الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

بظاهر الحياة الدنيا ، ف (لا يَغُرَّنَّكَ ...) فإنهم كفروا في جدالهم في آيات الله وما هم بغالبين (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ...) وليس لهم إلّا متاع قليل «وكل متاعب الدنيا قليل» ثم (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) لأنهم ركزوا على الكفر فلا رجوع حتى يتوب الله عليهم ، ف (الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا يخصهم دون من يتوب فيتوب الله عليهم ويخفف عنهم.

فلأن جدال الكافر هو كافر الجدال وحجتهم داحضة فلا خوف منهم على آيات الله ، ولأن تقلبهم قليل مهما طال الأمد فلا تغلّب في تقلّبهم على الله مهما كان على عباد الله ولكنه (مَتاعٌ قَلِيلٌ) (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) و (آياتِ اللهِ) هنا تعم التدوينية القرآن والتكوينية من نبي القرآن وبيناته وسائر الآيات آفاقية وأنفسية ، والجدال فيها بالحسنى يأتي بالحسنى وبالسّوائى يأتي بالسّوائى ، فالأولى جدال المؤمنين ليستحكموا عراها والاخرى جدال الكافرين ليستهدموا هداها (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) ثم و «جدال في القرآن كفر» (١) وإن لم يكن عن كفر.

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٤٥ ـ اخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة قال قال : رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ... و : مراء في القرآن كفر واخرج عبد بن حميد عن أبي جهم قال اختلف رجلان من اصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في آية فقال أحدهما تلقيتها من في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال الآخر انا تلقيتها من في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاتيا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكرا له ذلك فقال : انزل القرآن على سبعة أحرف وإياكم والمراء فيه كان المراء كفر ، وفي كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى عبد الرحمن بن سمرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لعن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبيا ومن جادل في آيات الله فقد كفر قال الله عز وجل : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ).

٤٠١

و (تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) هو تطويرهم وتطوّرهم من طور إلى طور ومن دور إلى دور ، نعمة ودولة أماهيه من زخرفات حياة الغرور.

جدال الذين آمنوا في آيات الله يخيف ويعز غير ثابتي الإيمان دون انتقاص فيها وانتقاض لها ، ولكن المؤمن ما يجادل في آيات الله إلّا استنباطا لها ، ولو انجرف الى جدال بالباطل ومراء أصبح كفرا عمليا كما نبه به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكن الذين كفروا هم وحدهم المجادلون في آيات الله إبطالا لها ، وإضلالا للمصدقين بها ، فهم وحدهم يجادلون فيها دونما حجة لهم إلّا داحضة (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) مهما تحركوا وملكوا واستمتعوا فإنهم الى اندحار وبوار (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) ف (لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣ : ١٧٨) (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٨ : ٥٩).

(فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ)! فذلك التقلب والتغلب «متاع قليل ثم إلينا يرجعون» فنعاقبهم بما كانوا يعملون.

(فَلا يَغْرُرْكَ ...) ولا تتضايق يا رسول الهدى فكم لهم من نظير (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ).

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)(٥).

فهم داحضون كما حجتهم داحضة.

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ)(٦).

فقد جمع لهم دحض يوم الدنيا التي دحض يوم الدين.

٤٠٢

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ

٤٠٣

تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ)(٧).

من الذين يحملون العرش ثمانية : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (٦٩ : ١٧)(١)(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٩ : ٧٥).

حملة العرش يومئذ ثمانية ، وما ندري قبله كم هيه ، هل هم الثمانية ام زائدة او ناقصة؟ ثم (وَمَنْ حَوْلَهُ) ومنهم الملائكة ، هل هم من هؤلاء الحملة؟ فلما ذا افردوا عنهم ان كانوا من (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ)! ام هم المحمولون مع العرش من حوله؟ وحمل العرش ـ فقط ـ هو المحور في آية الثمانية! إلّا ان تدلنا على حملهم (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ)!

واين هي الدلالة إلّا احتمالا في آية (مَنْ حَوْلَهُ) مع احتمال انهم ممن (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) مع (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) لا وأنهم المحمولون معه! إلّا ان واضح التعبير عنه «الذين يحملون العرش يسبحون ومن حوله» ففي عطف من حوله ـ دون فصل وردفه ايحاء ـ على اقل تقدير ـ «انهم محمولون مع العرش ، وان كانوا مع الحملة يسبحون ويؤمنون ويستغفرون ...» (٢).

__________________

(١) راجع ج ٢٩ ص ٩٥ من الفرقان تجد تفصيل البحث حول العرش وحملته الثمانية.

(٢) البرهان ٤ : ٩٠ محمد بن يعقوب بسنده عن صفوان بن يحيى قال سألني ابو قرة المحدث ان ادخله على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته فاذن له فدخل فسأله عن الحلال والحرام ثم قال افترى ان الله محمول؟ فقال ابو الحسن (عليه السلام) كل محمول مفعول مضاف الى غيره محتاج والمحمول اسم نقص والحامل فاعل وهو في اللفظ مدحة وكذلك قول القائل فوق وتحت وأعلى وأسفل وقد قال الله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) ولم يقل في كتبه انه المحمول بل قال : انه الحامل في البر والبحر والممسك للسماوات والأرض ان تزولا والمحمول ما سوى الله ولم يسمع احد آمن بالله وعظمه قط قال في ـ

٤٠٤

وعلى أية حال فالحامل أفضل من المحمول وأكمل ، فمن يحملون مع العرش هم دون الحاملين ، أفيبقى بعد احتمال أن استوائه تعالى على العرش جلوسه عليه وارتكانه فيحمل مع المحمولين ، وقد كان ولا عرش ولا حامل له حيث «كان إذ لا كان»! ومن أفضل حملة عرش العلم والرحمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأوصياء من بعده : وهم محمد وعلي والحسن والحسين ومن المحمولين نوح وابراهيم وموسى وعيسى (١).

__________________

ـ دعائه : يا محمول ، قال ابو قرة : ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ، وقال : الذين يحملون العرش فقال ابو الحسن (عليه السلام) العرش ليس هو الله والعرش اسم علم وقدرة والعرش فيه كل شيء ثم أضاف الحمل الى غيره خلق من خلقه لأنه استعبد خلقه بحمله عرشه وهم حملة علمه وخلقا يسبحون حول عرشه وهم يعملون بعلمه وملائكته يكتبون اعمال عباده واستعبد اهل الأرض بالطواف حول بيته والله على العرش استوى كما قال ، والعرش ومن يحمله ومن حول العرش والله الحامل لهم الحافظ لهم الممسك القائم على كل نفس وفوق كل شيء وعلا كل شيء ولا يقال محمول ولا أسفل قولا مفردا لا يوصل بشيء فيفسد اللفظ والمعنى ، قال ابو قرة. فتكذب بالرواية التي جاءت ان الله إذا غضب انما يعرف غضبه ان الملائكة الذين يحملون العرش يجدون ثقله على كواهلهم فيخرون سجدا فإذا ذهب الغضب خف ورجعوا الى مواقفهم فقال ابو الحسن (عليه السلام) عن الله تبارك وتعالى فقد لعن إبليس الى يومك هذا هو غضبان عليه فمتى رضي وهو في صفتك لم يزل غضبانا عليه وعلى أوليائه وعلى اتباعه كيف تجتري ان تصف ربك بالتغيير من حال الى حال وانه يجري عليه ما يجري على المخلوقين سبحانه وتعالى لم يزل مع الزائلين ولم يتغير مع المتغيرين ولا يتبدل مع المتبدلين ومن دونه في يده وتدبيره وكلهم اليه يحتاج وهو غني عمن سواه.

(١) تفسير البرهان ٤ : ٩١ ح ٦ بسند عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في الآية يعني محمدا وعليّا والحسن والحسين (عليهم السلام) ونوح وابراهيم وموسى وعيسى يعني هؤلاء الذين حول العرش ، وفيه ح ١٦ شرف الدين النجفي قال وروى عن عمرو بن شمر عن جابر بن يزيد قال قال ابو جعفر (عليه السلام) في (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) يعني الرسول والأوصياء من بعده يحملون علم الله عز وجل ثم قال (وَمَنْ حَوْلَهُ) يعني الملائكة.

٤٠٥

وعلّهم حملة عرش العلم والرحمة : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) فهم دائبون في (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ ...). تسبيحا بالحمد ، لا حمدا فقط او تسبيحا فقط ، حيث التسبيح سلب لما لا يليق بذاته المقدسة دون إثبات ، والحمد إثبات في معرض الإحباط لقدسية الذات ، ولكنما التسبيح بالحمد هو سلب بلسان الإثبات جامعا بين السلب والإثبات ، وهو الحري في توصيف الذات ، فقولهم إنه عليم ، تسبيح له عن الجهل بإثبات علم ، وتسبيح له عن سائر العلم لسائر الخلق ، يعني أنه ليس بجاهل على الإطلاق ولا بعالم كالعلماء!

(وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) إيمانا صارما واصبا يناسب حملة العرش ومن حوله وتسبيحهم بحمد ربهم ، وقد تلمح (يُؤْمِنُونَ بِهِ) على وضوح الإيمان لهولاء الكرام ، إلى الرد على الذين يتخذونهم أربابا من دون الله من ملائكة ونبيين ، وهل الرب يؤمن بالرب مهما اختلفت الدرجات؟ ام (يُؤْمِنُونَ بِهِ) واحدا لا شريك له فلا يعبد إلّا هو ، فهل يؤمن الشريك بالوحدانية لشريكه؟ وملامح الايمان أيا كان ظاهرة في وحدة الكون وتناسقه ، ووحدة التدبير وترافقه ، ووحدة الوحي بتواتره ، فليس لكلّ من هؤلاء ربوبية بعرشه الخاص ، وانما حمل لعرش العلم والرحمة الى من يشاء من عباده دون خيرة لهم ولا اقتداء ، فإنما هم حملة مأمورون (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).

(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) وليس لسائر المكلفين إذ لا يغفر إلّا للذين آمنوا ، وليس لأنفسهم علّه لأنهم معصومون لا يعصون ، أو وأن من آداب الدعاء أن يدعو الداعي لغيره متناسيا نفسه ، ثم الله يغفر له كما للمدعوين ، ولكن (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) قد تطارده ، والرسول وهو أفضل حملة العرش يؤمر بتقديم نفسه في الاستغفار ، فقد تعني (وَيَسْتَغْفِرُونَ ...) بعد ما استغفروا لأنفسهم ، ودعاء الاستغفار تختلف عن سائر الدعاء ، فعلى

٤٠٦

الداعي أن يصلح نفسه باستغفاره لنفسه حتى يستصلح غيره باستغفاره لهم ، مهما كان الاستغفار عن غير ذنب فإنه استصلاح الاستكمال والدفع عما يطرد ، عصمة عن كل وارد وشارد لا يناسب ساحة النبوة.

حملة العرش ومن حوله (يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) قائلين قبله ما يهيء جو الغفران:

(رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ...) قضية سعة عرش الرحمة والعلم ، فلا تسع الرحمة ما لم يسع العلم ، ولا تفيد سعة العلم ما لم تسع الرحمة (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فسعة العلم والرحمة معا هي التي تسمح لمطلق الغفر والغفر المطلق عن أي ذنب كان ، فلأنه واسع الرحمة والعلم ، لذلك (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ...) (٥٣ : ٣٣).

ولأنك واسع العلم والرحمة فواسع المغفرة (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) فليست التوبة لفظة تقال ، أم نية تنال ، أم عقيدة كامنة ، فإنها كلها ذرائع لاتباع سبيل الله ، فلا غفران للذين تابوا ولم يتبعوا سبيل الله ، إذ ليست التوبة إلّا عن انحراف السبيل.

وترى إذا كانت رحمته وسعت كل شيء كما علمه فلما ذا يحرم عنها غير المؤمنين؟ إنها وسعت كل شيء إمكانية الشمول دون ضيق أو مضايقة ولكن (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ...) (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ...) (٧ : ١٥٧).

وإذا تم الغفران بالتوبة فقد تمت الوقاية عن عذاب الجحيم ، فما هو إذا موقف (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) بعد «فاغفر»؟ علّها الوقاية دفعا عن العصيان حتى لا يحتاج إلى توبة وغفران ، أم وتعم الدفع والرفع عموما

٤٠٧

بعد خصوص ، اجتثاثا صارما لبواعث الجحيم ، وقد تعم (السَّيِّئاتِ) سيئات المسيئين سواهم ألا تلحقهم بخلفياتها وكما (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ)(٤٥) فانها وقاية الدفع عما مكروا بموسى ان يفتكوا به ويقتلوه!.

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٨).

وإذا كانت الدعاء «للذين آمنوا وتابوا واتبعوا سبيلك» ف «هم» في «أدخلهم» يعمهم ، فما هو إذا موقف (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) وهم داخلون في «وأدخلهم» إذ كانوا مؤمنين فإنهم ممن «صلح»؟.

(مَنْ صَلَحَ مِنْ) تقيّد (لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالمؤمنين الأصول ، فتعني هي المؤمنين الفروع وكما في الطور : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ)(٢١) إلّا في آبائهم وأزواجهم في ظاهر اللفظ ، ولكنما الذرية في الطور هي ذرية الإيمان فتشملهم من آباء وازواج وأولاد ، الذين عاشوا الإيمان على هوامش الأصول ، حيث (اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ).

وعلّ الأزواج تعم الذكران والأناث كما تعم كافة القرناء في الإيمان ، واختص بالذكر الآباء والذريات لاختصاص قرابة الإيمان ، فذرية الطور تشمل الثلاث هنا ، والذرية هنا تقابل الآباء والأزواج ، كما الأزواج هنا ـ علّها ـ تشمل كافة القرناء أنسباء وغير أنسباء.

ولماذا (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في موضع الغفر والرحمة؟ لأنهما من لوازم وسعة العلم والرحمة ، استشفاعا بسعة رحمته وعلمه يضع العزة حيث تقتضيها الحكمة!

٤٠٨

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩).

«وقهم» تعني الذين آمنوا كلهم من أصول وفروع ، وظرف الوقاية هنا أعم من الدنيا والآخرة ولكن الأهم هي الثانية : (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ).

والسيآت حين تفرد دون مقابل تعني المعاصي كلها صغيرة وكبيرة ، فوقايتهم إياها يوم الدنيا تعم الرفع والدفع ، رفعا بالتوبة لمن ابتلي بها ، ودفعا بالتسديد عمن هاجمت عليه ولمّا يبتلى ، وهذا يليق بأصول الإيمان وذلك يناسب فروعه.

ثم إذا تبقّت سيئات عملت دون توبة عنها أم توبة من الله عليه لعظمها أماذا من منعة الوقاية ، فبقيت ل «يومئذ» القيامة الكبرى ف (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) حين لا توبة هناك ، وقاية بشفاعة أمّاهيه ، ووقاية السيئة «يومئذ» لا تعني السّدّ عن اقترافها ، وإنما صدها عن بروزها ، حيث الجزاء هو السيئة بنفسها ف (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فالسيئة التي بقيت حتى (يومئذ) توقى وتمحى (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)(١١).

المقت هو أشد الكره ، فقد كرهوا أنفسهم باشدها لمّا دعوا إلى الإيمان بحججه ولصالحهم في الدارين فكفروا ، وقد خيّل إليهم أنهم غالبون أحرار في شهواتهم وكفتهم حظوة الحياة الدنيا عن أية حياة ، ولكن (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ) فإنه صراح المقت دونما شبهة أو خفاء ، فليس يعني عذابا أكثر مما يستحق ، بل هو اكبر في مظاهره بنصوعه وهم ماقتون أنفسهم ويحسبون

٤٠٩

أنهم يحسنون صنعا قصورا عن تقصير.

أنتم تطّلعون اليوم على مصيركم بكفركم دونما غفلة ، وقد كنتم يوم الدنيا في غفلة ، وما أوجع ذلك التذكير في التأنيب في ذلك الموقف الرهيب العصيب!

ثم الجواب منهم ليس إلّا كلمة التباب للذليل البائس اليائس «ربنا» وقد عاشوا نكران ربوبيته! انهم يستعطفون الرب بعطف ربوبيته ، وقضيتها العذاب عدلا للكافرين ، كما أنها الثواب فضلا للمؤمنين. (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ...) وما هما الإماتتان والإحياءتان؟

ترى الإماتة الأولى هي الموتة الكائنة قبل الحياة الدنيا ، فالإحياءة الأولى هي إحيائها ، ثم الإماتة الثانية هي عن الحياة الدنيا فالإحياءة الثانية هي عن البرزخ إلى الحياة الأخرى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢ : ٢٨)؟ (١).

والموتة الأولى ليست عن إماتة ، فإنما خلقت الأجنة ميتات ثم أحييت! ثم ليست لهم في هاتين الموتتين ذكرى يعترفون بها بذنوبهم ، مهما كانت لهم في الإحياءة الثانية فليكتفوا بها في اعتذارهم وذكراهم!

أم إن الأولى إماتة عن الحياة الدنيا ثم الإحياء للبرزخ ثم الإماتة عنه والإحياء للأخرى ، ولم يذكروا الإحياء في الدنيا إذ لم تكن لهم فيها ذكرى وسبب للإيقان بالأخرى ، حيث (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) تفرّع اعترافهم بإماتتين وإحيائتين في كلها هذه الذكرى؟

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٤٧ ـ اخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال : هي مثل التي في البقرة (كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ...) ومثله عن ابن عباس وقتادة.

٤١٠

والحياة البرزخية لا تحتاج إلى إحياء آخر بعد الإحياء في الاولى ، فانها استمرارية الحياة الدنيا ، إذ لم يحصل بالموت إلا انفصال الروح ببدنه البرزخي عن بدن الدنيا! ثم ولا ذكرى في هذه الإماتة الاولى وقد كانوا معترفين بها (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) (٤٤ : ٣٥) وانما هي في حياة بعدها ، ثم موت وحياة اخرى للأخرى! ام ان الموتة الثانية هي عن إحياءة الرجعة (١) ثم الإحياءة الثانية هي للأخرى ، ولم تذكر الإحياءة للحياة الدنيا إذ لم تكن فيها ذكرى؟

وليست الرجعة إلّا لمن محض الايمان محضا او محض الكفر محضا ، وليس الذين كفروا كلّهم ممحضين للكفر محضا ، وهذه المقالة تحكي عن حالة عامة لأهل النار ، كما هي لأهل الجنة ، مهما استثني عن هؤلاء (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) ولكنهم داخلون فيمن يرجع فموتتان ايضا ، او استثني الاحياء يوم الصعقة ، والممحضون منهم ايمانا او كفرا داخلون فيمن يرجع ، فقليل هؤلاء الذين يموتون موتة واحدة وهم الأحياء يوم الصعقة ، غير ممحضي الايمان او الكفر!

ام الاولى هي عن الحياة الدنيا ، والثانية عن الحياة البرزخية ، والإحياءة الاولى للأولى والاخرى عن الموتة البرزخية للحياة الاخرى ، وفي مجموعها الذكرى إن لم تكن في كلّ منها ، فقد جبروا نكرانهم (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) باعتراف (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) ونكرانهم (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) باعتراف (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ... فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)؟

__________________

(١) المصدر ح ١٩ القمي قال الصادق (عليه السلام) ذلك في الرجعة وفي البرهان ٤ : ٩٣ ح ٢ رجعة المعاصر عن الحسن بن محبوب عن محمد بن سلام عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال : هو خاص لأقوام في الرجعة بعد الموت فتجري في القيامة فبعدا للقوم الظالمين.

٤١١

فآيات الصعقة في النفخة الأولى تعم (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) وهم ليسوا ممن شاء الله فتشملهم صعقة الموت مع من تشمل إلّا من شاء الله ، وإن كانت للأحياء يوم الصعقة موتة واحدة هي عنها ثم إحياءة ثانية للأخرى ، ولكنما الأكثرية الساحقة هم أهل البرزخ يوم الصعقة.

فمن الناس من له إماتات وإحياءات ثلاث ، وهم ممن يرجعون يوم الرجعة وهم أموات يوم الصعقة وليسوا ممن شاء الله وقليل ما هم!

ومنهم من لهم إماتة واحدة وهم الأحياء يوم الصعقة من غير أهل الرجعة وليسوا ممن شاء الله ، وقليل ما هم!

ومنهم من له إماتتان وإحيائتان ، كسائر الناس وهم أهل البرزخ يوم الصعقة ، فكثير منهم تأخذه الصعقة وهي إماتته الثانية ، وقليل منهم هم ممن شاء الله ، فموتتهم الثانية هي عن حياة الرجعة ، وهل يوجد من هم أحياء يوم الصعقة وهم ممن شاء الله فلا يموتون بها ، وما هم ممن يرجعون يوم الرجعة ، فلا موتة لهم إلا إحياءة واحدة للحياة الدنيا وهي تستمر إلى الأخرى؟

كلّا! ف (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) بين إماتة واحدة أمّا زادت ، ف (مَنْ شاءَ اللهُ) كلهم ممن محّض الإيمان محضا فراجع يوم الرجعة ثم يموت ، وما منهم من يظل حيا إلى يوم الصعقة فهي تأخذ أحياءها كأقل موتة.

فالضابطة العامة هي الإماتتان والإحياءتان ، مهما شذ عنها أقل منهما أو أكثر ، وقد تزيد إلى أربع كالذي أماته الله مائة عام ثم بعثه ، إن لم يكن ممن شاء الله وهو من أهل الرجعة ، فقد أميت عن الحياة الدنيا مرات ثلاث ،

٤١٢

ثم الرابعة يوم الصعقة ، ولكنما الآية تتحدث عن الأغلبية الساحقة فإن لهم إماتتين اثنتين وإحيائتين ، مهما كان موردها اهل النار ، (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) أيا كان وأيان ولو بعد ردح كثير من الزمن «من سبيل» أيا كان وعلى أية حال ، فالمستدعى هناك سبيل مّا إلى خروج مّا خروجا عن أبد النار : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٥ : ٣٧).

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)(١٢).

«ذلكم» المقت الأكبر من الله (بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) بوحدته (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) بكثرته «فالحكم» إذا في سبيل من خروج سلبا وإيجابا (لِلَّهِ الْعَلِيِّ) عن الشركاء «الكبير» عن الحاجة إلى الشركاء ، وما حكمه إلّا (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ)!

ف «إذا» تحقّق موضوعه و «دعي» تضرب إلى عمق الماضي تلميحا إلى أن التوحيد سابق محقق أصيل طول الزمن ، فإنه قضية العقل والفطرة ، ودعوة الرسالة الدائبة ، ومدلولة سائر الآيات آفاقية وأنفسية. ثم «إن» تشكك «ويشرك» لطارئ المستقبل ، لأن الشرك طارىء مشكّك في تطاول من أهل الزمن! لا حجة له في أي حقل من الحقول ، أم أي عقل من العقول ، فيا لهم من حماقة معمّقة ، وتناس لكل موهبات الإنسانية والحيوانية. ان يؤمنوا ان يشرك ويكفروا إن يوحّد!

٤١٣

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠)

٤١٤

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ

٤١٥

لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ

٤١٦

يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ

٤١٧

الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)(٤٦)

٤١٨

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١٤).

«هو» الله الواحد (الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) الدالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته الحسنى ، والكون كله آياته من آفاقية وأنفسية (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ) مادية ومعنوية «رزقا» لأبدانكم وأرواحكم (وَما يَتَذَكَّرُ) آياته البينات ورزقه النازل (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) إليه ويرجع عن غفوته وغفلته إلى فطرته وفكرته.

ف «لو كان لربك شريك لأتتك رسله» (١) وأراك آياته ، والآيات كلها مجمعة عليه ، دالة إليه ، حيث الكون مكرّس جامع ، وكتاب بارع ، يدل على مكوّنة دلالة ناصحة ناصعة ، دونما مناورة ، ولا منازعة ، او مضادة ومناقضة (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) في ذوات ودلالات.

وإذ كان واحدا تدل عليه آياته في كافة الجهات والجنبات (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) إخلاصا له في طاعته وعبادته (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) وكراهتهم منفية في الفطرة وحسب ما تهدي إليه الادلة ، كما تلمح إليها «لو» الامتناعية ، إلّا أن غشاوات الفطرة تجعل من المحبوب مكروها ، ومن النور ظلمات.

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ)(١٥).

__________________

(١). عن الإمام امير المؤمنين (عليه السلام.

٤١٩

مواصفات ثلاث لله تعالى تقتضي ان ندعوه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، وهي من صفات الأفعال دون الذات المقدسة المتعالية عن هذه الصفات.

أترى أن له درجات ترفع ويتدرج إليها؟ وله درجة واحدة دائبة لا زائدة ولا ناقصة هي الألوهية!.

هذه الدرجات الرفيعة هي التي يدرج إليها أهليها كمن يلقي عليه الروح من أمره : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) (٦ : ٨٣) إذ (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) (٣ : ١٦٣) (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٣٢) (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (١٢ : ٧٦) (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (٥٨ : ١١).

فلانه ذو العرش علما وتربية وتدبيرا إمّا هيه ، فهنالك درجات إلى عرشه لكلّ على حدّه ومدّه دونما فوضى جزاف ، فمنازل العز ومراتب الفضل التي يخص بها عباده الصالحين وأوليائه المخلصين رفيعة الأقدار ، مشرقة المنار ، فهي الدرجات التي يرفع عباده إليها ، لا التي يرتفع هو بها! تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

وتأويل الرفيع إلى معنى الرافع تأويل عليل ، فإنما هو الرفيع ، يملك الدرجات الرفيعة ، فيرفع بها من يشاء من عباده (ذُو الْعَرْشِ) فله عرش الربوبية بكافة جنباتها لا سواه ، تجتمع في عرشه أزمة الأمور ، ويتنزل منه كل أمر برفيع الدرجات حسب القابليات.

٤٢٠