الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

وباطنه قرآن ، ومهما كان في القرآن التدوين متشابهات ومجملات تحتاج إلى بيان ، فالرسول القرآن هو بنفسه مبين وبيان ، فإنه قرآن متجسد مبين في كافة أحواله وأقواله.

إنه ذكر كما القرآن ذكر : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (٣ : ٥٨) (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً ...) (٦٥ : ١٠) صنوان من أصل واحد هو خاتمة رسالات السماء ، وإنه مبين كما القرآن مبين : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٧ : ١٨٤) (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (١٢ : ١).

أنا القرآن والسبع المثاني

وروح الروح لا روح الأواني

فهو قرآن كما القرآن قرآن ، كما القرآن يقرأ تدوينا وهو يقرأ كتاب حياته تكوينا ، وهما متجاوبان كأنهما واحد حال أنهما اثنان ، فقرآن محمد ومحمد القرآن آيتان بارعتان إلهيتان كأنهما آية واحدة ، يستدل بالقرآن على رسالته ويستدل به على رسالة القرآن! وللرسول فضل على القرآن لأنه تفسيره بيانا وعملا وتطبيقا!

هذا التعبير عن الرسول وإن كان منقطع النظير ، فإنه يبين كيان ذلك البشير النذير ، دمجا في القرآن كما القرآن مدمج فيه ، فأية فرية على الرسول هي فرية على القرآن كما العكس كذلك ، فكونه شاعرا يعني أن القرآن شعر ، وكونه شعرا يعني أن رسوله شاعر.

ثم «إن هو» الثاني : علم الرسول (إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) يخص علمه بهما ، فالقرآن المبين هو الأصل المتن المتين في علمه بالوحي ، ثم السنة ذكر يبين القرآن ، ولو كان «هو» ـ فقط ـ القرآن لكان توصيفه ب (قُرْآنٌ مُبِينٌ) توضيحا للواضح لدى الكل ، وأما كون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ببيانه قرآنا مبينا إلى كونه ذكرا ، فمجهول لدى الأكثرية

١٠١

إذا ف «إن» الرسول وعلمه (إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) حاملا مثلثا من التبيين : ذكر ـ قرآن! ـ مبين :

(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ)(٧٠).

مقابلة (مَنْ كانَ حَيًّا) ب «الكافرين» توحي بحياة الإيمان ، أترى أنه واقع الإيمان وهو واقع بعد كمال الإنذار والتبشير؟

قد تعني قبول الإيمان بأية مرتبة كان فهو من كان عاقلا (١) يستعمل عقله في صالحه ، : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٨١ : ٢٨).

فالذي لا يعقل رغم عقله فلا يشاء أن يستقيم فهو ميت من الكافرين ، لا يؤثر فيه الإنذار ، فقد تعني ما تعنيه (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) و (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ).

ف (مَنْ كانَ حَيًّا) يشمل من كان كافرا يتبع الذكر ويتقي إذا وقي ، إذ كان كفره عن قصور او تقصير جانبي وقد بقي فيه نور النجاة : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٢٢) ف (مَنْ كانَ مَيْتاً) هنا تعني مطلق الموت الذي يشي إلى حياة ، وفي الأنعام الموت المطلق الذي لا يشي إلى الحياة : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٣٠ : ٥٣).

__________________

(١) المجمع روي ذلك عن علي (عليه السلام).

١٠٢

(لِيُنْذِرَ ... وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) : كلمة العذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) الذين (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ولكن إذا لم تنذرهم لم يحق القول عليهم ، حيث تبقى لهم حجة أننا ما أنذرنا حتى نهتدي : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

أترى «لينذر» هو الرسول؟ فقد انقطع إنذاره بعد انقطاعه! أم هو القرآن؟ ومحور الكلام كان هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنذار القرآن لا يتم إلّا بالرسول! المنذر هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن والقرآن بالرسول ، وإذا انقطع الرسول عن الأمة فلا تنقطع سننه عنهم ، والقرآن هو محور الإنذار ، بالرسول ما دام فيهم ، وبسنته وخلفائه بعده ، وبالعلماء بعدهم؟ (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) (١٩ : ٩٧) (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧ : ٢) (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ...) (٦ : ٩٢) (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (٦ : ١٩) (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) (٢١ : ٤٥).

ثم (مَنْ كانَ حَيًّا) دون الأحياء قد تعني الجمع بين من يؤثر فيهم الإنذار أجمع ، ف «الأحياء» بالفعل هم المؤمنون بالفعل ، والأحياء شأنا هم الكافرون بالفعل من مشركين وكتابين أمّن هم؟ ، و «كان» تشملهم أجمع (١) ثم لا يبقى إلّا من ليس في حياته حياة العقل والقبول ، ليرجى به

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٩٣ ح ٨٠ في اصول الكافي بسند عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه : وقال الله عز وجل (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) فالحي المؤمن الذي تخرج طينته من طينة كافر والميت الذي يخرج من الحي هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن ، فالحي المؤمن والميت الكافر وذلك قوله (أَوَمَنْ كانَ

١٠٣

إيمانه بالقرآن ، الغافل الذي لا يستيقظ إذا أوقظ ولا يتعظ إذا وعظ فهو ميت مطلق لا ترجى حياته.

إذا فسابق الحياة السابغة شرط أصيل لتقبل الإنذار بالقرآن ، ومهما كان القرآن حجة بالغة على كافة العقلاء ولكنه ليس ليؤثر إلّا فيمن له قابلية القبول ، وهو من له بقية من حياة العقل والتحري عن الحق ، دون من ليس ليستعمل عقله : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) (٧ : ١٧٩). فهؤلاء الذين هم في الكفر المطلق ، مسدودين عن مطلق النور ، فلا مدخل لنور الهدى إلى قلوبهم ، هم في موت مطلق لا حياة عنه.

والمكلفون أمام إنذار القرآن أضلاع ثلاثة ، فضلع متضلع بالإيمان ، فهو يكمل إنذاره ، وهو من أحي الأحياء ، وضلع ضليع عن الإيمان ميت عن كيانه كإنسان ، فهو الميت المطلق الذي ليس له نصيب من الحياة : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ... وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٣٥ : ٢٢) ف (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وضلع عوان هو في مطلق الكفر غير المستقصي كيانه ولا المستعصي عن إيمانه ، فهو ضال قاصر يتحرى عن الهدى ، أم ـ لأقل تقدير ـ لا يفر عنها مبتغيا سبيل الردى ، فهو ميت حي ، فإن مآله إلى الحياة المطلق وهو الآن في مطلق الحياة ،

فيشمله (مَنْ كانَ حَيًّا) كما يشمل المتضلع في الإيمان ، فإنذار القرآن يعم كل من فيه تجاوب قليلا أو كثيرا ، بحياة عقلية قليلة أو كثيرة! فحياة

__________________

ـ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر وكان حياته حين فرق الله عز وجل بينهما بكلمته كذلك يخرج الله عز وجل المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله الى النور وذلك قوله عز وجل (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ).

١٠٤

الفطرة والعقل هما الظرفان الظريفان الطريفان لقبول الإيمان ، دون الفطرة المحجوبة والعقل المكسوف بطوع الهدى ، الذين يعيشون كفرا مطلقا قاصدا معاندا ف (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ)!

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ)(٧٣).

ترى ما هو موقف الواو في «أولم يروا» ولا معطوف عليه مذكورا قبله؟ إنها سائر الآيات آفاقية وأنفسية ، مشهودة لهم مرئية ، لا غائبة ولا بعيدة ، ولا غامضة غير مفهومة ، فإذا لم يروها ، ألّا مساس لهم بها حتى يفكروا فيها ، أم رأوها ولم يعتبروا بها ، «أو لم يروا» ما ينتفعون بها في حياتهم الحيوانية (أَنَّا خَلَقْنا) بجمعية الصفات حيث هناك جمعية الواجهات في نعمات «لهم» في اختصاص فانتفاع (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) من ماء وتراب أمّاذا من مخلوقات حيث عملتها أيدينا ، قدرات حسب مختلف النعمات (خَلَقْنا لَهُمْ ... أَنْعاماً) : جمع النعم وهي الدابة المحلّل أكلها ثمانية أزواج : (... وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ...) (٣٩ : ٦) ومع أنها من خلق الله وملكه حقا (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) ملكا مجازيا مستخلفون فيه ، وهذه من آيات الملكية الخاصة وطبعا بشرائطها العادلة. منحة ربانية وهبة إلهية مما عملته الأيدي الربانية ، فأصبحت أيادي لهم مملوكه ، هم مستخلفون فيها ابتلاء. والتفريعة في «فهم» تفريعة لرحمة الله ، وتقريعة عليهم كيف هم يكفرون بنعمة الله (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها).

ثم وليس مجرد ملكهم إياها ، حيث المستعصي على مالكه نقمة بدل كونه نعمة ، ولكنا (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) ذلّا دون شماس ، وذلا بكل احتراس (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) (٦ : ١٤٢)(وَمِنْها

١٠٥

يَأْكُلُونَ) : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٤٠ : ٧٩) (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ) أخرى ككونها حمولة وفوائد من جلودها (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) (١٦ : ٨٠) أماذا؟ «ومشارب» جمع مشرب مصدرا ميميا واسم زمان ومكان ، شربا من ألبانها ، وزمانه ومكانه ، ومن الأخير جلودها التي تعمل قربا للمياه شربا ومآرب أخرى ، وكل هذه وتلك لعلكم تنتفعون وتشكرون «أفلا تشكرون»؟

إنهم لا يقدرون على شيء من هذه وتلك ، فلا يملكون أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ، وما يملكون أن يذللوا ذبابة ولو اجتمعوا لها إلّا أن يقتلوها ، ورغم ما يعترفون أن ذلك كله من تقدير العزيز الرحيم لا يشكرون :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ)(٧٤).

إنهم رغم كل هذه النصرة والرحمة الإلهية (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) : أصناما وأوثانا وطواغيت (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) من قبلهم رغم أن هؤلاء الآلهة! :

(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ)(٧٥).

هؤلاء الآلهة أيّا كانوا (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) على أية حال إن كان الله يريد أن يخذلهم «وهم» الآلهة «لهم» العبدة (جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) لديهم حيث يعيشونها في بيوتهم ويعبدونها ، وهم الذين احضروهم لديهم لينصروهم وهم لهم عابدون ، فكيف إذا غابوا عنهم؟.

بل «وهم» العبدة «لهم» الآلهة (جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) كأنهم أحضروهم (١)

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٩٤ ح ٨٢ تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه ـ

١٠٦

ليدافعوا عنهم الأخطار الموجهة إليهم ، فإذا غابوا فهم في خطر كما آلهة نمرود لما غاب عنهم بشعبه ، اغتنم إبراهيم تلك الفرصة (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ).

ومن ثم (وَهُمْ لَهُمْ) لعبدتهم (جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) يوم القيامة ، كما أنهم لآلهتهم يومئذ جند محضرون (١) وماذا يفيد جند لا يستطيعون نصرهم لا في الحياة الدنيا ولا في الآخرة؟! : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (٣٧ : ١٥٨) فيا بؤسا لآلهة تحضر يوم الحساب للحساب كما يحضر عابدوها!

(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٧٦)

وإذا (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) في نكران المبدء والمعاد والرسالة ، ف (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) ضد هذه الرسالة (وَما يُعْلِنُونَ) أمامها ، فلا عليك منهم شيء فيه وأمرهم مكشوف بظاهره وخافيه على الحكيم الخبير القدير ، وقد هان أمرهم وما عاد لهم من خطر عليك (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ...)

أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (٧٧).

__________________

ـ السلام) في الآية يقول : لا تستطيع الآلهة نصرهم وهم للآلهة جند محضرون ، وفي الدر المنثور ٥ : ٢٦٩ ـ اخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : محضرون لآلهتهم التي يعبدون يدفعون عنهم ويمنعونهم.

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٦٩ واخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : هم لهم جند في الدنيا وهم محضرون في النار ، وعن قتادة : لا يستطيعون نصرهم قال : نصر الآلهة ولا تستطيع الالهة نصرهم وهم لهم جند محضرون قال : المشركون يغضبون للآلهة في الدنيا وهي لا تسوق إليهم خيرا ولا تدفع عنهم سوءا إنما هي أصنام.

١٠٧

ألم يروا من آيات إمكانية المعاد وضرورته الآفاقية ، فإن كانت منفصلة من ذوات أنفسهم (أَوَلَمْ يَرَ ...) آية أنفسية حسية يراها كل راء (أَنَّا خَلَقْناهُ) الإنسان «من نطفة» لم تكن شيئا مذكورا «فإذا» بعد ما يكبر ويعقل (هُوَ خَصِيمٌ) : كثير المخاصمة في حق المعاد وهو أهون من خلقه أوّل مرة ، وهو «مبين» في خصومة متعنت :

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)(٧٨).

ينسى خلقه أوّل مرة من نطفة ، ثم يستنكر حائرا مائرا خلقه ثاني مرة من ترابه وهو أهون عليه ، يضرب على ذلك مثلا ملموسا من عظم نخر يفركه (١) ثم يقول قولته : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)؟ وأحسن بجوابه الحاضر حيث يصدقه كل مصدق بالخالق : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) مهما اختلف خلقه في المرتين ، وهو في الثانية أهون (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ) كالأوّل أو أصعب «عليم» فضلا عن الأهون!

وإنها براهين قاطعة قاصعة لا فواق لها لأي خصيم حول المعاد ، فلئن كان

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٩٥ ـ ٨٨ في الاحتجاج روى عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن علي (عليه السلام) ان يهوديا من يهود الشام وأحبارهم قال لأمير المؤمنين (عليه السلام) فان ابراهيم (عليه السلام) قد بهت الذي كفر ببرهان على نبوته؟ قال له علي (عليه السلام) : لقد كان كذلك ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أتاه مكذب بالبعث بعد الموت وهو أبي بن خلف الجمحي معه عظم نخر ففركه ثم قال يا محمد (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فأنطق الله محمدا بمحكم آياته وبهته ببرهان نبوته فقال : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) فانصرف مبهوتا ، وفي الدر المنثور ٥ : ٢٦٩ عن ابن عباس ان ضارب هذا المثل العاص بن وائل ، وعنه ايضا انه عبد الله بن أبي ، وثالث عنه انه أبي بن خلف ، ورابع عنه انه ابو جهل.

١٠٨

السؤال حول اصل الاحياء ، استأصله «الذي خلقها أول مرة» وإن كان حول : من يجمع ذرات العظام وسائر البدن المتفرقة هنا وهناك ، عاد نفس الجواب «الذي خلقها أول مرة» حيث النطفة مجموعة من متفرقات عن مواد شتى ، فانها أمشاج (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ ...) (٧٦ : ٢).

وقد يعني ضرب العظام مثلا وهي رميم ، الأجزاء الأبعد عن الحياة في بعدي بعدها عن الحياة أوّلا ، ورمّتها أخيرا ، ولكن (نَسِيَ خَلْقَهُ) أوّلا أن أجزاء النطفة كانت أرمّ من الرميم وأبعد من ذلك البعيد (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) حيث الخلق في مراتبه أمثال في كونه خارقة إلهية ، فلا تختلف صوره في قدرته تعالى حتى إذا كانت هيّنة وأهون وصعبة وأصعب بالنسبة للقدرات المحدودة ، فانها سواء بجنب القدرة اللّامتناهية الإلهية ، فلا صعب عنده وأصعب ولا هيّن وأهون ، فالكل لديه هيّن ، ف (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)!

هنا مراتب ثلاث من الخلق كل لاحق أهون من سابقه وثالثها الإعادة يوم المعاد ، وقبلها الخلق من نطفة يوم الدنيا ، وأولاها خلق المادة الأولية لا من شيء و «إن الذي أنشأه من غير شيء وصوره على غير مثال كان سبق إليه قادر أن يعيده كما بدأه» كما في حوار الامام الصادق (عليه السلام) (١) أجل و : (خلقها قبل أن تكون أعجب من إحيائها وقد

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٩٤ ـ ٨٧ في كتاب الاحتجاج للطبرسي في احتجاج أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال السائل : أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه ام هو باق. قال : بل هو باق الى وقت ينفخ في الصور فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى فلا حس ولا محسوس ثم أعيدت الأشياء ، كما بدأها مدبرها وذلك اربعمائة سنة يسبت فيها الخلق وذلك بين النفختين ، قال : وأنّى له بالبعث والبدن قد بلى والأعضاء قد تفرقت فعضو ببلدة يأكله سباعها وعضو بأخرى تمزقه هوامها وعضو قد صار ترابا يبنى به مع ـ

١٠٩

كانت) (١).

فإعادة خلق الإنسان مثله أهون الخلق على الإطلاق ، فقبله بدءه وأكبر منه خلق السماوات والأرض وقبل الثلاثة خلق المادة الأولية لا من شيء ، وهم يرتابون في ذلك الخلق الأهون ، وهو في ميزان العدل والفضل أهم! وترى أن مجموعة عظام الإنسان تحيى يوم المعاد ، لمكان (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ) الظاهرة في كل العظام ، وكذلك : «يحيها» حيث المرجع هو العظام نفسها؟ وقسم عظيم من اجزاء العظام كما من سائر الأجزاء هو اجزاء أصلية او فرعية لآخرين ، فقد لا تبقى لأناس عظام وسواها حتى تحيى ، في حين ان عظام آخرين تحيى ، ترجيحا او ترجّحا دون مرجح ، وحرمانا لمن رجّح عليه!.

ثم الضرورة القاضية لجسمانية المعاد عقلية ، هي وصول الثواب والعقاب إلى الأرواح بواسطة أجسادها العاملة لصالحة الأعمال وطالحتها ،

__________________

ـ الطريق في حائط؟ قال (عليه السلام) : ان الذي ... قال أوضح لي ذلك قال : ان الروح مقيمة في مكانها ، أرواح المحسنين في ضياء وفسحة وروح المسيء في ضيق وظلمة والبدن يصير ترابا كما منه خلق وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها فما أكلته ومزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض ويعلم عدد الأشياء ووزنها ، وان تراب الروحانيتين بمنزلة الذهب في التراب فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور فتربو الأرض ثم يمخض مخض السقا فيصير تراب كل قالب الى قالبه فينتقل بإذن الله تعالى القادر الى حيث الروح فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها وتلج الروح فيها فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا.

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٧ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال جاء أبي بن خلف الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي يده عظم حائل فقال يا محمد أنّى يحيى الله هذا فأنزل الله (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً ...) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خلقها ...

١١٠

كما هما واصلان إلى الأرواح ، فإن أعمال الأرواح بين ما هي تعملها دون وسيط الأعضاء ، وما هي عاملة بوسيط الأعضاء ، فالجزاء العدل الوفاق وصول كلّ من صالح وصالح إلى الروح بوسيط وغير وسيط ، وتكفي الأجزاء الأصيلة التي يعيشها الإنسان منذ هو جنين إلى الموت ، تكفي هذه ـ فقط ـ لتكون وسيطة لوصول الجزاء إلى الروح!

والجواب أن (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ) استعجاب واستعظام لأصل إحياء العظام ، دون نظرة واتجاه إلى كمية منها أم وكيفية لها ، ولم يكن السائل المتعنت من الفلاسفة حتى يفهم فيعي أو يعني كمية في ذلك الإحياء في حين أنه ناكر أصل الإحياء ، ثم «يحييها» إجابة عن الشبهة في أصل الإحياء ، سواء أكان إحياء لكل العظام أم بعضها ، فلا تطارد الأدلة العقلية والنقلية الدالة على اختصاص الإحياء ببعض الأجزاء.

وعلّ منها (الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) والاوّلية الحقيقية لإنشاء العظام هي لانشاء النطفة الجرثومية ، فإنها صورة مصغرة عن الجنين ، كما هو مصغرة عن الوليد الجديد وإلى أعظم عظمها طوال عمره.

فالإنشاء الأول في ملاحظة دقيقة يخص النطفة الجرثومية ، وفي لحاظ أوسع وأعرف هو بداية نشوء العظام حين انشأت من المضغة : (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) (٢٣ : ١٤) ومضغة كل إنسان قياسا إلى مجموعة أجزائه الأصيلة والدخيلة منذ عظامه إلى موته ، علّها واحدة بالملايين من أجزائه التي يعيشها طول. حياته و (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٧ : ٢٩) قد تعني النطفة الجرثومية ، أم تعني عظام المضغة بلحومها الكاسية لها ، فالمعادة من أجزاء الإنسان على أية حال ليست إلّا الأجزاء التي يعيشها الإنسان دون تبدل وانفلات ، مهما انضمت بعد الموت إلى أناسي آخرين ، فإنها تصبح من أجزائهم الدخيلة دون الأصيلة ، فلكلّ ـ إذا ـ أجزاء أصيلة تخصه ، ويعاد فيها ليجزي بها

١١١

جزاءه الأوفى ، والأجزاء الدخيلة هي بين أصيلة لآخرين فلآخرين ، أم دخيلة على أية حال فلا تعاد لا مع الأولين ولا الآخرين.

ولأن دار الجزاء هي دار البقاء ، فلتكن الأجزاء قابلة لذلك البقاء ، كما هي قابلة للجزاء ، والقول إن الخليّات كلها تتبدل سنين بعد سنين فلا أجزاء أصلية منها دون تبدل كما أثبته علم الفيزيولوجيا الإنساني! إنه تخرّص بالغيب مبني على ما يرى من تبدّلات ، ولكنها لا تستقصي كلّ الأجزاء ، فكما الروح لكل إنسان هو روحه مدى حياته ، كذلك أجزاءه الأصيلة هي أجزاءه مدى حياته ، وهي التي يحشر بها ، ففي الحياة الدنيا هي باقية لكل إنسان حيث يعمل ـ كل ما يعمل ـ بها ، ثم بعد الموت هي في قبضة ملك الموت مهما انتشرت وانتقلت إلى اشخاص آخرين ، إذ لا تصبح من أجزائهم الأصيلة ، ولكل إنسان نصيب يخصه من أجزاء هي المعاد في المعاد بأمثال الصور التي ماتت عنها.

وليس من الممكن استقصاء كافة الخليات بتبدلاتها وتحولاتها فضلا عن تفلّتها كلها في سنين يدّعونها! وفصل القول حول كيفية المعاد وكمية المعاد يأتي في طيات آياتها الأحرى بالتفصيل إن شاء الله تعالى.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (٨٠).

فأين الشجر الأخضر المنملي من الماء؟ وأين النار المبخّرة للماء ، والماء المطفي للنار؟ وقد جمعها الله في الشجر الأخضر : (فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)! وليس حصول الحياة في الميت الذي كان حيا ثم مات بأبعد من شعلة النار المتخرجة من الماء وهما متضادان وهذان متلائمان والله (بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) صعبا وأصعب وهيّنا وأهون في كل ما دق وجل

١١٢

وعلّ المقصود من هذا (الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) شجر المرخ والعقار ، تشتعلان باحتكاك أحدهما بالآخر أو بنفسه بعضه ببعض ، شجر أخضر ريّان بالماء يصبح نارا ، ووقود نار مع اللّدونة والاخضرار ، يا لها من عجيبة في الخلق وأعجب من إحياء الموتى ولا سيما في الخلق الثاني ، (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ... بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ)!

وكما الشجر الأخضر يحوي نارا ، فشجرة الإنسان الخضراء قد تحوي نارا بما يعارض شرعة الله ، ثم الله يجعلها نارا في الأخرى أم وقود نار (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) (٣ : ١٠) كما وقد تحوي نورا بما تطبّق شرعة الله.

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)(٨١).

أليس الذي خلق المادة الأولى لا من شيء ثم بدأ خلقكم (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ)؟ عطفا على ألوان من الخلق أصعب عن الإعادة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) (١٧ : ٩٩) (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٥٦ : ٦١) (١) إنّ خلق المثل هو الإعادة في المعاد ، حيث المعاد ليس عين البدن بصورته الأولى ، بل هو هو بصورة ثانية كالأولى ، وكما تعنيه آيات تبديل الأمثال أنه يبدّل أجسادكم أمثالها في

__________________

(١) راجع تفسير الآية في ص ٨٧ ـ ٩٢ ج ٢٧ الفرقان.

١١٣

الصورة مهما كانت من أعيانها في المادة ، وحدة عينية في أصل المادة البدنية ، وأخرى صورية مماثلة للأولى ، فلا يعني مثلهم أعيانهم أو أشباههم في الأولى إذ لم ينكروا خلقهم فيها ، ولا أعيانهم في الأخرى حيث المعاد فيها يختلف عن الأولى لأقل تقدير (١) في عين الصورة ، فليس إلّا مثلها ، أن تعاد الأجزاء الأصيلة لكل إنسان في مثل صورته التي ماتت عنها والروح هو الروح ، فالشيء الثاني قد يكون ضد الأول فليس ـ إذا ـ إعادة للأول ، أم مثله في الصورة أو المادة أم فيهما كلا أو بعضا ، فهو إعادة للأول صورة أم مادّة أم فيهما ، وأما أن يكون عينه؟ فلا! حيث العين لا يتعدد ، إذ التعدد بحاجة ضرورية إلى ميّزة ما بينهما ولا ميّزة بين الشيء وعينه ، بل لا بين هنا حتى نفتّش عن الميّزات.

ف «إعادة المعدوم مما امتنعا» ـ كقاعدة فلسفية قطعية ـ لا تشمل المعاد حسب القرآن ، حيث المعاد في المعاد إنما هو إعادة الروح في المادة الأصيلة البدنية بمثل الصورة التي مات عنها ، فلا يعاد الروح بعينه لأنه لا يموت حتى يحيى مرة أخرى إلا عن غشوة تعتريه في النفخة الأولى ، ولا تعاد الأجزاء الأصيلة إذ لم تنعدم ، ولا تعاد عين الصورة التي زالت ، وإنما يعاد الروح إلى الأجزاء الأصلية بعد فراقها ، ويخلق مثل الصورة الأولى ، ومحطّ الجزاء الوفاق في الأصل هو الروح ، والروح هو الروح نفسه ، وفي الفرع هي الأجزاء الأصلية التي بها يعاقب الروح ويثاب والأجزاء هي الأجزاء ، ثم لاجزاء للصورة حتى يقال إنها فاتت ، والمخلوقة ثانية ليست هي هيه ، وإنما مثلها ، والجزاء العدل هو الوارد على عين الكائن العامل

__________________

(١) وفي تقدير آخر في كمية المادة كما فصلناه في الواقعة.

١١٤

دون مثله! والأجزاء هي عين الأجزاء ، والصورة المماثلة للأولى ليست محطة الجزاء!.

فالخلاق العليم الذي خلق السماوات والأرض أقدر على خلق أمثال الناس وهو الخلق الثاني الذي ينكره الناكرون (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٤٠ : ٥٧) (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (: ٣٣) ف «إذا كان خلق السماوات والأرض أبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي فكيف جوزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم والأصعب لديكم ولم تجوزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي»(١) وخلق أمثالكم في المعاد أهون من الخلق الأول ، كما الخلق الأول أهون من خلق السماوات والأرض! وخلقهما أهون من خلق المادة الاولية.

(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٨٢).

... الأمر هنا بين فعل وإيجاب وهما منه واحد ، فليس هنا الشيء لمكان (إِذا أَرادَ شَيْئاً) فإنما فعله وإيجابه التكويني إذا أراد شيئا أن يقول لذلك الشيء كن فيكون دونما فصل أو تمنّع أو مانع.

فليس أمره إذا أراد شيئا كأمر المخلوقين أن يحول بين إرادته ومراده أمر آخر يمنع ، أو يكلّف تحقيق مراده سوى إرادته أمر آخر او أمر آخر ، ف (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً) أيّا كان وأيّان من صغير وكبير ، من بدء وإعادة (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقوله فعله ، تلميحة لطيفة بنفاذ أمره دونما نظرة أمر

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٩٦ ح ٩١ الاحتجاج عن الامام أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) في حديث تفصيل الجدال.

١١٥

آخر أو أمر آخر ، أو تصرّم الزمان إلّا أن يشاء هو التأجيل كما خلق السماوات والأرض في ستة أيام.

«يقول لما أراد كونه : (كُنْ ـ فَيَكُونُ)» ، لا بصوت يقرع ولا نداء يسمع ، وإنما كلامه سبحانه فعل منه وإنشاء ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ولو كان قديما لكان إلها ثانيا (١) «فإرادة الله الفعل بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما أنه لا كيف له» (٢).

ف «أمره» هنا فعله كما قوله ، و «أراد» هي الإرادة القاطعة بعد العلم والمشية ، و «شيئا» يعم كلما لا يستحيل ذاتيا أو في الحكمة ، ارادة لتكوينه لا من شيء كالمادة الأوّليه التي خلقت لا من شيء ، أم لتكوينه من شيء خلقه قبله تبديلا له أيّا كان ، ومنه الإحياء بعد الإماتة ، واطلاق الشيء على الأوّل باعتبار الأول دون أية فعلية إلّا إمكان إيجاده لا من شيء ، ومن ثمّ الشيء الكائن حيث يبدل إلى غير شيئه في صورته ، ثم تبديله حيا بعد موته ، وقد أطلق على المواد الأولية لفظة الحروف حيث تعني حروف التكوين كما في حوار الإمام الرضا (عليه السلام) مع عمران (٣).

__________________

(١) المصدر عن نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام).

(٢) فيه ح ٩٨ عن اصول الكافي باسناده عن صفوان بن يحيي قال قلت لابي الحسن (عليه السلام) اخبرني عن الارادة من الله ومن الخلق قال فقال : الارادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل واما من الله فإرادته احداثه لا غير ذلك لأنه لا يروّي ولا يهم ولا يتفكر وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق فارادة الله ...

(٣) نور الثقلين ٤ : ٣٩٧ ح ٩٩ في عيون الأخبار في باب مجلس الرضا (عليه السلام) مع اهل الأديان والمقالات في التوحيد كلام للرضا (عليه السلام) مع عمران يقول فيه : واعلم ان الإبداع والمشيئة والارادة واحدة وأسماءها ثلاثة وكان أول ابداعه وارادته ومشيئته الحروف التي جعلها أصلا لكل شيء ودليلا على كل مدرك وفاصلا لكل مشكل وتلك ـ

١١٦

(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٣).

هنا ملك سريع الزوال ، وهناك ملك أبطأ في الزوال لأنه أقوى ملكا ، وشيء منهما ليس مطلقا لا يغلب صاحبه ، فقد يغلب وقد يغلب.

__________________

ـ الحروف تعرف كل شيء من اسم حق وباطل او فعل او مفعول أو معنى او غير معنى وعليها اجتمعت الأمور كلها ولم يجعل للحروف في ابداعه لها معنى غير أنفسها يتناهى ولا وجود لها لأنها مبدعة بالإبداع والنور في هذا اوّل فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض والحروف هي المفعول بذلك الفعل وهي الحروف التي عليها الكلام والعبارات كلها من الله عز وجل علّمها خلقه وهي ثلاثة وثلاثون حرفا فمنها ثمانية وعشرون حرفا تدل على لغات العربية ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون حرفا تدل على لغات السريانية والعبرانية ومنها خمسة أحرف متحرفة في سائر اللغات من العجم الأقاليم اللغات كلها وهي خمسة أحرف تحرفت من الثمانية والعشرين حرفا من اللغات فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفا ، وأما الخمسة المختلفة «فتجحخ» لا يجوز ذكرها اكثر مما ذكرناه ، ثم جعل الحروف بعد إحصائها واحكام عدتها فعلا منه كقوله عز وجل : (كُنْ فَيَكُونُ) وكن منه صنع وما يكون به المصنوع فالخلق الاول من الله عز وجل الإبداع ولا وزن له ولا حركة لا سمع ولا لون ولا حس والخلق الثاني حروف لا وزن لها ولا لون وهي مسموعة موصوفة غير منظور إليها والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلها محسوسا ملموسا ذا ذوق منظورا اليه والله تبارك وتعالى سابق بالإبداع لأنه ليس قبله عز وجل ولا كان معه شيء والإبداع سابق للحروف والحروف لا تدل على غير نفسها ، قال المأمون : كيف لا تدل على غير نفسها؟ قال الرضا (عليه السلام) لان الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئا بغير معنى أبدا فإذا ألف منها أحرفا أربعة أو خمسة أو ستة أو أكثر من ذلك او اقل لم يؤلفها لغير معنى ، ولم يك الا لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئا ، قال عمران : فكيف لنا بمعرفة ذلك؟ قال الرضا (عليه السلام) اما المعرفة فوجه ذلك وبيانه انك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير نفسها ذكرتها فردا فقلت : ا ب ت ث ج ح خ حتى تأتي على آخرها فلم تجد لها غير أنفسها وإذا الفت وجمعت منها وجعلتها اسما وصفة لمعنى ما طلبت ووجه ما عنيت كانت دليله على معانيها داعية الى الموصوف بها ، أفهمت؟ قال : نعم.

١١٧

ثم وهنالك ملكوت هي حقيقة الشيء وما به الشيء شيء ، فمن بيده الملك قد لا يملك ، ومن بيده الملك قد يضعف أو يزول ملكه ، ولكن الذي بيده الملكوت فبيده ناصية كل شيء إيجادا وإعداما وما بينهما تحويرا وتغييرا ، لا منعة عن إرادته فيه ولا مهلة بعدها له!

وعلّ الملكوت هي حقيقة الملك والملك مبالغة فيهما حقهما ، فليست إذا إلا لله ، لا يشاركه فيها سواه اللهم إلّا علما إذا علّم الله.

فهنا ملكوت يجوز النظر إليها وقد أمرنا به : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ...) (٧ : ١٨٥) وهذه ملكوت تعرف بالنظر وهي افتقار الكائنات ذاتيا إلى من سواها.

وهناك ملكوت يريها الله من يشاء : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٦ : ٧٥) وعلّها إرائة لافتقار أعمق مما يحصل بالنظر ، وقطعا ليست هي العلم المحيط بذوات الكائنات فإنه يساوق القدرة الخلاقة لها و (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ)؟

وهنالك ملكوت هي ـ فقط ـ بيده تعالى علما وقدرة : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) (٣٣ : ٨٨)؟ (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) عن أن يعيى بخلق أمثالنا أو يتخذ في شيء لنفسه شريكا (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) كحتمية تقضيها العدالة والحكمة الإلهية!

وإنها ايقاعة ختامية قاحلة لهذه الجولة الهائلة في السورة كلها ، تضم الأصول الثلاثة بإجمال لطيف!

١١٨

سورة الصّافات مكيّة

وآياتها ثنتان وثمانون ومائة

١١٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ)(١١)

١٢٠