الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

حول «آل ياسين» (١)؟.

وكيف يسلّم هنا على آل ياسين ولم يذكر يس بنفسه وهو الأصل! وليذكر خاتمة الذكرى من هؤلاء النبيين فإنه خاتمهم! ثم إفراد الضمير في (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) لا يناسب جمع الآل على أية حال!

قد يعني «آل ياسين» ـ فيما يعنيه ـ كلا إلياس وآل محمد فان كلّا من آل ياسين ، ولا يردف يس نفسه بهؤلاء لأنه سيدهم وله صلوات فوق السلام في الأحزاب (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٣٣ : ٥٦) وقد يعني «إنه» إلياس فانه من آل ياسين ، ويعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) على البدل ، فالمرجع واحد على أية حال ، فياسين ـ إذا ـ ياسينان والآل آلان وهذه الثانية تصبح وجها وجيها ل «آل ياسين» (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا

__________________

ـ وآله وعليهم السلام لمن تولاهم في القيمة وعنه عن أبي عبد الرحمن السلمي ان عمر بن خطاب كان يقرء هذه الآية فقال ابو عبد الرحمن آل يس هم آل محمد ، وممن روى عن عمر بن الخطاب قرائة المد ابو عبد الرحمن الاسلمي أخرجه عنه بعدة طرق ابن بابويه القمي في الخصال.

(١) اخرج في كفاية الخصام من طرق الشيعة ستة عشر حديثا ان آل ياسين في الآية هم آل محمد وفي نور الثقلين ٤ : ٤٣٢ ح ١٠٣ في كتاب الاحتجاج عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل وفيه ولهذه الآية ظاهر وباطن فالظاهر قوله (صَلُّوا عَلَيْهِ) والباطن قوله (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) اي سلموا لمن وصاه واستخلفه عليكم فضله وما عهد به اليه تسليما وهذا مما أخبرتك انه لا يعلم تأويله الا من لطف حسه وصفا ذهنه وصح تمييزه وكذلك قوله «سلام على آل ياسين» لان الله سمى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الاسم حيث قال (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ... وفي كفاية الخصام ٤٧١ محمد بن عباس بسنده عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه عنءابائه عن امير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الآية انه قال ان رسول الله اسمه يس ونحن الذين قال : سلام على آل ياسين ورواه مثله في معاني الاخبار باسناده الى كارح عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه عنءابائه عنه (عليه السلام).

٢٠١

المؤمنين)!

وإذا كانت «آل» مدا ، والكتب المتواتر من القرآن دون مدّ ، فهل ليس ذلك تحريفا في الذكر الحكيم؟ كلّا فان قراءة المدّ مروية عن الأربعة الكبار وعليها إجماع أئمة أهل البيت عليهم السلام.

فقد اختص آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسلام عليهم ضمن السلام على هؤلاء النبيين الكرام ولم يسلم على آلهم ، وكما اختص الرسول وآله بالصلاة عليهم بين الأمة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(١).

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)(١٣٣) وهو ابن اخي إبراهيم (عليه السلام) ومن دعاة رسالته ، وقد نجاه الله في رسالته عما نزل بقومه (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) هي امراته الغابرة في كفرها ، الغائرة مع الغابرين (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) ومنهم (عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ).

(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) على آثارهم الخاوية (مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا

__________________

(١) وفي عيون الاخبار في باب مجلس الرضا (عليه السلام) مع المأمون في الفرق بين العترة والامة حديث طويل وفي أثنائه قال المأمون فهل عندك في الآل شيء أوضح من هذا في القرآن قال ابو الحسن (عليه السلام) نعم اخبروني عن قول الله تعالى (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ...) فمن عنى بقوله «يس» قالت العلماء : محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشك فيه احد قال ابو الحسن (عليه السلام) فان الله عز وجل اعطى محمدا وآل محمد من ذلك فضلا لا يبلغ احد كنه وصفه إلا من عقله وذلك ان الله عز وجل لم يسلم على احد الا على الأنبياء صلوات الله عليهم فقال تبارك وتعالى (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) وقال (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) وقال (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) ولم يقل سلام على آل نوح ولم يقل سلام على آل ابراهيم ولم يقل سلام على آل موسى وهرون وقال «سلام على آل يس» يعني آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال المأمون قد علمت ان في معدن النبوة شرح هذا وبيانه.

٢٠٢

تَعْقِلُونَ) ١٣٨ وهم على طريق الحجاز إلى الشام.

وهذا مرور خاص بواقع آثارهم لخصوص المارّين عليهم القاطنين في أرض الحجاز ، ثم مرور لكل ساكني المعمورة.

ومن ثم مرور شامل على تاريخهم كما حصل حيث «تمرون عليهم في القرآن (١)»

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)(١٣٩) لقد ذكر يونس هنا باسمه ، وفي يونس : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)(٩٨).

وفي «ن» هو «صاحب الحوت» : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ. لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ. فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)(٥٠).

وفي الأنبياء «ذا النون» : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٨٧ ـ ٨٨)

فيونس ذا النون صاحب الحوت هنا في الصافات يذكر بتفصيل من قصته ، والثلاثة الأخرى كملتقطات منها ، وهوامش لها ، ولكلّ تفسير في محله ، وهنا (يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) :

(إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)(١٤٠) وهل إنه إباق عن رسالته ولمّا تكمل؟ وهو خلاف العصمة والاصطفاء للرسالة! إم إباق المغاضبة على

__________________

(١) نور الثقلين عن الامام الصادق (ع).

٢٠٣

قومه؟ وهو ذهاب دون إباق (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً)! ولماذا الإباق بمجرد المغاضبة وهي مستمرة في تاريخ الرسالات! أم إباقا خوف العذاب الموعود لهم وهو على الأشراف وهو (عَذابَ الْخِزْيِ) : (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ ...)!

علّ الإباق يشمل الثلاثة كلها ، وطبعا دون إباق عن الرسالة ، بل قلة الصمود عليها وكما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «كان رجلا تعتريه الحدة وكان قليل الصبر على قومه والمداراة لهم ، عاجزا عما حمل من ثقل أوتار النبوة وأعلامها ...» (١)

«أبق» عن قومه ، وعن العذاب المشرف عليهم ، وعن التصبّر في تداوم الدعوة (أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) المملوء من مختلف الركاب ، ظنا أن فيه نجاته ولكن :

(فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)(١٤١) والدحض هو إزالة ما لا يعنى ، فمن «ساهم» مساهمة الاقتراع (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) نعرف أن الفلك أصبح ثقيلا براكبيه ، مشرفا على الغرق ، فكان ولا بد من إنجاء الجميع دحض البعض ، ولكيلا يتنازعوا اقترعوا «والقرعة لكل أمر مشكل» فحصل هنالك «مدحضون» قدر اللازم من تخفيف العبء ، (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) في البحر ولكنه هو بين المدحضين :

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ)(١٤٢) نفسه ، لماذا أبق عن قومه إلى الفلك فأصبح ما ظنه نجاتا سجنا أو هلاكا ، كرا على أشرّ مما فرّ!.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٣٩٧ في تفسير العياشي عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) كتب امير المؤمنين (عليه السلام) قال : حدثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان جبرئيل حدثه ان يونس بن متى بعثه الله الى قومه وهو ابن ثلاثين سنة وكان رجلا ... الحديث بطوله ذكرناه في ٢٩ : ٧٨ من الفرقان.

٢٠٤

أصبح يليم نفسه من بادرته المسرعة (وَهُوَ مَكْظُومٌ) قائلا : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) المنتقصين كمال الدعوة ، ظلما لا ينافي العصمة ، فالرسل درجات وليسوا على سواء.

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(١٤٤).

و «كان» هنا تضرب إلى عمق الماضي وإلى حاضر بطن الحوت : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) ظلمات الليل ، والبحر ، وبطن الحوت (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) من أن تظلمني وتسجنّي دون تقصير «إني» أنا لا أنت (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)!.

والظاهر من «لبث» هنا لبثه كما كان ، فهما إذا حيّان (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وفي ذلك اللبث المقدر المعلق شاهد صدق على إمكانية زيادة الأعمار مئات الأضعاف والآلافات.

فلبقاء الإنسان حيا في بطن الحوت ، دون جو صالح للتنفس ، وهو في البحر ، ليس له إلّا دقائق معدودة ، فأين هي وإلى يوم القيامة.

فإذا قدّرنا مكوث الإنسان حيا في بطن الحوت لخمس دقائق أصبح مكوث السنة / ٩٣٣٧٠ ضعفا فكيف بالآفات السنين إلى يوم الدين.

وهل إن ذلك المكوث ـ وليس إلا للنبهة عن خطأ ـ أهم ، أم مكوث صاحب الأمر حجة بن الحسن المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ، حيا يرزق ، لإقامة دولة إسلامية عالمية سامية.

إنه (عليه السلام) ـ لحد الآن ـ ما مكث إلّا (١١٤٣) سنة وهي بمتوسط التقدير عشرة أضعاف العمر المتعوّد ، وسنة واحدة من مكوث يونس في بطن الحوت هي / ٩٣٣٧٠ ضعفا للمكوث العادي هناك ، فإذا

٢٠٥

مكث الامام المنتظر لحد الآن ـ عشرة أضعاف العمر ، لم يمكث إلا كخمسين دقيقة من مكوث يونس فتصبح سنة من مكوثه / ٩٣٣٧٠٠٠ / سنة من مكوث صاحب الأمر ، فضلا عن (يَوْمِ يُبْعَثُونَ)؟

وترى (يَوْمِ يُبْعَثُونَ) هو يوم قيامة الإحياء ، وهو الظاهر من البعث الجمعي؟ أم قيامة الإماتة؟ إذ لا بد لكل نفس من موت فكيف يلبث يونس إلى يوم الإحياء!

قد يعني (يَوْمِ يُبْعَثُونَ) مجمع اليومين فان موتهم الجمعي ليس إلا لبعثهم جميعا ، أم إن ذلك فرض وتقدير ، ولا ضير في عدم الموت لإنسان يقدر له هكذا تقدير ، ولكن (لُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وان البدن يوم الحساب خلاصة عن هذا البدن وليس كله ، فلا بد إذا من موت حتى يبعثوا كما يناسب حياة الحساب (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ)(١٤٥).

«العراء» هو المكان المكشوف الذي لا ستر عليه ولا ظل فيه ، والنبذ يرمز إلى رفض وترذيل كما في آياته كلها إلّا ما هي في مريم (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) (١٩ : ٢٢).

ولكن يونس نبذ وهو ممدوح (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ. فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) وهذه النعمة هي دوام التسبيح والاعتراف بالظلم.

ثم (وَهُوَ سَقِيمٌ) قد يعني إلى سقم الجسم سقما في الروح ، لماذا ذلك الإباق؟ ولكي لا يتأذى بحرّ الشمس :

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ)(١٤٦). وليكن الإنبات فور نبذه ، فإنه من إكرامه ، وفي تأخيره دون ستر بالعراء ذمّه وهو غير مذموم.

(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)(١٤٨).

٢٠٦

ذلك إرسال له ثان (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) بعد ما ذهب مغاضبا وأبق إلى الفلك المشحون ، فسجن هو وزال العذاب عن قومه ، معاكسة عجيبة بحساب ، لأنه استعجل عن قومه وهم آمنوا في غيبته : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٠ : ٩٨) ثم استكمل إيمانهم لمّا (أَرْسَلْناهُ ...) ثانية (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ).

وترى ماذا تعني (أَوْ يَزِيدُونَ) ولا تردّد في علمه سبحانه؟ علّهم حين أرسله إليهم كانوا مائة ألف ، ولو لم يزد (أَوْ يَزِيدُونَ) لاختصت رسالته بهم دون مواليدهم ، ولكن «يزيدون» المستقبل تضيف إليهم الولائد الجدد ما دام يونس فيهم ، و «أو» تقسّم مدى رسالته إلى (مِائَةِ أَلْفٍ) حاضرين (أَوْ يَزِيدُونَ) مستقبلين.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ

٢٠٧

اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢)

٢٠٨

استفهامات تنديدية هي استفحامات بمن يتخذون لله بنات (وَلَهُمُ الْبَنُونَ)! تفضيلا لأنفسهم على الله ، كما فضّلوا عليه أصنامهم ، قسمة ضيزى ما لها من مثيل.

ففيما يفترون على الله اتخاذ البنات ، هم يفترون على الملائكة أنهم هؤلاء البنات : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ)؟ وقد خلقوا من بعدهم ، وحتى لو خلقوا قبلهم أو معهم فما هم في خلق الرحمن من الشاهدين : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ)!

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فلا ولادة لا حقيقية ولا تشريفية ، لا انثويّة ولا سواها ، وفي كلمة واحدة (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) وحتى لو اتخذ ولدا فكيف يصطفي لنفسه البنات على البنين؟ أإيثارا على نفسه وليست به خصاصة ، ثم الإيثار على خصاصة ـ على فرضها ـ مستحيل في ساحة الربوبية (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)؟ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) هذه الغلطات الغليظات التي لا تدخل في أدمغة المجانين فضلا عن سائر العالمين!.

(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) يبين فريتكم الكذب كحق متين ، وليس ذلك إلّا كتابا من الله كما يوحي إلى المرسلين (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وليس «كتاب الله» لأنه مستحيل على الله.

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)(١٥٨).

آية النسب هذه هي الوحيدة في نسب الجن من الله ولادة ، وقد تعنيه فيما تعنيه (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) (٤٣ : ١٥) ولو كان هنالك نسب فهم حسب النسب مكرمون ، ولكنهم كما يعلمون «لمحضرون» للحساب

٢٠٩

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) ما تتعالى عنه ساحته ، أيّا كان الواصفون ، مهما كانوا مؤمنين ومخلصين.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) فإنهم لا يصفونه إلّا كما وصف نفسه.

فكل توصيف إيجابي من اي واصف بعيد عن ساحته لأنه نابع عن جهالة ، أم المعرفة غير القمة العالية ، ولكن (عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصهم الله عن كل شين ورين ، وعن كل جهل ، هم يصفونه كما هو أهله ، لأن الله صنعهم كما يشاء ، ولا خطأ في صنع الله ، فلا خطأ ـ إذا ـ في وصفهم لله!

هذا في التوصيف الإيجابي ، واما السلبي فيشاركهم في صدقه المخلصون والمؤمنون ، فإذا قال قائل منهم (اللهَ عالِمُ) يعني أنه لا يجهل ، دون أن يصوّر عن علمه مفهوما إيجابيا كما يفهمون ، فإنه تشبيه!.

إذا فتوصيف المخلصين عاصم ومعصوم ، إن في سلبية الصفات أم في إيجابيتها ، وتوصيف المخلصين في إيجابيتها غالط مأثوم ، وفي سلبيتها غير مأموم ، وتوصيف من سواهم قد يكون إلحادا ، وأخرى شركا كما يصفه المشركون أن بينه وبين الجنة نسبا!

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) من أصنام وأوثان وطواغيت (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) : لستم أنتم العبدة والمعبودون على الله بفاتنين ، فتنة تنقلب فيها صفاته الحسنى إلى ما تبغون أم تنغلب فيها ذاته عما هي عليه ، إلّا فتنة عليكم (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) إذ يعني هنا الفتنة ولكنه هو المفتون (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (٥١ : ١٤)!

فهذا الاستثناء منقطع يقطع كل فتنة على الله ، ألّا فتنة راجعة إلى فاتنين (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) و (أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ)!

٢١٠

ثم وغير الفاتنين من المعبودين كالملائكة فهم كما يقولون :

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) مقام في أعمال ، ومقام في درجات الأعمال ، دون تجاوز عنها ولا قيد شعرة.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) نصفّ جنودا لرب العالمين ، صفوفا متراصة لانتظار الأمر وتحقيقه : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) (١٩ : ٦٤) أجل وهم «صافون لا يتزايلون ومسبحون لا يسأمون (١)»

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) لله ، فكيف نرضى أن نعبد من دون الله (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢١ : ٢٠) وهنا نتلمح من «الصافون ...» استحباب الصفيف حالة التسبيح العبادة ، وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قام إلى الصلاة قال : استووا ، تقدم يا فلان ، تأخر يا فلان ، أقيموا صفوفكم ، يريد الله بكم هدى الملائكة .. (٢).

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ ١٦٧. لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ ١٦٨. لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) ١٦٩

هذه حجة دامغة عليهم (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) خلاف ما ينوون ويعرفون (لَوْ أَنَّ ...)

__________________

(١ ، ٢). نهج البلاغة عن الامام علي امير المؤمنين (عليه السلام).

وفي الدر المنثور اخرج محمد بن نصر وابن عساكر عن العلاء بن سعيد ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوما لجلسائه : اطّت السماء وحق لها ان تئطّ ، ليس منها موضع قدم الا عليه ملك راكع او ساجد ثم قرء الآية.

٢١١

ولو أن الذكر يجعلهم عباد الله المخلصين ، فما هو الفارق بين ذكر الأولين والآخرين ، إلا أن ذكر الآخرين هو أقوى ذكر للعالمين ، فلما ذا لا يؤمنون ، فضلا عن كونهم عباد الله المخلصين؟! (١)

(فَكَفَرُوا بِهِ) هذا الذكر العظيم ، القرآن الكريم ، رغم قولتهم الخواء (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ١٧١. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ١٧٢. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ)١٧٣

كلمة سابقة سابغة من رب العالمين ما لها من كاذبة (لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) هنا ول ـ «جندنا» كما وسائر المؤمنين معهم في «المؤمن» : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ)(٥١) (٢)

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) استئصالهم ، أم حين موتهم ، فإنهم لا محالة مغلوبون (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أنت الآن أبصر ، ولكنهم الآن عمون «فسوف» بعد الآن «يبصرون» ولكنهم سوف لا ينتفعون!

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) استعجالا لمرسى الساعة ، أم مرسى العذاب قبل الساعة ، وتلك إذا حماقة كبرى ...

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. ١٨١ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٨٢)

__________________

(١) الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن انس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا قام ...

(٢) راجع الفرقان تفسير الآية في سورتها ففيه قول فصل فلا نكرره هنا.

٢١٢

سورة ص مكيّة

وآياتها ثمان وثمانون

٢١٣
٢١٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠)

٢١٥

جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ)(١٦)

(ص) هي كسائر الحروف المقطعة ، من مفاتيح كنوز القرآن ، تعني من انزل عليه القرآن ومن في منزلته ، واما نحن ف «ما ندري ما هو»؟ (١).

وعلّها بمناسبة (الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) هو النبي الصادق في دعواه ودعايته ، الذي لم يعرف الكذب ولم يعرفه الكذب منذ تكلم ، قبل رسالته وبعدها! كما وعلّ مدها تاشيرة لمدّ الصدق وصدق المد طول حياته المنيرة؟ اللهم لا علم لنا إلّا ما علمتنا!

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٩٦ ـ اخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال : سئل جابر بن عبد الله الانصاري وابن عباس عن «ص» فقالا : لا ندري ما هو؟

٢١٦

ثم (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) في صورة القسم وسيرة البرهان ، ليس إلّا لاثبات «ص» في صدق النبوئة والرسالة وكما في (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إذ لا نجد قبل ولا بعد مقسما لأجله إلّا «ص»!

(وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (١) يذكّر الفطر والعقول ، وهو ذكر في كافة الحقول ، ولأنه بنفسه دليل على وحيه الصادق ، يذكركم أن رسوله هو الصادق الأمين ، وكما الرسول هو بنفسه ذكر يشهد لوحي القرآن الحكيم : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً ...) (٦٥ : ١٠) بل والرسول هو من (الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (٣٦ : ٦٩) وكما القرآن هو رسول الذكر.

ذكران لصق بعض ، يشهد بعضه على بعض ، وينطق بعضه ببعض ، ذكرا عن كتابي التكوين والتشريع ، وذكرا لمواضع الغفلة من الفطر والعقول والعلوم!

ذكر على ذكر يوضحان كل صغير وكبير ، وكل دقيق ورقيق وضح الشمس في رايعة النهار ، فلا يبقى مع ذكرها أية غفلة :

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) (٢).

فليس كفرهم بذلك الذكر ، لقصور في الذكر ، وإنما لتقصير منهم أمام الذكر ، فهم «في عزة» غارقين في أنانية الشهوات والفرعنات «وشقاق» إذ جعلوا أنفسهم في شق يقابل شق الرسالات الإلهية : فنحن رجال وهم رجال. لا يفضل رجال عن رجال ، بل نحن أرجل منهم وأنبل في بنين وقوات وأموال!

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ)(٣).

٢١٧

قرون كافرة مضت وغبرت درج التأريخ «أهلكناهم» هلاك استئصال العذاب ام موت «فنادوا» حين هلاكهم استغاثة النجاة (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) وفرار وخلاص.

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) (٤).

ويا عجباه من عجبهم (أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) والمجانسة هي من لزامات الدعوة الرسالية تكملة للحجة ، وإيضاحا عمليا للمحجة (وَقالَ الْكافِرُونَ) بالتوحيد والرسالة (هذا ساحِرٌ) يسحرنا بكلامه «كذاب» في دعوته ، ومن ادلة كذبه دعوته الى خلاف الأصل :

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ)(٥).

وي! كأن الأصل الأصيل في الالوهة هو الآلهة ، فالداعي الى إله واحد يدعو الى شيء عجاب! وترى كيف انقلب الباطل أصلا والأصل باطلا حينما يتعود الإنسان على باطل ودون اي برهان ، إلا تعاقب الآباء القدامى على اصالة العدد ورغم ان الأصل بين المشركين ـ ايضا ـ إله واحد هو خالق الكون : «ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل فأنى تؤفكون»؟! ... ومن ثم اختلقوا له أندادا ليضلوا عن سبيله ، وعلى مرّ الزمن وتوالي القرون تناسوا ذلك الأصل ، وعاكسوا امره بخلاف الأصل ، فليأت من يدعي الوحدة ببرهان!

رغم ان الواحد متفق عليه والزائد مختلف فيه ، وعلى مدعي الزيادة ان يأتي ببرهان! فهنا يصور النص مدى دهشتهم من هذه الحقيقة الفطرية العقلية ، التي تصدقها كافة البراهين (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ

٢١٨

عُجابٌ) لا يخلد بخلد ، فهو ـ إذا ـ جعل مختلق ، وتآمر مدبر يراد من حزب الدعوة الرسالية :

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ)(٦).

هناك «يراد» تحريف الجماهير عن الآلهة في دعوة مبيتة مختلفة بغية الرئاسة وهنا «يراد» ان تصبروا على الهتكم ،! ولا تسمعوا لهذه الدعوة التي هي بدع من الدعوات! إذا ف «امشوا» ابتعادا عن هذه الدعوة العوجاء الهراء (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) وهم اصل الألوهة.

وفي «وانطلق» تلميحة الى انهم احتسبوا مقامهم لسماع هذه الدعوة اسرا لعقيدتهم السليمة ، وتسليما لها الى غير سليمة ، فلذلك «وانطلق» عن اسرهم ، وصبرا على حريتهم في عقيدة الآلهة!

فقد انقلبت حرية العقيدة ـ الفطرية العقلية والعلمية ـ لديهم أسرا وأسر العقيدة حرية ، كما انقلب اصل الإله الواحد الى الآلهة! وهكذا يخيل الى من رانت قلوبهم وعميت بصائرهم ان يعكسوا امر الحق والباطل ، تصويرا لكلّ بصورة الآخر ، وهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى.

(ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ)(٧).

وكأن الملّة الآخرة هي الأخيرة قبل الإسلام : المسيحية ، التي شاعت فيها اسطورة التثليث؟ ام وملة اخرى ممن عاصروهم حيث الإشراك أصبح سنة شاملة تحلّق على أكثرية الأجواء ، وهم ـ بطبيعة الحال ـ لا يعاشرون إلّا اضرابهم المشركين مهما اختلفت صنوفه.

وهكذا يكون اهل الباطل ، انهم لا يفتشون عن الحق بل

٢١٩

ويستوحشون من أهله ، فبالطبع لا يسمعون إلّا ما هم من أهله ، فيأخذونه حجة على الحق وأهله!

وهذه طريقة مكرورة ماكرة في الأجواء الطاغوتية ، حيث يصرف فيها الطغاة جماهيرهم الأذيال عن الاهتمام بصالحهم العقائدي والبحث وراء الحقيقة المنشودة ، حيث اشتغال الجماهير بمعرفة الحقائق خطر عليهم ، إذ يكشف أباطيلهم وأضاليلهم ، فيصعب بذلك استحمارهم.

وقد تلمح (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) بأنهم كأنهم استضعفوا أمام داعية الحق ، فلينطلقوا عنهم خلاصا عن أسرهم بأسرهم ، وصبرا على آلهتهم المظلومين المهاجمين (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) بهم من مسّ لكرامتهم!

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ)(٨).

وإذا كان الذكر ينزل على بشر مثلنا ، فكيف أنزل عليه الذكر من بيننا ونحن أولى به منه ، وليس ذلك العجاب لأنهم عرفوا الذكر ثم شكوا فيمن أنزل عليه (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) إذ ما عرفوه ، ولذلك أنكروه ، وإذا عرفوه فهم قد (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) حتى يثوبوا ولات حين مناص!.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ)(٩).

لذلك فلهم الخيرة في نزول الرحمة على من يشاءون ، دون ربك ، (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) (١٧ : ١٠٠) (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٤٣ : ٣٢).

٢٢٠