الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

يفكر فيما يرى إذ (ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) فكل ما يراه ويعمل هو هدى ورشاد ، وكل ما يراه ويعمله غيره هو ضلالة وفي غير سداد ، لا يسمحون لأحد ـ أيا كان ـ أن يظن أنهم خاطئون ، ولا أن يرتإي إلى جوار رأيهم رأيا! وهذا هو معنى الطاغوت أن يجمع بين طغواه على الله وعلى عباد الله! ذلك الاستبداد الأحمق باطل أينما كان ، وفيمن لبس ملابس الايمان وظهر بمظهر الإمام للمؤمنين ، يستبد برأيه ويأخذ هو برهانه دون برهانه ، سنادا إلى اجتهاده ، سدا لباب العلم ، وصدا عن اي حوار قد يخالفه فيما يرى ، وهكذا استبداد طريق الجحيم.

لا يحق تأصيل الرأى واستئصال ما سواه من رأي ، إلّا ـ أولا ـ لله وبرهانه معه ، وكل قوله وفعله برهان ، ثم لرسل الله صدورا عن الله ، ومن ثم للمعصومين من خلفائهم حيث يصدرون عنهم ، ونراهم كيف يواجهون الشعوب بكل تواضع ، وقد يظهرون أنفسهم معهم مظهر المشاورين ، وليوجهوهم إلى ما هم عليه من حق الوحي ببرهان لا قبل له.

نرى الداعية ينتقل إلى بيان مثال لبأس الله بعد أصل التحذير ، دون أن يرد على شخص الطاغية كأنه عديم الوجود ، ولأنه لم يأت ببرهان حتى يرد عليه :

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١)).

هناك (إِنْ جاءَنا) يدخل نفسه فيما يجوز مجيئه ، وهنا (أَخافُ عَلَيْكُمْ) حيث المؤمنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ولأنه أمر واقع لا

٤٤١

مردّ له عن الكافرين وان المتقين في مقام أمين ، والأحزاب المتحزبة ضد الرسالات هم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من المكذبين ، «إني أخاف عليكم مثل دأب» هم : عادتهم في تكذيبهم آيات الله ، وعادتهم في جزائهم بما كذبوا (١) دأبا بدأب ، (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) فانه جزاء وفاق ماله من فراق ، ويا له من دأب يخاف عليهم أصبح فيهم ركنا يمثّل به سائر الدأب في تاريخ الكذابات : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) (٣ : ١١) : (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) (٨ : ٥٤) كذبوا بآيات ربهم (٨ : ٥٤)!

لماذا (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ) واحدا لأنهم واحد بطبيعتهم وكيانهم ، مهما كانوا أقواما حسب واقعهم وكونهم ، فكما الكفر ملة واحدة فقومه كذلك واحد هو الذي يتجلى فيه بأس الله ، وهذا من بأس يوم الأولى ، وإلى تطرّق ليوم آخر من أيام الله وهو يوم التناد :

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)(٣٣).

وما ألطفه ترتيبا رتيبا لإنذارهم من (بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) وهو أقل تقديرا بأسا واحتمالا ، ف «إن» تشكّك ، والدنيا تخفّف ، وهو أقل الاحتمالات من «إن يك صادقا فعليه كذبه» ثم يوم الأحزاب وهو أوسط تقديرا محققا ثابتا للأحزاب ، ومن ثم اليوم الآخر يوم التناد! «يوم ينادي أهل النار أهل الجنة» (٢) ، كما نتنادى نحن وإياكم هنا واين تناد من تناد :

__________________

(١) في الدأب الأول اضافة المصدر الى الفاعل وفي الثاني اضافته الى المفعول اي دأب الله إياهم.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٥١٩ ح ٤٤ في معاني الاخبار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : يوم التناد يوم ينادي اهل النار اهل الجنة : ان أفيضوا علينا.

٤٤٢

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) (٧ : ٥٠) والتناد بينهم وبين ربهم : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٤١ : ٤٤) (يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) (٤٠ : ١٠) (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) (٤١ : ٤٧) (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (٢٨ : ٦٥) ثم محاجة وتناد بينهم (إِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) فهم في مثلث من التناد ، بعد إذ رفضوا هنا صالح التناد (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ).

إنهم يتنادون قبل دخولهم الجحيم وبعده ، عائشين هناك تصايحا وتناوحا لأصوات في زحام وخصام ، يوليهم ويدبرهم خوفة وفرارا.

(يَوْمَ تُوَلُّونَ) عن شركائكم وعقائدكم وأعمالكم «مدبرين» عن ثالوثها فرأوا ولات حين فرار ، مولّين مدبرين عما كنتم له متولين وإليه مقبلين (ما لَكُمْ مِنَ) باس (اللهِ مِنْ عاصِمٍ) فانه المنتقم هناك لا سواه ، وله الملك لا سواه ، فانه الديان لا سواه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) إضلالا يوم الدنيا بعد ما ضلوا (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وآخر يوم الآخر بعد ما ضلوا عن صراط الجنة ، ضلالا عن ضلال ، ينتهيان إلى ما ضلوا يوم الدنيا (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ)!

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ

٤٤٣

جَبَّارٍ)(٣٥).

«يوسف» هذا هو المعروف المسماة به سورته ، اللامعة ثورته ، وهذه الآية هي الفريدة تدليلا على رسالته السامية قبل موسى وكأنه (كانَ رَسُولاً نَبِيًّا)(١) رفيع المنزلة في رسالته ، يتلو تلو من دارت عليهم الرحى وعلّها قريبة إلى موسى زمنا كما تلمح له (لَقَدْ جاءَكُمْ) وقد عرفنا من سورته أنه بلغ في ثورته مبلغ الملك أم كبير وزراءه ، وعلى أية حال حصل على مكانة عظيمة في مصر حد كان له عرش (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) وهو ـ على جمعه بين السلطة الروحية والزمنية ـ (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) ومعه بيناته في سلطتيه ، واستمر التشكّك (مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ) مات عن رسالته على حالته (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) استراحة لموتته وارتياحة لهلكته ، فانطلاقة عن الشك في رسالته إلى تاكّد من انقطاع الرسالة : (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) ف «لن» هذه كانت كامنة في قلوبكم متحولة إلى شك لردح السلطة الكائنة ، ثم تحولت إلى ما كانت ، فأنتم أولاء الحماقى الصّلتين الصّلدين في الكفر و (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) يرتاب في البينات ويسرف في ارتياب ، ومن خلفياته أن يضله الله ختما على قلبه.

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) إبطالا لها وإخمادا لنائرتها (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) أيا كان وأيان «كبر» ذلك الجدال الإبطال (مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) لبينات آياته حين تكذّب بغير سلطان (وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) حين تكذّب على علمهم وبمحضرهم (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) فلا فسحة لقلبه ولا مجال لنور المعرفة ولا شطرا قليلا ليصبح منفذا لرؤية الحق حيث

__________________

(١) «المصدر ح ٤٥ المجمع عن كتاب النبوة بالإسناد عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قلت : فكان يوسف رسولا نبينا؟ قال : نعم أما تسمع قول الله عز وجل : (لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ).

٤٤٤

الطبع (عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) طبعا شاملا لا يبقي على أثر ، وسدا كاملا لا يرجى معه أي مفر ، فوا ويلاه إذا ختم الله على كلّ القلب ولات حين مناص ولا منفذ لخلاص!

وهذه الآية اليتيمة بين آيات الختم ، حيث تعممه على كل القلب ، ولأنه في أسفل دركات الكفر والنكران من الإنس والجان! فالقلوب ثلاثة ، قلوب طامة بالنور ، تامة في كمال النور ، فكلها نور دون ظلام فهي في أفضل الدرجات ، وقلوب مختومة بظلمة لا مجال فيها لنور ، فهي في أسفل الدركات ، وقلوب هي عوان بين ذلك مهما اختلفت درجاتها بين مؤمن ومن يفتش عن إيمان.

أترى فرعون الطاغية يغيّر رأيه بعد هذه الجولة الضخمة التي تأخذ بأزمة القلوب غير المختومة؟ كلّا! ولكنه لا يرى بدا من ردة فعل غير التي أبداها لحدّ الآن ، ولكي يغتر المتأثرون بدعوة الداعية ، تظاهرا هو تظاهرة أمام المستضعفين بلون غير الذي كان حتى الآن أمام الداعية :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦). أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ)(٣٧).

الصرح هو العرش فقد يكون للجلوس عليه ك (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) (٢٧ : ٤٤) وأخرى للصعود عليه تطلّعا إلى عال وكما يطلبه فرعون من هامان ، وهو برج عال كأعلى ما يمكن ، خروجا عن الأسباب الأرضية إلى أسباب سماوية ، فكما في الأرض مركبات موصلة إلى أخرى هي أسباب للتنقلات الأرضية ، كذلك للسماء ، فهنا صرح يطّلع عليه على أسباب السماوات ، ثم الركوب على مركبة سماوية ، اطلاعا على ما فيها من كائنات كامنة!

ولا يمكن الارتقاء في الأسباب إلّا لمن يملكها علما واقتدارا وكما يتحداه

٤٤٥

القرآن : (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) (٣٨ : ١٠) أسبابا يقصر عنها العلم مهما جال جولته في السماوات والأرض ، فهي إذا اسباب خارقة للعادة ، خفية إلّا لمن أطلعه الله ، وكما أوتي ذو القرنين من كل شيء سببا (فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ... ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ... ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ...) (١٨ : ٨٥ ـ ٩٢) ... مهما كانت لنا أسباب تعمنا أم تخص الخصوص من علماء الأسباب روحيا وماديا (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) (٢ : ١٦٦).

فالعالم بأسره يعيش مثلث الأسباب وإن كان لكلّ أهل ، ولقد تسمّع فرعون أن هناك أسبابا لارتقاء السماوات واشتهى أن يبلغ الأسباب (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) وقد خيّل إليه أنه ربّ الأرض وبيده أسبابها : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ثم لم يجد في الأرض إله موسى فيبني صرحا يطلعه ليبلغ أسباب السماوات فيطلّع إلى إله موسى ، كأنه كائن في السماء.

وقيلة القائل إن الله في السماء ، فما كان يعرف فرعون مكانة إله موسى ولا مكانه إلّا تعريفا من موسى فأخذ يطّلع إلى إله موسى في السماء؟ إنها قولة زائفة تزيفها تصاريح موسى حول الإله : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ. قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (٢٦ : ٢٩).

فهذه سخافة الرأي من فرعون أن لو كان لموسى إله فلا بد أنه في

٤٤٦

السماء ، إذ لا أرى في الأرض من إله غيري ف (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) أن له إلها.

وهكذا يموّه الطاغية فيداور ويحاور علّه يجد مفرا من لجّة الحجة ، ولكيلا يواجه الحق جهرة وصراحا ، ولا يعترف بوجوده فضلا عن وحدانيته التي تهز عرشه وجبروته ، فليس فرعون بالذي يفتش عن إله موسى ، وعلى هذا الوجه المادي الساخر ، اللهم إلّا استخفافا واستهتارا من ناحية ، وتظاهرا بالاطلاع إليه بأسباب السماوات من أخرى ، فلذلك يخرف ويهرف فيما يحرّف ويحرف ، تطرقا بالمحال «أبلغ أسباب السماوات» وإلى محال آكد (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) ومن ذا الذي يتساءله في تطلّعه وتضلّعه واطلاعه إلى ماذا؟ حيث الجواب سوف يكون : لم أطلع إليه ، أم لم يكن فيما اطلعت ، (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) موسى «كاذبا» أن له إلها غيري ، أم وجدت في السماء من يدعي أنه إله موسى (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) إله موسى «كاذبا» فتنتهي الحوار في كيده إلى ميده (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) أن زينه الشيطان وعلّه أصبح أشطن من الشيطان! (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) بما صدّها عن نفسه فانسدت عليه (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) فقد كاد كيده كلّه في الأرض وإلى السماء ولكي يدحض حجة الحق ، ولكنه أصبح في تباب بعد ما آمن السحرة كلهم أجمعون ، وأغرق فرعون بجنوده أجمعين ، غرقا بكيده مرتين و (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)!

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ)(٣٨).

هنا ـ وقد بلغ من كيد فرعون التوصل إلى اسباب السماوات ـ يستمر الذي آمن بحجته ، كأن لم يتكلم فرعون بشيء ، استخفافا به ولأنه لا جواب لهرائه ، فإنما يعاكس قولة فرعون من قبل (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ

٤٤٧

الرَّشادِ) بقوله (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) واين رشاد من رشاد؟ هكذا يتحداه بكلمة الحق دون ان يهاب سلطانه والمتآمرين معه.

(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ)(٤٠).

«إنما» تحصر (هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) بأنها «متاع» متاع المتعة الفانية ، ومتاع التجارة الباقية (١)(وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) فخذوا من ممركم لمقركم ، ومن المتعة الفانية تجارة باقية لن تبور.

يبرهن هكذا مرشدا لهم بعد ما أثبت لهم بما أثبت وحدانية الله وحقانية اليوم الآخر ، حيث النصيحة دون برهان لا تفيد الناكر.

ومن عدل الله تعالى يوم الحساب (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) فإنها هي بملكوتها دون زيادة أو نقيصة ، اللهم إلّا بتوبة أو شفاعة أمّاهيه ، وقضية المماثلة بين السيئة وجزائها أنه محدود كما هي فهو متناه كما هي متناهية! (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً) أيا كان (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) دون فارق بينهما إلّا بصالح العمل ، (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) حيث الإيمان ركن لصلاح العمل فهو دونه حابط (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (٥ : ٥) وإذا كان جزاء السيئة بحساب فثواب الحسنة بغير حساب ، مهما كان لكل حسنة حساب في (بِغَيْرِ حِسابٍ) حيث الجنة من فضل الله ورحمته (٢) والنار من عدل الله ونقمته.

__________________

الدر المنثور ٥ : ٣٥١ ـ اخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان الحياة الدنيا متاع وليس من متاعها شيء خيرا من المرأة الصالحة التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك.

نور الثقلين ٤ : ٥٢٠ ح ٤٨ في كتاب التوحيد حديث طويل عن ـ

٤٤٨

وهذا هو سبيل الرشاد ايمانا وعملا وعقيدة في صيغة موجزة سائغة لائقة بالداعية ، تعريفا بالدارين ، وصورة جامعة من خلفيّة الأولى للأخرى.

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) (٤٢).

ولماذا «ما لي» وليس العجاب إلّا مما لهم من دعوة زائفة؟ لأن «ما لهم» واضح وضح الشمس أنهم عاشوا هوامش الضلالة ، مرتزقين وفي الإضلال ، فليوجّه السؤال إلى نفسه «ما لي» استحضارا لحاله وما له من بيئة ، فهل فيه ضلال كامن يدفعهم لدعوته إلى النار؟ وهو معلن بالحق في أشد الأخطار! فلا مطمع إذا ولا مطمح في دعوته إلى النار ، فليس إلّا أنهم هم الضالون إلى ذلك الحد العجاب ، انهم يدعون داعية الحق إلى الباطل فإلى نار ، وهذه الحالة البئيسة هي من خلفيات الطبع (عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) ألّا يحصر ضلاله في نفسه ، بل ويضل من يضل ويحاول في إضلال من لا يضل فهو في ثالوث الضلال المنحوس!

وكيف (أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) ويعلم الذي آمن ألّا شريك

__________________

ـ امير المؤمنين (عليه السلام) يقول فيه وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات واما قوله عز وجل (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الله عز وجل : لقد حقت كرامتي ـ او قال ـ : مودتي لمن يراقبني ويتحاب بجلالي ان وجوههم يوم القيامة من نور على منابر من نور عليهم ثياب خضر قيل من هم يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال : قوم ليسوا أنبياء ولا شهداء ولكنهم تحابوا بجلال الله ويدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب نسأل الله ان يجعلنا منهم برحمته.

٤٤٩

له؟ وهو مجاراة مع المشركين أنني وإياكم لا نعلم ـ لأقل تقدير ـ أن لله شريكا ، حيث الآيات آفاقية وأنفسية ليست لتدل له على شريك ، ولا أنه أوحى إلى نبي من أنبيائه أن له شريكا ، واتبّاع غير العلم محظور في كافة الحقول لدى أصحاب العقول ، وأنا أدعوكم إلى ما تقتضيه العقول ، وأنتم تدعونني إلى ما ترفضه العقول ، أنتم تدعونني (لِأَكْفُرَ بِاللهِ) به وبتوحيده (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) وأين دعوة من دعوة!

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ)(٤٣)

«لا جرم» : لا بدّ حقا دون ريب (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) من طواغيت وأوثان (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أترى كيف لا دعوة للطاغية في الدنيا وقد وصلت لحد تدعوا دعاته الذي آمن وهو في قمة الإيمان ، والدعوات والدعايات الطائلة المزخرفة للطغاة تملك من كل وسائل الإعلان ما لا تملكه دعاة الحق ، مهما لا يملكون دعوة في الآخرة.

علّ «دعوة» تعم دعوة منه كهذه ولا تحسب بحساب إذ لا تملك أية برهنة ، فليست هي حقا بدعوة ف (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ...) (١٣ : ١٤) لا سواه.

ثم دعوة من أنبياء ، ولم يعهد دعوة من صاحب رسالة ببيناته لطاغوت أو وثن ، بل وهم مجمعون على توحيده (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢١ : ٢٥).

فهم ـ إذا ـ آلهة دون رسل داعية! ومن ثم (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) تستجاب أن تنفّذ أوامرهم كما الله ، إذ لا يملكون في الكون تغييرا ولا تحويرا في كلمة نافذة (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وأخيرا لا يقدرون على إجابة دعوة

٤٥٠

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) (٣٥ : ١٤) (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (١٣ : ١٤).

ففي مربع الدعوة لا تجد لهم ضلعا ضليعا ألّا ضئيلا من دعوة باطلة لا تملك أي برهان ، فليست هي أيضا بدعوة ، فهل تجد إلها دون دعوة في الدنيا وهي تجواله ، وبأحرى (وَلا فِي الْآخِرَةِ) فالملك يومئذ لله ولا يتكلمون إلّا من اذن له الرحمن وقال صوابا ، (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) دون الآلهة التي ليس لها دعوة (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) في نكران الحق (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) لا سواهم مهما دخلوا النار بكبيرة موبقة ثم يخرجون ، فأصحاب النار هم الآبدون في النار.

وهذه جولة أخيرة في حجاج الذي آمن وجاه اللجاج العارم من آل فرعون فأصبحوا في ارتجاج ، ولا سيما في ختامها حيث يخبرهم عن مستقبلهم أسفا على ماضيهم وحالهم ولات حين مناص :

(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ)(٤٤).

لم يبق عليّ بعد هذه الحوار من شيء (فَسَتَذْكُرُونَ) هنا وفي الأخرى (ما أَقُولُ لَكُمْ) ولا تنفعكم الذكرى (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي) في مكرهم عليّ (إِلَى اللهِ) فلا قوه إلّا بالله (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) بصير بمن يدعو إليه ما أمكنه لحدّ الخطر على نفسه ونفيسه ، وبصير بمن يصر في إنكار واستكبار ، فلا بد وأن ينصره عليهم وكما فعل ، فقد كان هناك تخاوف ، إخافة من آل فرعون وإجابة عنها ب (فَسَتَذْكُرُونَ ... وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ ...).

٤٥١

وترى ما هو الأمر الذي يفوّض إلى الله ، ولا تحمله إلّا هذه الآية في سائر القرآن؟

«أمري» لا تعني كلّ أمر ، فإنما هو أمر الحياة في خطورتها عقيب هذه الدعوة الصارمة وليس بيده ، وأمر الدعوة حيث بلغت إلى آخر المطاف فلا حول له ولا قوة إلّا كما فعل ، فليس هو أمر التكليف أن ينسحب المكلف عن أمره وهو في استطاعته فيفوضه إلى الله ، ولا الأمر الذي ليس منه ولا إليه مما يختص بالله فإنه كله لله ليس لأحد فيه أمر سواه ، إذا فهو امر بين أمرين ، أن يواصل في تحقيق ما حمّل كما يستطيع ، ويفوض أمره إلى الله فيما لا يستطيع ، اقتساما لأمره بين أمرين ، مهما كان متوكلا عليه في كلا الأمرين ، فليس التفويض ـ وهو الرد ـ إلّا بعد تقويض ، دون الأمور المستطاعة المحولة إليك ، ولا غير المستطاعة المستحيلة عليك ، فلا رد فيهما إلى الله ، إلّا فيما لا قوة فيه إلّا بالله وقد حول إليك.

(أُفَوِّضُ أَمْرِي) هذا «إلى الله» لا سواه ولا فوضى جزاف ف (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) حيث يأمرهم بما لا يستطيعون إنهاءه وإكماله ، فأنا قد عملت بواجبي كما أمرت ، ثم الله يكفيه فانه الكافي لا كافي سواه.

فقد يريد الله أن أقتل دون دعوتي ولكي أفوز أنا وتفوز دعوتي ، كما قتل الكثير من دعاة الحق دون دعوتهم إلى الحق ، أم يريد الإبقاء عليّ تعجيزا لعدوي ، أم وإفناء عدوي بعدي وهم ينظرون ، وأنا فائز على أية حال ما لم يمسوا من كرامتي إضلالا لي أو انتقاصا من إيماني.

إذا فليس كل من يفوض أمره إلى الله ، في دعوته إلى الله ، يضمن بقاءه فيها ، وإنما المضمون ـ إذا ـ الحفاظ على إيمانه ، والإبقاء على دعوته مهما قضي عليه في شخصه وكثير ما هم ، وهناك قلة قليلة كإبراهيم ويوسف وآل موسى وجاه آل فرعون : «والمفوض أمره إلى الله في راحة الأبد

٤٥٢

والعيش الدائم الرغد ، والمفوض حقا هو الفاني عن كل همة دون الله تعالى كما قال امير المؤمنين (عليه السلام) : رضيت بما قسم الله لي ، وفوضت أمري إلى خالقي كما أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقي ...» (١) «والمفوض لا يصبح إلا سالما من جميع الآفات ولا يمسي إلا معافا بدينه» (٢).

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)(٤٦).

ظاهر إطلاق الوقاية هنا خلاف الرواية (٣) أنه قتل ، حيث الحوق بآل فرعون هو غرقهم لمّا لاحقوا آل موسى ، والتفويض الى الله وقاية لكل من مكر به في سبيل الحق (٤).

__________________

(١ ، ٢) مصباح الشريعة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : المفوض ... كذلك يحسن فيما بقي قال الله عز وجل في المؤمن من آل فرعون (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) والتفويض خمسة أحرف (ت ف وى ض) لكل حرف منها حكم فمن أتى بأحكامه فقد أتى به «التاء» من تركه التدبير في الدنيا و «الفاء» من فناء كل همة غير الله تعالى و «الواو» من وفاء العهد.

(٣) نور الثقلين ٤ : ٥٢١ ح ٥٢ محاسن البرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) قال : اما لقد سطوا عليه وقتلوه ولكن أتدرون ما وقاه وقاه ان يفتنوه في دينه ورواه مثله في الكافي ، والقمي : فقال ابو عبد الله (عليه السلام) والله لقد قطعوه اربا اربا ولكن وقاه الله عز وجل ان يفتنوه عن دينه.

(٤) المصدر عن كتاب الخصال عن الصادق (عليه السلام) قال : عجبت لمن يفزع من اربع كيف لا يفزع الى اربع ـ الى قوله ـ : وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع الى قوله (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فاني سمعت الله تعالى يقول بعقبها (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا).

٤٥٣

إن (ما مَكَرُوا) تشمل (أَقْتُلْ مُوسى) فضلا عمن معه ، وإضلال الذين آمنوا معه ، ومن سيئاته قتله وإضلاله إذ خاض في حواره الصارم مع موسى بين الجماهير المحتشدة (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) تشمل من السيآت هذه وتلك ـ إذا ـ فما قتلوه رغم ما مكروا (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) بدلا أن يحيق به سيئات ما مكروا!

وقد لا يكون قتله في سبيل دعوته من سيئات ما مكروا ، فانه من حسناته في حساب الله حيث الشهادة في سبيل الله كرامة ما فوقها كرامة!

وسوء العذاب هو العذاب السوء ، وكل عذاب سوء ، ولكنه كان سوء على سوء إذ غرقوا حينما ترائى الجمعان فأدخلوا نارا فور غرقهم وهذا من سوء العذاب.

«وحاق» نزل وأصاب (بِآلِ فِرْعَوْنَ) فرعون ومن معه (سُوءُ الْعَذابِ) حرق بعد غرق ، ف (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ترى أنه عرض دون دخول؟ ولماذا (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ولا رياحة في النار ولا تخفيف؟

العرض عبارة أخرى عن الدخول كحالة خاصة منه كما يعرض اللحم على النار لنضجه (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) (٤٦ : ٣٤) وقد يلمح أنهم متاع يعرض على النار وهي تشريهم كما شروها أنفسهم من قبل ، فهم متاع النار ، ثم (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) دليل أنها نار البرزخ ، لا لأن القيامة ليس لها غدو وعشي ، فإنما لاختصاص العذاب بهما ، ورياحة بينهما ، ولا راحة ولا مهلة لأهل النار الأخرى في

__________________

وتصديق الوعد و «الياء» اليأس من نفسك واليقين من ربك و «الضاد» من الضمير الصافي لله والضرورة اليه ... أقول : و (٣) الثانية ذيل الحديث.

٤٥٤

النار ، ودليل ثان (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) فهذا ـ إذا ـ شديد العذاب ، ومن ثم أشده ، ولأن الأشد هناك مطلق بين أهل النار ـ فهم ـ إذا ـ في الدرك الأسفل من النار ف (أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) (٤٩) وتخفيفه بين كل غدوّ وعشي هو تخفيف العذاب أياما فوق يوم! (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٢ : ٨٦) (خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٢ : ١٦٢) لا تخفيفا عن نفس العذاب ولا عن خلوده ولا عن فواصل بينه وإن كانت ساعة وأدنى وكله تخفيف للعذاب ، و (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (٤ : ٥٦) وكفت نار الخلد نضجا للجلود لآن مّا ، فإذا نضجت غدوا ثم ظلت ناضجة دون تبديل إلى العشى نقض العموم المستغرق للأزمان في «كلما» ... إذا فهي نار البرزخ دون ريب إذ لا توافقها مواصفات نار الخلود.

ولو أن عرض الغدو والعشى هو في نار الآخرة إذا «فهم من السعداء» (١) ولولا أن عرضهم هو دخولهم فما تعني (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٧١ : ٢١) وهي نار البرزخ لغرقى نوح كما تلك ناره لغرقى موسى (٢)!.

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٥٢٢ ح ٥٦ القمي قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام) ما تقول في قول الله عز وجل : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) فقال ابو عبد الله (عليه السلام) ما يقول الناس؟ فقال : يقولون انها في نار الخلد وهم لا يعذبون فيما بين ذلك فقال (عليه السلام) : فهم من السعداء فقيل له جعلت فداك فكيف هذا؟ فقال : انما هذا في الدنيا فأما في نار الخلد فهو قوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ).

(٢) المصدر ح ٥٨ في الكافي باسناده عن محمد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) ـ

٤٥٥

فهذه الآية ـ إذا ـ هي في عداد الآيات البرزخية ، وهي مع آية نوح (٢١) تعذّب آل فرعون كآل نوح في نار البرزخ الكامنة في الماء ، وكيف بالإمكان وجود نار في الماء تحرق؟ لأنها نار برزخية وهي في أعماق المواد الدنيوية كامنة ، فكما أن البدن البرزخي يختلف عن الدنيوي ، كذلك ناره وجنته ، فهما كامنتان في مكامنهما من مواد دنيوية ، يظهرهما الله لأهليهما في البرزخ دون أن تظهرا لأهل الدنيا إلّا لمن «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا».

فالبرزخ بناره وجنته عالم كامن في عالمنا ، لا يراه إلا أهلوه ، وكما النار كامنة في كافة الذرات لا يحرّرها إلا كاشفو الذرة لحدّ مّا ، ونحن نعيشها في موادنا كلها ، من ماء وثلج أمّاذا؟

وهل إنّ (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) في البرزخ تعنيهما فيما نعيشهما هنا؟ أم فيه غدو وعشي كما يناسبه وكما في الحياة الأخرى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ ... وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١٩ : ٦٢) تقرر للأخرى غدوا وعشيا كما للأولى مهما اختلفتا.

__________________

ـ قال : سألته عن أرواح المشركين فقال : في النار يعذبون يقولون ربنا لا تقم لنا الساعة ولا تنجز لنا ما وعدتنا ولا تلحق آخرنا بأولنا ورواه مثله عنه (عليه السلام) عن أبي بصير.

أقول : لعل عرضهم على النار إدخال في نار البرزخ وعرض الاراءة من بعيد على نار الآخرة وكما في الدر المنثور ٥ : ٣٥٤ اخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن مردويه عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده من الغداة والعشي ان كان من اهل الجنة فمن اهل الجنة وان كان من اهل النار فمن اهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ، وزاد ابن مردويه (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ثم المقصود من الدنيا قبل القيامة حيث البرزخ في موازاة الدنيا.

٤٥٦

إنهما للبرزخ ليسا قطعا ما للأخرى ولمّا تأت ، فقد يكونان وفقا لما للأولى وهو الاولى ، إذ لا شمس للبرزخ تخصه ، اللهم الّا أن يعنيا طرفين لواحد الزمن في البرزخ حيث يختلف عما للأولى ، اللهم إنا لا نعلم إلّا ما علمتنا ، وما هو هاهنا إلّا (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) أو أنهما ما يوافق الاولى في البرزخ حتى إن لم يكن فيه غدوّ وعشي.

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا

٤٥٧

وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ

٤٥٨

فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)(٦٠)

محاجة أهل النار عذاب فوق العذاب ، إذ لا تبوء إلّا إلى تباب ، حسرة على حسرة وبوارا فوق بوار في النار : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) الضعفاء والذين استكبروا (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) القاصرون عن تقصير ، المقصرون في حياة التبعية حيث تناسوا استقلالهم ، فاستغلّوا لمّا لم يستقلوا فعاشوا أرذل حياة وأعضله وهي حياة التبعية الهامشية للمستكبرين ، فأصبحوا أداة لافتعالاتهم ، آلات لتحقيق شهواتهم ، دونما حظوة لهم أنفسهم إلّا قليلة متبقّية على هوامشهم ، عبيد مرتزقة ، في حياة العمالة الجهالة ، وهم يحسبونهم معذورين حيث استضعفوا (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) كما أغنينا عنكم نصيبا من حياة العار والدمار ، نصيبا بنصيب والله من ورائنا حسيب ، فيسمعون

٤٥٩

الجواب الحاسم الجازم (إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) فلا حكم لسواه إذ لا حاكم هنا سواه؟ حاكم عدل في ذلك العدل.

وهل «يتحاجون» هنا يخص آل فرعون لسابقة حالهم؟ علّه نعم فإنهم المخصوصون بذكرهم ، أو يعم سائر الكفار حيث المحاجة بين الضعفاء والذين استكبروا وهم أعم من آل فرعون مهما كانوا أنحس مصاديقهم ، فالمورد لا يخصّص حتى لو كانوا هم المورد؟ (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ ...) بعدها يؤيد العموم ، ومنطق الآية نفسها منطق العموم! فهي ـ إذا ـ محاجة بين ضعفاء التاريخ ومستكبريهم : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (١٤ : ٢١).

و «الضعفاء» هنا لا تعني كل الضعفاء ، وإنما المقصّرون في قصورهم واتّباعهم ، دون المستضعفين (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ، فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ...) (٤ : ٩٨) فضلا عن مستضعفي المؤمنين فإنهم ليسوا ضعفاء في ذوات أنفسهم وأفكارهم مهما استضعفوا في حركاتهم وسكناتهم وبظاهر حياتهم (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ...) (٢٨ : ٥).

بل هم الضعفاء المستضعفون (الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) (٤ : ٩٧).

٤٦٠