مستمسك العروة الوثقى - ج ٢

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٠٣

وأما في التقية فالأمر أوسع [١]. فلا يجب الذهاب إلى مكان لا تقية فيه ، وإن أمكن بلا مشقة. نعم لو أمكنه ـ وهو في ذلك المكان ـ ترك التقية وإراءتهم المسح على الخف مثلا‌

______________________________________________________

لوروده لبيان الرخصة في حال الاضطرار في الجملة في مقابل سقوط التكليف رأساً ، وكذا أمثاله من أدلة الابدال الاضطرارية ، فان منصرف الجميع ما ذكرنا. ولأجل ذلك نقول : لا يجوز البدار لذوي الاعذار. وسيجي‌ء إن شاء الله في مبحث وضوء الجبيرة بعض الكلام في المقام.

[١] كما عن البيان وجامع المقاصد والرياض وغيرها ، بل لعله المشهور. خلافاً لما عن صريح المدارك وبعض المتأخرين ، بل ظاهر كل من تمسك على مشروعية التقية بأدلة نفي الحرج والضرر ، وربما نُسب إلى الشيخ في الخلاف وكأنه لدعوى عدم الدليل عليه ، إذ لا إطلاق لخبر أبي الورد‌ الوارد في المقام كما تقدم في الضرورة غير التقية ، ومثله ما عن تفسير العياشي‌ (١) الوارد في جواز رد الشعر ـ يعني الغسل منكوساً ـ إن كان عنده أحد. مع أن في العمل به لضعفه إشكالا ، وكذا في التعدي عن مورده إلى المقام. وأشكل منه مكاتبة ابن يقطين المتقدمة‌ (٢) فإن موردها عدم المندوحة مطلقاً حتى من حيث الوقت ، بشهادة اشتمالها على الأمر بالتقية في جميع الأزمنة والأمكنة. ومثلها رواية داود الرقي‌ (٣). وأما أخبار الحث على الصلاة معهم التي عقد لها في الوسائل باباً في صلاة الجماعة‌ (٤) ، فموردها صورة الخوف في ترك الحضور في مواضع التقية ، وفي ترك العمل على‌

__________________

(١) مستدرك الوسائل باب : ١٨ من أبواب الوضوء حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ٣٢ من أبواب الوضوء حديث : ٣.

(٣) الوسائل باب : ٣٢ من أبواب الوضوء حديث : ٢.

(٤) وهي باب : ٥ من أبواب صلاة الجماعة ، ويوجد في غيرها أيضاً.

٤٠١

______________________________________________________

تقدير الحضور ، فلا تشمل صورة عدم الخوف في ترك الحضور أو ترك العمل على تقدير الحضور.

والأخبار العامة الدالة على مشروعية التقية ـ مثل : التقية ديني ودين آبائي‌ ، وأن من لا تقية له لا دين له‌ ، أو لا إيمان له‌ ، ونحوها‌ (١) ـ لا تدل على الاجزاء ، فضلاً عن شمولها لصورة المندوحة. اللهم إلا أن يقال : إن ظاهر كونها ديناً الاجزاء ، وإطلاقها يقتضي الشمول لصورة وجود المندوحة عرضية وتدريجية. ولأجل ظهورها في التحريض على التقية والترغيب فيها افترقت عن أدلة تشريع الابدال الاضطرارية ، فان منصرف تلك الأدلة صورة عدم المندوحة ، بخلاف هذه الأدلة ، فهذا اللسان من البيان نظير قول القائل : « الكرم سجيتي وسجية آبائي » ، فإنه ظاهر في عموم الحكم لصورة وجود المندوحة وعدمها.

وأما‌ مصحح زرارة وغيره : « التقية في كل شي‌ء ، وكل شي‌ء يضطر اليه ابن آدم فقد أحله الله له » (٢) ‌فلو سلم عموم الحل فيه للتكليف والوضع ، ليدل على الاجزاء ، ولم يُدَّع ظهوره في خصوص التكليف ـ كما قيل ـ حتى لا يدل على الاجزاء فلا إطلاق فيه يشمل صورة وجود المندوحة ، بقرينة تضمنه الاضطرار غير الصادق مع وجود المندوحة. اللهم إلا أن يقال : إن قوله (ع) : « وكل شي‌ء .. » ‌ليس من قبيل الكبرى لما قبله ، بل هو بيان لحكم آخر في مقابل ما قبله ، وحينئذ يكون إطلاق ما قبله شاملا لصورة وجود المندوحة وعدمها ، وإن كان هو مختصاً بصورة وجودها. وأوضح منه في العموم لصورة وجود المندوحة خبر مسعدة‌

__________________

(١) هذه المضامين موجودة في الوسائل باب : ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها.

(٢) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حديث : ٢.

٤٠٢

______________________________________________________

ابن صدقة من‌ قول الصادق (ع) : « وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله ، فكل شي‌ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز » (١). نعم قد يستشكل فيه بأن الظاهر من الجواز التكليف كما تقدم في الحل ، فلا يدل على الاجزاء ظاهراً.

نعم استثناء المسح على الخفين ومتعة الحج‌ في قول الصادق (ع) في المصحح عن أبي عمر الأعجمي : « لا دين لمن لا تقية له. والتقية في كل شي‌ء ، إلا في شرب النبيذ ، والمسح على الخفين ، ومتعة الحج » (٢) ‌يقتضي عموم المستثنى منه للتكليف والوضع ، فيدل على الصحة. إلا أنه لا إطلاق فيه يشمل صورة وجود المندوحة لوروده لبيان موارد التقية لا غير اللهم إلا أن يقال : المناقشة المذكورة إنما تتم بالنسبة إلى قوله (ع) : « والتقية في كل شي‌ء » ‌، لا بالنسبة إلى قوله (ع) : « لا دين لمن لا تقية له » ‌لما تقدم في نظائره. مع أن استثناء فرد من العام لا يقتضي نفي إطلاق ذلك العام من حيث الأزمان والأحوال ، كما يظهر ذلك من ملاحظة النظائر. فالإنصاف أن هذه ونحوها والعمومات المشار إليها آنفاً كافية في الدلالة على المشروعية مع المندوحة العرضية والطولية.

نعم صرح باعتبار عدم المندوحة العرضية‌ في مكاتبة إبراهيم بن شيبة إلى أبي جعفر الثاني (ع) يسأله عن الصلاة خلف من يتولى أمير المؤمنين (ع) وهو يرى المسح على الخفين ، أو خلف من يحرّم المسح وهو يمسح ، فكتب عليه‌السلام : « إن جامعك وإياهم موضع فلم تجد بداً من الصلاة ،

__________________

(١) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حديث : ٥.

(٢) تقدم في مسألة : ٣٣.

٤٠٣

______________________________________________________

فأذن لنفسك وأقم ، فإن سبقك إلى القراءة فسبح » (١). لكن لو سلم سندها من القدح فلا بد من توجيهها ، لإباء العمومات السابقة عن التقييد بصورة عدم المندوحة ، لما عرفت من تضمنها للترغيب المنافي لذلك. ولمعارضتها للأخبار المتضمنة للحث على الصلاة مع المخالفين ، ففي رواية الشحام : « صلوا في مساجدهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا ، فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفرية ، رحم الله تعالى جعفراً ، ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه. وإذا تركتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفرية فعل الله بجعفر ، ما كان أسوأ ما يؤدب أصحابه » (٢) ‌، ونحوها‌ رواية هشام الكندي ، قال أبو عبد الله (ع) فيها « صلوا في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم » (٣) ‌، وقال فيها قبل ذلك : « كونوا لمن انقطعتم اليه زيناً ، ولا تكونوا علينا شيناً .. » ‌، وقريب منهما‌ موثق سماعة : « عن رجل يصلي فخرج الامام وقد صلى الرجل ركعة من صلاة فريضة. قال (ع) : إن كان إماماً عدلا فليصل أخرى وينصرف ، ويجعلها تطوعاً ، وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو. وإن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو ويصلي ركعة أخرى ، ويجلس قدر ما يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، ثمَّ ليتم صلاته معه على ما استطاع ، فإن التقية واسعة ، وليس شي‌ء من التقية إلا وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله » (٤). فإنه ظاهر في الصحة ، وفي وجود المندوحة‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٣٣ من أبواب صلاة الجماعة حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ٧٥ من أبواب صلاة الجماعة حديث : ١.

(٣) الوسائل باب : ٢٦ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حديث : ٢.

(٤) الوسائل باب : ٥٦ من أبواب صلاة الجماعة حديث : ٢.

٤٠٤

______________________________________________________

بقرينة امتناع تخصيص صدره المتضمن لحكم الامام العدل بصورة عدم المندوحة والتفكيك بينه وبين الذيل بعيد جداً ، ولا سيما بملاحظة التعليل بقوله (ع) « فإن التقية واسعة .. ».

ومثله‌ رواية سيف بن عمير عن أبي الصباح : « والله لقد قال لي جعفر بن محمد (ع) : إن الله علم نبيه التنزيل والتأويل ، فعلَّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً. قال : وعلمنا والله ، ثمَّ قال ما صنعتم من شي‌ء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة » (١). فإن إطلاقه ينفي وجوب الإعادة ولو مع المندوحة ، لأنها ضيق ، فإنه لا يعتبر في عدم نفوذ اليمين الصادرة عن التقية عدم المندوحة ، فيتعين أن يكون كذلك ما صنعوه من شي‌ء. إلا أن يقال : إن الضيق الحاصل للمكلف إذا أتى بالعبادة على غير الوجه المشروع ليس من نفس الفعل كذلك ، بل من قبيل الأمر بها على الوجه المشروع ، وليس المقام مثل : « الناس في سعة مما لا يعلمون » ‌فان الضيق هناك من قبل الحكم المجهول نفسه ، فالرواية مختصة بالأسباب الموجبة للضيق على المكلف مثل اليمين ونحوها ، ولا تشمل ما نحن فيه. لكن يكفي غيرها مما عرفته في الدلالة على المشروعية مطلقاً حتى مع وجود المندوحة.

ومنه يظهر ضعف ما عن المحقق الثاني من التفصيل بين ما ورد دليل بالخصوص على مشروعية التقية فيه فيصح مع المندوحة ، وبين غيره فلا يصح معها ، وإن كان ظاهر المحكي من كلامه أن مراده التفصيل بين الأول فيصح ولو مع المندوحة ، وبين غيره فلا يصح ولو مع عدمها ، وأن الوجه في الأول إطلاق دليل شرع التقية فيه بالخصوص ، وفي الثاني قصور‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٢ من أبواب اليمين حديث : ٢.

٤٠٥

______________________________________________________

إطلاقات التقية عن إثبات الصحة. وجه الضعف : أنك عرفت دلالة النصوص على صحة العمل المأتي به على وجه التقية من دون فرق بين صورة إمكان الإعادة وغيرها ، وصورة وجود المندوحة العرضية وعدمها ، كرواية الأعجمي‌ ورواية هشام‌ والشحام‌ وموثق سماعة‌ ، وكفى بالعمومات مثل : « التقية ديني ودين آبائي » ‌في الدلالة على جميع ذلك ، بل ظاهر روايتي الشحام‌ وهشام‌ رجحان التقية ، وإن لم يكن خوف على النفس أو المال ، بل لمجرد الاحتفاظ بالجهات الأدبية ، ونحوها غيرها. نعم‌ في صحيح زرارة : « التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به » (١). لكنه غير ظاهر في الاختصاص بحال الضرورة إلا بناء على حجية مفهوم اللقب وهي غير ثابتة. مع أنه يصعب رفع اليد عن النصوص المتقدمة لأجله ، ولعل المراد من الضرورة الضرورة في مكان التقية. وبالجملة : السابر لنصوص التقية يشرف على القطع بعدم اعتبار المندوحة في صحة العمل ، من دون فرق بين المندوحة الطولية والعرضية.

نعم تختص مشروعية التقية بصورة خوف الضرر على نفسه ، أو ماله أو نفس غيره ، أو ماله ، أو التودد والتحبب ، فمع العلم بانتفاء ذلك لم تشرع. كما أن الظاهر عدم مشروعيتها إذا تأدت التقية بفعل الواقع لأجل إيهام الحاضرين خلافه. كما أن الظاهر عدم الفرق في مشروعية التقية بين المخالف وغيره ، لإطلاق نصوصها ، والانصراف إلى المخالفين غير ظاهر بنحو يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق. نعم الظاهر من النصوص صورة الاختلاف في المذهب. أما إذا كان الاختلاف في تطبيق المذهب فلا تقية. ويظهر من بعض أنه من المسلمات. لقصور الأدلة عن شموله. نعم إذا كان ضرر أو حرج‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حديث : ١.

٤٠٦

______________________________________________________

ارتفع الوجوب بهما. لكن الاجزاء حينئذ غير ظاهر ، لقصور أدلة نفي الحرج والضرر عن إثبات ذلك ، كما عرفت مراراً.

هذا ومن الاختلاف في الموضوع الاختلاف في رؤية الهلال بالنسبة إلى صوم شهر رمضان وأفعال الحج ، فإنه لا مورد للتقية فيها. نعم إذا حكم حاكمهم بثبوت الهلال كان الاختلاف في نفوذ حكم الحاكم اختلافاً في الحكم ، فيكون الوقوف مع المخالفين مجزئاً شرعاً.

ثمَّ إن الظاهر أن الاجزاء في موارد التقية يختص بصورة ما إذا كان الاتقاء بفعل الناقص في مقام امتثال الأمر المتوجه إلى المكلف المتقي ، فاذا كانت التقية في ترك الواجب لم يكن الترك مفرغاً للذمة ، فمن أفطر يوماً من شهر رمضان اعتماداً على حكم حاكم المخالفين تقية ، لا يكون إفطاره مجزئاً ، لأنه ترك للواجب ، لا أداء له على الوجه الناقص ، ولذلك ورد‌ في مرسلة رفاعة : « فكان إفطاري يوماً وقضاءه أيسر عليَّ من أن تضرب عنقي » (١) ‌فوجوب القضاء في المقام لا ينافي ما ذكرنا من الاجزاء ، لأن الإفطار ليس أداء للمأمور به ، بل هو ترك له ، وقد عرفت أنه لا دليل على إجزاء الترك. نعم الحج مع الوقوف في اليوم الثامن اعتماداً على حكم حاكمهم من قبيل الأداء الناقص ، ومثله الإفطار قبل الغروب ، واستعمال ما لم يكن مفطراً عندهم ، فإنه من قبيل الأداء الناقص.

ومن ذلك تعرف إجزاء الحج إذا وقف تقية مع المخالفين ، ولم يقف في اليوم التاسع ، من دون فرق بين صورتي العلم بالمخالفة للواقع وعدمه. ولا يعارض ذلك مرسلة رفاعة حتى لو صح سندها ، لما عرفت من اختصاصها بصورة الترك بالمرة ، فلا تشمل صورة الإتيان بالناقص. نعم‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٥٧ من أبواب ما ممسك عنه الصائم حديث : ٥.

٤٠٧

______________________________________________________

إذا كان الحج المذكور في سنة الاستطاعة أشكل الاجتزاء به عن حج الإسلام لعدم ثبوت الاستطاعة بالنسبة إلى الواقع الأولي ، وثبوت الاستطاعة بالنسبة إلى البدل المأتي به على وجه التقية يتوقف على عموم تشريع التقية لمثل ذلك ، وهو غير واضح. اللهم إلا أن يستفاد مما دل على أنه لا تقية في متعة الحج ، فإنه يدل على ثبوت التقية في الحج في غير المتعة ، وإطلاقه يقتضي عدم الفرق بين حج الإسلام وغيره ، وما كان في سنة الاستطاعة وبعدها.

هذا وقد تلخص مما ذكرنا أمور : ( الأول ) : أجزاء العمل ( الثاني ) : عدم اعتبار عدم المندوحة الطولية ، ولا العرضية ( الثالث ) : مشروعية التقية ولو بلحاظ الجهات الأدبية ( الرابع ) : اعتبار الاضطرار إلى فعل الناقص في مكان التقية ( الخامس ) : مشروعية التقية من غير المخالف ولو كان كافراً ( السادس ) : اعتبار كون الاختلاف في المذهب ، لا في الموضوع ( السابع ) : أنه يعتبر في الاجزاء وسقوط الأمر كون التقية بفعل الناقص ، فلا يحصل الاجزاء إذا كانت التقية بترك الواجب ( الثامن ) : أنه لا فرق في الاجزاء بين الحج الذي هو مشروط وجوبه بالقدرة وبين غيره من العبادات التي وجوبها مطلق غير مشروط.

وربما يفصل في صحة الحج إذا كان الوقوف في غير وقته للتقية بين صورة العلم بمخالفة حكم حاكمهم للواقع وصورة الجهل ، فيبني على البطلان في الأولى. ( إما ) لرواية رفاعة السابقة الدالة على بطلان الصوم ، بناء على التعدي عن موردها ولكن عرفت أن موردها صورة ترك الصوم تقية ، فلا يقاس المقام عليه مما كانت التقية بإتيان المأمور به على غير وجهه. مع أن سندها ضعيف. ( وإما ) لأن العمدة في صحة الحج في الصورة المذكورة هو السيرة ، والقدر المتيقن منها صورة عدم العلم‌

٤٠٨

فالأحوط بل الأقوى ذلك [١]. ولا يجب بذل المال لرفع التقية [٢] ، بخلاف سائر الضرورات والأحوط في التقية أيضاً الحيلة في رفعها مطلقاً.

( مسألة ٣٦ ) : لو ترك التقية في مقام وجوبها ومسح على البشرة ففي صحة الوضوء إشكال [٣].

______________________________________________________

بالخلاف وفيه : أنه لو سلم إجمال السيرة ففي النص الدال على ثبوت التقية في الحج كفاية ، بناء على أن مذهب المخالفين نفوذ حكم الحاكم وإن علم بمخالفته للواقع ، كما يشهد بذلك تتبع كلماتهم ، ودعوى جماعة منهم الإجماع على نفوذ حكم الحاكم مطلقاً. فراجع.

[١] كما هو المنساق من خبر أبي الورد‌ ونحوه ، وظاهر موثق سماعة‌ ، وبعض ما ورد في الصلاة معهم‌ (١).

[٢] لأن المستفاد من النصوص المتقدمة كونها من قبيل المانع الشرعي فيكون عدمها من قبيل شرط الوجوب غير الواجب التحصيل ، ولذا أجزأ الفعل مع المندوحة ، ولا كذلك سائر الضرورات ، فإنها من قبيل العذر العقلي. فمع القدرة على رفعها بالمال ترتفع موضوعاً ، فإطلاق دليل وجوب الوضوء التام يقتضي وجوب بذل المال لرفعها. نعم قد يقال : إن وجوب بذل المال ضرر فيرتفع بعموم نفي الضرر. إلا أن يقال : إن وجوب الوضوء حكم ضروري نظير وجوب الزكاة فيكون دليله مخصصاً لأدلة نفي الضرر ، فيؤخذ بإطلاقه ويقدم على تلك الأدلة. أو يقال : إنه يستفاد مما دل على وجوب شراء ماء الوضوء بالمال الكثير. وسيجي‌ء إن شاء الله في مبحث التيمم توضيح ذلك. فانتظر.

[٣] ينشأ من احتمال كون ظاهر أوامر التقية كون المسح على الخفين‌

__________________

(١) راجع الوسائل باب : ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٥ ، من أبواب صلاة الجماعة.

٤٠٩

______________________________________________________

مثلا جزءاً من الوضوء ، فتركه ترك للوضوء. أو من احتمال كون الأمر بالتقية موجباً للنهي عن المسح على البشرة ، فيمتنع التقرب به ، فيفسد ، كما علله به في الذخيرة. ويدفع الأول منع ظهور أوامر التقية في ذلك ، غاية الأمر كونها ديناً يقتضي بدلية ما يوافق التقية عن الواقع ، فيكون في طول الواقع ، فالإتيان بالواقع مجزي مسقط للأمر. ويمكن دفع الثاني بأنه لا وجه لاقتضاء الأمر بالمسح على الخفين للنهي عن المسح على البشرة حتى بناء على أن الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضده ، لاختصاص ذلك بالضد المضيق وليس منه المقام. اللهم إلا أن يقال : إن التقية كما تكون بالفعل فتقتضي وجوبه وحرمة تركه تكون بالترك فتقتضي وجوبه أيضاً وحرمة الفعل والمسح على البشرة في نفسه مخالف للتقية فيحرم ، ولا يصح التعبد به مع قطع النظر عن وجوب المسح على الخفين تقية.

( فإن قلت ) : التقية واجبة ، وهي عبارة عن المسح على الخف ، فترك التقية الذي هو حرام ترك المسح على الخف ، وهو لا ينطبق على المسح على البشرة ( قلت ) : الواجب الذي تقتضيه هو المداراة لهم والمجاراة معهم ، والحرام ترك ذلك ، بحيث يظهر الخلاف لهم ، وهذا الحرام يحصل بالمسح على الرجل حتى لو مسح على الخف أيضاً. ومثله أن يقول : مذهبي وجوب المسح على الرجل ، أو مذهبي عدم الاجتزاء بالمسح على الخف ، ونحو ذلك مما يدل على الخلاف لهم. هذا لو كانت التقية واجبة ، أما لو كانت مستحبة فلا مجال للبطلان.

والظاهر أنه لا فرق بين كون خوف الضرر المأخوذ موضوعاً لوجوب التقية ملحوظاً طريقاً إلى الضرر الواقعي وملحوظاً موضوعاً في قبال الواقع أما على الثاني فالبطلان واضح ، لثبوت التحريم واقعاً ، الموجب لفساد العبادة‌

٤١٠

( مسألة ٣٧ ) : إذا علم بعد دخول الوقت أنه لو أخر الوضوء والصلاة يضطر إلى المسح على الحائل فالظاهر وجوب المبادرة إليه [١] في غير ضرورة التقية ، وإن كان متوضئاً وعلم أنه لو أبطله يضطر إلى المسح على الحائل لا يجوز له الابطال [٢]. وإن كان ذلك قبل دخول الوقت. فوجوب المبادرة أو حرمة الإبطال غير معلوم [٣]. وأما إذا كان الاضطرار بسبب التقية فالظاهر عدم وجوب المبادرة ، وكذا يجوز الابطال وإن كان بعد دخول الوقت ، لما مر من الوسعة في أمر التقية [٤]. لكن الأولى والأحوط فيها أيضاً المبادرة أو عدم الابطال.

______________________________________________________

وأما على الأول فالظاهر أنه كذلك وإن لم يكن ضرر واقعاً ولا تحريم كذلك لأن الخوف بعد ما كان طريقاً ووجب ظاهراً العمل به كان الجري على خلافه تجرءاً بحكم المعصية في المنع من صلاحية التقرب.

[١] لأن تركها تفويت للواجب فيحرم. ولا ينافيه الصحة على تقدير ترك المبادرة والاضطرار إلى المسح على الخف ، لإطلاق دليل بدليته للمضطر إذ لا منافاة بين فوات الواجب ووجوب بدله الناقص ، كما هو الحال في سائر الأعذار العقلية التي يقع فيها المكلف باختياره.

[٢] لعين ما سبق.

[٣] بل لا يبعد ذلك وإن قلنا إن الوقت شرط في وجوب الطهارة المائية ، لحرمة تفويت الواجب عقلا ولو قبل وقته المشروط وجوبه به ، حسب ما حرر في محله من مبحث الواجب المشروط ، ووجوب التعلم ، ويأتي في مبحث التيمم ما له دخل في المقام.

[٤] الكاشفة عن كون مصلحتها يتدارك بها مصلحة الواقع ، وليست‌

٤١١

( مسألة ٣٨ ) : لا فرق في جواز المسح على الحائل في حال الضرورة بين الوضوء الواجب والمندوب [١].

( مسألة ٣٩ ) : إذا اعتقد التقية أو تحقق إحدى الضرورات الأخر ، فمسح على الحائل ، ثمَّ بان أنه لم يكن موضع تقية ، أو ضرورة ، ففي صحة وضوئه إشكال [٢].

______________________________________________________

كالأعذار العقلية ، والتفكيك بين الفرض وسائر صور وجود المندوحة خلاف ظاهر النصوص المتقدمة.

[١] كما لا فرق بينهما في سائر الخصوصيات. وقد مر وجهه في بعض المسائل. ويكفي فيه في المقام إطلاق رواية أبي الورد‌ (١). نعم لو كان المستند في الصحة أدلة الحرج والضرر ونحوها أشكلت الصحة في المستحب ، لعدم جريان تلك الأدلة في المستحبات.

[٢] ينشأ من الإشكال في كون الخوف ملحوظاً موضوعاً في نفسه أو طريقاً صرفاً ، فعلى الأول يلزم القول بالصحة لتحقق الموضوع ، وعلى الثاني بالبطلان لخطأ الطريق ، ولا دليل على الاجزاء. ولا يبعد أن يقال : إن اعتقاد الضرورة إن كان من اعتقاد عدم القدرة فالحكم بالبطلان متعين إذ لا مجال لاحتمال الموضوعية في مثله ، لعدم الدليل عليها. وإن كان من قبيل اعتقاد الضرر فان كان الأمر بالعمل الواقع حينئذ حرجاً عرفاً فالحكم الصحة ، وإن انكشف عدم الضرر ، لعدم الفرق بين دليلي الحرج والضرر في نفي الواقع ، وإن لم يكن حرجاً عرفاً فلا دليل على الصحة ، إذ لم يثبت من أدلة خوف الضرر أو اعتقاده موضوعية الخوف والاعتقاد ، بل مقتضى الجمع العرفي بينها وبين أدلة موضوعية الضرر هو طريقية الخوف ، كما‌

__________________

(١) تقدم ذكرها في مسألة : ٣٣.

٤١٢

( مسألة ٤٠ ) : إذا أمكنت التقية بغسل الرجل فالأحوط تعينه [١] ، وإن كان الأقوى جواز المسح على الحائل أيضاً [٢].

( مسألة ٤١ ) : إذا زال السبب المسوغ للمسح على الحائل من تقية أو ضرورة ، فإن كان بعد الوضوء فالأقوى عدم وجوب إعادته [٣] ، وإن كان قبل الصلاة ، إلا إذا كانت بلة اليد باقية ،

______________________________________________________

سنشير إلى ذلك في مبحث وضوء الجبيرة.

وأما في التقية فإن كان الخطأ في كون المتقى ـ بالفتح ـ عدواً أو في كون رأيه مخالفاً للواقع ، فالحكم البطلان ، لعدم الدليل على الصحة وأدلة مشروعية التقية مختصة بصورة المفروغية عن ثبوت العداوة ومخالفة رأي العدو للواقع ، فلا تصلح للاعتماد عليها في ظرف انتفاء أحدهما. نعم لو كان الأمر بالجري على خلاف التقية حرجاً عرفاً فالحكم الصحة لما سبق وإن كان الخطأ في ترتب الضرر على مخالفة التقية فلا تبعد الصحة أيضاً ، لظهور أدلة التقية في موضوعية الخوف.

[١] نسبه في الذخيرة إلى الأصحاب. وفي الحدائق حكاه عن جملة منهم ونسب في غيرهما إلى البيان وروض الجنان. وكأنه لأن الغسل أقرب إلى الواجب ، بخلاف المسح على الخف ، إذ الخف موضوع أجنبي عن البشرة كما أشير إليه في النصوص المتقدمة ، وثبوت البدلية في بعض الأحوال لا ينافي الأقربية المذكورة. مع انه مقتضى الاحتياط اللازم في المقام ، بناءً على كونه من الشك في المحصل بل مطلقاً بناءً عليه في الدوران بين التعيين والتخيير.

[٢] كأنه لإطلاق أدلة التقية ، لكون كل منهما موافقاً للتقية ومخالفاً للواجب الأولي ، ومجرد أقربية أحدهما لا توجب انصراف الإطلاق اليه. وكأنه لذلك جعل في محكي التذكرة والذكرى الغسل أولى.

[٣] هذا لا مجال له بناءً على اعتبار عدم المندوحة في صحة الناقص‌

٤١٣

______________________________________________________

ولو بالتأخير ، فإنه إذا زال السبب انكشف فساد الوضوء من أول الأمر ، لانكشاف وجود المندوحة. نعم له مجال بناء على أنه لا يعتبر في صحة الناقص عدم وجود المندوحة بالتأخير. ومنشأ الخلاف حينئذ في وجوب الإعادة وعدمه الخلاف في كون دليل صحة الوضوء الناقص للمعذور هل يدل على كونه بمنزلة الوضوء التام من جميع الجهات حتى بلحاظ ما بعد زوال العذر من الغايات ، أو لا دلالة له على ذلك؟ وعلى الثاني ، فهل يكون مقتضى الأصول العملية هو ذلك أو لا؟ فيه قولان ، نسب كل منهما إلى جماعة من الأساطين. واستدل في الذخيرة على الأول ـ بعد أن نسبه إلى المبسوط والمعتبر ـ بعموم الآية ، يعني بها قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... ) (١) ، وعلى الثاني ـ بعد أن نسبه إلى جماعة ـ بأنها طهارة شرعية ، ولم يثبت كون ذلك ـ يعني ارتفاع العذر ـ ناقضاً.

والتحقيق : أنه بعد البناء على عدم اعتبار عدم المندوحة في صحة الوضوء الاضطراري فالظاهر من دليل مشروعيته كونه فرداً للماهية كالفرد التام ، غاية الأمر أن فرديته إنما تكون في حال العذر كما أن التام إنما تكون فرديته في حال عدمه ، وعليه يكون كل منهما في عرض الآخر فيترتب على كل منهما ما يترتب على الآخر من غير فرق بينهما ، فكما أن مقدمية التام لا تختص بما قبل طروء العذر من الغايات ، بل يترتب عليه جميع الغايات الموقوفة على صرف الماهية ، من غير فرق بين ما يكون قبل طروء العذر وما يكون بعده ، كذلك الناقص لا تختص مقدميته بما قبل زوال العذر ، بل كما هو مقدمة لما كان في حال العذر من الغايات يكون مقدمة لما بعد زواله ، واحتمال خلاف ذلك في الناقص خلاف إطلاق دليله ، كاحتمال خلاف ذلك‌

__________________

(١) المائدة : ٨.

٤١٤

______________________________________________________

في التام. وبالجملة : بعد البناء على ظهور دليل مشروعية الناقص ولو مع المندوحة لا ينبغي التشكيك في ظهوره في كون الناقص كالتام ، ويكون مقتضى الجمع بين هذا الدليل وإطلاق ما دل على وجوب الوضوء التام مطلقاً ، هو تقييد الثاني بصورة عدم العذر ، فيكون الوضوء الصحيح لغير المعذور هو التام وللمعذور هو الناقص ، فيترتب على كل منهما من الغايات ما يترتب على الآخر بلا فرق بينهما.

وكذا الحكم لو لم يبن على تقييد إطلاق دليل وجوب التام بدليل وجوب الناقص ، بل على بدلية الناقص عن التام على نحو يفي بتمام مصلحته فيكون التام في حال العذر واجباً والناقص واجباً بدلا على نحو البدلية التامة عنه ، كما هو محتمل أدلة مشروعية التقية بعد الجمع بينها وبين أدلة الواقع الأولى ، فإن العمل المتقى به بعد ما كان بدلا عن الواقع ووافياً بتمام مصلحته كان مجزئاً عنه ، ولو مع ارتفاع التقية ، لأن الإتيان به امتثال للأمر بالواقع كالإتيان بالواقع نفسه ، فلا موجب للإعادة بعد ارتفاع العذر.

نعم لو بني على اعتبار عدم وجود المندوحة في صحة الناقص فاللازم حينئذ القول بوجوب إعادته بعد زوال العذر لو كان قد وقع مشروعاً صحيحاً ، كما لو توضأ المعذور في آخر الوقت فصلى وبعد خروج الوقت زال عذره ولم يكن قد أحدث. ووجه ذلك : أنك قد عرفت أن الوجه في اعتبار عدم المندوحة كون الدليل مسوقاً مساق جعل شي‌ء على المكلف في فرض سقوط التكليف الأولي لأجل العذر ، فلا يدل على انتفاء ملاك الفعل التام ومصلحته في تلك الحال ، فيكون إطلاق دليل وجوبه الشامل لحال العذر محكماً ، فيدل على بقاء مناطه في حال العذر. ولأجل ذلك قيل بوجوب المبادرة إلى التام لو علم بطروء الاضطرار في أثناء الوقت إلى تركه‌

٤١٥

______________________________________________________

ـ كما تقدم في المسألة السابعة والثلاثين ـ فاذا كان إطلاق دليل التام يقتضي وجود المناط فيه تعييناً حتى في حال العذر بحيث يحرم تفويته اختياراً ، ولم يكن دليل مشروعية الناقص مزاحماً له في ذلك ، بل إنما يكون دالاً على جعل شي‌ء على المكلف في تلك الحال ، من دون دلالة على وفائه بمصلحته ، وأنه بمنزلته من جميع الجهات ، فكيف لا يجب فعله بعد زوال العذر ويحرم تفويته ) فإن إطلاق دليله إذا كان دالاً على وجوبه بالإضافة إلى الغاية الواقعة في حال العذر ، ولذا قيل بوجوب المبادرة إليه لو علم بطروء الاضطرار في أثناء الوقت ، فلأن يدل على وجوبه بالإضافة إلى الغاية الواقعة بعد زوال العذر بطريق أولى ، ومقتضى ذلك وجوب الإعادة ( فإن قلت ) : إذا كان تجب الإعادة بالإضافة إلى الغاية التي تكون بعد زوال العذر فالواجب إعادة الغاية التي فعلت في حال العذر أيضاً ، لعدم وقوعها تامة ( قلت ) : هذا مسلم بالنظر إلى القواعد الأولية ، لكن وجب الخروج عنه لظهور النص والفتوى في الاجزاء ، إلا أن الاجزاء أعم من حصول تمام الغرض ، إذ قد يكون لعدم إمكان تدارك المقدار الفائت ، وحينئذ يُحتاج في الاجزاء بالنسبة إلى الغايات الأخر إلى دليل ، وهو مفقود لاختصاص دليل البدلية بحال الاضطرار ، فلا يشمل صورة ارتفاعه ، فيتعين فعل التام وعدم الاجتزاء به.

ومن هنا تعرف أن اعتبار عدم وجود المندوحة في صحة الناقص المذكور في المسألة الخامسة والثلاثين ، ووجوب المبادرة إلى التام المذكور في المسألة السابعة والثلاثين ، ووجوب الإعادة المذكور هنا ، متلازمة في مقام استفادتها من الأدلة. ولا مجال للتفكيك بينها ، كما وقع في المتن.

كما أن مما ذكرنا تعرف أنه لا مجال للأصول العملية في المقام ، لأنه‌

٤١٦

فيجب إعادة المسح [١]. وإن كان في أثناء الوضوء فالأقوى الإعادة إذا لم تبق البلة.

______________________________________________________

إن كان دليل مشروعية الناقص ظاهراً في تقييد دليل وجوب التام كان مقتضاه عدم وجوب الإعادة ، وإن لم يكن ظاهراً في ذلك كان مقتضى إطلاق وجوب التام وجوب الإعادة ، ولا مجال للأصل مع الدليل. نعم لو فرض عدم إطلاق في دليل وجوب التام ، مع عدم ظهور دليل الناقص في كونه بمنزلة النام ، كان مقتضى استصحاب الحدث الثابت قبل فعل الناقص ـ الذي لا مجال للتشكيك في مانعيته من الصلاة ـ هو وجوب الإعادة ، للشك في ارتفاعه بفعل الناقص. ولا مجال لمعارضته باستصحاب صحة الصلاة الناقصة ، لعدم اليقين السابق بصحة هذه الصلاة ، بل هي مشكوكة من أول الأمر. اللهم إلا أن يقال : كانت هذه الصلاة بحيث لو فعلت قبل زوال العذر كانت صحيحة ، فهي على ما كانت. لكن لو سلم كان المرجع بعد التساقط قاعدة الاشتغال ، الموجبة للإعادة. فتأمل جيداً.

ومما ذكرنا تعرف أنه إذا زال السبب المسوغ للوضوء الاضطراري فإن كانت الضرورة التقية لم تجب الإعادة ، وإن كانت غير التقية وجبت الإعادة.

[١] أما في الضرورة غير التقية فواضح ، لما عرفت. وأما في التقية فلقصور الأدلة عن إثبات الصحة في مثل الفرض ، وقد عرفت أن موثق سماعة المتقدم‌ (١) قد تضمن وجوب فعل الواقع مهما استطاع ، الصادق عرفاً في المقام ، ومجرد التأخير آنا ما لا يعتد به في نفي الاستطاعة عرفاً. نعم إذا كان زمان ارتفاع التقية معتداً به عرفاً لبعده ، لم يبعد شمول أدلة‌

__________________

(١) تقدم في مسألة : ٣٥.

٤١٧

( مسألة ٤٢ ) : إذا عمل في مقام التقية بخلاف مذهب من يتقيه ففي صحة وضوئه إشكال [١] ، وإن كانت التقية ترتفع به ، كما إذا كان مذهبه وجوب المسح على الحائل دون غسل الرجلين فغسلهما ، أو بالعكس. كما أنه لو ترك المسح والغسل بالمرة ، يبطل وضوؤه [٢] وإن ارتفعت التقية به أيضاً.

( مسألة ٤٣ ) : يجوز في كل من الغسلات أن يصب على العضو عشر غرفات بقصد غسلة واحدة ، فالمناط في تعدد الغسل ـ المستحب ثانية ، الحرام ثالثة ـ ليس تعدد الصب ، بل تعدد الغسل مع القصد [٣].

( مسألة ٤٤ ) : يجب الابتداء في الغسل بالأعلى ، لكن لا يجب الصب على الأعلى [٤] ، فلو صب على الأسفل ، وغسل من الأعلى بإعانة اليد ، صح.

______________________________________________________

التقية. وكذا الحال في الفرض الآتي.

[١] ينشأ من التأمل في صلاحية أدلة مشروعية التقية لتشريع ذلك ، وإن كان هو الأقرب.

[٢] لعدم الإتيان بالواقع ، ولا ببدله ، المستفاد من أدلة مشروعية التقية بدليته ، كأدلة الضرورة. اللهم إلا أن يقال : إن البدلية بين الوضوء المذكور الناقص وبين الوضوء التام ، فإطلاق أدلة التقية يقتضي صحته.

[٣] يعني : قصد الوضوء بالغسل. ووجهه ظاهر.

[٤] هذا مما لا يظن الاشكال فيه ، إذ الترتيب ـ على تقدير القول به ـ إنما هو في الغسل ، لا في الصب ، وما في النصوص البيانية من صب الماء على الأعلى غير ظاهر في الوجوب ، كما تكرر في أمثال المقام.

٤١٨

( مسألة ٤٥ ) : الإسراف في ماء الوضوء مكروه [١] ، لكن الإسباغ مستحب [٢] ، وقد مر [٣] أنه يستحب أن يكون ماء الوضوء بمقدار مد. والظاهر أن ذلك لتمام ما يصرف فيه من أفعاله ومقدماته من المضمضة ، والاستنشاق ، وغسل اليدين [٤].

______________________________________________________

[١] ففي خبر حريز عن أبي عبد الله (ع) : « إن لله تعالى ملكا يكتب سرف الوضوء كما يكتب عدوانه » (١).

[٢] بلا خلاف ولا إشكال ظاهر ، والنصوص به متواترة ، أو قريبة من التواتر ، ففي صحيح ابن جعفر (ع) عن أخيه (ع) عن أبيه (ع) : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أسبغ وضوءه ، وأحسن صلاته ، وأدى زكاة ماله ، وكف غضبه ، وسجن لسانه ، واستغفر لذنبه ، وأدى النصيحة لأهل بيت نبيه (ص) ، فقد استكمل حقيقة الايمان ، وأبواب الجنان مفتحة له » (٢).

[٣] ومر دليله (٣).

[٤] فإنه يبلغ حينئذ ثلاث عشرة أو أربع عشرة كفاً ، وهي تقارب المد ، كما في محكي الحبل المتين وغيره. ولا مجال لاحتمال حمله على أفعاله الواجبة ، ضرورة زيادته كثيراً. كما لا موجب لإدخال ماء الاستنجاء فيه ـ كما ارتكبه في محكي الذكرى ، وتبعه عليه غيره ـ فإنه خلاف ظاهر النصوص. وأما روايتا ابن كثير‌ (٤) والحذاء‌ (٥) الحاكيتان لوضوء علي‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٥٢ من أبواب الوضوء حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ٥٤ من أبواب الوضوء حديث : ٢.

(٣) تقدم في أول فصل مستحبات الوضوء.

(٤) الوسائل باب : ١٦ من أبواب الوضوء حديث : ١.

(٥) الوسائل باب : ١٥ من أبواب الوضوء حديث : ٨.

٤١٩

( مسألة ٤٦ ) : يجوز الوضوء برمس الأعضاء كما مر [١] ، ويجوز برمس أحدها وإتيان البقية على المتعارف ، بل يجوز التبعيض في غسل عضو واحد مع مراعاة الشروط المتقدمة ، من البدئة بالأعلى ، وعدم كون المسح بماء جديد ، وغيرهما.

( مسألة ٤٧ ) : يشكل صحة وضوء الوسواسي إذا زاد في غسل اليسرى من اليدين في الماء ، من لزوم المسح بالماء الجديد ، في بعض الأوقات ، بل إن قلنا بلزوم كون المسح ببلة الكف دون رطوبة سائر الأعضاء يجي‌ء الإشكال في مبالغته في إمرار اليد ، لأنه يوجب مزج رطوبة الكف برطوبة الذراع.

( مسألة ٤٨ ) : في غير الوسواسي إذا بالغ في إمرار يده على اليد اليسرى لزيادة اليقين لا بأس به ما دام يصدق عليه أنه غسل واحد [٢]. نعم بعد اليقين إذا صب عليها ماءً خارجياً‌

______________________________________________________

وأبي جعفر عليهما‌السلام ، حيث ذكر فيهما الاستنجاء قبله ، فلا تصلحان شاهداً لذلك. مع أن ماء الاستنجاء من البول لقلته لا بحدي دخوله ولا يقدح خروجه ، وماء الاستنجاء من الغائط لكثرته يمتنع دخوله. ولأجل ذلك اختار غير واحد ما في المتن.

[١] ومر وجهه (١). ومنه يظهر حال ما في المقام.

[٢] لأن ما دل على وجوب المسح ببلل الكف إنما يراد به البلل المتخلف في الكف بعد غسل اليسرى ، فلا يقدح المزج بغسلها. وبذلك افترق عن الوسواسي فان المزج فيه بعد تمام الغسل.

__________________

(١) تقدم في مسألة : ٢١ من فصل أفعال الوضوء.

٤٢٠