الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

هي فتنة للظالمين أيّا كانوا وفي ايّ من الحياتين الأولى والآخرة ، فهنا يتقولون هازئين بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما عن أبي جهلهم : يا جارية زقمينا ، فأتته بتمر وزبد ، فقال لأصحابه : تزقموا بهذا الذي يخوفكم محمد فيزعم أن النار تنبت الشجر والنار تحرق الشجر ، فأنزل الله (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ)(١).

الظالم الناكر ليوم الدين يزيد له نكرانا إذ يسمع شجرة الزقوم بمواصفاتها ، أين الشجرة والنار بأشدها في أصل الجحيم ، وهي تحرق بأخف النار؟! وما يفيد تمثيلها في طلعها برءوس الشياطين ، ولم ير أحدنا الشيطان؟!

ان حماقى الطغيان وآباء الجهالات تجاهلوا القدرة الخلاقة للشجر والنار ، وقد (جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)! وقد تكون شجرة الزقوم من جنس النار فلا تحرق بالنار بل وقد تزيد في حرقة النار!.

ومهما لم ير أحد رؤوس الشياطين ، يرون في أنفسهم أنها أقبح الرؤوس فيما يرون ، وكفى الشجرة هولا أنها في بعدي الجهالة من كيانها : شجرة تخرج في أصل الجحيم. طلعها كأنه رؤوس الشياطين.

إنها أكلة رؤوس الشياطين ، فلتكن كرؤوس الشياطين ، وإنهم وقود النار وأصولها فلتخرج هي من أصل الجحيم ، رأسا برأس وأصلا بأصل.

وكما أن عدّة الزبانية للجحيم ـ التسعة عشر ـ فتنة للذين كفروا ، ومزيد إيمان للذين آمنوا ، كذلك شجرة الزقوم بأصلها في أصل الجحيم ،

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٠٤ ح ٣٢ في المجمع في رواية الزقوم بلغة البربر التمر والزبد فقال ابو جهل لجاريته : ...

١٦١

هنا هي فتنة للظالمين كما فتنوا ، وواقع الفتنة العذاب لهم في أصل الجحيم.

صحيح أن الناس لا يعرفون رؤوس الشياطين ، ولكنها مفزعة كما الشياطين ، ومجرد تصورها في غيبها يثير الفزع والجزع ، فكيف إذا كانت طلعا يتطلع لطالع أكلتهم ، وإذا كان طلعها كأنه رءوس الشياطين فما ذا ـ إذا ـ سائرها الذي أجمل عنه.

(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ)(٦٧).

عند ما تشوكهم شائلة الأكلة المالئة من هذه الشجرة الملعونة ، حارقة بطونهم ، تطلعوا ـ بطبيعة الحال ـ إلى شراب يخفف عن وطئتها ، ويطفف عن وقعتها ، فإذا لهم بشوب من حميم يشوبها ، فهو يغلي كما تغلي ، شوبا ثنائيا من غلي البطون : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (٤٤ : ٤٣)

(فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ. فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) (٥٦ : ٥٥)

شوب الحميم داخلي إذ شابه ما يحمّه أكثر من نفسه ، وخارجي إذ شابته شجرة الزقوم ، وثالث ثالوثهم في عذابهم الأليم أنه (شُرْبَ الْهِيمِ) وهل لهم مرجع يرجعون إليه ويلجئون؟ :

(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) (٧٠).

الجحيم : النار الشديدة التأجج ، هي مرجعهم فتحرقهم بعد ما احترقوا بنزلهم ف ـ (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا) ووجدوا «آباءهم» القدامى «ضالين» ورغم ضلالهم (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ) في الضلالة «يهرعون» ويسرعون ،

١٦٢

فكما كان مرجعهم في الاولى آباءهم الضالين ، كذلك يوم الدين (مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) وبذلك يختم مشهد الظالمين وكأنه طرف من واقعهم المشهود!

فما الحياة الآخرة إلّا صورة واقعية عن الحياة الدنيا ، اللهم الا فضلا للذين أحسنوا ف ـ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ).

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ

١٦٣

الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي

١٦٤

الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)(١١٣)

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ)(٧٣).

وتلكم الأكثرية الضالة دائبة في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، رغم تواتر الإنذار من المنذرين ، فكان ضلالهم معمّدا بعد التحذير والإنذار ، «فانظر» نظرا في عمق الغابر (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) المصدقين منهم والناكرين :

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٧٤).

فهم بينهم لم تكن لهم عاقبة إلّا الحسنى ، رغم السائرين من مكذبين ، او مصدقين قاصرين او مقصرين ، حيث نالوا ما قصروا او قصرّوا شطرا في الأولى (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى)! والاستثناء يعم «من

١٦٥

ضل» و «المنذرين» فإن للشيطان سبيلا الى غير المخلصين مهما كان لمما أو كبيرة.

ومن هنا استعراضات وجيزة لعاقبة المنذرين والمنذرين ، من مخلصين وسائر المؤمنين أو المكذبين ، بادئا بأول المرسلين العظام نوح عليه السلام :

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ)(٧٥).

نداء وإجابة مهما كان بينهما من بون كما تقتضيه الحكمة الإلهية ، ومن ندائه (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ... وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) (٥٤ : ١٤) (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً ... مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً ... وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ...) (٧١ : ٢٨) والجمع في «نادانا» و «المجيبون» يعني جمعية الصفات جلالا بسحق الكافرين ، وجمالا بنجاة المؤمنين (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) لمن هو نعم العبد! ... «صدقت ربنا أنت أقرب من دعي وأقرب من يعطي فنعم المدعى ونعم المعطي ونعم المسؤول ونعم المولى أنت ربنا ونعم النصير» (١)

(وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)(٧٨).

هذه ثلاث إجابات لما دعا نوح (عليه السلام) بين نفي لغير أهله وإثبات لأهله ، وأهله ـ هنا ـ الآهلون للنجاة ، من أهله في النسب وأهله

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٧٨ ـ اخرج ابن مردويه عن عائشة قالت كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا صلى في بيتي فمر بهذه الآية (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) قال : صدقت ربنا ...

١٦٦

في الإيمان ، فلم ينج فيمن نجّي ابنه وامراته وهما أقرب أهله نسبيا ، وقد نجّي من آمن به مهما كانوا أبعد عنه في النسب ، فإنما الأهل هنا أهل الإيمان ، سواء فيهم أقاربه وأغاربه : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) (١١ : ٤٠) (فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ. قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (١١ : ٤٦).

ترى وإذا كان أهله أعم من ذريته فما ذا تعني (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) وابنه من ذريته وقد هلك ، والمؤمنون القلة غير ذريته وقد بقوا؟

فهل هم ذرية الإيمان كما أهله؟ فلما ذا التحول من «أهله» إلى «ذريته»؟ علّها تعني ذرية أهله فإنهم ذريته إيمانيا كما هم أهله : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) فلم يكن الباقون بعد طوفان نوح إلّا من انتسل من أهله وذريته المؤمنين وسائر من آمن معه (١).

وعلّ من آمن معه كانوا هم أو أكثرهم من ذريته ، ف ـ «أهلك» في يونس مقابل «من آمن» تعني الأقربين ، والآخرون هم سائر ذريته! (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٠٥ ح ٣٦ علي بن ابراهيم في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية يقول : الحق والنبوة والكتاب والايمان في عقبه وليس كل من في الأرض من بني آدم من ولد نوح قال الله عز وجل في كتابه (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) وقال الله عز وجل ايضا (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ).

(٢) الدر المنثور ـ اخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سمرة بن جندب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية قال : سام وحام ويافث ـ أقول وقد اخرج ما في معناه جماعة آخرون عن سمرة وأبي هريرة.

١٦٧

أم إن المحمولين معه كانوا من ذريته وغيرهم ، ولكنما الباقين لم يكونوا إلّا ذريته مهما شملتهم النجاة عن الغرق؟ فلما ذا اختصاص البقاء ببعض المحمولين ولم يختصوا بالإيمان ، وعلّ منهم من كان أفضل من ذريته؟ علّهم ماتوا في السفينة فلم تنسل لهم ذرية وكما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في روايات عدة ، وهي توافق ظاهر آية الذرية.

ترى وماذا ترك عليه في الآخرين؟ ومن هم أولاء؟

علّ الآخرين هم سائر حملة الدعوة الرسالية بعد نوح من إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بينهم ، وقد ترك الله وخلّد دعوته العالمية بين سائر الخمسة الذين دارت عليهم الرحى ، فربط بينهم برباط الدعوة الوحيدة الموحدة ، أو يعني (تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) ترك الدعوة ضده لمكان «على» وكما ترك عليه سلاما في الآخرين.

(سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)(٨٢).

فسلام عليه دائب في العالمين إلى يوم الدين دونما انقطاع لذكراه المجيدة الوطيدة الصامدة فإنه أوّل من انتهض في دعوة باهضة فائزة ، بمقاساة أشد البلايا والفتن طول الدعوة ، فله نصيب من كل خير وسلام إلى يوم القيامة!

وإنه سلام من الله ومن أهل الله (فِي الْعالَمِينَ) من الملائكة والجنة والناس أجمعين أم أيا من المكلفين ، (إِنَّا كَذلِكَ) الواسع الفاسح (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ف ـ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ).

١٦٨

وانه سلام جزاء الإحسان ل ـ (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) إيمان السلام والتسليم فله السلام كما سلّم ، ومن ثم لمن معه وتابعه «ثم» بعد ما نجيناه وأهله من الكرب العظيم (أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) وهم غير أهله ، :

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ)(٨٣).

فإبراهيم ممن شايع نوحا في دعوة التوحيد ، وفاقه فيها ، فقد يشايع الأعلى الأدنى كما الأدنى يشايع الأعلى ، أو هما يتساويان ، فلا تعني المشايعة لأحد تفاضلا في المشايع عليه ، إلا نفس التوافق في سلك واحد ، ومن الأدنى شيعة موسى (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) (٢٨ : ١٥) وشيعة علي (عليه السلام) ، وان شيعة الحق قد تكون متاخرة في الزمان لا في المكانة كإبراهيم بالنسبة لنوح ، وقد تتقدم في الزمان وتتأخر في المكانة كالنبيين أجمع بالنسبة لخاتم النبيين ، وبهذا الإعتبار يعد إبراهيم في عداد شيعة علي (عليه السلام) وهذا تاويل (١) وذلك تفسير.

__________________

(١) تفسير البرهان ٤ : ٢٠ ح ٢ شرف الدين النجفي قال روى عن مولانا الصادق (عليه السلام) انه قال قوله عز وجل (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) اي ابراهيم من شيعة علي (عليه السلام) قال ويؤيد هذا التأويل ما رواه الشيخ محمد بن الحسن عن محمد بن وهبان عن أبي جعفر محمد بن علي بن رحيم عن العباس بن محمد قال حدثني أبي عن الحسن بن أبي حمزة عن أبي بصير يحيى بن أبي القاسم قال سأل جابر بن يزيد الجعفي جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) عن تفسير هذه الآية (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) فقال ان الله سبحانه لما خلق ابراهيم (عليه السلام) كشف له عن بصره فنظر فرأى نورا الى جنب العرش فقال : إلهي ما هذا النور؟ فقيل هذا نور محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) صفوتي من خلقي ورأى نورا الى جنبه فقال الهي وما هذا النور؟ فقيل له : هذا نور علي بن أبي طالب ناصر ديني وراى الى جنبهما ثلاثة أنوار فقال الهي وما هذه الأنوار فقيل هذه نور فاطمة فطمت محبيها من النار ونور ولديها الحسن والحسين فقال الهي وأرى تسعة أنوار قد صفوا بهم قيل يا ابراهيم هؤلاء الائمة من ولد علي وفاطمة فقال ابراهيم الهي بحق هؤلاء الخمسة الا ما عرفتني من التسعة ـ

١٦٩

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(٨٤).

ومتى أصبح إبراهيم من شيعة نوح في دعوته المخلصة؟ (إِذْ جاءَ رَبَّهُ) حين جاء كداعية (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) عما سوى الله ، خاليا عن حب غير الله والاتجاه إلى من سوى الله ، تاما في محبة الله ، طامّا من يم معرفة الله! «الذي يلقى الله وليس فيه أحد سواه» (١) خاليا عن كل شك وشرك جلي أو خفي بالله ، بريئا عن كل تعلق بغير الله ، في قمة عالية من توحيد الله والفناء في الله والبقاء بالله.

وإنه تعبير بسيط ـ لا تعقيد فيه ـ عن كافة معاني الإخلاص في الجوارح والجوانح ، حيث القلب إمامها كلها (٢) فإذا سلم سلمت كلها على قدر

__________________

ـ فقيل يا ابراهيم أولهم علي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر وابنه موسى وابنه علي وابنه محمد وابنه علي وابنه الحسن والحجة القائم ابنه فقال ابراهيم الهي وسيدي ارى أنوارا قد أحدقوا بهم لا يحصي عددهم الا أنت؟ قيل يا ابراهيم هؤلاء شيعتهم شيعة امير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال ابراهيم وبما تعرف شيعته فقال : بصلاة احدى وخمسين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والقنوت قبل الركوع والتختم في اليمين فعند ذلك قال ابراهيم اللهم اجعلني من شيعة امير المؤمنين قال فأخبر الله في كتابه فقال : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ).

وفيه عن تفسير الامام ابو محمد العسكري (عليه السلام) قال رجل لعلي بن الحسين يا ابن رسول الله انا من شيعتكم الخاص فقال له يا عبد الله فإذا أنت كإبراهيم الخليل (عليه السلام) إذ قال الله تعالى (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ. إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) فان كان قلبك كقلبه فأنت من شيعتنا وان لم يكن قلبك كقلبه وهو طاهر من الغش والغل والا فانك ان عرفت ان بقولك كاذب فيه انك مبتلى بفالج لا يفارقك الى الموت او جذام ليكون كفارة لكذبك هذا ، أقول وفيه روايات اخرى مفصلة في شروط الشيعة فراجع.

(١) القمي في تفسيره قال قال : ...

(٢) في الكافي باسناده عن الامام الصادق (عليه السلام): القلوب أئمة العقول والعقول أئمة الأفكار والأفكار أئمة الحواس والحواس أئمة الأعضاء.

١٧٠

سلامته ، وهو يؤدي على إجماله وجماله أوسع مما تؤديه تعبيرات هذه الصفات المتعاليات.

وإن مجيئه ربه بقلبه هو مجيئه بكل كونه وكيانه حيث القلب يقلّب كله ، فقد جاء ربه متجليا بكافة التربيات الربوبية بكل وجوده.

إبراهيم جاء ربه بقلب سليم ودعا العالمين إلى قلب سليم (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٢٦ : ٨٩) ومن مظاهر ذلك المجيء صراعه في حوار صارم وعملية صارمة في أوسع ميادين الشرك وأخطرها :

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٨٧).

جولة خاطفة سريعة من حواره ، وإلى تجوالة وسيعة عملية بين الأصنام ، ما حمل عبدتها يتربصون به كل دوائر السوء.

في حين يراهم عاكفين على أصنام لهم يتساءلهم في هتاف وانعكاف إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها ، مستنكرا تحجبّهم عنها (ما ذا تَعْبُدُونَ) دون «من ذا» ملمحا أنها لا تشعر! فما هي ـ إذا ـ حال عابديها؟

ثم وقبل أن بذكرها كما يلفظون «آلهة» يهدم صرح ألوهيتها في تخيلهم الهابط الخابط : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) فكل آلهة دون الله إفك مفترى ، وكذب مختلق ، لا تملك أية برهنة في عساكر البراهين! وفي بدلية «آلهة» عن «إفكا» ـ دون عكس ـ إشارة إلى أنها ليست إلّا إفكا ، فكل كيانها إفك ليس إلّا! وإذ تعبدون ما تنحتون (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) كيف ـ إذا ـ تعبدونه وأنتم عابدوا خلقه ، وكيف تلاقونه وأنتم به مشركون ، وهو أقبح ظلم وأشنعه؟!

١٧١

وفي جمع الخطاب (لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) قطع للميزات والمفاصلات في المدعوين إلى الله لكل داعية قاطعة.

وأبوه هو عمه أو جده لأمه دون والده إذ فقده في طفولته فقام عمه مقامه في كافة شئون الأبوة ، فرغم أنه عاش جو الشرك داخل بيته وخارج بيته ، يصبح أصرم محارب وأصرحه ضد البيت والبيئة.

وإنه في حملته الصارمة العامة الشاملة بحاجة إلى خلق جوّ يسمح له بعد حجاج الكلام تحقيق حجاج العمل الجبار في كسر الأصنام ، فما ذا يصنع ـ إذا ـ إلّا أن يتأخر عن خروجهم لعيد لهم في اعتذار ، بمكر صادق جبّار ، يجعله مع الأصنام دونما حاجز لكسرهم ولا صدام :

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ)(٨٩).

أترى كان به سقم؟ وما هي رباطه بنظرة النجوم؟ ... «والله ما كان سقيما وما كذب» (١) «إنما عنى سقيما في دينه مرتادا» (٢) وهذه تقية (٣) التّورية أن تلفظ بأمر وتعني خلاف الظاهر منه ، فالكذب محرم على أية

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٠٦ ح ٤٦ في روضة الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال ابو جعفر (عليه السلام) عاب آلهتهم (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) قال ابو جعفر : والله ...

(٢) المصدر ح ٤٢ في كتاب معاني الاخبار باسناده الى صالح بن سعيد عن رجل من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له : قوله تعالى : اني سقيم فقال : ما كان ابراهيم سقيما وما كذب انما عنى ...

(٣) المصدر ح ٤٥ عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال : التقية من دين الله قلت : من دين الله؟ قال : اي والله من دين الله ، ولقد قال يوسف أيتها العير انكم لسارقون والله ما كانوا سرقوا شيئا ولقد قال ابراهيم اني سقيم والله ما كان سقيما أقول هم سرقوا يوسف وهو غير ظاهر العبارة ، وابراهيم كان سقيما في روحه عنهم وهو غير ظاهر العبارة ، وفيه عن روضة الكافي عن أبي بصير قال قيل لأبي جعفر ـ

١٧٢

حال ، وفي اضطرار التقية لا تحل إلّا التورية كما فعلها إبراهيم في قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) والرواية القائلة أنه (عليه السلام) كذب (١) مضروبة عرض الحائط ، فما دار الأمر بين كذب إبراهيم وكذب الرواية عنه فكذبها أحرى من كذبه (عليه السلام).

إنهم هموا بالذهاب خارج البلد إلى عيد لهم جامع ، فطلبوا إليه مرافقتهم فأبى معتذرا (إِنِّي سَقِيمٌ) وقد كان يهددهم بكسر أصنامهم : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) (٢١ : ٥٧) فهل تناسوا تهديده في قبول عذره ، أم استهانوا به أنه قولة جوفاء لا يتجرأ على تحقيقها؟ على أية حال قبلوا عذره ، وهو عاقد عزمه على أن يهدم صرح آلهتهم ويقوّض عروش معبوداتهم بهذه الصراحة والجرأة المسبقة والاعتذارة الملحقة ، رأى ان حجته القولية وإن وضحت وضح الشمس في رايعة النهار ، ولكنها لا تنبت في أراضي قلوبهم الجرز نباتا

فأراد أن يشرك أبصار القوم مع بصائرهم ، وحواسهم مع أفئدتهم في تفهّم عقيدته علّهم يثوبون إلى رشدهم ويتوبون عن غيّهم.

لذلك وهو يهدف الهدف العظيم يضطر إلى ادعاء العلة عن

__________________

ـ (عليه السلام) وانا عنده ان سالم بن أبي حفصة وأصحابه يروون عنك انك تكلم على سبعين وجها لك منها المخرج؟ فقال : ما يريد سالم مني؟ أيريد أن أجيئ بالملائكة والله ما جائت بهذا النبيون ولقد قال ابراهيم (عليه السلام) اني سقيم وما كان سقيما وما كذب.

(١) في التفسير الكبير للفخر الرازي ج ٢٦ ص ١٤٨ قال بعضهم ذلك القول عن ابراهيم (عليه السلام) كذبة ورووا فيه حديثا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال «ما كذب ابراهيم الا ثلاث كذبات» قلت لبعضهم هذا الحديث لا ينبغي ان يقبل لان نسبة الكذب الى ابراهيم لا تجوز فقال ذلك الرجل فكيف يحكم بكذب الرواة العدول؟ فقلت لما وقع التعارض بين نسبة الكذب الى الراوي وبين نسبته الى الخليل ـ

١٧٣

مصاحبتهم ، ويتظاهر بالسقم وما كان سقيما في بدنه ، وإنما كان سقيم النفس ، كاسف البال ، يتقطع فؤاده حزنا على ضلال قومه المبين ، ويتميز غيظا أنهم لم يلبوا نداءه ويصغوا إلى دعوته ، أم وإضافة إلى سقمه هذا الحالي ينظر إلى سقم استقبالي :

إني سوف أموت (١) ولم أحقق بغيتي في تحقيق دعوتي ، والموت في تحسر سقم على سقم!

أم إني سوف أسقم ، وهذه طبيعة الحال لكل إنسان أن يعرضه سقم مّا في كل مستقبل ... أسقام كلها صادقة في حال واستقبال ، في جسم أو حال ، اللهم إلّا سقم الجسم في الحال إذ لا رباط له بالنظر في النجوم.

وأما نظرته في النجوم ، فليست إلى نجوم السماء رؤية ظاهرة ، وإنما نظر ... في وعلّها تضاهي حجاجه الاول (هذا رَبِّي) مسايرة ظاهرة ومماشاة ، وفقا لما كانوا يزعمونه من دلالات النجوم على ما ستحدث من أحداث مستقبلة ، إذ كانوا يحسبونها من أرباب الأنواع ، وهذه الأوثان تمثّلها بمتناول أيدي عابديها ، ولكي يقضي على هذه المزاعم الفاسدة بعد إذ جعل الأصنام جذاذا ، والنجوم تعليمه وتعلّمه والبناء عليه محظور (٢) إلا

__________________

ـ (عليه السلام) كان من المعلوم بالضرورة ان نسبته الى الراوي اولى.

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٠٦ ح ٤٣ في كتاب معاني الاخبار وقد روى انه عنى بقوله (إِنِّي سَقِيمٌ) إني سأسقم وكل ميت سقيم وقد قال الله عز وجل لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) : انك ميت اي ستموت.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٤٠٧ ح ٥٠ في كتاب جعفر بن محمد الدوريستي باسناده الى ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : إذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا ، وفيه ٥١ في كتاب الاحتجاج للطبرسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل وفيه قال له السائل : فما تقول في علم النجوم؟ قال : هو علم قلّت منافعه وكثرت مضاره لأنه لا يدفع به المقدور ولا يتقى به المحذور ان خبر المنجم بالبلاء لم ينجه التحرز في القضاء وان خبر هو بخير لم :

١٧٤

__________________

ـ يستطع تعجيله وان حدث به سوء لم يمكنه صرفه والمنجم يضاد الله في علمه بزعمه أنه يرد قضاء الله عن خلقه ، وفيه ٥٢ عن سعيد بن جبير قال : استقبل امير المؤمنين (عليه السلام) دهقان من دهاقين الفرس فقال له بعد التهنئة يا امير المؤمنين (عليه السلام) تناحست النجوم الطالعات وتناحست السعود بالنحوس وإذا كان مثل هذا اليوم وجب على الحكيم الاختفاء ويومك هذا يوم صعب قد انقلب فيه كوكبان وانقدح من برجك النيران وليس الحرب لك بمكان قال امير المؤمنين (عليه السلام) ويحك يا دهقان المنبئ بالآثار المحذر من الأقدار ما قصة صاحب الميزان وقصة صاحب السرطان وكم المطالع من الأسد والساعات في المحركات وكم بين السراري والذراري؟ قال : سأنظر وأومى بيده الى كمه وأخرج منه أسطرلابا ينظر فيه فتبسم صلوات الله عليه وقال أتدري ما حدث البارحة؟ وقع بيت بالصين وانفرج برج ماجين وسقط سور سر نديب وانهزم بطريق الروم بارمينية وفقد ديان اليهود بابلة وهاج النمل بوادي النمل وهلك ملك افريقية أكنت عالما بهذا؟ قال : لا يا امير المؤمنين (عليه السلام) فقال : البارحة سعد سبعون الف عالم وولد في كل عالم سبعون الف عالم والليلة يموت مثلهم وهذا منهم وأومى بيده الى سعد بن مسعدة الحارثي لعنه الله وكان جاسوسا للخوارج في عسكر امير المؤمنين فظن الملعون انه يقول خذوه فأخذ بنفسه فمات فخر الدهقان ساجدا فقال امير المؤمنين (عليه السلام) ألم أروك من عين التوفيق قال بلى يا امير المؤمنين فقال انا وصاحبي لا شرقيون ولا غربيون ونحن ناشئة القطب وأعلام الفلك اما قولك انقدح من برجك النيران فكان الواجب ان تحكم به لي لا علي اما نوره وضياءه فعندي واما حريقه ولهبه فلهذا فذاهب عني وهذه مسئلة عميقة احسبها ان كنت حاسبا.

وفيه ٤٩ في من لا يحضره الفقيه وروى عن عبد الملك بن أعين قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) اني قد ابتليت بهذا العلم فأريد الحاجة فإذا نظرت الى الطالع ورأيت طالع الشر جلست ولم اذهب فيها وإذا رأيت طالع الخير ذهبت في الحاجة فقال لي : تقضى؟ قلت نعم قال : احرق كتبك وفيه عن الاحتجاج ٥٣ روى انه (عليه السلام) لما أراد المسير الى الخوارج قال له بعض أصحابه ان سرت في هذا الوقت خشيت ان لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم فقال (عليه السلام) أتزعم انك تهدي الى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء وتخوف الساعة التي من سار فيها حاق به الضر فمن صدقك بهذا فقد كذب القرآن واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل ـ

١٧٥

فيما لا يعارض قضاء وقدرا من محاسبات الخسوفات والكسوفات والزلازل في احتمال دون قطع!

«نظر في النجوم» ظاهرا ، واستطلع منها متظاهرا انه سيسقم حين الخروج ام بعده ، ام «نظر في النجوم» نظرة الإعتبار بأفولها وحراكها فحدوثها وعدم ألوهتها وربوبيتها ، فسقم روحه وتأثر من ضلال عابديها ، يضمر في ضميره أن نظرة واحدة في النجوم التي يحسبونها أرباب الأنواع تنبه الإنسان أنها مربوبة لرب السماوات والأرض ، فيسقم روح الإنسان بأحاسيسه المفكرة العاقلة أن كيف يعبدها ذلك الجم الغفير من الناس.

ومن شفاء ذلك السقم الحالي أن يكيد أصنامهم بعد أن يولوا مدبرين ، وما كيده إلّا قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) حتى يتركوه ، وأن «جعلهم جذاذا (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ).

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ)(٩٠).

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ) يعذرونه في ترك مصاحبتهم ، غير معتنين بشأنه ، صاحبهم أم تركهم «مدبرين» عنه استهانة به ، وإلى عيدهم اعتناء بشأنه ، ناسين أو متناسين أنه تهدّدهم بكيد أصنامهم ، وها هو يكيدهم في (إِنِّي سَقِيمٌ) ويكيدهم (ضَرْباً بِالْيَمِينِ)!

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ)(٩٣).

__________________

ـ المحبوب ودفع المكروه وينبغي في قولك للعامل بأمرك ان يوليك الحمد دون ربه لأنك بزعمك أنت هديته الى الساعة التي نال فيها النفع وامن الضر ايها الناس إياكم وتعلم النجوم الا ما يهتدى به في بر او بحر فانها تدعو الى الكهانة المنجم كالكاهن والكاهن كالساحر والساحر كالكافر والكافر في النار سيروا على اسم الله وعونه.

١٧٦

والرّوغ هو الميل على سبيل الاحتيال والتخفي : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) (٥١ : ٢٦) وقد كان لإبراهيم في بيت الأصنام روغان ، روغ «إلى» ذهابا إليها متخفيا ، علّ هناك عيونا تنظر (فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) من طعام قدمه هو أم كان حاضرا كما كانت سنتهم في تقديم الأطعمة لآلهتهم ، ولا بدّ لآلهة مجسمة وهي تماثيل ذوي الأرواح ـ لأقل تقدير حياة للأكل ، إبقاء لها وبعدا عن موتها ، فلما لم تحر جوابا قال (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ)؟ ءالهة أموات خرس لا يأكلون ولا ينطقون؟ فكيف هي إذا آلهة وهي أدنى كمالا من المألوهين؟ وهو حجاج على الآلهة بعد الحجاج على المألوهين ، وله فيهما الحجة البالغة ولا يملك إلّا قضاء واقعا على الآلهة لكي يظل المألوهون دون آلهة علّهم ينتبهون.

ومن ثم روغ «على» ذهابا للقضاء عليها روغا ثانيا عليها (ضَرْباً بِالْيَمِينِ)!

يرى جوا خاليا عن رصد العيون ، فيدلف إلى أصنامهم فيجد باحة قد اكتظّت بالتماثيل وانتشرت في أرجائها الأصنام ، فيخاطبها محتقرا لشأنها ، شائنا لعبدتها (أَلا تَأْكُلُونَ. ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) وأنىّ للجماد أن يأكل أو ينطق ، فأخذ يلطمها بيده ، ويركلها برجله ، وتناول فأسا وهوى عليها يكسرها جذر مذر ويحطمها (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) (٢١ : ٨٥) فيسألوه عمن انتهك حرمة الآلهة ليرجعوا إلى أنفسهم ما هؤلاء يأكلون ولا ينطقون فكيف يعبدون؟!

ولقد كان حقا (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) بيمين القدرة ويمين الصدق ويمين الدين وباليمين الذي سلف منه : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) ويا لها من معركة صاخبة صارخة أعماق أسماع التاريخ ، مقتل الآلهة التي كانوا يعبدون ، وقد شفى من نفسه سقما كان يشكوه :

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ)(٩٤).

١٧٧

وكيف أقبلوا إليه دون بيوتهم وأشغالهم ولا يعلمون ماذا فعل بآلهتهم؟ علّهم تسامعوا بالخبر ، أم خمّنوا تحقيقا لتهدد إبراهيم ، فلذلك أقبلوا إليه يزفون : يسرعون حاملين أصحابهم على الزفيف لمعرفة الحال بكل عجال ، وهم جمع كثير هائج ، وجم غفير مائج ، وهو فرد واحد لا يخاف إلّا ربه ، فهو أقوى من هذه الكثرة وهم إليه يزفون : (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ. قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ. قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ. قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ. فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ. ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ. قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ...) (٢١ : ٦٧) :

(قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(٩٦).

كيف تعبدون ما تنحتونها أنتم ، عبادة الصانع للمصنوع والخالق للمخلوق؟ فإن حقّت في هذا البين عبادة فلتعبدكم ما تنحتون! ثم لا عبادة في هذا البين (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) الناحتون (وَما تَعْمَلُونَ) آلهتكم التي تنحتون «فان الله صانع كل صانع وصنعته» (١)

تلك ـ إذا ـ عبادة تمجها الفطرة ويرفضها العقل وكافة الموازين العقلية وسواها! ويا لها من حجة بالغة دامغة قد صفعهم بها صفعة نبّهتهم عن غفلتهم ، وأيقظتهم عن غفوتهم ، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون في أنفسهم قائلين (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ)

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٧٩ ـ اخرج البخاري في خلق افعال العباد والحاكم والبيهقي في الأسماء والصفات عن حذيفة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان الله ... وتلا عند ذلك (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ).

١٧٨

ليس «ما تعملون» هو نفس العمل أيا كان فإنه مخيّر لا مسيّر ، وإنما هو حاصل العمل «ما تنحتون» وكل صنعة ، فان مادته مخلوقة ، وأنتم بقدراتكم وأفعالكم مخلوقون ، مهما بان خلق عن خلق تخييرا وتسييرا ، ف ـ «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» ولو كان «ما تعملون» نفس العمل لكان جبرا فعذرا لعمل الأصنام وعبادتها ، لا حجة عليهم في تنديد! ثم خلق الأعمال تسييرا من الله لا رباط له إبطالا ل ـ (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) وإنما هو التخيير ، فهم باختيارهم ينحتون ويعبدون ما ينحتون!.

هنالك دحضت مزاعمهم ، وزيّفت آمالهم ، فلم يجدوا بدا وجاه حجته إلّا أن يحرقوه كما أحرق أكبادهم :

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(٩٨).

(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ. قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ. وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ. وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) (٢١ : ٧١).

فيا لبنيانهم الجحيم وجحيم البنيان من أجيج النار ، تتمثل فيه حرقة أكبادهم ، فقد كان لأحدهم أن يحرقه بقليل النار ، ولكنهم أجمعوا ليتشاركوا في حرقه كما أحرق أكبادهم جميعا ، ولكنهم خاب سعيهم حيث جعلوا الأسفلين الأخسرين ، وتلمّع إبراهيم الخليل أكثر مما كان حجة عملية على حججه ، كما عارضوه عمليا رغم حججه! وأين يذهب كيد العباد المهازيل أمام صيانة الله للخليل إلّا إلى أنفسهم في كل ترذيل بكل سفالة وخسار (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ)!

١٧٩

لقد كانوا بشركهم سافلين وخاسرين ، فأصبحوا بدائرة السوء على إبراهيم أسفلين وأخسرين.

إذ دحضت حجتهم عملية بعد دحضها قولية ، خسارا إلى خسار وسفالا إلى سفال!

ليس لحماقى الطغيان أمام دعاة الحق إلّا منطق السيف والنار ، عند ما تعوزهم كل حجة وتحرجهم كلمة الحق :

(ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ)! ولم تجر سنة الله على خرق العادات إلّا أحيانا تقتضيها الحكمة العالية كما في جحيم إبراهيم ، وهذه حلقة أولى من قصص إبراهيم ومن ثم الثانية : (١)

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤١٤ ح ٦١ في روضة الكافي بسند عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : خالف ابراهيم قومه وعاب آلهتهم حتى ادخل على نمرود فخاصمهم ... وقال ابو جعفر (عليه السلام) عاب آلهتهم (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) والله ما كان سقيما وما كذب فلما تولوا عنه مدبرين الى عيد لهم دخل ابراهيم (عليه السلام) الى الهتهم بقدوم فكسرها إلا كبيرا لهم ووضع القدوم في عنقه فرجعوا إلى آلهتهم فنظروا الى ما صنع بها فقالوا لا والله ما اجترى عليها ولا كسرها الا الفتى الذي كان يعيبها ويبرأ منها فلم يجدوا له قتلة أعظم من النار فجمع له الحطب واستجادوه حتى إذا كان اليوم الذي يحرق فيه برز له نمرود وجنوده وقد بنى له بناء لينظر اليه كيف تأخذه النار ووضع ابراهيم (عليه السلام) في منجنيق وقالت الأرض يا رب ليس على ظهري احد يعبدك غيره ويحرق بالنار قال الرب ان دعاني كفيته ، فذكر ابان عن محمد بن مروان عمن رواه عن أبي جعفر (عليه السلام) ان دعاء ابراهيم يومئذ كان : يا احد يا احد يا صمد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد ثم قال توكلت على الله فقال الرب تبارك وتعالى كفيت فقال للنار (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) قال فاضطربت أسنان ابراهيم من البرد حتى قال الله عز وجل (وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) وانحطّ جبرائيل (عليه السلام) فإذا هو يجالس مع ابراهيم يحدثه في النار قال نمرود : من اتخذ إلها فليتخذ مثل آله ابراهيم قال فقال عظيم من عظمائهم اني عزمت على النار ان لا تحرقه ـ

١٨٠