الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

لا محيي للأحياء يوم الإحياء إلّا هو ، ولا كاتب لأعمالهم في حياة التكليف إلّا هو ، ولا محصي لكل شيء قبل شيئه إلّا هو ، توحيدا في مثلث الأفعال مبدأ ومعادا وبين المبدء والمعاد ف (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

وعل «الموتى» يعم بعدي الموت ، قبل الحياة الدنيا وبعد الموت عنها : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢ : ٢٨) : نحيي موتى الأجنّة بعد موتها الكائن «فأحياكم» ثم نحي موتاهم بعد حياتهم وموتهم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).

فالإحياء الأول قضية الفضل واقع مكرور على أية حال ، ملموس غير منكور بحال ، فبأحرى الإحياء الثاني قضية العدل وهو أهون عليه (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧).

ثم (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) في الحياة الدنيا تثبيتا لها في ظروف عدّة ، حجة لهم وعليهم يوم يقوم الأشهاد ، كتابة في أعناقهم وذوات أنفسهم بتسجيل الصور والأصوات: (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٧ : ١٤) وكتابة في أرضهم بأجوائها وأشيائها بأشياعهم: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٩٩ : ٥) (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٩) وكتابه بكرام كاتبين مؤمّرين من قبل رب العالمين (كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (٨٢ : ١٢) وكتابة في سجلّات ضمائر الشاهدين : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) (١٦ : ٨٤) كتابات أربع تجمع كافة الشهادات العينية وما دونها.

وترى ما هو الفارق بين (ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ)؟ والأعمال كلها مقدّمة

٢١

لأنها كلها مكتوبة متطائرة دون إبقاء! علّ الفارق بينهما أن «ما قدموا» هي الأعمال المنقطعة بعد ما عملت مهما سجّلت ، إذ لا يبقى لها أثر يتّبع ، وأما «آثارهم» فهي الباقية بعد ما عملت من سنة حسنة أو سيئة تتّبع وكما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) وذلك كعلم ينتفع به او يضر ، وبناء مسجد او مفسقة ، وولد خلف او متخلف ، أمّاذا ومن؟ من أثر خير أو شر يتّبع ، فإنه مكتوب قدر ما يتبع ، كما أن ما قدموا يكتب كما قدّم ، بل وآثارهم في وجه هي مما قدّمت ، وإنما أفردت بالذكر بعد «ما قدموا» تنبيها أنها تحسب بحساب صاحب الآثار مهما انقطع العمل ، لأنه من عواملها إذ سنّها وعبّد طريقها.

وقد تشبه الآية (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (٧٥ : ١٣) ف «ما قدم» هو ما قدموا ، وما «أخر» هو آثارهم.

وقد تعم «آثارهم» الأنفسية منها بجنب الآفاقية ، فقد يعمل خيرا أو شرا منقطع الأثر نفسيا وخارجيا ، وأخرى له أثر في نفسه نتيجة الإصرار والتكرار ، فيصبح ملكة بعد ما كان حالا وعملا ، وثالثة له أثر خارجي لا نفسي كملكة ، ورابعة له الأثران ، ف «آثارهم» قد تعم الثلاثة الأخيرة مهما اختلفت درجاتها أو دركاتها ، فانها مشتركة في بقاء آثار للأعمال بعد انقطاعها ، ومثالا للأثر النفسي خيرا (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (٥٨ : ٣٢) وآخر لها شرا (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ)

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٦٠ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من سن سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها من بعده من غير ان ينقص من أجورهم ومن سن سنة سيئة كان عليها وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيء ثم تلا هذه الآية (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ).

٢٢

(٤ : ١٥٥) فتلك من كبائر الحسنات ، وهذه من كبائر السيئات.

فالأعمال ـ إذا ـ مكتوبة لا هي فحسب ، بل بمفعولياتها وفاعلياتها ، الباقية بعد انقطاعها ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وهذا هو السرّ في زيادة العقوبات زمنا على السيئات ـ أحيانا ـ ونقيصتها عنها أخرى ـ حيث العمل يوزن ـ يوم الوزن ـ بمخلّفاته ، لا فحسب بذاته ، فالخلود أبديا وغير أبدي ، وهما محدودان لأصل الحد في العمل بمخلفاته وخلفياته ، ذلك الخلود لا تجب موازاته زمنا وفي مادة العذاب بنفس العمل مادة وزمنا ، بل وكما يكتب (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ) من العمل وآثاره (أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ)!

وقد تشمل «آثارهم» آثار أقدامهم إلى حسنات (١) أو سيئات ، فإنها ليست مما قدموا كأصول الأعمال ، فلا تشملها «ما قدموا» ولأنها من سنن تتبع حسنات او سيئات فهي من آثارهم.

(وَكُلَّ شَيْءٍ) مما قدموا وآثارهم أما ذا من شيء كائنات العالم كله ، وأفعالها وأحوالها ما ظهر منها وما بطن ، كل ذلك دونما إبقاء (أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) والإحصاء هو العلم التفصيلي ، والإمام المقتدى ، والمبين هو المظهر ، فما هو الإمام المبين؟

لا نجد الإمام المبين إلّا هنا وفي الحجر (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ)(٧٩)

__________________

(١) المصدر اخرج ابن أبي سيبة واحمد وابن مردويه عن انس قال : أراد بنو سلمة ان يبيعوا دورهم ويتحولوا قريب المسجد فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكره ان تعرى المدينة فقال يا بني سلمة اما تحبون ان تكتب آثاركم الى المسجد قالوا بلى فأقاموا وعن ابن عباس فأرادوا ان ينتقلوا قريبا من المسجد فنزلت (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فقالوا : بل نمكث مكاننا ، أقول واخرج ما في معناه جماعة آخرون.

٢٣

وهما أصحاب لوط وأصحاب الايكة بما انتقم الله منهم ، فعلّه صيغة أخرى عن اللوح المحفوظ وأم الكتاب ، والكتاب المبين ، تعبيرات أربعة عن علمه التفصيلي بكل شيء ، فهم وما قدموا وآثارهم ، وكل شيء سواهم ، وكل فعل بجزائه ، كل ذلك سابق في علم الله حتى وإحياء الموتى وكتابة ما قدموا وآثارهم ، ولكنه ليس تقدير التسيير ، وإنما تقدير العلم الكاشف عما سيكون كما يكون ، بتسيير أو تخيير ، فليس إحصاء الأعمال التكليفية في كتاب مبين بالذي يقدرها تسييرا ، وإنما هو كشف عنها كما يحصل تخييرا.

ولأن ذلك الإحصاء لكل شيء لا يعزب عنه شيء فقد ينحصر بالله الذي يعلم كل شيء ويقدره ، منحسرا عمن سوى الله وان كان الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) وذويه ، فليس عندهم الإحصاء المطلق كما عند الله ، إلّا مطلق الإحصاء مما علمهم الله ، فهم ـ إذا ـ المصداق الثاني للإمام المبين (١) واللوح المحفوظ وأم الكتاب

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٧٩ ح ٢٧ في كتاب معاني الاخبار باسناده الى أبي الجارود عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عن أبيه عن جده (عليه السلام) قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) قام ابو بكر وعمر من مجلسهما وقالا : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو التوراة؟ قال : لا قالا فهو الإنجيل؟ قال : لا قالا فهو القرآن قال : لا قال ، فأقبل امير المؤمنين (عليه السلام) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو هذا انه الامام الذي احصى الله فيه تبارك وتعالى علم كل شيء.

أقول : انه تفسير بمصداق ثان ناطق في الخلق واوله رسول الله ثم أوله الصامت كتاب الله وكل الثلاث من المصاديق التالية لعلم الله.

وفي تفسير البرهان ٤ : ٧ ح ٨ الشيخ في مصابيح الأنوار باسناده عن رجاله مرفوعا الى المفضل بن عمر قال : دخلت على الصادق (عليه السلام) ذات يوم فقال لي يا مفضل عرفت محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين (صلى الله عليه وآله وسلم) كنه معرفتهم؟ قلت يا سيدي ما كنه معرفتهم؟ قال يا مفضل عرفت تعلم انهم في طير الخلائق بجنب ـ

٢٤

والكتاب المبين (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ).

وعلّ التنكير في (إِمامٍ مُبِينٍ) يلمح لذلك الشمول جريا للعلم المطلق على مطلق العلم ، فكما يفسر هكذا الصراط المستقيم بأمير المؤمنين (عليه السلام) كذلك الأمر في إمام مبين ، فإنهما من تفسير التطبيق على مصاديق دون المصداق المطابق المعنّي في أصل الكلام

ولأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه عترته المعصومون (عليهم السلام) من شهداء الأعمال ، والله يحصي فيهم اعمال العباد كلهم ، فهم ممن يكتب فيهم (ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) وكما يكتب فيهم سائر العلم إلّا ما اختص الله بعلمه.

__________________

ـ الروضة الخضراء فمن عرفهم كنه معرفتهم كان معنا في السنام الأعلى قال قلت عرفني ذلك يا سيدي؟ قال : يا مفضل تعلم انهم علموا ما خلق الله عز وجل وذراه وبراه وانهم حكمة التقوى وخزناء السماوات والأرضين والجبال والرمال والبحار وعرفوكم في السماء نجم وملك ووزن الجبال وكيل ماء البحار وأنهارها وعيونها وما تسقط من ورقة إلّا علموها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وهو في علمهم وقد علموا ذلك فقلت : يا سيدي قد علمت ذلك وأقررت به وآمنت قال : نعم يا مفضل نعم يا مكرم نعم يا طيب نعم يا محبوب طبت وطابت لك الجنة ولكل مؤمن بها وح ٩ عنه رواه عن أبي ذر في كتاب مصباح الأنوار قال كنت سائرا في أغراض امير المؤمنين (عليه السلام) إذ مررنا بواد النمل ونمله كالسيل سار فذهلت مما رأيت فقلت : الله اكبر جل محصيه فقال امير المؤمنين (عليه السلام) ولا تقل ذلك يا أبا ذر ولكن قل جل باريه فوالذي صوّرك اني احصي عددهم واعلم الذكر من الأنثى بإذن الله و ١٠ عن عمار بن ياسر قال كنت مع امير المؤمنين (عليه السلام) في بعض غزواته فمررنا بواد مملوء نملا فقلت يا امير المؤمنين (عليه السلام) ترى يكون احد من خلق الله يعلم كم عدد هذا النمل قال نعم يا عمار انا اعرف رجلا يعلم كم عدده وكم فيه ذكر وكم فيه أنثى فقلت من ذلك يا مولاي الرجل فقال يا عمار ، قرأت سورة يس (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) فقلت : بلى يا مولاي قال انا ذلك الامام المبين.

٢٥

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣)

٢٦

إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٣٢)

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ)(١٣).

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) بطيّات إنذارك (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) مثلا يشبه هذه الدعوة والمدعوين في كونهم قوما لدا وحجاجهم اللدود ومصيرهم العسير يوم الدنيا ويوم الدين.

وعدم الإفصاح عن اسم القرية وسمة أهلها مما يفصح أنهما لا يزيدان

٢٧

في دلالة القصة وإيحائها إلى ما يرام منها ، فلا يهمنا أنها «انطاكية» كما تقول الروايات أم غيرها ، وكما لم يفصح عن اسماء الرسل ، حيث الرسالات طبيعتها واحدة ، كما المرسل إليهم ، مهما اختلفت مواد الدعوة في بعض صورها وأزمنتها وأمكنتها ، ولذلك لا نرى من أسماء الألوف من الرسل إلّا زهاء ستة وعشرين رسولا في القرآن ، كان ذكرهم لزاما في هذه الرسالة الأخيرة.

وقد تلمح «إذ أرسلنا» لرسالة دون وسيط من رسول الإنسان (١) مهما كان رسول الرسول بأمر الله رسولا من الله ، فلا تنافيه الرواية القائلة أنهم رسل المسيح (عليه السلام) (٢) اللهم إلّا بولص الخائن إذ لم يكن من الحواريين ولم يؤمن بالمسيح إلّا غدرا بعد صعوده (عليه السلام) فلم يكن المسيح ليرسل رسولا إلا بإذن الله ، وإذ لم يصدق «إذا أرسلنا» فمن المستحيل أن يرسله الله على علمه أنه خائن (٣).

(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)(١٤).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٧٩ ج ٣٠ ـ تفسير القمي بسند متصل عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن تفسير هذه الآية فقال : بعث الله عز وجل رجلين الى اهل مدينة انطاكية فجاءهم بما لا يعرفون فغلظوا عليهما فأخذوهما وحبسوهما في بيت الأصنام فبعث الله الثالث فدخل المدينة ...

(٢) المصدر عن المجمع قال وهب بن منبه بعث عيسى هذين الرسولين الى انطاكية ... فلما كذب الرسولان وضربا بعث عيسى (عليه السلام) شمعون الصفا رأس الحواريين على اثرهما لينصرهما ...

(٣) الدر المنثور ٥ : ٢٦١ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن شعيب الجبائي قال : اسم الرسولين الذين قال : إذ أرسلنا إليهم اثنين شمعون ويوحنا واسم الثالث بولص!

٢٨

«فكذبوهما» كما كذّبت أمم قبلهم وبعدهم ومعهم بعذرهم البائس المتكرر : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ...) «فعززنا» الرسولين برسالتهما «بثالث» فإنّ في تلاحق الحجج مزيدا من الاعتزاز للحق «فقالوا» جميعا بكلمة واحدة : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) صيغة سائغة صارمة بتأكيد «إنا» وتقدّم الظرف الموحي للاختصاص : «إليكم» مع التعزيز بثالث.

فقبل الثالث «كذبوهما» بإجمال دونما عناية واعتداد ، فلما عززنا بثالث فصرمت الحجة ، أخذوا في سرد الرد عليهم بعرض عريض إذ عرفوا تلاحق الرسالة في تعزيز دونما وقفة ، فحاولوا في نكرانها واحتالوا في تكذيبها بحجة مفصلة هي في زعمهم قاطعة قارعة ، ولكي يرتاحوا عن تواتر الرسالة.

(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ)(١٥).

(ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) كحجة أولى لتكذيبهم ، حيوانية التصور ، إذ تحصر إنسانية الإنسان ببشريته ، دون ان تحسب روحه وروحانيته بحساب ، وفي هذا المقياس الحيواني هؤلاء هم أولى بالرسالة إذ يملكون من حيوانية الإنسان أكثر منهم ، وهم كأمثالهم معترفون بمماثلتهم في بشريتهم ، ولكنهم يمتازون عنهم بما يوحى إليهم قدر الاستعداد في روحياتهم وقابلياتهم : (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ... قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ...) (١٤ : ١١) (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ...) (٤١ : ٦).

فالمماثلة في البشرية ليس لزامها المماثلة في سائر الميزات الروحية بقابلياتها ، ولكنهم يحصرون الإنسان في بشريته ، ويحسرونه عما سواه من

٢٩

ميزاته ، فقياسهم يمثل قياس إبليس اللعين : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) وهم بذلك في أسفل سافلين!

(وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) كنتيجة عن تلكم المماثلة الحاصرة الخاسرة الحاسرة أن لو أنزل من الرحمن شيء لأنزل علينا كما أنزل عليكم ، وإذ لم ينزل علينا ف (ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) على بشر.

ولأن «الرحمن» رحمة عامة ، فللمماثلين في البشرية إما أن تنزّل هذه الرحمة على سواء ، أم لا تنزل على سواء ، والجواب أن الوحي إنما هو من مبدإ الرحيمية ، رحمة خاصة للخصوص من عباده الصالحين ، فالنازل على الإنسان ـ كبشر ـ رحمة رحمانية ، ولكنما النازل عليه كإنسان في مختلف المنازل الروحية ، إنما هو رحمة رحيمية ، من كتابة الإيمان وإلى نبوءة ورسالة وإمامة الرسل وخاتمة للوحي ، ف (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) فإن قضية الربوبية الحكيمة عدم التسوية بين المختلفين في الاستعدادات والقابليات والفاعليات ، والحاجة الضرورية للناس إلى الرسالات من أمثالهم في البشرية لتكون الحجة بالغة لا تبقي على أثر من نكران وعاذرة!.

فمهما لم ينزل الرحمن وحيا يعم البشر ـ ولن ينزل ـ فقد أنزل الرحيم وحيا : (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

و (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) كنتيجة حاسمة في حسبانهم ، هي حصرهم لدعواهم رسالة الوحي في الكذب!

(قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(١٧).

أترى (رَبُّنا يَعْلَمُ) تثبت لهم رسالة إلى هؤلاء الناكرين؟ ولكل مدع لا يملك برهانا على دعواه أن يقول (رَبِّي يَعْلَمُ) وللناكر أن يعكسها نفيا

٣٠

لها «ربي يعلم انك لست بمرسل» وعلى أقل تقدير : أنّى لنا سبيل الى (رَبُّنا يَعْلَمُ)! فإن هي إلّا حجة داحضة لا تليق بالرسل ، وليست إلّا مهزئة للناكرين الذين ينكرون الحجج البالغة للرسل فضلا عن هذه؟!

الجواب كل الجواب تجده في (رَبُّنا يَعْلَمُ) فلم يقولوا «الله يعلم» أو «رب العالمين يعلم» او «الرحمن يعلم» وإنما (رَبُّنا يَعْلَمُ) توجيها للناكرين إلى حجة ملاصقة بهم ، ملازمة لهم ، هي التربية الخاصة الإلهية الملموسة فيهم ، من رحمة رحيمية خاصة تخص المرسلين.

فيعلم (رَبُّنا يَعْلَمُ) بما يرى فينا ، ويعلم من التربية الرسالية الإلهية ، كحجة ملاصقة بنا ، بعد ما يعلم أن «ربنا» لا يجعل الناس على سواء ، والحاجة إلى اصطفاء بين كل قبيل لدعوته ضرورة مدقعة!

فلا تحصر حجج الرسالة الإلهية بآياتهم المنفصلة عنهم كإحياء الموتى واليد البيضاء أمّاذا؟ فالرسل آيات الهية في ذوات أنفسهم قبل آياتهم ، تتمثل فيهم التربية الرسالية ، كما أفصح عن أهمها رجل من أقصى المدينة (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فهم يملكون ما يملكه الرسل في دعواتهم بموادها ، بصورتها وسيرتها ، ثم وقد يتزودون بآيات منفصلات إتماما للحجة وإيضاحا للمحجة : (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) بلاغ يبين نفسه أنه رسالي إلهي ، ويبين ما يخفى على المرسل إليهم من سبل إلى الله ، وكمال الإبانة في بلاغهم ياتي بآيات بعد آيات أنفسهم ، فالآية الكائنة معهم أينما كانوا هي آيتهم (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) والآية التي عليهم لإبانة البلاغ هي المنفصلة عن ذوات نفوسهم ، وقد قضوا ما عليهم بطبيعة الحال ، ولا سيما أمام هؤلاء الناكرين الألداء!

ومن ثم ف (رَبُّنا يَعْلَمُ ...) توجيه إلى قضية الربوبية الرحيمية ، أنها ليست على سواء بالنسبة للمربوبين ، فلكلّ حسب فاعلياته وقابلياته ، وكل حسب

٣١

حاجيات العالمين الى درجات من الهدى ، و (رَبُّنا يَعْلَمُ) دون سواه يعلم ما هي الحكمة في اختصاص بعض الناس بالرسالة دون بعض ، ف (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٦ : ١٢٤) كما (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٢٢ : ٧٥).

ف (رَبُّنا يَعْلَمُ ...) هدم لصرح الاستحالة في رسالة البشر وإنزال الوحي عليه ، ثم تبنّ لصرح الرسالة بآياتها الذاتية المشاهدة في المرسلين ، ومن ثم آيات منفصلة تؤيدها والله من وراء القصد.

هذان شرطان أصيلان يتبنّيان الرسالة الإلهية : أن يحملوا معالم التربية الإلهية الرسالية ، وأن يبلغوها البلاغ المبين : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٢٤ : ٥٤).

هناك اندحضت حجة الناكرين فتحوّلوا إلى هراء في عراء عن شاكلة الحجة وإن بصورتها ، قوله ناكبة ماردة لكل عاجز عن الحجة ، حاجز عن المحجة ، حيث تتهددهم بالرجم :

(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٨).

التطيّر هو التشام ، فلما نكب أهل القرية في جواب الرسل عن تكذيبهم توصلوا إلى شطحات القيلات : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) والتهديد بأشد العذاب : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) وسائر العذاب : (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) وهكذا يسفر الباطل عن غشمه ، ويطلق على الهداة تهديده وعربدته في التعبير والتفكير.

(قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ)(١٩).

ليس طائركم منا بل هو معكم ، حيث تواجهون الناصحين بكل شؤم

٣٢

ولؤم ، كالقبيح الدميم الناظر الى المرآة متطيرا بها قباحته ودمامته ، وطائره معه لا سواه.

«أئن ذكرتم» بما يصلحكم فأنتم تتطيرون بنا ، كلّا لا طائر معنا (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) في الزور والغرور.

ليس هناك شؤم في زمان أو مكان أم ايّ كان لكي يأتي الإنسان من غيره ، دونما شؤم في نفسه ، رغم ما يتشأمه الشائمون حيث يتطيرون بأشياء أو أشخاص ، وقد يسرفون في ذلك تطيرا بالصالحين المصلحين ، خرافة جازفة جارفة لا تستقيم على أصل عقلي او علمي ، إلّا أساطير الأولين.

وهكذا يكون دور القلوب المقلوبة المعقولة بعقالات الجاهليات ، والحق الحقيق بالاتباع (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وأن (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) وكل إنسان يعمل على شاكلته ، فلا يصيبه شر إلّا من نفسه أو من هو كنفسه ، فطائر كلّ معه وهو عند الله ، يصيبه به جزاء وفاقا : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٧ : ١٣١) (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ. قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (٢٧ : ٤٧)

ذلك وعلى حدّ المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): لا عدوى ولا طيرة ولا شؤم (١) و «الطيرة على ما تجعلها إن هونتها تهونت وإن

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٨٢ ج ٣٥ في روضة الكافي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

٣٣

شددتها تشددت وان لم تجعلها شيئا لم يكن شيئا» (١) إذ ف (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) و «كفارة الطيرة التوكل» (٢).

كل ذلك إذ لا أصالة للطيرة ، إلّا أن تشدد تخيّلها فتشدد عليك ، أم تتكل على الله فلا تجعلها شيئا.

ثم وذلك التعزيز بثالث لم يفدهم إلّا إتمام الحجاج ، ومن ثم منهم تمام اللجاج ، فقدتمّ دور الرسالة ببلاغها المبين ، ثم يأتي دور من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ، دون اختصاص بإيمانهم الشخصي بل ومناصرة الرسل المكذبين ، ولم يكن في البلدة كلها إلّا رجل من أقصاها :

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)(٢٠).

ورجل من أقصى المدينة هو رجل الضاحية ، متحررا عن أغلال المدينة بأوساطها ، متحللا عن أوزارها وأوضارها ، خالصا في إيمانه ، ساعيا في إتيانه ، وكما (جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (٢٨ : ٢٠).

وهكذا تكون الرجولة البطولة للصالحين الصامدين من المؤمنين أنهم يعيشون نصرة الرسالات والمرسلين ، بكل ما لديهم من طاقات وإمكانيات ، دونما نظرة لجموع محتشدة ينضمون إليهم ، فالقيام لله مثنى وفرادى : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٨٢ ج ٣٣ في روضة الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) : ...

(٢) المصدر عنه (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :

٣٤

ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) (٣٤ : ٤٦) (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) (٤٠ : ٢٨).

وفي مجيء رجل من أقصى المدينة دلالة أن بلاغ الرسل بلغ من أقصاها إلى أقصاها ، فقد ملئت ببلاغهم المبين لحد يجذب لمناصرتهم رجلا من أقصاها ، مليئا من دعوة الرسالة أقصاها ، متخطيا في مجيئه هذا أقساها قلبا وأدناها.

ولا مهمة في أن نعرف اسمه وشغله ، فليس الأشخاص والأشغال والشخصيات بالتي تخلق الرجولات وإنما هو الإيمان الصارم الصامد أينما حل ، في وسط المدينة أم قصيّها أو أقصاها ، فلا يهمنا أنه حبيب البخار أو الحراث أو القصار أم رجل الغار (١) ، حيث القصص القرآنية هي نخبة تقص عن تاريخ الماضين ، فيها عبرة لأولى الألباب.

__________________

(١) في الدر المنثور ٥ : ٢٦١ ـ عن قتادة قال بلغني انه رجل كان يعبد الله في غار ، وعن عمر بن الحكم قال بلغنا انه كان قصارا ، وعن ابن جريح كان حراثا ، وفي نور الثقلين ٤ : ٣٨٤ ج ٤١ في امالي الصدوق باسناده الى عبد الرحمن بن أبي ليلى رفعه قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصديقون ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل ياسين وحزقيل مؤمن آل فرعون وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو أفضلهم.

وفي الدر المنثور ٥ : ٢٦٢ ـ اخرج ابو داود وابو نعيم وابن عساكر عن أبي ليلى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله سواء ، واخرج البخاري في تاريخه عن ابن عباس مثله الا في «أفضلهم» واخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : السبق ثلاثة فالسابق الى موسى يوشع بن نون والسابق الى عيسى صاحب يس والسابق الى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب.

٣٥

(رَجُلٌ يَسْعى) في مجيئه وفي مناصرته المرسلين وفي كلما تتطلّبه من سعي.

(قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢١).

فالاهتداء الرباني فيهم ظاهرة الملامح وكما استدلوا به في حجاجهم على هؤلاء المكذبين ، وهذه سنة دائبة للمرسلين ، كما وأن عدم سؤال الأجر سنة لهم ثانية وبذلك لهم إمكانية البلاغ المبين ، فالسائل اجرا في بلاغة يحدّده بحدود أجره ، ويراعي فيه طلبات المرسل إليهم ، والذي لا يسأل اجرا وهو ضال ، شيطان يرائي ، والمهتدي الذي قد ينحو نحو ضلال قاصرا أو مقصرا لا يهدي إلى الحق الصراح : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)؟ واما من لا يسأل أجرا وهم مهتدون ، فهم الهادون الذين يجب إتباعهم ، فإن لهم البلاغ المبين دون أي خفاء في أصله وفرعه ، في صورته وسيرته ، كالنار على المنار والشمس في رايعة النهار ، تجب متابعتهم دون قيد ولا شرط لمكان العصمة والهداية المطلقة كالرسل والأئمة ، وأما سائر العلماء الربانيين ، فاتباعهم لغير العلماء محدود بحدود الهدى والمصلحة ، حيث يسقط واجب اتباعهم وولايتهم عند الاخطاء قاصرين أو مقصرين ، وبأحرى ليس الفقيه وليا على فقيه آخر إلّا عمليا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (١) وكما للمؤمنين ككل بعض البعض (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٩ : ٧١).

وان تعجب فعجب من هؤلاء الذين يدفعون أجرا ويضلون ، ثم من يضلون دون أجر ، ومن ثم يهتدون بأجر ، فما الهدى الصالحة إلّا هدى

__________________

(١) راجع سورة الأحزاب.

٣٦

مطلقة دون أجر ، ماديا أو معنويا (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) بل وحتى إن هتكوهم وضربوهم فأحرجوهم وأخرجوهم ، ليسوا هم بتاركي دعوة الحق ، مما يدل على صدقهم القاطع ، فلا مال هنالك ولا منال ، إلّا حرمانا عن زهرة الحياة ، ومهاجرة دائبة في سبيل الدعوة ، وكما نراها في كل داعية رسالية!

(اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) وحتى إذا لم يحملوا آيات الرسالة ومعجزاتها ، كما وهو السنة المتبعة في التقاليد الحقة الحرة لكل جاهل عن عالم ، كيف وهم أولاء الرسل يحملون آيات الرسالات في ذوات نفوسهم وذوات ألسنتهم وأيديهم وكما برهنوا بها (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ).

«ليس الأنبياء عملا ولا عمالا إلا لرب العالمين» (٢٦ : ١٠٩) (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١١ : ٥١) (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) (١١ : ٢٩).

فمن لا يسأل على رسالته ـ على صعوباتها ـ أجرا وهم مهتدون ، وليست لهم رباط إلّا بالله ، إذا فأجرهم على الله ، وكما رسالتهم من الله ، ولا مغالاة لهم في سؤال الأجر وفي الدلالة ، فالمقتضي لاتباعهم ـ وهو الاهتداء بهم موجود ، والمانع وهو الضلال أو الأجر مفقود.

فإنهم ليسوا ليطلبوا أو يأخذوا من دنياكم شيئا بديل الدعوة حتى تخسروا منها باتباعهم ، وإنما يدلونكم إلى الهدى ، فلكم في اتباعهم خير الآخرة والأولى ، وفي تركه ، هم ـ لأقل تقدير ـ لا يخسرون وأنتم الخاسرون ، وهذا يشبه احتجاج علي (عليه السلام) «إن صح ما قلت فقد تخلصنا جميعا وإلا فقد تخلصنا وهلكت»!

(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢٢).

٣٧

وهنا انتقال من حجة الرسالة الى تجاوبها مع الفطرة : «ومالي»؟ فما هو بالي ووبالي أن اعبد من دون الله ـ الذي فطرني ـ من هو مثلي أو دوني أو من هو فوقي و (لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) وفطرهم ، فما أشنعه ظلما بالحق أن أترك عبادة فاطري إلى عبادة المفطورين مثلي ، أو اشركهم في عبادته (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) دون الذين به تشركون ف (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

فمالي ، مالي أنجرف هكذا الى شفا جرف هار ، ولا تجاوبه الفطرة ولا العقل ولا دعوات الرسل؟

وهنا «مالي» واجهتان أولاهما سئوال الرجل عن نفسه ، والأخرى سؤال كل ذي فطرة عن فطرته ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يتبنّى الثانية كحجة على الكل ، فلأن رجوعهم إلى الذي فطرهم لا سواه ، فليعبدوه لا سواه ، و «فطرني» تعني فطر الخلق ، وخلقهم على فطرة التوحيد ، فخالقيته لا سواه ، ثم فطرة التوحيد ، ومن ثم الرجوع إلى الفاطر لا سواه أدلة ثلاثة على وجوب عباد الله لا سواه.

(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ)(٢٣).

وهذه حجة رابعة للتوحيد تعني الواجهة السلبية (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ) هنا أو في الأخرى (لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) أن يشفعوا لي عند الله زعم التوهم الهراء : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) ثم «ولا ينقذون» من ضر الرحمن مستقلين في إغنائهم عني ، فلا هم مستقلون في دفع الضر عني ، ولا هم شركاء شفعاء ، فما تفيدني إذا عبادتهم ، وترفضها قبل ذلك الحجج الثلاث وتمجّها مجّا!

(إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢٤) ضلال يبين نفسه أنه ضلال ، دونما حاجة إلى اختلاق حجة وتكلّف برهان ، حيث الفطرة تجاوب حق التوحيد

٣٨

وباطل الشرك كآية أنفسية قبل الآيات الآفاقية.

(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (٢٥) وهل المخاطبون هنا هم الرسل ، يظهر لهم إيمانه بمعرض الناكرين ، ليشهدوا له عند الله؟ وكانوا شاهدين إيمانه منذ جاء من أقصى المدينة! والله هو شاهد الإيمان دون شهادة! أم هم الناكرون فليسمعوا إيمانه بحججه ليتبعوه أو يزيدهم حجة إذ ينكرون؟ ويناسبه «بربي» أو (رَبِّ الْعالَمِينَ) لا «بربكم» إذ كانوا يعبدون أربابا من دون الله! اللهم إلّا أن يعني الرب الفاطر الذي هم به مؤمنون.

قد يعنيهما جميعا جمعا بين الأمرين ، و «بربكم» دون «أربابكم» يختصه بالله الواحد ، ولأن رب المرسلين هو ربه ورب المكذبين ، وقد برهن لربوبيته الوحيدة في حجاجه ، فأحسن الصيغ هنا «ربكم» مما سرّ المرسلين وأغاظ الناكرين لحدّ قتلوه فور قوله الجاهر القاهر ، إذ كانت شهادته بالتوحيد ـ وهو رجل من أقصى المدينة ـ تجاسرا على أصحاب المدينة.

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ)(٢٨).

فأمره بدخول الجنة وتحسّره على جهل قومه ، وغفران ربه له ، وجعله من المكرمين ، و «من بعده» لمحات خمس أنهم قتلوه فور قوله : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ)!

والجنة هنا هي البرزخية حيث يدخلها المؤمن فور ارتحاله إلى رحمة ربه ، فإن الجنة الأخرى ليست إلّا للقيامة الكبرى ، وإلّا لشيء أصيل من هذا البدن قليل ، والبدن الآن بكامله تحت التراب أمّاذا؟ ولمّا تأت القيامة الكبرى ، فهذه من الآيات الدالات على الحياة البرزخية بعد الموت دون

٣٩

فصل ، فان «قيل» هنا و «قال» تدلان على استمرارية حياة الميت بعد الموت ، فلا يعني الموت إلّا فصل الروح ببدنه البرزخي عن هذا البدن ، ولا يعني موت الروح وفوته وكما تفصله الآيات البرزخية الأخرى.

ولما (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) قال مبتهجا لنفسه ، متحسرا على قومه (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) أمرين خفيا عنهما :

١ ـ (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) أن أذهب عني سيأتي رفعا ، ودفع عني التي كانت تهاجمني ، ولا فحسب الغفران بل ـ ٢ ـ (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) وهم بين الملائكة : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢١ : ٢٧) وبين سائر المؤمنين من مخلصين (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ... وَهُمْ مُكْرَمُونَ) (٣٧ : ٤٢) ومن مخلصين: (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) (٧٠ : ٣٥) وهم مشتركون ـ على درجاتهم ـ في أنهم لا يعذّبون ولا يؤنّبون ، ولذلك نرى الرجل يستقبل فور موته ب (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ).

وكما الله أكرم ذلك الرجل الناصر للمرسلين ، كذلك أهان قاتليه المكذبين أن اخمد ثائرتهم بصيحة واحدة دون أن ينزل عليهم من جند من السماء (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) جند السماء على مردة الأرض ، واستصغارا لموقفهم واستضعافا.

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ)(٢٩) صيحة واحدة أخذت جموعهم المحتشدة المتكاثفة المتكاثفة ، التي كانت كنيران مسعّرة على الرسالات (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) خاملون دون حراك في أي عراك ، ويكأنهم لم تسبق لهم حياة! صرعى سبات مهانين مصغّرين ، وقد سدل الستار سراعا على مشهدهم البائس المهين.

٤٠