ١٠.

(٣) الوسائل الباب ٥ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ١٠.

٢١٨

ولذا جعلوا المعاطاة حيث تصح إنما تفيد الإباحة ، ولو كانت تفيد البيع عندهم ، لكان ذلك أولى بالبيان ، خصوصا عند تعرضهم لفساد كلام المفيد حتى رماه بعضهم بالمتروكية ونحوها.

نعم قد يناقش في أصل الاشتراط المزبور إن لم يقم إجماع عليه بأنه لا دليل عليه ، بل الدليل من السيرة القطعية ، بل في شرح الأستاد والإجماع بقسميه على خلافه ، بل من أدخله في الضروريات لم يكن مغربا ، وإن كان فيه ما فيه ، مضافا إلى صحة الإطلاق ، وعدم صحة السلب ، وأصالة عدم النقل وعدم الاشتراك اللفظي ، بل لعل الحمل على الاشتراك المعنوي بينها وبين ذي الصيغة ، خير من الحمل على المجاز ، بل لعل ذلك قطعي ضرورة أن الصيغة على تقدير اعتبارها إنما هي شرط شرعي ، لا مدخلية له في تحقق مسمى الاسم ، كما عرفته سابقا في معنى البيع ، فيكفي في نفيه أصالة عدمه وآية ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) لا تقتضي عدم تحقق الاسم بدون العقد ، بل لا تقتضي اشتراط الصحة به أيضا فالآية ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٢) وغيرها مما يدل على مشروعية مسماه مطلقا بحالها لا معارض لها ، أقصاه عدم اللزوم بناء على انحصار دليله فيها ، وأن‌ قوله عليه‌السلام « البيعان بالخيار ما لم يفترقا » (٣) ونحوه لا يدل عليه بعد كون المراد منه ثبوت الخيار من حيث المجلس ، الذي لا ينافي ثبوته في بعض افراد البيع من جهة أخرى كما أن اللزوم من جهته في حال الافتراق لا ينافي ثبوته من جهة أخرى كالعيب أو عدم دليل اللزوم ، ومعلومية اعتبار الصيغة في الجملة بالإجماع‌

__________________

(١) سورة المائدة الآية ١.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٧٥.

(٣) الوسائل الباب ١ من أبواب الخيار الحديث ١.

٢١٩

أو الضرورة لا تقتضي أزيد مما هو متيقن من اقتضائها اللزوم ، فيبقى غيره على أصالة العدم ، بعد تناول الإطلاقات ، ودعوى أن اللزوم يكفي فيه استصحاب الملك ، ونحوه يدفعها معارضته باستصحاب بقاء سلطة المالك ، التي ينبغي الاقتصار في الخروج عنها على المتيقن ، وهو الملك المتزلزل دون غيره ، على أن الإجماع على عدم اللزوم في الفرض كاف عن تكلف ذلك ، لكن الانصاف عدم خلو دعوى الإجماع المزبور في الفرض المذكور من نظر ، بل وكذا المعارضة المزبورة كما ستعرف ذلك فيما يأتي.

نعم دعوى الاستدلال على اعتبار الصيغة في الصحة ، بأنه أوفوا بظهور كون المراد من العقود فيها ، الإشارة إلى البيع والإجارة ونحوهما مما هو متعارف في ذلك الزمان ، فيقتضي حينئذ بعد معلومية صدق البيع على الفرض ، إذ لا بيع صحيح إلا وهو عقد ، أيضا كون المراد من الآية ما يصح وما لا يصح منها ، ولذا كانت شاملة للعقود الجائزة واللازمة ، يدفعها منع كون المراد منها ذلك ، إذ من المحتمل أو الظاهر كون المراد منها ، إرادة بيان اللزوم في العقود ، دون خصوص الصحة ولذا كان هو الأصل في العقود إلا ما خرج بالدليل ، فلا شمول فيها حينئذ للعقود الجائزة واللازمة ، كما لا اقتضاء فيها بأن لا بيع صحيح إلا ما كان عقدا ، وخبر « إنما يحلل ويحرم الكلام » (١) مع انه لا دلالة فيه ، على اللفظ المخصوص ، بل هو شامل لغيره مما هو عندهم ، بحكم المعاطاة ، وأنه معلوم الانتقاض من الإباحات التي لا تتبع الملك ، إذ من الواضح كفاية الأفعال بل إذن الفحوى فيها.

يمكن حمله بعد قصوره عن معارضة ما عرفت من وجوه ، على‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث ٤.

٢٢٠