الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

التكليف الدنيا ، واما في البرزخ والأخرى ف (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) خلاف ما في الأولى (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١٦ : ٣٣).

ثم وليس هناك جزاء (إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) عمل الجوانح والجوارح في عقائد وأعمال صالحة أم طالحة ، وأما النيات فما هي بأعمال على أية حال ، وإن كان المؤمن يثاب بنية الخير فبفضل الله وليس جزاء إذ لا عمل ، كما وفضل الثواب له عدة ومدة إنما هو بفضل الله ، لا جزاء يزيد عن العمل ، ثم العدل في عقاب الطالحات يقتضي جزاء وفاقا ، ومن أقله تجاوب الجزاء والعمل في كونهما محدودين عدة وعدة وتأثيرا.

وترى كيف يصدق (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) على عقيدة القلب ، وكيف تمثّل بخيرها وشرها جزاء وفاقا؟ العمل حين يقابل الإيمان فهو عمل الإيمان ، وحيث يطلق يعمه وعمل الجنان ، بل هو أحرى بصيغة العمل حيث يصاغ العمل عن العقيدة ، ولأن العمل هو بملكوته وحقيقته هو الجزاء فليتمثل أيا كان من عمل الأركان والجنان ، بل والبيئة الصالحة تتمثل كما الأعمال ، كل على حدة.

ولئن لم تعن (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) عقيدة القلب ـ إذا ـ فلا جزاء بها إلّا ما يعمل وفقها أو خلافها ، اللهم إلّا بتأويل أن العمل هو الجزاء ليس إلّا ، حيث العقيدة تبرر في الأعمال على أية حال ، ثم صالح العمل مشروط فيه صالح العقيدة والنية كما طالح العمل بطالحها ، صالحا بصالح وطالحا بطالح.

ولأن المجزيين لا يجزون إلّا ما كانوا يعملون ، فلا موقع للظلم ، فحتى أن الجزاء ليس انتقاما في العقاب أو ثوابا في الصواب ، فإنما العمل والعمل فقط هو الجزاء يوم الجزاء ، بفضل الله أو عدله.

ولئن سئلنا فما هو ـ إذا ـ موقف الحسنات الحابطة بأسبابه والسيئات

٨١

المعفوة بأسبابه؟ فالجواب أن الجزاء هو العمل الذي يبقى مع الإنسان إلى يوم البقاء ، دون الحابط المعفو ، فالتائب عن الذنب كمن لا ذنب له ، كما الحابطة حسناته لا حسنات له!

ثم إنّ العمل أيّا كان فهو محدود بحدود ، فالجزاء الذي هو العمل كذلك محدود بحدود ، ومهما خرج الثواب عن حدود (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فانما هو بفضل الله ، فقولة القائلين بالعذاب لغير النهاية للخالدين المؤبدين فرية ظالمة هاتكة لساحة رب العالمين وارحم الراحمين ، ولقد بيناها في طيات آياتها كرارا ومدرارا.

(ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في بعدية جانحة وجارحة ، فإنه في باطن ملكوته يوم الملكوت هو الجزاء ، فليس الجزاء العقاب يومئذ انتقاما ، بل هو ظهور ما كان خفيا في عالم الخفاء ويصبح حليا في عالم الظهور : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) وعلى حد المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : (إنما هي أعمالكم ترد عليكم) فأهل العذاب : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٢٩ : ٥٤) وهم في الدنيا ، في غفلة عنها ، ثم ويحيط بهم وهم يحرقون بها! وأهل الثواب : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٢ : ١٧) ولا إخفاء إلّا لكائن حاله ، ولا خفاء في الدار الآخرة حيث ترى نفس كل جزاءه بالحسنى ، فإنما الخفاء هنا ، فالصورة الجلية للصالحات أتعاب وحرمانات ، ثم الصورة المخفية ثواب ورحمات (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يحمله العمل بملكوته!.

لقد طويت الحوار حول يوم القرار في سرعة خاطفة عاطفة تلك المشاهد الثلاثة ببعض ، متخطية إلى حالات لكل من أصحاب الجنة واصحاب النار :

٨٢

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ)(٥٥).

إنهم ـ والحمد لله ـ في شغل عمن سوى الله وعما سوى الجنة «فاكهون» متفكهون فيها متنعمون بنعمها كلها (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) فهم «فاكهون» بكل فكاهات وفاكهات الجنة ، فلا تعني «فاكهون» أكل الفاكهة إذ يأتي بعد هنيئة (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) ثم «فكه» لا تعني أكل الفاكهة مهما شمله ، فإن من الفكاهة حديث ذوي الأنس (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) (٣ : ٣١) (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) (٤٤ : ٢٧) ولا تختص النعمة بالفاكهة بل هي مطلق النعمة روحية ومادية : (فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٥٢ : ١٨) ومن كونهم فاكهين التفكه بالعذارى «حواجبهن كالأهلة وأشفار أعينهن كقوادم النسور» (١).

وكأن الفاكهة أيضا من الفكاهة فإنها نافلة الطعام وزهرته ، وعلّ كل نافلة عن اللازم فاكهة ، من عذارى الحور فإنهن نافلات الزوجات الإنسيات ، ومفاخر الملابس والمساكن ، ومؤنسات المقالات والمبصرات أمّاذا من الماديات ، وكذلك من المعنويات ، ولذلك ترى الآيات التالية تذكر موارد من هذه كمصاديق ل «فاكهين» ومنه فاكهة الأزواج :

و «في شغل» دون «على» أو «الشغل» يشغل البال بحيطة الفكاهة عليهم كأنهم فيها غارقون ، لمكان «في» وأن شغلهم لا يوصف عدة وعدة لمكان التنكير «في شغل»!

وأفضل الشغل يوم الله وفي دار الله وبجنابه وحضرته القدسية : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) فأشغل «شغل» لهم الحالة الروحية الغالية

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٨٩ ح ٦٥ في مجمع البيان في الآية وقيل شغلوا بافتضاض العذارى عن ابن عباس وابن مسعود وهو المروي عن الصادق (عليه السلام) قال : حواجبهن ...

٨٣

بلقاء المحبوب ، ومن ثم* «في شغل» هامشي بمظاهر النعم ، وذلك هو المشغول فيه.

وأما المشغول عنه فهو الطريق الشاق الطويل يوم الدنيا ، المليء بالأشلاء والدماء ، بالمكروهات والحرمانات وطول التصبّر عن اللذات والمحرمات.

فهم يومئذ في شغل عن كل ذلك وعن كل مسابب ومناسب لا يناسب رحمة الله ولا تناسبه.

(هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ)(٥٦).

وترى من هم «أزواجهم»؟ أهم حلائلهم؟ ولسن كلهن من أصحاب الجنة! والتي هي منهم تشملها (أَصْحابَ الْجَنَّةِ)!

«أزواجهم» هم قرنائهم الأتباع في الصالحات ، وكما «أزواجهم» في الصافات هم قرناء أهل النار وأتباعهم في الطالحات : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٣٧ : ٢٣).

ف «أزواجهم» هنا وهناك هم الأتباع ، سواء أكانوا من أزواجهم سببيّا كالبعولة والزوجات ، أم سواهم ، ف «هم» فيهما تعني الأصلاء من أصحاب الجنة وأصحاب النار رجالا ونساء ، و «أزواجهم» هم الفروع منهما رجالا ونساء ، مهما شملت الحور العين (١) وبين البعولة وزوجاتهم من أهل الجنة

__________________

(١) المصدر في روضة الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ حديث طويل وفيه عن حال اهل الجنة ـ والمؤمن ساعة مع الحوراء وساعة مع الآدمية وساعة يخلو بنفسه على الأرائك متكئا ينظر بعض المؤمنين الى بعض.

٨٤

والنار عموم من وجه!

إذا ف «هم» لا تختص بالبعولة ، كما «أزواجهم» لا تختص بالزوجات ، فمن الزوجات من هن أصيلات وبعولتهن الفروع ، أم هم من أهل النار ، كما العكس كذلك ، فتفسير «أزواجهم» بحلائلهم تفسير رديء لا إجابة صالحة عن مشاكله ...

و «في ظلال» هنا وفي سائر القرآن لأصحاب الجنة لمحة صريحة أن هناك شمسا يستظل منها ، وإلّا فلا موقع لظلال إذ لا شمس مشرقة وحارة ف (دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) (٧٦ : ١٤) (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) (٤ : ٥٧) و (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) (٧٧ : ٤١) (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (٥٦ : ٣٠) و (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) (١٣ : ٣٥) آيات بينات تجاوب «في ظلال» أن هناك شمسا ، ثم آية الزمهرير تصارح : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (٧٦ : ١٣).

إن ظل الجنة عن الشمس من ميزات أصحابها ، والسالبة بانتفاء الموضوع مسلوبة عن مذهب الفصاحة والبلاغة ، مهما ذهب إليها المنطق تجويزا عقليا ، ثم في ظلال لا يختص بظلال الأبنية والأشجار وسائر المظلات ، بل وقبلها الأهم منها وأحرى ظلّ الله وظل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته الطاهرين (عليه السلام) وقد تشير إليها «في» حيث المظلات الظاهرية هي فوق المستظلين وهم تحتها لا فيها ، ولكن «في» تعني فيما تعني مع الظلال الظاهرة ، الظلال الباطنة التي يستظل فيها ، كما وأن تنكير «ظلال» يلمح بذلك ، فإنه ظل ظليل بمدّ طويل يشمل الأرواح والقلوب والأفئدة.

(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) (٥٧).

«فاكهة» كما يشتهون من كمها وكيفها و «يدعون» كما يشتهون.

٨٥

وماذا تعني «ما يدعون»؟ إنه من الادّعاء : الافتعال من الدعوى ، أي : ما يتطلّبون لأنفسهم ويتمنون دونما حد ولا حدود : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٤١ : ٣٣) وعلّ الفارق بين الاشتهاء والادّعاء أن الثاني اشتهاء ظاهر في طلب ، والأول يعمه ودون طلب ، وأنه يعم الادعاء في الأولى كما الأخرى ، والأول اشتهاء يوم الأخرى : (وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) (٦٧ : ٢٧).

وكما أن في حصول ما يشتهون دون طلب حفاوة وإكراما كذلك فيما يحصل بطلب ، حيث المطلوب هو الرب الرحيم ، والطلب منه تعالى بحصول المطلوب رحمة على رحمة وحفاوة على حفاوة ، فمن العباد من يعطيهم ربهم هنا بعض ما يشتهون دون طلب لكيلا يطلبوا فيسمع دعاءهم لبعدهم عن ساحته ، فمهما لم يكن في الجنة بعد لأهلها ف (لَهُمْ ما يَدَّعُونَ) إكرام لهم بصورة أخرى بعد (لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ)!.

ثم ولهم في كونهم فاكهين : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)(٥٨) هم في دار السلام لهم سلام من الرب الرحيم السلام ، سلام قولا منه هنا دون وسيط كما سلام حالا وفعلا هناك ، سلام على سلام! فإنها «دار السلام».

لأصحاب الجنة كل سلام ولأصحاب النار كل سأم ، قولا لهولاء «سلام» ولأولاء في كلمة خاطفة :

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)(٥٩) : أمر تكويني للذين أجرموا بامتيازهم وانفصالهم عنهم مكانا ومكانة وخطابا وحالا ومقالا أم أيا كان مما يكون وما كان.

إنهم يتلقون كل تحقير وترذيل يستحقونه بما كانوا يجرمون في كل الجهات والجنبات بأمر إمر : «وامتازوا» :

٨٦

امتيازا في سيماهم : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (٥٥ : ٤١).

وامتيازا عن شفعائهم الشركاء الذين كانوا يدّعون : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) (٦ : ٩٦).

وامتيازا عن أنسابهم وأنسبائهم : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٢٣ : ١٠١).

وامتيازا لبعضهم عن بعض في فرقة بعيده بائدة ، وغربة غريبة سائدة فهم رغم اجتماعهم في النار ليس لهم اجتماع فيه يستأنسون ، والفرقة هناك ـ كما هنا ـ عذاب فوق العذاب ، فلكلّ منهم بيت من النار يدخل فيه فيردم بابه لا يرى ولا يرى.

وامتيازا عما كانوا يدّعون ، فهنا يدّعون إلى جهنم دعّا رغم ما يدّعون.

وامتيازا في تميّز النار من الغيظ : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) (٦٧ : ٨).

وامتيازا لأعمالهم وما كانوا يعتقدون أو ينوون عما للمؤمنين ولذلك يتفرقون : (يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (٣٠ : ١٦).

امتيازات سبعة في دركات سبع بتبكيت قارع يعمهم أجمعين! :

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٦١).

٨٧

عهد سابق سابغ ، صابغ فطرة الإنسان سلبا لعبادة الشيطان وإيجابا لعبادة الرحمن :

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٣٠) (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)(٧ : ١٧٣).

فذلك عهد فطري لا يتخلف ، ثم عهد عقلي مأخوذ على العقول بدرجاتها وهو أخص من الفطري إذ يخص العقلاء ، ومن ثم عهد رسالي قد يتخلفون عنه تخلفا عن عهد الفطرة والعقل وفيه تفصيل ما في عهد الفطرة : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ...) (٧ : ٢٧) (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ...) (٤١ : ١٤).

والعهد الرسالي أخص من العقلي وبأحرى من الفطري ، حيث لا يعم من عاش زمن الفترة ، إذا فهم على دين العقل والفطرة.

وترى لماذا «بني آدم» وآدم مفطور على الفطرة نفسها ومأمور بعهد الرسالة كما هم؟ علّه لأنه أوعد ذريته بعدائه : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (١٧ : ٦٢) وأن آدم ما عبد الشيطان في عصيانه ولم يكن ليعبده ، كما وأن السابقين والمقربين من بني آدم لا يشملهم خطاب التنديد ، حيث لم ينقضوا عهد الله مهما كان من آدم بعض النقض : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ثم و «بني آدم» دون «العقلاء» ام «الذين بلغهم عهد

٨٨

الرسالة» ذلك لمحة أنه عهد إلى كل بني آدم لزاما لهم دونما انفصال على أية حال ، فهو ـ إذا ـ عهد الفطرة ، ولا سيما إذا اكتمل بعهد العقل والشرعة ، حجة مثلثة قاطعة على أصحابها ، مهما كانت الفطرة دونهما ، أم والعقل دون الشرعة ايضا حجة ، مهما بان البون بينهما.

ثم لماذا (لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) الخاصة بعبدة الشيطان دون سائر العصاة من ملحدين أو مشركين أو موحدين من مسلمين وسواهم؟ علّه ليشمل العصاة الأصول في عصيانات هي كعبادة للشيطان! أم وسواها من سائر دركات العصيان ، توسيعا للعبادة لحدّ

(من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس (١).

فطاعة الشيطان بدركاتها عبودية له بدركاتها ، من اتخاذه إلها أو إشراكه بالله ، إلى طاعته في أي عصيان وبينهما متوسطات.

كما وطاعة الرحمن درجات ، عبودية له بدرجات ، فكل طاعة نتيجة عبادة في حدها ف (لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) كجملة مستقلة نهي عن كل طاعة للشيطان في أي عصيان كبيرا او صغيرا ، ولكن صلي الجحيم يخص أصول الكفر والضلالة إلحادا في الله أم إشراكا بالله أماذا من أصل في ضلالة عقائدية أو عملية.

ثم وما يعبد من دون الله ليس إلّا عن عبادة الشيطان ويلحقه كل عصيان مهما تفارقا في الطاعة المطلقة ومطلق الطاعة ، ولكنما المحور الأصيل في (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) هم الكفار ، وقد تدل عليه إضافة إلى صيغة «لا تعبدوا» هنا (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٩١ ح ٧٠ في كتاب اعتقادات الإمامية للصدوق وقال (عليه السلام):.

٨٩

ولماذا لا نعبد الشيطان؟ ل (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) يبين عدائه فيما يحملكم عليه من خلاف الفطرة والعقل والعدل ، وفيما يخلفكم ذلك الغرور من وعده الغرور!

(أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) تخلية عن عبادة غير الله أن «لا إله» (وَأَنِ اعْبُدُونِي) تحلية بعبادة الرحمن «إلا الله» و «هذا» السلب المطلق والإيجاب المطلق : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) : صراط العبودية.

(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ)(٦٢).

سيروا في الأرض فانظروا إلى من أضله الشيطان من الجبلّ الكثير فلم يبق إلّا القليل وكما أوعدكم منذ البدء : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) والجبلّ من أصل الجبل تدليلا على معنى العظم ، فكثيره هو الجماعة الكثيرة المغلّظة ، كما الجبلّة هي الجماعة المجبولة المفطورة على أمر : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) (٢٦ : ١٨٤) فكما الجبل مفطور على الصلابة والصلادة ، كذلك الناس أجمعون فأنهم مجبولون ومفطورون على فطرت الله التي فطر الناس عليها.

فالجبلّ الكثير هم المفطورون على (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ... وَأَنِ اعْبُدُونِي) في عهد الفطرة ، فهؤلاء الكثير تخلفوا عن جبلّتهم بما أضلهم الشيطان ، وجبلّ قليل هم الباقون عليها الماشون صراطها المستقيم «أفلم تكونوا» في واقع هذه التجربة العظيمة «تعقلون» وتأخذون حكم الفطرة بقوة؟

ولأن (كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٤ : ٧٦) فإضلالة الجبلّ الكثير عن جبلتهم وفطرتهم وعقليتهم وشرعتهم ، على كثرتهم ، ليس ذلك لقوته ، بل لضعف هؤلاء الجبلّ الكثير ، لا ضعفا في فطرتهم فإنها حجة الله ، وإنما تعاميا عنها وتركا لاستعمال عقولهم ، ولأنهم لم يعقلوا شرعة الله

٩٠

كما يجب ، كما لم يعقلوا فطرة الله وعقولهم.

فحجة الفطرة أقوى من حجة الشيطان التي تسترها ، لأنها ليست إلّا غواية ، وحجة العقل أقوى وهي في الشيطان أغوى ، وحجة الرسالات معصومة تفصيلا كما حجة الفطرة إجمالا ، فإضلال الشيطان للجبل الكثير ليس إلّا استضعافا لحجج الله داخلية ومنفصلة ، حيث لم يعقلها العاقلون : (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) أنتم الماشون سبيل الجبلّ الكثير كما هم ، فالعقل مفتاح الفلاح والصلاح حين يستعمل على ضوء الفطرة كآية أنفسية ، وعلى ضوء ساير الآيات الآفاقية وكما في الحديث «العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان»!

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

المخاطبون هنا هم المجرمون الذين (يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) دون بني آدم أجمعين ، ولا عصاتهم أجمعين ، حيث الصلي إيقاد كما في سائر القرآن ، وليس إلّا لأصول الضلالة دون الأتباع : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٩٢ : ١٥) (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) (٣ : ١٠) (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٢١ : ٩٨).

وعلّ «هذه» إشارة إلى جحيم ضلالتهم على عقلهم إذ لم يعقلوا ، ثم جحيم البرزخ وهي حصيلة تلك الجحيم ، ومن ثم جحيم الآخرة وهي بروز كامل لهما حيث (يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) فهم ـ إذا ـ في ثالوث الجحيم كلّ تلو الأخرى ، صورا ثلاث عن جحيم واحدة!

فليست آيات الله آفاقية وأنفسية بالتي تقهر أمام كيد الشيطان ، وإنما الانسلاخ منها بعد إيتاءها : «واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى

٩١

الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تركه يلهث» (٧ : ١٧٦).

(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ

٩٢

مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٣)

(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ)(٦٧).

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) وهنالك بطل تكلمهم باختيارهم ، وبقيت أعينهم ناظرة ، فعلّهم ـ ولن يستطيعوا ـ يفتشون عن صراط الجنة

٩٣

ليهتدوا إليه (وَلَوْ نَشاءُ) ـ ولن! إذ لن يستطيعوا ـ (لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) : إلحاما للشقوق بين الأجفان حتى تكون مبهمة لا شق فيها ولا شفر لها ، وبأحرى ـ إذا ـ يبطل إدراكها كسفا لأنوارها فصارت ممسوحة لا يبصرون (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) في التزاحم التسارع إلى الصراط ، استبقوه متجاوزين عنه! جاعلين إياه ورائهم ظهريّا (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أنهم جاوزوه ، وأنى يبصرون الصراط حتى لا يسبقوه؟

أم لو أنهم اهتدوا إلى الصراط على طمسهم بغتة وصدفة ، رغم استحالة اهتدائهم حتى إذ أبصروا ، هنا «لو نشاء» ولن (لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) : إمكانيتهم في المضي ، ومكانهم ، ومكاناتهم التي يزعمون (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا) إلى الصراط «لا يرجعون» إلى دنياهم تخلصا عن بلية العقاب.

هذه الطمسة المسخة ليست بذلك البعيد عن قدرته تعالى وبالنسبة للكافرين المستحقين لها ، كيف؟

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ)(٦٨).

إن النكسة في الخلق هي في أرذل العمر : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (١٦ : ٧٠) فلا يزال الإنسان منذ ولادته إلى قوة ولحد الأربعين ، ومن ثم يتنازل إلى ضعف وضعف لحد النكسة الأرذل حيث تزول طاقاته الجسمية والروحية ولحد الطفولة وأرذل : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (٣٠ : ٥٤) إنا نعيد الشيخ الكبير إلى حال الطفل الصغير ، في الضعف بعد القوة والتثاقل بعد النهضة ، والأخلاق بعد الجدة ، تشبيها بمن انتكس على رأسه فصار أعلاه سفلا وأسفله علوا.

٩٤

إنهم وهم في دار السعي والإختيار قد يردّون إلى النكسة ، كيف وهم في دار الجزاء اللّا إختيار يسدون عنهم النكسة عن الصراط وهم في قبضة العلي القدير! (أَفَلا يَعْقِلُونَ) عن ماضيهم لمستقبلهم؟!

أترى كل من يعمّر ينكس لأرذل العمر ، وقد عمّر نوح (عليه السلام) ألفا أو يزيد وهو رسول في كمال العقل والدراية ، وعمر المهدي القائم من آل محمد اثنى عشر قرنا وإلى ما لا ندري وهو يظهر في صورة شاب بالأربعين؟

إن هذا وذاك تعمير دون نكسة ورذالة ، يستثنى عن عموم التعمير ، ولا سيما للمهدي(عليه السلام) فانه خارقة إلهية في عمره وكل أمره صلوات الله عليه وعلى آبائه الكرام.

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٦٥).

هل إنه الختم المطلق على أفواههم يوم الحساب؟ و (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤ : ٢٤)

تشهد بشهادة ألسنتهم! ولكنها شهادة دون اختيار كما الأيدي والأرجل! ومن ثم ماذا نصنع بقولهم : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ...) (٤١ : ٢٠)؟.

القول الفصل هنا فصل القول ، أن ليس قالهم بفتح أفواههم إلّا بعد شهادات الأعضاء بختم أفواههم : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٤١ : ٢٢) ، فالله هو الذي ينطق الألسنة والأيدي والأرجل والسمع والأبصار والجلود

٩٥

بعد ما يختم على أفواههم ، وشهادة كلّ بحسبه كما سجلت أصواتا في الألسن والسمع ، وصورا في سائر الأعضاء ، بما استنسخها الله : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٣٩).

وترى لماذا الختم على أفواههم حين استشهاد أعضائهم؟ لما قد يتطلبون «إني لا أجيز علي إلا شاهدا مني» (١) وما يكذّبون (٢)(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) (٥٨ : ١٨)

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٦٧ ـ اخرج احمد ومسلم والنسائي وابن أبي الدنيا في التوبة واللفظ له وابن أبي حاتم وابن مردوية والبيهقي في الأسماء والصفات عن انس في قوله تعالى (الْيَوْمَ نَخْتِمُ ...) قال : كنا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فضحك حتى بدت نواجذه قال أتدرون مم ضحكت؟ قلنا لا يا رسول الله قال من مخاطبة العبد ربه فيقول يا رب الم تجرني من الظلم فيقول بلى فيقول اني لا أجيز عليّ إلا شاهدا مني فيقول كفى بنفسك عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول بعد الكف وسحقا فعنكن كنت أناضل.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٣٩١ ح ٧٥ ـ القمي عنه (عليه السلام) إذ جمع الله عز وجل الخلق يوم القيامة دفع الى كل انسان كتابه فينظرون فيه فينكرون انهم عملوا من ذلك شيئا فتشهد عليهم الملائكة فيقولون رب ملائكتك يشهدون لك ثم يحلفون أنهم لم يعملوا من ذلك شيئا وهو قول الله (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ ...) فإذا فعلوا ذلك ختم الله على ألسنتهم وتنطق جوارحهم بما كانوا يكسبون أقول علّها (عَلى أَفْواهِهِمْ) حيث الألسن من شهود الأعمال مهما كانت خارجة عن اختيارهم.

وفيه ح ٧٦ في كتاب الاحتجاج للطبرسي عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه ... فكذبهم الله فيما انتحلوه من الإيمان بقوله : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) فيختم الله على أفواههم ويستنطق الايدي والأرجل والجلود فتشهد بكل معصية كانت منه ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ...).

٩٦

يختم على أفواههم سدا عن الكذب يوم الصدق وتسديدا للشهادة الصدق ، ثم تفتح ف (قالُوا لِجُلُودِهِمْ ...) قولة متحسرة متغيظة بعد ما تمت الشهادة وغلب هنالك المبطلون ولات حين مناص إذ فات يوم خلاص!

فليست الأفواه كلها يومئذ مختومة ، ولا أفواه الكاذبين على أية حال ، بل في بعض الأحوال دون بعض لحكم قاضية ، وتكلّم الألسن كسائر الشهادات المسجلة في الأعضاء ليس هنالك باختيار.

ثم ترى لماذا (تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ) (وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) وشهادة الجوارح دون اللسان والسمع هي الأعمال المستنسخة فيها على سواء ، ثم الشهادة تعمها حتى المتكلمة منها في آية النور؟

علّه لأن «أيديهم» تشمل سائر أعمال الجوارح بما فيها السمع والألسنة المتكلمة بما سمعت أو تكلمت ، والأعين بما رأت ، والأيدي بما مدّت ، وتكلم كلّ على حسبه ، ثم الأرجل تشهد بما مشت أو تركت ولا كلام لها! إذا فقد جمعت الآية بين الجوارح العاملة كلها ، تكلما فيما يحويه ، وشهادة فيما لا يحويه!

أم ولأن الأفواه المختوم عليها أستبدل عنها بتكلم الأيدي ، شملت الألسن ام لم تشمل ، فإن كانوا لا يتكلمون بما عصوا ويكذبون ، فهذه أيديهم تتكلم بما كانوا يعملون ، دونما حاجة إلى كلامهم باختيار!

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ)(٦٩).

من حروب الدعاية التي شنّوها على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) معتمدين فيها على النسق القرآني المنقطع النظير ، قولتهم إن البشير النذير (شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٥٢ : ٢٠) (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ

٩٧

بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (٢١ : ٥).

وما قولهم إنه شاعر إلّا كقولهم هو ساحر ، حيث الشعر يسخر العقول ويسحرها ، ويأتي بالكذب المزخرف بأوزان ساحرة ، فيخيّل إلى الناس صدقه ، أو يقضي على الصدق فيظن كذبه ، والشعر يفدي جمال المعنى وحقّه لجمال اللفظ والوزن ، ويفدي جمال الحقيقة بتجميل الوزن ، عامدا مختارا ، أو مضطرا محتارا.

ومجمل القول عن قول الشارع والشاعر ، أن الشارع يؤصّل المعنى على جمال اللفظ دونما نفاق فيهما فإنهما في تعبيره العبير على حدّ سواء وحتى في الإعجاز ، والشاعر يعاكسه بتأصيل الوزن والمعنى تبع ، وأحيانا ليس له معنى صالح او يهدم صرح الحقيقة.

ولقد كانوا على معرفة بما للشعر من زور وغرور على حبه الهيمان ، فردفوه في عساكر التّهم الزور ضد الرسالة القرآنية ، ويرد عليهم القرآن بواقعه النثر وإن كان لا يشبه شعرا ولا نثرا ، وبما ينفي عن رسوله :

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) وإذا لم نعلّمه شعرا فما هو بشاعر ، لأنه أمّي لم يتعلم من غير الله شعرا وغير شعر ، ولم يعلّمه الله الشعر ، فليس ـ إذا ـ ليعلم شعرا لا إنشادا له (١) ولا نقلا رساليا أم ومطلق النقل.

أترى الجهل بشيء يعد في عداد مكارمه الرسالية ، شعرا وغير شعر؟ أجل وفي العلم المشوب الذي يجهّل ويريب الناس بالنسبة للرسالة الإلهية ، وكما وأن تلاوة كتاب وخطه بيمينه يريب المبطلين : وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٦٩ ـ اخرج ابو داود والطبراني والبيهقي عن ابن عمر وسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ما ابالي ما أتيت ان انا شربت ترياقا او تعلقت نميمة او قلت الشعر من قبل نفسي ، أقول وهذا لا ينافي عدم تعليمه مطلق الشعر حتى نقله وانما ذكر إنشاده كاظهر مصاديقه.

٩٨

مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٢٩ : ٤٨) والشعر ينهج غير منهج النبوة فإنه انفعال يستغل وهي فعل يستغل ، هناك انفعال يتقلب من حال الى حال في مختلف الأحوال ، وهنا منهج ثابت من الله لا يتبدل مع الأهواء المتجددة التي لا تثبت على حال ، وهناك أشواق إنسانية واقعية أم متخيلة إلى ظاهر الجمال ، وهنا حكم وأحكام إلهية مرسومة في كتاب التدوين تجاوب كتاب التكوين ، فهما مختلفان من الأساس ، لا نجد لكلّ في صاحبه اي مساس.

لذلك لم يعهد عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نقل أي شعر عن أي شاعر إلاليّا (١) فضلا عن إنشاده في سنته ، وأحرى منها براعة يراعة قرآنه.

وأما إنشاء الشعر ونقله بين الأئمة المعصومين فقد ينبغي إذ ليسوا في موقف الرسالة ، ثم وما كان لهم في الشعر مراس ، وكانوا يستحسنون أحسنه دعاية للإيمان بعد دعوة السنة والقرآن ، وقد مدح الله الشعراء الذين

__________________

(١) ولقد كان يقلب الشعر حين ينقله كما في الدر المنثور ٥ : ٣٦٩ ـ اخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال بلغني انه قيل لعائشة هل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت : كان أبغض الحديث اليه غير انه كان يتمثل ببيت اخي بن قيس يجعل آخره اوله واوله آخره ويقول : يأتيك من لم تزود بالاخبار فقال له ابو بكر ليس هكذا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي أقول ، وأصل المصراع : ويأتيك بالاخبار من لم تزود ، وفيه اخرج ابن سعد وابن أبي حاتم والمرزباني في معجم الشعراء عن الحسن ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتمثل بهذا البيت : كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا ـ فقال ابو بكر اشهد انك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما علمك الشعر وما ينبغي لك.

أقول وأصله : كفى بالشيب والإسلام للمرء ناهيا ـ وما الطفه تقديمه (صلى الله عليه وآله وسلم) الإسلام معنويا ، ولفظيا حيث ما علّم الشعر.

٩٩

آمنوا وهم قلة ، بعد ما ذم سواهم وهم كثرة : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ.) (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

ولكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لو قال شعرا إنشادا أو نقلا ، قرآنا وغير قرآن ، لدخل في أقواله تهمة الشعر التخيّل ، ولم يكن الشعر ليجمّله أكثر مما هو فصاحة وبلاغة ، ولكنما الشعر يزيد المعنى جلاء في تخيّل ، وهو نفاق وشرعة الله منه براء.

والقول : إن الشعر ـ هنا ـ يعني التخيلات المزخرفة موزونة وغير موزونة ، فالحقائق الناصعة في أوزان ليست شعرا ، والتخيلات في غير أوزان شعر ، وإذا كانت في أوزان فهي شعر على شعر.

ذلك هنا مردود ، بأن المفهوم من الشعر ما له وزن في تخيل وسواه ، وهو لجمال وزنه مظنة التهمة ، والاستثناء في آية الشعراء ب (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ...) عن (الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ...) وإضافة إلى مثلث التعريف بالشعراء دليل واضح لا مرد له أنه ليس مجرد التخيلات.

فليس ينبغي للرسول علم ما يريب الناس في رسالته (وَما يَنْبَغِي لَهُ) وليس الشعر ذكرا إلا نفاقا وزورا وغرورا ، ولا مبينا لهدى إذ ليس صراطه مستقيما ، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) : إن الرسول إلّا ذكر ... وإن علمه إلّا ذكر ، حيث «هو» يحتملها ، والأحرى أدبيا هو الرسول.

أترى الرسول «قرآن مبين» إلى كونه ذكرا؟ أجل إنه ذكر بكله ، وقرآن مبين بكله ، وقد كان خلقه القرآن (١) قلبه القرآن وقالبه القرآن ، ظاهره قرآن

__________________

(١) يسأل ابن عباس ما كان خلق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال : كان خلقه القرآن.

١٠٠