جواهر الكلام - ج ٢٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وتوهم أنها من المعجزات المثبتة للنبوات من غير استناد إلى الشرعيات بحروز أو دعوات أو نحوها من المأثورات.

وأما ما أخذ من الشرع كالعوذ والهياكل وبعض الطلسمات فليست منه ، بل هي بعيدة عنه وكان غرض الشارع المنع من التدليس والتلبيس في الأسباب على نحو منعه في المسببات ، وأن حدوث الأفعال من غير سبب يبين ، مخصوص برب العالمين ، لكنه كما ترى لا يرجع إلى محصل وأين العرف العام وتمييز جميع أقسام السحر الذي هو علم عظيم طويل الزيل كثير الشعب لا يعرفه إلا الماهرون فيه ، وليس مطلق الأمر الغريب سحرا ، فان كثيرا من العلوم كعلم الهيئة والجفر والترارجية وهو أسرار الجفر وغيرها يظهر من العالم بها بعض الآثار العجيبة الغريبة ويكفيك ما يصنعه الإفرنج في هذه الأزمنة من الغرائب ، وليست هي من السحر الحرام قطعا ، هذا وقد ذكر بعضهم أنه أقسام ثمانية.

الأول سحر الكلدانيين ، وهم قوم يعبدون الكواكب ، ويزعمون أنها المدبرة لهذا العالم ، إلا أنهم فرق ثلاثة الأولى زعمت أن الأفلاك والكواكب واجبة الوجود لذاتها وأنها هي المدبرة لهذا العالم والخالقة له.

والثانية أنها مخلوقة إلا أنها قديمة لقدم العلة التامة المؤثرة في وجودها ، فالساحر عند الفرقتين هو الذي يعرف القوى العالية الفعالة بسائطها ومركباتها ، ويعرف ما يليق بكل واحد من العوالم السفلية ، ويعرف المعدات ليعدها والعوائق لينجيها ، معرفة بحسب الطاقة البشرية ، وبذلك يكون متمكنا من استجذاب ما يخرق العادة ، ولعله إلى ذلك أشار بطليموس في قوله علم النجوم منك ومنها.

الفرقة الثالثة إنها حادثة مسبوقة بالعدم إلا أن خالقها خلقها عاقلة مختارة وفوض تدبير هذا العالم إليها ، والساحر حينئذ هو من‌

٨١

عرفته بالتقريب السابق.

القسم الثاني سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية ، وهو يكون بتجريد النفس عن الشواغل البدنية ، وعن مخالطة الخلق وأمورهم ، وبه يحصل تأثيرها في جميع ما تريده من الأشياء ، وتوجد صورته في ذهنها ويقتدر بذالك على الإتيان بما هو خارق العادة ، نعم النفوس في ذلك مختلفة ، فمنها القوية المستعلية على البدن الشديدة الانجذاب إلى عالم السموات ، بل كأنها من الأرواح السماوية ، وهذه لا تحتاج في التأثير بهذا العالم إلى آلة وأداة ، ومنها ما لا تكون كذلك فتحتاج إلى تصفية وتجريد ، وربما استعانت على ذلك بالرقي المعلومة ألفاظها ، بل وغير المعلومة باعتبار حصول دهشة للنفس وحيرة ، وربما حصل في أثناء ذلك انقطاع عن المحسوسات وإقبال على ذلك الفعل وجد عظيم ، ويقوى التأثير النفساني وربما استعانت على ذلك أيضا بالدخنة ، على الوجه الذي سمعته أيضا في الرقي ، وربما أشار إلى ذلك في الدروس لبعض ما سمعته ، كما أنه أشار بعقاقير الكواكب إلى ما يستعمله بعض هؤلاء الكفرة في تسخير بعض الكواكب السيارة بدخنة بعض العقاقير وقراءة بعض الرقي ونحو ذلك ، وعلى كل حال فالسبب في تأثير النفس إذا صفت هذه الخوارق ، إما أنها مخلوقة كذلك أو لأنها إذا صفت صارت قابلة للأنوار الفائضة ، من الأرواح السماوية والنفوس الفلكية ، وتتقوى بها على الأمور الغريبة ، أو لانجذاب ما يشبهها إليها من النفوس المفارقة فتتعاضد ، على إيقاع الفعل الغريب أو غير ذلك.

القسم الثالث الاستعانة بالأرواح الأرضية ، وهي الجن فان اتصال النفوس الناطقة بها أسهل ، من اتصالها بالأرواح السماوية ، ولشدة المشابهة والمشاكلة ، وإن كان التأثير مع الاتصال بتلك الأرواح أعظم‌

٨٢

بل هو كالقطرة بالنسبة إلى البحر ، وقد قالوا : أن الاتصال بها يحصل بإعمال سهلة قليلة ، من الرقي والدخن والتجريد ، وهذا النوع هو المسمى بالعزائم ، وعمل تسخير الجن.

القسم الرابع التخيلات والأخذ بالعيون ، التي لا ينكر اغلاطها في رؤية الساكن متحركا وبالعكس ، والصغير كبيرا وبالعكس ، فالمشعبذ الحاذق ، يظهر عمل شي‌ء يشغل أذهان الناظرين به ، ويأخذ عيونهم إليه ، حتى إذا اطمأن باستغراق نظرهم إليه ، عمل شيئا آخر بسرعة شديدة ، وبذلك يحصل عند الناظر أمر عجيب ، وسببه الاشتغال بما أظهره أولا والسرعة المزبورة ، وهذا هو المراد من قولهم ، أن المشعبذ يأخذ بالعيون لأنه في الحقيقة يأخذ بالعيون إلى غير الجهة التي يحتال ، وكلما كان أخذه للعيون والخواطر وجذبه لها إلى سوى مقصوده أقوى ، كان أحذق في عمله ، كما انه كلما كانت الأحوال التي تفيد حسن البصر نوعا من أنواع الخلل أشد ، كان هذا العمل أحسن ، مثل أن يجلس المشعبذ في مكان مضي‌ء جدا ، أو مظلم كذلك أو ذي ألوان مشرقة ، تفيد البصر كلالا واختلالا.

القسم الخامس الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات على النسب الهندسية تارة ، وعلى ضرورة الخلاء أخرى ، مثل تصوير فارسين يقتل أحدهما الآخر ، وتصوير فارس على فرس في يده بوق ، كلما مضت ساعة من النهار ، ضرب البوق من غير أن يمسه أحد ، ومنها الصور التي تصورها الروم وأهل الهند ، حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية ، وحتى يفرق فيها بين ضحك السرور وضحك الخجل وضحك الشامت ، ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات ، بل قيل كان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب كما انه قيل أن من‌

٨٣

هذا الباب علم جر الأثقال بآلة خفيفة.

القسم السادس الاستعانة بخواص الأدوية المزيلة للعقل ، والدخن المسكرة ، فإنه لا سبيل إلى إنكار الخواص.

القسم السابع تعليق القلب ، كما لو ادعى الساحر أنه عرف الاسم الأعظم ، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور ، فإذا كان السامع لذلك ضعيف العقل ، قليل التمييز اعتقد أنه حق ، وتعلق قلبه بذلك ، وحصل له خوف ورعب ، حتى ضعفت قواه الحساسة ، وتمكن الساحر بذلك من فعل ما يشاء.

القسم الثامن السعي بالنميمة ، والتضرير من وجوه خفية لطيفة وهذا شائع في الناس ، لكنه بعد الإغضاء عما في ذكر بعض الأقسام لم يستغرقها ، لترك ما يؤثر المحبة والبغضاء ، وربط الرجل عن امرأته ، ونحو ذلك مما صنعه (١) سحرة النجاشي في عمارة بن وليد لما نفخوا الزيبق في إحليله ، فصار مع الوحوش ولم يأنس بالناس حتى أن قريشا لما احتالت في قبضه اضطرب بين أيديهم حتى مات ، وغير ذلك من أصناف السحر وأنواعه وعن الصادق عليه‌السلام (٢) انه لما سأله الزنديق عن السحر ما أصله ، وكيف يقدر الساحر على ما يوصف من عجائبه وما يفعل ، قال : « إن السحر على وجوه شتى ، منها بمنزلة الطب ، كما ان الأطباء وضعوا لكل داء دواء ، فكذلك علماء السحر احتالوا لكل صحة آفة ، ولكل عافية سقما ، ولكل معنى حيلة ، ونوع منه أخر خطفة وسرعة ، ومخاريق وخفة ، ونوع منه ما يأخذ أولياء الشياطين منهم ، قال : فمن أين علم الشياطين السحر؟ قال : من‌

__________________

(١) البحار ج ١٨ ص ٤١٦ الطبع الحديث.

(٢) الاحتجاج ج ٢ ص ٨١.

٨٤

حيث عرف الأطباء الطب ، بعضه تجربة وبعضه بعلاج ، إلى أن قال : أفيقدر الساحر أن يحول الإنسان بسحره في صورة الكلب أو الحمار أو غير ذلك؟ قال : هو أعجز من ذلك وأضعف من أن يغير خلق الله إن من أبطل ما ركبه الله وصوره وغيره ، فهو شريك لله في خلقه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، لو قدر الساحر على ما وصفت ، لدفع عن نفسه الهرم والآفة والأمراض ، وينفي البياض عن رأسه والفقر عن ساحته ، وإن من أكبر السحر النميمة ، يفرق بها بين المتحابين ، ويجلب بها العداوة بين المتصافين ، ويسفك بها الدماء ، ويهدم بها الدور ، ويكشف الستور والنمام أشر من وطئ على الأرض بقدم ، فأقرب أقاويل السحر من الصواب أنه بمنزلة الطب ، إن الساحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النساء ، فجاء الطبيب فعالجه بغير ذلك العلاج فأبرأه إلى آخره ».

لكن الانصاف عدم ثبوت حرمة ما رجع منه إلى الخواص ، حتى خواص الحروف التي لا سبيل إلى إنكارها ، وما يحصل منه بصفاء النفس بالطرق الشرعية الذي يعد مثله كرامة ، ولعله من باب يا عبدي أطعني أو نحوه ، وما رجع منه إلى تركيب الأجسام على النسب الهندسية أو غيرها ، إلا إذا استلزم إضرارا بالغير أو تدليسا بدعوى نبوة ونحوها ، للأصل والسيرة المستمرة ، وعدم ثبوت كون مثله سحرا ، وبعد تسليمه فلعل المنساق من نصوص الحرمة غيره ، من افراد التخييل والنفث ، وتسخير الأرواح الأرضية ، أو السماوية ونحو ذلك ، بل لعل المشكوك فيه أنه منها أو من المحرم كذلك أيضا ، فما نجده في بعض الكتب من خواص بعض الطلسمات ، وبعض الرقي وبعض الأجسام لا بأس حينئذ باستعماله ، وإن كان الأحوط تركه أيضا ، فتأمل جيدا والله أعلم.

٨٥

وعلى كل حال فلا خلاف في كفر الساحر بأحد الأقسام الأول كما لا خلاف ولا إشكال في كفره مع الاستحلال ، للقسم المحرم منه فيجري عليه حكم المرتد من القتل ونحوه اما غير المستحل فقد يظهر من جماعة عدم القتل به ، خلافا لبعض فجعله حدا له مطلقا ، ولعله لإطلاق الأدلة ، ولا يخلو من توقف ، ويأتي تمام الكلام فيه في باب الحدود إنشاء الله ، ودعوى أنه بجميع أقسامه كفر كما يقضي به بعض الأخبار بل هو ظاهر آية (١) « ( هارُوتَ وَمارُوتَ ) » أيضا ويدفعها معلومية حصر أسباب الكفر في غيره ، فالمراد حينئذ المبالغة في معصيته وأنه بسبب إظهار الساحر ما لا ينبغي صدوره ، إلا من الله صار كالشريك له فأطلق عليه اسم الكفر والشرك ، لا لأنه من أسبابه ولا للمشاركة له في أن حكمه القتل ، على أن آية « ( هارُوتَ وَمارُوتَ ) » لا تخلو من إجمال وربما تلحق بالمتشابه باعتبار‌ ما ورد فيها (٢) من النصوص ، فان منها ما تضمنت « أنهما ملكان نزلا إلى الأرض ، بعد أن جعل الله فيهما ما في بني آدم ، من القوة الشهوية ونحوها ، لما عابوا عليهم بكثرة المعاصي فافتتنا بامرأة ، وأرادا الزنا فيها فاقترحت عبادة الوثن ، وشرب الخمر وقتل النفس ، ففعلا الجميع ، ثم أراداها بعد ذلك فلم يجداها ، وقد رفعها الله ومسخها النجم المسمى بزهرة كما مسخ الرجل العشار سهيلا فغضب الله عليهما وقال : لهما اختارا عذاب الدنيا ، أو الآخرة فأشار كل واحد منهما على الآخر بواحد ، وبقيا محبوسين في أرض بابل ثم علقا بين السماء والأرض منكوسين وأخذا في تعليم الناس السحر » وهو وإن كان غير مناف ، لعصمة الملائكة باعتبار تغير خصوص خلقة الملكين‌

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٠٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٥٩ ص ٣٠٥ الطبع الحديث.

٨٦

لكنه مناف لما دل (١) على عدم بقاء الممسوخ أزيد من ثلاثة أيام وان الله تعالى لا يمسخ أعداءه أنوارا في السماء يهتدي بها ، وإنما سهيل والزهرة الممسوختان دابتان في البحر بل ظاهر بعض العامة فضلا عن الخاصة البراءة من ظاهر هذا الخبر وإنه إن صح فهو رمز من رموز الأوائل أي على إرادة النفس والهوى وافتتانهما بزهرة الحياة الدنيا ونحو ذلك ، مما يتم به المعنى المزبور ومنها (٢) ما تضمن انهما نزلا لما كثر في الناس السحر والتمويه لرفع الالتباس عنهم وتعليمهم انه سحر وأن السحر كذا وكذا فافتتن الناس بهما ، أو انهما نزلا مع ذلك ، لابتلاء الناس واختبارهم ومعرفة المطيع منهم والعاصي بتعليم الناس علم السحر ، مع النهي عن عمله ، وهو أصح ما وصل إلينا من طرقنا ، وعلى كل حال فالمراد من الكفر فيها إنما هو بالنسبة إلى بعض أقسام السحر أو المشابهة التي ذكرناها والله أعلم.

وكيف كان فقد ظهر لك مما ذكرناه من النص وغيره أن السحر بعضه مؤثر حقيقة وبعضه مؤثر تخييلا ، بل هو مقتضى قوله تعالى (٣) ( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ) ومن قوله تعالى (٤) ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) سواء أريد به الربط أو البغضاء ، ولا ينافيه (٥) قوله ( وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ ) ضرورة المراد ان الضرر بعلمه وقادر على دفع تسبيبه الضرر ، كغيره من المسببات فإنه لا يزيد على نار إبراهيم عليه‌السلام ، التي قال : لها ( كُونِي بَرْداً

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٩ ص ٣٢٣.

(٢) الوسائل الباب ٢٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٤ و ٥.

(٣) سورة طه الآية ٦٦.

(٤) سورة البقرة الآية ١٠٢.

(٥) سورة البقرة الآية ١٠٢.

٨٧

وَسَلاماً )‌ فمحى تسبيبها الإحراق ، وجعلها مسببة للبرد ولو لا أن يقول سلاما لهلك إبراهيم عليه‌السلام ، من شدة بردها ، وهذا ونحوه المراد من (١) قوله تعالى ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) على انك قد عرفت أن من جملة أقسامه ، التسخير المشاهد بالوجدان ودعوى أن السحر ما أراه الساحر للجن من التخيلات التي أوجبت طاعتهم له ، يدفعها أن ظاهرهم كون السحر نفس هذا الأثر الغريب الخارق للعادة ، كما أنه يدفع ما ذكره بعضهم من أن له تأثيرا من جهة الوهم أنه قد يؤثر فيمن لا يعلم ، بل في بعض النصوص أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) قد سحر فأثر فيه في بدنه ولذلك نزل المعوذتان بل لعله المراد من قوله تعالى ( النَّفّاثاتِ فِي الْعُقَدِ ) بل ومن قوله ( حاسِدٍ إِذا حَسَدَ ) بناء على أن من أقسامه تأثير النفوس الشريرة ولا منافاة في ذلك للعصمة والنبوة ، إذ ليس هو إلا كتأثير السيف به وتسليط الحيات والعقارب عليه ، نعم هما مانعان من تأثير السحر فيه في عقله ، ونحوه مما ينفر الناس عنه ، ويرتفع وثوقهم بأقواله ، ودعوى أن تسليط السحر عليه ولو على بدنه يورث ذلك واضحة المنع ، فان هذا القسم منه كغيره من الأسباب التي لم يرفع تأثيرها فيهم عليه‌السلام وما عندهم من الإحراز والدعوات الدافعة غير مناف ، ضرورة أنه عندهم أيضا ما يحترزون به عن كل شي‌ء ، لكن قد يؤمرون بعدم استعماله وعلى كل حال ، فقد قيل أنه لا ثمرة فقهية للنزاع في هذه المسألة ، إذ لا شك في عقابه وكفره وقتله ، إن كان مستحلا أو مطلقا ، وإلزامه‌

__________________

(١) سورة رعد الآية ٣٩.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٤٣٤.

٨٨

بالدية ان قتل وبعوض ما يفوت سواء كان له حقيقة أو لا ، لأنه إما من باب العلة أو من القسم الثالث من السبب ، وهو توليد المباشرة توليدا عرفيا لا حسيا ولا شرعيا ، ودعوى أن الفقهاء بنوا ثبوت القصاص على أن للسحر حقيقة ممنوعة ، كدعوى أن الثمرة فيه الإقرار بأنه قد قتل زيدا بسحره مثلا فإنه لا طريق لإثباته إلا بذلك ، فبناء على أن له حقيقة ينقاد به ، وإلا فلا ، فإنه يمكن منعها ، ويؤخذ بإقراره على القولين ، فإذا قال : قتلته بسحر يقتل غالبا أو نادرا ، ولكن قصدت القتل به قيد به ، وإن قال : إني لم أقصد قتله بالنادر ، أو أخطأت فذكرت اسمه مثلا ومرادي غيره ، أخذت الدية منه إلا انه لا يخفى عليك ما في الجميع ، ومن هنا قال الأستاد في شرحه : أن الثمرة في البحث عن التحقيق والتخييل بإمكان القصاص من الساحر أو أخذ الدية منه ، بناء على التحقيق والتخييل المؤثر دون غيره ، وإمكان ترتب لزوم الحلف والكفارات عليه ، لو تعلق الالتزام بعدم الفعل بناء على الأولين دون الأخير.

ومنه الكهانة بالكسر والفتح ، وهي تعاطي الأخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان ، كما في مختصر النهاية وفي المحكي عنها زيادة وقد كان في العرب كهنة ، فمنهم من كان يزعم أن له تابعا من الجن يلقي إليه الأخبار ، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها ، من كلام من يسأله أو فعله أو حاله ، وهذا يختص باسم العراف ، وعن المغرب ان الكهانة في العرب قبل المبعث يروى أن الشياطين كانت تسترق السمع فتلقيه إلى الكهنة ، وفي القواعد أن الكاهن هو الذي له رائد من الجن ، يأتيه بالأخبار ، وفي التنقيح انه المشهور كما كان لعمر بن يحيى رائد من‌

٨٩

من الجن وهو أول من غير البحار وسيب السوائب وغير دين إسماعيل على نبينا وآله وعليه السلام » وعند الحكماء أن من النفوس ما تقوى على الاطلاع على ما سيكون من الأمور ، فإن كانت خيرة فاضلة ، فتلك نفوس الأنبياء والأولياء وإن كانت شريرة فهي نفوس الكهنة.

وعلى كل حال فعن إيضاح النافع ان تعليمها وتعلمها واستعمالها حرام في شرع الإسلام ، وعن ظاهر مجمع البرهان انه لا خلاف في تحريم الأجرة ، كما عن الكفاية لا أعرف خلافا بينهم في تحريم الكهانة ، والرياض أن الدليل عليه الإجماع المصرح به في كلام جماعة من الأصحاب ، وفي خبر (١) مستطرفات السرائر « من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذاب يصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله من كتاب » وفي خبر (٢) الخصال « من تكهن أو تكهن له فقد بري‌ء من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » وفي نصوص (٣) آخر « ان أجر الكاهن سحت » وفي شرح الأستاد ، الكهانة ككتابة عمل يقتضي طاعة بعض الجان ، وبالفتح صناعة وعلى كل حال فعلمها وتعلمها وتعليمها والأجرة عليهما ، مع قصد علمها وعملها والأجرة عليه حرام ، بالإجماع والأخبار إلا أن ما ذكره من كونها بالكسر العمل وبالفتح صناعة لم أجده لغيره نعم في محكي المصباح المنير كهن يكهن من باب قتل كهانة بالفتح ثم قال : وقيل وكهن بالضم والكهانة بالكسر الصناعة ، وفي الصحاح كهن يكهن كهانة مثل كتب يكتب كتابة وإذا أردت أنه صار كاهنا قلت : كهن بالضم كهانة بالفتح.

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٦ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ٢٦ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٢.

(٣) المستدرك ج ٢ ص ٤٣٥.

٩٠

وعلى كل حال ، فلا ريب في حرمتها ، ولكن في المفاتيح من المعاصي المنصوص عليها ، الاخبار عن الغائبات على البت ، لغير نبي أو وصي نبي ، سواء كان بالتنجيم أو الكهانة أو القيافة أو غير ذلك ، ثم ذكر أخبارا دالة على تحريم الكهانة والتنجيم ، ثم قال : وإن كان الاخبار على سبيل التفؤل من دون جزم ، فالظاهر جوازه لأن أصل هذه العلوم حق ، ولكن الإحاطة بها لا يتيسر لكل أحد ، والحكم بها لا يوافق المصلحة ، وهو ظاهر في جواز الكهانة على طريق التفؤل ، ولم نعرف به قائلا بل هي على المشهور في تفسيرها ، بناء على ما سمعته سابقا في السحر من أقسامه ، فجميع ما دل على حرمته دال على حرمتها وعطفها على الساحر في الخبر لعله من باب عطف الخاص على العام ، وفي المسالك هنا أنها قريبة منه لكن في السحر ما يقتضي دخولها فيه كالدروس وكونها حقا على فرض تسليمه ، بل هو ممنوع كل المنع بالنسبة إليها ، لا ينافي ذلك للمصالح التي يعلمها رب العباد ، نعم قد يقال بعدم الحرمة في العلم والتعلم والتعليم ، لا للعمل للأصل وغيره ، بعد انصراف الكهانة والكاهن للعمل والعامل ، اللهم إلا أن يقال بعدم انفكاك العلم عن العمل هنا ، وفيه منع ، وما سمعته من الإيضاح يمكن إرادة العمل منه ، ولو فرض اتباع بعض الجن لبعض الناس من دون تسبيب منهم ، وإخبارهم ببعض الأمور ، يمكن أن لا يكون كهانة ، وإن أخبر بما أخبره به ، مع الاسناد عنه وعدمه معتقدا به أو لا ، لظهور الأدلة في غيره ، بل قد يقال بعدم حرمة أخذ الأجرة على استعلامه ، في أمر من الأمور إلا أن الاحتياط يقتضي خلافه ، بل الانصاف عدم خلوه من الإشكال ، لإمكان استفادة حرمة مطلق الاخبار بالغيب من هذا الطريق ، وأنه من وحي الشياطين إلى أوليائهم زخرف القول غرورا‌

٩١

نعم قد يقال : لا بأس به بالعلوم النبوية ، كالجفر ونحوه مما يمنح الله تعالى به أوليائه وأحبائه ، مع أنه لا ينبغي لمن منحه الله ذلك ابداؤه وإظهار آثاره عند سواد الناس وضعفائهم الذين قد يدخلهم الشك في النبوة والإمامة من ذلك ، ونحوه باعتبار ظهور مثل ما يحكى لهم من المعجز على يد غيرهم ، فيجد الشيطان بابا له عليهم من هذه الجهة ، ولعله لذا كان الأولياء في غاية الحرص على عدم ظهور شي‌ء من الكرامات لهم ، والله هو العالم.

ومنها القيافة وهي على ما في المسالك الاستناد إلى علامات ومقادير ، يترتب عليها إلحاق بعض الناس ببعض ونحوه ، وإنما تحرم إذا جزم به ، أو رتب عليه محرما ، قلت : وكأنه لا خلاف في تحريمها نحو الكهانة ، بل لعلها فرد منها فتندرج تحت ما دل على حرمتها ، مضافا إلى ما عن المنتهى وغيره من الإجماع ، صريحا وظاهرا على ذلك ، وإلى منافاتها لما هو كالضروري من الشرع ، من عدم الالتفات إلى هذه العلامات ، وهذه المقادير وإن المدار في الإلحاق بالنسب ، الإقرار أو الولادة على الفراش أو نحوهما ، مما جاء من الشرع بل الوجدان أعدل شاهد على عدم مطابقة القيافة للنسب الشرعي ، نعم ظاهر ما سمعته في المسالك قصر حرمتها على الأمرين السابقين ، وحينئذ فتعلمها وتعليمها مع عدم الجزم بمقتضاها وعدم ترتيب محرم عليها جائز ، ولعله كذلك للأصل وغيره بل وسوس في الحدائق في أصل الحرمة.

ل‌ خبر (١) زكريا بن يحيى بن التيهان المصري أو الصيرفي « قال : سمعت علي بن جعفر عليه‌السلام يحدث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين فقال : والله لقد نصر الله تعالى أبا الحسن الرضا عليه‌السلام ،

__________________

(١) أصول كافي ج ١ ص ٣٢٢ الطبع الحديث.

٩٢

فقال : له الحسن إي والله جعلت فداك لقد بغى عليه اخوته ، فقال : علي بن جعفر أي والله ونحن عمومته بقينا عليه ، فقال له الحسن : جعلت فداك كيف صنعتم ، فاني لم أحضركم قال : فقال له اخوته : ونحن أيضا ما كان فينا إمام قط حائل اللون فقال الرضا عليه‌السلام : هو ابني قالوا : فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قضى بالقيافة ، فبيننا وبينك القيافة فقال : ابعثوا أنتم إليهم ، وأما أنا فلا ، ولا تعلموهم لما دعوتموهم إليه ، وليكونوا في بيوتكم فلما جاؤا أقعدونا بالبستان ، واصطف عمومته وإخوته ، وأخذوا الرضا عليه‌السلام وألبسوه جبة صوف وقلنسوة منها ، ووضعوا على عنقه مسحاة ، وقالوا له : ادخل البستان كأنك تعمل فيه ، ثم جاؤا بأبي جعفر عليه‌السلام ، فقالوا : الحقوا هذا الغلام بأبيه ، فقالوا : ليس له ههنا أب ، ولكن هذا عم أبيه ، وهذا عمه ، وهذه عمته ، وإن يكن له هنا أب فهو صاحب البستان فان قدميه وقدميه واحدة ، فلما رجع أبو الحسن عليه‌السلام قالوا : هذا أبوه ، قال : علي بن جعفر : فقمت فمصصت وجه أبي جعفر عليه‌السلام ، ثم قلت له : أشهد أنك إمامي عند الله عز وجل » باعتبار اجابة أبي الحسن عليه‌السلام إلى حكم القيافة وإقرارهم على ما حكوه من قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها ، وفيه مع قصور الخبر عن معارضة ما عرفت من وجوه ، معارض ، باحتمال كون‌ قوله عليه‌السلام « ابعثوا أنتم إليهم » إلى آخره لعدم المشروعية ، لا لدفع التهمة بل لعل ذلك منه لعلمه بصدق القيافة هنا ، واستظهار بما اقترحوه لإثبات الحجة به عليهم ، وإلا فلا يتخيل من له أدنى درية بشريعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدم جواز الأخذ بها والعمل عليها على وجه تترتب عليه المواريث والأنكحة ونحوها وجودا وعدما ، بل مشروعية اللعان أوضح‌

٩٣

شي‌ء على عدم اعتبار القيافة ، بل لا يخلو الالتفات إليها ، ولو مع عدم ترتب شي‌ء عليها من الكراهة ، قال الصادق عليه‌السلام (١) في خبر أبي بصير « من تكهن أو تكهن له ، فقد بري‌ء من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : قلت : فالقيافة؟ قال : ما أحب أن يأتيها وقيل ما يقولون شيئا ، إلا كان قريبا مما يقولون فقال القيافة فضلة من النبوة ذهبت من الناس حيث بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » الحديث.

ومنها الشعبذة المحرمة ، بالإجماع المحكي والمحصل وبالدخول تحت الباطل والإغراء والتدليس واللهو وغيرهما ، بل لعلها من السحر على بعض الوجوه ، التي عرفتها فيه ، لأنها هي على ما فسرها غير واحد بل نسب ذلك إليهم الحركات السريعة ، التي تترتب عليها الأفعال العجيبة ، بحيث يخفى على الحس ، الفرق بين الشي‌ء وشبهه لسرعة الانتقال منه إلى شبهه ، فيحكم الرائي له بخلاف الواقع ، بل قد سمعت الخبر الظاهر والصريح في أنها منه ، مضافا إلى ما سمعته من تصريح البعض بكونها من أقسامه ، بل في شرح الأستاد بعد الحكم بأن فيها من القبح زائدا على الملاهي وأن الاشتغال بها من أعظم اللهو قال : لا يبعد القول بتحريم جميع الأفعال الغريبة المستندة إلى الأسباب الخفية ، ومنها عند الشهيد والمقداد السيميا وهي إحداث خيالات لا وجود لها في الحس ، للتأثير في شي‌ء آخر ، ولعلها من السحر أو شبهه.

وأما علم النجوم فقد يظهر من الكتاب والسنة صحته في الجملة نحو (٢) قوله تعالى ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) على أحد‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٦ الحديث ٢.

(٢) سورة الصافات الآية ٨٨.

٩٤

الوجوه فيها أو أظهرها (١) وقوله « ( وَالنّازِعاتِ غَرْقاً ) و ( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) » (٢) ( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ) وغير ذلك (٣) وخبر ابان بن تغلب المروي عن الاحتجاج « قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام إذ دخل عليه رجل من اليمن فسلم ، فرد عليه أبو عبد الله عليه‌السلام فقال : له مرحبا يا سعد ، فقال الرجل : بهذا الاسم سمتني أمي وما أقل من يعرفني به ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : صدقت يا سعد المولى فقال الرجل : جعلت فداك بهذا كنت القب ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا خير في اللقب إن الله تبارك وتعالى يقول (٤) في كتابه ( وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ ) ما صناعتك يا سعد؟ فقال : جعلت فداك أنا من أهل بيت ننظر في النجوم لا يقال : إن باليمن أحدا أعلم بالنجوم منا ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « فكم (٥) نقص ضوء المشتري على ضوء القمر درجة فقال‌

__________________

(١) سورة النازعات الآية ١.

(٢) سورة الواقعة الآية ٧٥.

(٣) الاحتجاج ج ٢ ص ١٠٠ الطبع الحديث.

(٤) سورة الحجرات الآية ١١١.

(٥) ما بين القوسين غير موجود في المصدر والموجود فيه‌ « كم يزيد ضوء الشمس على ضوء القمر درجة؟ فقال اليماني : لا أدري فقال صدقت فقال : فكم ضوء القمر يزيد على ضوء المشتري درجة؟ قال اليماني : لا أدري فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : صدقت قال : فكم يزيد ضوء المشتري على ضوء العطارد درجة؟ قال اليماني : لا أدري فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : صدقت ـ

٩٥

اليماني : لا أدري » فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : صدقت فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الإبل؟ فقال اليماني : لا أدري ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : صدقت فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت البقر؟ فقال اليماني : لا أدري فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : صدقت فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الكلاب؟ فقال اليماني : لا أدري فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : صدقت في قولك لا أدري فما زحل عندكم في النجوم؟ فقال اليماني : نجم نحس ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا تقل هذا فإنه نجم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو نجم الأوصياء ، وهو النجم الثاقب الذي قال الله في كتابه ، فقال اليماني : فما معنى الثاقب ، فقال : إن مطلعة في السماء السابعة وثقب بضوءه حتى أضاء في السماء الدنيا ، فمن ثم سماه الله النجم الثاقب ، ثم قال : يا أخا العرب عندكم عالم؟ قال اليماني : نعم جعلت فداك إن باليمن قوما ليسوا كأحد من الناس في علمهم ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : وما يبلغ من علم عالمهم؟ قال اليماني : إن عالمهم ليزجر الطير ويقفو الأثر في ساعة واحدة ، مسيرة شهر للراكب المحث ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فان عالم المدينة أعلم من عالم اليمن ، قال اليماني : وما يبلغ من علم عالم المدينة قال عليه‌السلام : إن علم عالم المدينة ينتهي إلى أن لا يقفو الأثر ولا يزجر الطير ويعلم ما في اللحظ الواحد مسيرة الشمس تقطع اثنى عشر برجا واثنى عشر برا واثنى عشر بحرا واثنى عشر عالما ، فقال اليماني : ما ظننت‌

__________________

قال : فكم ضوء العطارد يزيد درجة على ضوء الزهرة قال اليماني : لا أدري » ، إلى آخر الحديث.

٩٦

أن أحدا يعلم هذا وما يدري ما كنهه قال : ثم قام اليماني ».‌

وخبر (١) سعيد بن جبير المروي فيه أيضا قال : « استقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام دهقان من دهاقين الفرس ، فقال له : بعد التهنئة يا أمير المؤمنين ، تناحست النجوم الطالعات ، وتناحست السعود بالنحوس وإذا كان مثل هذا اليوم ، وجب على الحكيم الاختفاء ، ويومك هذا يوم صعب قد (٢) « انقلب فيه كوكب » وانقدح من برجك النيران ، وليس الحرب لك بمكان ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام ويحك يا دهقان المنبئ عن الآثار المحذر من الاقدار ، ما قصة صاحب الميزان ، وقصة صاحب السرطان ، وكم المطالع من الأسد والساعات من المحركات ، وكم بين السراري والذراري؟ قال : سأنظر أومأ بيده إلى كمه ، وأخرج منه أسطرلابا ينظر فيه ، فتبسم صلوات الله عليه ، وقال : أتدري ما حدث البارحة وقع بيت بالصين ، وانفرج برج ماجين ، وسقط سور سرنديب وانهزم بطريق الروم بإرمينية وفقد ديان اليهود بأيلة ، وهاج النمل بوادي النمل ، وهلك ملك إفريقية ، أكنت عالما بهذا؟ قال : لا ، يا أمير المؤمنين فقال : البارحة سعد سبعون ألف عالم وولد في كل عالم سبعون ألفا والليلة يموت مثلهم وهذا منهم وأومأ بيده إلى سعد بن مسعدة الحارثي لعنه الله ، وكان جاسوسا للخوارج في عسكر أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فظن الملعون أنه يقول خذوه ، فأخذ بنفسه فمات ، فخر الدهقان ساجدا فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ألم أروك من عين التوفيق قال : بلى يا أمير المؤمنين فقال (٣) انا وصاحبي لا شرقي ولا‌

__________________

(١) الاحتجاج ج ١ ص ٣٥٥.

(٢) في المصدر قد اتصلت فيه كوكبان.

(٣) في المصدر أنا وأصحابي لا شرقيون ولا غربيون.

٩٧

غربي » ، نحن ناشئة القطب ، وأعلام الفلك ، أما قولك انقدح من برجك النيران فكان الواجب أن تحكم لي به لا علي ، أما نوره وضيائه فعندي ، وأما حريقه ولهبه فذهب عنى ، فهذه مسألة عميقة احسبها إن كنت حاسبا ».‌

ورواه (١) قيس بن سعد بطريق آخر قال : « كنت كثيرا اسائر أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا سار إلى وجه من الوجوه ، فلما قصد أهل النهروان وصرنا بالمدائن وكنت يومئذ مسايرا له ، إذ خرج إليه قوم من أهل المدائن من دهاقينهم معهم براذين قد جاءوا بها هدية إليه فقبلها ، وكان فيمن تلقاه دهقان من دهاقين المدائن ، يدعى بسر سفيل وكانت الفرس تحكم برأيه فيما مضى ، وترجع إلى قوله فيما سلف ، فلما بصر بأمير المؤمنين عليه‌السلام قال له : يا أمير المؤمنين لترجع عما قصدت ، قال : ولم ذلك يا دهقان؟ قال : يا أمير المؤمنين تناحست النجوم الطوالع ، فنحس أصحاب السعود (٢) ولزم الحكيم في مثل هذا اليوم الاستخفاء والجلوس ، وإن يومك هذا ، يوم مميت قد اقترن فيه كوكبان قتالان ، وشرف فيه بهرام في برج الميزان ، وانقدح من برجك النيران وليس الحرب لك بمكان ، فتبسم أمير المؤمنين صلوات الله عليه ثم قال : أيها الدهقان المنبئ عن (٣) الآثار والمحذر عن الاقدار ، وما نزل البارحة في آخر الميزان ، وأي نجم حل في السرطان قال : سأنظر ذلك واستخرج من كمه اسطرلابا وتقويما ، قال له أمير المؤمنين : أنت مسير الجاريات! قال : لا ، قال : أفأنت تقضي على الثابتات قال :

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٨ ص ٢٢٩.

(٢) في المصدر وسعد أصحاب النحوس.

(٣) في المصدر المنبئ بالأخبار.

٩٨

لا ، قال : فأخبرني عن طول الأسد ، وتباعده من المطالع والمراجع ، وما الزهرة من التوابع والجوامع ، قال : لا علم لي بذلك قال : فما بين السراري إلى الدراري ، وما بين الساعات إلى المعجزات ، وكم (١) قبل شعاع المبدرات ، وكم تحصل الفجر في العذرات؟ قال : لا علم لي بذلك ، قال فهل علمت يا دهقان أن الملك اليوم قد انتقل من بيت إلى (٢) آخر بالصين ، وانقلب برج ماجين ، واحترقت دور بالزنج ، وطفح جب سرنديب ، وتهدم حصن الأندلس ، وهاج نمل الشيح ، وانهدم مراق الهندي ، وفقد ديان اليهود بايله ، وهزم بطريق الروم بإرمينية ، وعمى راهب عموريا ، وسقطت شرفات قسطنطنية ، أفعالم أنت بهذه الحوادث؟ وما الذي أحدثها شرقيها وغربيها من الفلك؟ قال : لا علم لي بذلك ، قال : وبأي الكواكب تقضي في أعالي القطب وبأيها تنحس؟ قال : لا علم لي بذلك قال : فهل علمت انه سعد اليوم اثنان وسبعون عالما في كل عالم سبعون منهم في البر ، ومنهم في البحر وبعض في الجبال ، وبعض في الغياض ، وبعض في العمران ، وما الذي اسعدهم؟ قال : لا علم لي بذلك قال : يا دهقان أظنك حكمت على اقتران المشتري وزحل لما استنار لك في الغسق ، وظهر في شعاع المريخ وتشريقه في السحر ، وقد سار فاتصل جرمه بجرم تربيع القمر ، وذلك دليل على استحقاق ألف ألف من البشر كلهم يولدون في اليوم والليلة ويموت مثلهم وأشار (٣) إلى جاسوس في عسكره لمعاوية فقال : ويموت هذا ، فإنه منهم فلما قال : ذلك ظن الرجل انه قال : خذوه‌

__________________

(١) في المصدر وكم قدر.

(٢) في المصدر إلى بيت بالصين.

(٣) في المصدر وأشار بيده.

٩٩

فأخذه شي‌ء بقلبه وتكسرت نفسه في صدره فمات لوقته ، فقال عليه‌السلام : يا دهقان ألم أرك عين التقدير في غاية التصوير قال : يا دهقان أنا مخبرك اني وصحبي هؤلاء ، لا شرقيون ولا غربيون ، إنما نحن ناشئة القطب ، وما زعمت أنه البارحة انقدح من برجي النيران ، فقد كان يجب أن تحكم معه لي لأن نوره وضيائه عندي فلهبه ذاهب عني ، يا دهقان هذه قضية عيص فاحسبها وولدها ، إن كنت عالما بالأكوار والأدوار ، قال : لو علمت ذلك لعلمت أنك تحصى عقود القصب في هذه الأجمة ، ومضى أمير المؤمنين فهزم أهل النهروان وعاد بالغنيمة والظفر ، فقال الدهقان : ليس هذا العلم مما في أيدي أهل زماننا هذا علم مادته من السماء ، » بل رواه الأصبغ بن نباتة بطريق ثالث (١) والأمر سهل‌ (٢) وخبر يونس بن عبد الرحمن قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك أخبرني عن علم النجوم ما هو : قال : هو علم من علم الأنبياء قال : فقلت : كان علي بن أبي طالب يعلمه ، فقال : كان أعلم الناس به » وخبر (٣) زرارة « عن أبي جعفر عليه‌السلام عمن ذكره قال : كان قد علم نبوة نوح بالنجوم » والخبر (٤) المروي في البحار وجادة في كتاب عتيق « قيل لعلي بن أبي طالب هل كان للنجوم أصل قال : نعم نبي من الأنبياء قال له قومه : إنا لا نؤمن لك حتى تعلمنا بداء الخلق وآجاله ، فأوحى الله عز وجل إلى غمامة فأمطرتهم (٥) حول الجبل ماء صافيا ، وأوحى الله عز وجل‌

__________________

(١) البحار ج ٥٨ ص ٢٣٢.

(٢) البحار ج ٥٨ ص ٢٣٥.

(٣) البحار ج ٥٨ ص ٢٣٥.

(٤) البحار ج ٥٨ ص ٢٣٦.

(٥) في المصدر واستنقع حول الجبل ماء صاف.

١٠٠