الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ٢ فَالتَّالِياتِ ذِكْراً)(٣).

أدلة ثلاثة متتاليات ، متفرعة على بعض ، صافات فزاجرات فتاليات ، تاتي مثبتة لتوحيد الله بصورة القسم وسيرة البرهان ، توحدا لهذا المثلث فيما يصفّ ويزجر ويتلو.

أترى «الصافات» هي ـ فقط ـ الملائكة : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (٣٧ : ١٦٦)؟ والملائكة ليسوا إناثا وإن كانوا هم من الصافين! أم هم النبيون؟ فكذلك الأمر وأحرى إلّا يصاغوا في صيغة الأناث (١)! أم إنها هي الطاقات الصافات ملائكية وبشرية أمّا هيه ، جنود ربانية مصطفّة في أماكنها السماوية والأرضية : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ولو أن في الكون الهة متشاكسة لأصبحت مثلث الصافات في رسالاتهم التكوينية والشرعية ، متناحرة متشاكسة : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) فتناسق الصافات ووحدتها في اتجاهاتها برهان لا مرد له على وحدة الموجّه: (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ).

فملائكة الله طاقات صافات في صفوف متراصّة على صنوفها المختلفة ، ناظرين أمره سبحانه ومنه تنزيل الوحي ، ورسل الله صافات أخرى على درجاتهم لتلقّي الوحي ثم إلقاءه على المرسل إليهم ، دونما تخلف قيد شعرة ، والطاقات الكونية كلها صافات صاغية لأمر الله في تدبير الكون مهما كانت وسائط مسيرة امّا هيه؟ ف ـ (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٠٠ ـ ٤ ـ القمي في الآية قال : الملائكة والأنبياء (عليهم السلام).

١٢١

الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ...) (٦٧ : ٥)

و «صفا» في تنكير التعظيم يعظم موقف صفيفها جنودا متراصة دونما فشل ولا فتور.

«فالزاجرات» هي الطاقات التي تزجر وتمنع عما زجر الله من هؤلاء الثلاث في شرعة وتكوين ، وهل هي الصافات نفسها في صفة ثانية زاجرة ، ومن ثم التاليات؟ كأنها هي! فالصافات هي الطاقات المتحضرة لتطبيق أوامر الله ، وتختصر أعمالها وتحتصر في سلب : «فالزاجرات» ثم إيجاب «فالتاليات». وإنها تمثّل كلمة التوحيد (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) في بعدي ، «زاجرات وتاليات» نفي ثم إثبات ، وفي : أنها لا تختلف فيما تحمّل ، ولا تتخلف عما يؤمل ، صافات زاجرات تاليات في وحدة صفوف وتوحيد صفوف مهما اختلفت صنوف الصفوف.

(فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) تزجر الشياطين عن تدخلاتهم في وحي الله وسائر فعله الصارم ملائكية ، وتزجر الدعايات المضللة عن فاعليها ، بشرية رسالية وما تلاها ، وتزجر التهرجات الكونية عن إفسادات لا قبل لها إلّا من الله.

(فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) ملائكة على الرسل ، ورسلا على المرسل إليهم ، وآيات آفاقية وأنفسية تتلوا ذكر الله لمن أبصر بها فبصّرته ، ولمن أعرض عنها فأعمته.

وهذه الثلاث في كل من الزاجرات والتاليات متوافقات متتاليات تعضد بعضها بعضا ، فكتاب التكوين والتشريع هما من كاتب واحد (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ)؟ :

١٢٢

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) (٤) (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ)(٥).

ومع الصافات الزاجرات التاليات ، فالسماوات والأرض تشهدان وما بينهما والمشارق (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ)

هنالك للكواكب الناجمة السيارة مشارق ، كما لها مغارب ، فللشمس وحدها مشارق عدد أيام السنة ، وفي حساب أدق (١) عدد الآفاق التي تشرق عليها وتغرب منها ، فالأرض في دورتها حول الشمس تتوالى المشارق كما المغارب ـ على بقاعها المختلفة ، وعلّ هنا «رب المشارق» فقط دون والمغارب ـ كما في غيرها : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ) (٧٠ : ٤٠) علّها لمناسبة المشبّه به وهو شروق الوحي من شموس الهداية الإلهية ، بل والكواكب هي مقاذف إلى من يخطف منه الخطفة في الملإ الأعلى! :

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ!)(١٠).

آيات خمس حول النيازك النارية ، هي في الملك واحدة (٢) وفي كلّ

__________________

(١) بهذا الحساب في كل ثانية ام آن مشرق ومغرب ، ففي اربع وعشرين ساعة حسب الثواني للشمس فقط / ٥١٨٤٠ مشرقا ومغربا ففي السنة ١٨٦٩١٥٦٦٠٠ مشرقا ومغربا.

(٢) «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ...» (٥) راجع ج ٢٩ ص ٢١ الفرقان ففيه تفصيل من رجوم النجوم.

١٢٣

من الجن (١) والحجر ثلاث (٢) اثنتا عشرة آية في ساير القرآن تتحدث عن الشهب الثاقبة والنيازك النارية المقذوفة من مدفعيات الكواكب بالحرس الشديد ، وآيات الجن تختص بالحرس الشديد والشهب منذ الوحي الأخير ، والأخرى تعم تأريخ الرسالات وما قبلها منذ خلقت الكواكب.

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ)(٦) الكواكب تاتي في الملك وفصلت «مصابيح» : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) (٥) وفي الحجر «بروج» وفي «ق» فقط تزيين السماء بها (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها) (٦) تعبيرات ثلاث عن زينة السماء ، كل يعني معنى في موقفه الخاص ، وعلّ أشملها لمدن السماء وبروجها ومدفعياتها «الكواكب».

و (السَّماءَ الدُّنْيا) صفة بموصوفها تعني أدنى السماوات السبع إلينا ساكني هذه الأرض ، أم وساير الأرضين وكما فصلت في الطلاق وفصّلت ، ف ـ «الدنيا» هنا مؤنث الداني من الدنو دون الدني الدنائة ، فليست «سماء الدنيا» ـ مضافة ـ دون الآخرة ، إذ للدنيا سماوات سبع لا واحدة ، فهي سماوات الدنيا دون (السَّماءَ الدُّنْيا)!

«بزينة» لا فقط لأهل هذه الأرض ، بل ولكلّ الناظرين أيّا كانوا

__________________

(١) «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً. وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» راجع ج ٩ ص ١٧٧ الفرقان ففيه بحث يخص الحرس الشديد والشهب وانها هناك خاصة بمطلع الوحي المحمدي.

(٢) «وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ ، وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨)».

١٢٤

(وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) وهم كل من له أن ينظر من ساكني هذه المعمورة أم سواها من مدن السماء.

و «زينة» ك ـ «مصابيح» و «بروجا» مواصفات ثلاث ل ـ «الكواكب» وهي تستغرق الكرات السماوية كلها ، ولو كانت «كواكب» لأبقت مجالا لكواكب أخرى في سماوات أخرى ، ولكنها «الكواكب» جمعا محلّى باللام يفيد الاستغراق المطلق المطبق لكلّ ما يسمى كوكبا ، ثم «وحفظا» مواصفة أخيرة لهذه الكواكب.

ولقد خيّل الى بعض القاصرين قصر «الكواكب» على التي يراها أهل هذه الأرض بعيون مجردة أم ومسلحة ، ودون قصرها خرط القتاد!.

و «الناظرين» يعم النظر بالعيون المسلحة كما يعم كل الناظرين هنا وفي سائر العالم ، فهي ـ إذا ـ كل الكواكب في كل العالم وقد زينت بها السماء الدنيا ، فهي إذا كلها في السماء الدنيا وكما تنتشر كلها في الأخرى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) (٨٢ : ٢) فكما السماء تعم السماوات كلها ، كذلك الكواكب تعمها كلها ، ف «زينة الكواكب» تعمها على سواء.

(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ)(٧) منذ تكوينها والشياطين ، وأما غير الشياطين من الجن فقد كانوا يتسمّعون ويسمعون حتى الوحي الأخير (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً).

و (كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) لا يخص شياطين الجن فإنهم بعضهم لا كلهم ، فليست لغزاة الجوّ من شياطين الإنس حظوة من الملإ الأعلى على أية حال ، مهما عزل المؤمنون من الجن والإنس عن السمع منذ الوحي الأخير ، ولم يكونوا قبله من المعزولين.

١٢٥

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ)(٨).

لا يتسمعون إلى الملأ الأعلى مهما حاولوا : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢٦ : ٢١٢) «ويقذفون» بالنيازك النارية (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) إذا تدنّوا تسمّعا ، ولا يقذف إلا من تسمّع قذفا لدحره دون ثقب بالثواقب :

(دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) (٩) قذف ودحر لمن تسمّع لكيلا يسمع

أترى «دحورا» هي جمع الدحر بمعنى المصدر؟ أو اسم المفعول؟ أم هو المصدر مفردا؟ مفعولا له أو مفعولا مطلقا؟

معنى الدحر مفردا بعيد فإن لفظه لفظه لا دحورا ، فقد تعني جمع الدّحر بمعنى المفعول مبالغة كأنهم نفس الدحور ، ليس لهم إلا اندحار وفرار ، هو حالهم إذ يسمعون فلا تتاح لهم فرصة وما يستطيعون (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) : خالص دائب يوم الدنيا إذ يعيشون اندحارا في ترذّل عما كانوا يشتهون ، وبأحرى يوم الأخرى فهم في جهنم خالدون.

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)(١٠).

يقذفون من كل جانب لدحرهم دون ثقبهم حيث الجريمة هي التسمع في سمع ولمّا تقع ، يقذفون دحورا (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) اختلاسا واستراقا (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٥ : ١٨).

ذلك الشهاب والنيزك الناري يتبع الخاطف المسترق ويثقبه ، مبينا في الجو لكل مستبين ، ومبينا أن هناك خطفة واستراقا ، ومبينا أنهم «لا يسمعون» و (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ).

١٢٦

و (شِهابٌ ثاقِبٌ) يثقب بنوره الظلام ، ويثقب خاطف الخطفة فلا يدعه يرجع إلى ناظريه بسلام ، فلا يخطئ ثاقبه هدفه كما يرام.

ويا لهذه الكواكب البروج المصابيح الزينة كيف أصبحت من واجهة أخرى غيبية رجوما ثاقبة للشياطين ، كوزارة الدفاع السماوية ، حاوية تلك المدفعيات والمقاذف الجبارة ، تقذف المتسمعين من الشياطين دحرا ، وتتبع الخاطفين المسترقين ثقبا ، فلا تبقي متسمعا إلّا دحرته ولا خاطفا إلّا ثقبته

فالملأ الأعلى في حفاظ دائب مكانا ومكانة ، فالمحادثات الغيبية لهم لا تعدوهم إلى مردة الشياطين ، مهما تحرّصوا ولكي يتخرسوا على الغيب بخليطات من الملإ الأعلى وخيالات وهراءات من الأدنى ، فيخيّلوا إلى البسطاء أنها كلها من صلب الغيب.

إذا ف ـ «الكواكب» داخلة في عسكر (الصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) في معسكر سماوي حارس ، وبالأحرى للملإ الأعلى في الأرض وهم الأنبياء ومن يحذو حذوهم ، بأحرى لهم أن يحفظوا عن استراق مردة الشياطين ومسّهم وجسّهم ، حيث الملأ الأعلى في الأرض هم الأصلاء في مشارقهم ، والأعلى في السماء هم الوسائط الفروع!.

هذه من أهداف الشهب الثاقبة والنيازك النارية ، يكشف الوحي عن وجهها القناع ، ثم هناك أهداف أخرى كشف العلم عنها أم لم يكشف ، دون مطاردة ومناحرة بينها ، فالناكر لهذه الملحمة الغيبية لا يرمي إلّا في الظلام خرسا بالغيب.

وترى من هم الملأ الأعلى المحظور التسمّع إليهم وأين هم؟

الملأ هو الجماعة التي تملأ العين ، وهم في المكانة بين أدنى وأوسط وأعلى ، والأدنى هم أكثر ما جيء بهم في القرآن ، ثم الأوسط كملإ

١٢٧

سليمان : (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٢٧ : ٢٨) وليس الأعلى إلّا هنا وفي ص : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٧٠) فالملأ الأعلى هم أعلى مكانا مطلقا ، ومكانة بالنسبة لمن سوى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وليس اختصام الملإ الأعلى إلّا حوارا في أنباء الغيب ، وأنباءهم غيب عن أهل الشهود والغيب ، وحتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلّا ما علمه الله ، ف ـ «ما كان» تضرب إلى ماضيه قبل أن يوحى إليه بما أوحي (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٧٠).

ولأن الكواكب (حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) فهي إذا أمكنة الملإ الأعلى فيها وبينها في أجوائها ، فليس لأي شيطان مارد التسمّع إليهم اقترابا إلى أمكنتهم.

ومن ثم كيف يواصل الشياطين في تصعّدهم إلى الملإ الأعلى يسّمّعونهم ، وهم عارفون تجربة وتكرارا أنهم يدحرون ويقذفون من كل جانب ، أو يتبعهم شهاب ثاقب؟

من الجواب ـ إضافة إلى واقع ذلك التصعّد المكرور ـ أن الاستماع إلى الملإ الأعلى من أهم غاياتهم ليتنزلوا على كل أفاك اثيم : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ. تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) (٢٦ : ٢٢٣) وكلما كان الهدف أسمى فالهادف إليه أسعى ولحد إحداق الخطر أو إطباقه ، وكما يعاكسهم في الشرف المناضلون في سبيل الله ، فحتى إذا علم المخلصون منهم أنهم يقتلون لا يبالون بدارا إليه بكل إصرار.

ثم الشيطان هو من الجان (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ)

١٢٨

(١٥ : ٢٧) فكيف يصطدم بالنيزك الناري ، المخلوق من نار السموم؟

الشيطان مخلوق من النار وليس هو بعد خلقه نارا ، كما الإنسان المخلوق من تراب فلم يظل ترابا ، فكما يصدم الإنسان من تراب جامد وسواه من تراب ، كذلك الشيطان بشهاب ثاقب وسواه من نار ، ولا سيما أن في السرعة وقعتها ، حتى إذا كان المرمي أرخى من المرمي إليه!

وهل المدحورون بقذف أو شهاب هم ـ فقط ـ كل شيطان مارد يروم التسمّع فيرمى؟ أم وكل غاز للفضاء وإن لم يتسمع ، في إمكانية السمع كالجن المؤمنين ، او عدمها كغزاة من الإنس؟

آيات الرجوم والشهب والمقاذف تختص كل شيطان رجيم : اللهم إلّا آيات الجن حيث تعم الجان المؤمنين ، فإذا هم لم يقعدوا مقاعد للسمع لا يدحرون ، وبأحرى غيرهم من الإنس إذ لا يستطيعون!

وأخيرا ترى أن السماوات الست ـ الباقية فوق الأولى ـ هي كلها خلو عن كواكب أمّاذا ، حيث «الكواكب» استغرقتها في السماء الدنيا؟

علّ الكواكب الزينة للناظرين تختص السماء الدنيا ، وقد تكون في سائر السماوات كواكب أخرى ليس لها ناظرون بأية عيون مجردة ومسلحة ، أم ان ناظري أرضنا وهم المحور الرئيسى انهم لن يستطيعوا أن ينظروا إلى الكواكب في غير السماء الدنيا بأية عيون ، كيف وهم عاجزون لحد الآن أن يتعمقوا بأقوى العيون المسلحة المجرات الفوقية لسمائهم؟

وعلى أية حال ليس لنا نفي وجود كواكب أخرى في سماوات أخرى ، ولا التعرف إليها إن كانت ، كيف ونحن حائرون في سمائنا وأرضنا ، سبحان الخلاق العظيم!

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ)(١١).

١٢٩

«أهم» بنو آدم (أَشَدُّ خَلْقاً) وأشدّه وأصلبه في البنية الجسدانية ـ فقط ـ ف ـ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) فلا أحسن منه في مطلق التقويم ، مهما كان «من خلقنا» من سواه (أَشَدُّ خَلْقاً) ، و «من خلقنا» يعم الجن والملائكة ممن نعرف ، وغيرهما من ذوي عقول لا نعرفهم ، وعلّهم يشمل سائر الخلق ايضا (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) (٧٩ : ٢٩) والسماء بما فيها من كواكب وغازات أشد خلقا من هؤلاء أجمع ، (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ...) غاز ما أصلبه وأصلده وقد خلقت منها الكواكب! ولكنما الإنسان (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) : لازم بعضه بعضا ولازق ، فبنية الإنسان أرخى من (مَنْ خَلَقْنا) فخلقه أهون بدءا من بدئهم ، فخلق أمثالهم يوم المعاد ـ وهو أهون ـ أسهل من خلق من خلقنا مرحلتين! (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أكبر لأنه أشد وخلقهم أسهل!

و (طِينٍ لازِبٍ) هو سلالة من طين : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (٢٣ : ١٢) (ثم جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها وعذبها وسبخها تربة سنّها بالماء حتى خلصت ولاطها بالبلة حتى لزبت) (١)

هناك الإنسان في أوّله تراب ، ثم بسنّ التراب ماء حما مسنون : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (١٥ : ٢٦) ثم سلا من صلصاله فطين لازب ، هو السلالة من طين بلا نتن من حمئه ولا يبس من ترابه ، فإنما (طِينٍ لازِبٍ)! (٢)

__________________

(١) نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين علي (عليه السلام)

(٢) الدر المنثور ٥ : ٢٧٣ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) قال : اللازب والحمأ والطين واحد كان اوله ترابا ثم صار حما منتنا ثم صار طينا لازبا فخلق الله منه آدم.

١٣٠

ذلك التراب الحمأ المسنون الطين اللازب في خلق الإنسان الاوّل ، فهل إن بنيه المتناسلين بالزواج كذلك مخلوقون من ذلك؟

كلّا في ظاهر التناسل بخلاف آدم المخلوق دون تناسل ، ونعم حيث النطفة تنتهي إلى التراب ، فإن الطعام كله ناشئ من التراب (١).

ومن ثم الطينة وهي النطفة تختلف في الإنسان ، رغم أن الطين الأول في خلق الإنسان الأول واحد (٢).

وقد تعم (طِينٍ لازِبٍ) الطين الأول وسائر الطين وهي سائر الطينة ، فكل طينة عليينية لازبة أشكالها ، وكل طينة سجينية لازبة اشكالها ، كما لزب الطين الأول في أجزائه.

__________________

(١) فالجنين يتولد من المني المتولد من الدم المتولد من الغذاء وهو حيوانيا ونباتيا يتولد من الطين اللازب ، اللازم بعضه بعضا!

(٢) نور الثقلين ٤ : ٤٠٠ ح ٩ في اصول الكافي محمد بن يحيى عن محمد بن الحسن عن النضر بن شعيب عن عبد الغفار الجازي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان الله خلق المؤمن من طينة الجنة وخلق الكافر من طينة النار قال : وسمعته يقول : الطينات ثلاثة طينة الأنبياء والمؤمن من تلك الطينة الا ان الأنبياء هم من صفوتها هم الأصل ولهم فضلهم والمؤمنون الفرع من طين لازب كذلك لا يفرق الله عز وجل بينهم وبين شيعتهم ...

١٣١

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ

١٣٢

تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ

١٣٣

وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤)

١٣٤

طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ)(٧٠)

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ)(١٢).

هنا أمران عجيبان هما عجاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من إصرار حماقى الطغيان على نكران المعاد وأدلته واضحة وضح النهار ، إذ هم معترفون بأشد من المعاد وهو الخلق الأول للمعاد ، وخلق السماوات والأرض.

ثم عجابهم من إصرار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعجابه حين ينكرون ، لحدّ «ويسخرون» من ملحمة المعاد الحساب ، ولأنهم غافلون فلا يذكرون ما هو أشد وأصعب من المعاد ، لكن :

(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ)(١٣) كلّما توالت عليهم ذكريات المعاد لإمكانيته بأحرى من الخلق الاول ، ولوجوبه قضية العدل والحكمة الإلهية ،

١٣٥

«لا يذكرون» ـ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) عن غيّهم على عيّهم في الإجابة عن أسؤلة الوحي حيث تبكتهم وتسكتهم!

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ)(١٤) فآيات الله البارعات التي هي مواد الذكرى والإيمان بالله ، تنقلب عند هؤلاء ـ المقلوبة قلوبهم والمعقولة عقولهم ـ موادا للسخرية ، يطلبونها وسائل الهزء بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته ، ماء يزيدهم عطشا ودواء تزيدهم داء : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ):!

(وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)(١٥).

فهل «هذا» نبأ الرسول العظيم أنكم ستحشرون؟ وليس النبأ أيا كان سحرا مهما كان كذبا! أم «هذا» برهانه القاطع وتبيانه اللّامع الذي لا قبل له ولا جواب عنه ، فهو يقنع العقول في كافة الحقول؟ (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) (٥٢ : ١٥) أفكلما لا يلائم أهواءكم وما تشتهون ، إنه سحر مهما برهنت له براهين حسية وعقلية وفطرية «وماذا بعد الحق إلا الضلال المبين»!

الرسول يدعي أمرا ببرهان ، ويدعوكم لتصدقوه دون مجازفة ، ثم أنتم تنكرونه وتكذّبون دونما برهان ، إلّا دعوى جازفة جارفة (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) فما دائكم؟ وما دوائكم؟! (أَفَسِحْرٌ هذا) لقيلكم :

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)(١٦) وقد خلقكم اوّل مرة ولم تكونوا شيئا مذكورا! وقد خلق السماوات والأرض وهو أشد من خلقكم اعيانكم وأمثالكم!

(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ)(١٧) وهم أبعد عهدا في موتهم ، فترابهم وعظامهم؟ وهم أعظم منا فأبعد أن يتقبلوا إعادة في المعاد؟ وهم وآباؤهم سواء أمام القدرة الحكيمة!

١٣٦

ولقد كان تأصيل الآباء القدامى ـ في أي أصل ـ من الخرافات الجارفة عند الجاهليين ، فإذا تسهلوا في أمرهم أنفسهم استصعبوا ذلك الأمر من آبائهم الأولين ، وهم على سواء فيما لهم وعليهم ، وآباءهم كأمثالهم كانوا أبناء آباء لهم قبلهم وحتى ينتهى إلى آدم (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) والجواب الصارم عن كل هذه الاستبعادات :

(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ)(١٨)

«نعم» ليست إجابة عن سئوال استعجاب مجردا عن دليل ، حيث البراهين تحتف بهم من بين أيديهم ومن خلفهم وهم بكم عن جوابهم أنفسهم «نعم» وهنا إضافة «وأنتم» الأبناء الآخرين والآباء الأولين «داخرون» : أذلّاء صاغرون ، أمام القدرة الحكيمة : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ).

وليس يطول بين «نعم» في إجابة لفظية ، وبين «نعم» في إجابة واقعية ، فإذا هم أمام مشهد من مطوّلة المشاهد ومهوّلتها ، يلتقي فيها الوصف بالحوار ولات حين فرار :

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ)(١٩)

في غمزة عاطفة ، وومضة خاطفة ـ فقط ـ قدر ما تطلبه زجرة واحدة : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ). (٧٩ : ١٣) (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) ما كانوا ينكرون ، ينظرون أنفسهم مبعوثين ، وينظرون حق الوعد يوم الدين بعد ما كانوا يوم الدنيا عنه عمين! (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ).

١٣٧

الخلق الأول لبني الإنسان كان يتطلب تدرجا في تنقّلات بزجرات واقعية : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٩٠ : ٤) وفي المعاد زجرة واحدة : طردة بصوت قارع هو الصيحة والنفخة الثانية في الصور ، ونقرة في الناقور (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) وكما في خلق آدم الأول (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٢١ : ١٠٤) (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٦ : ٧٧) أترى كما النفخة هي للناكرين يوم الدين زجرة ، كذلك هي للمصدقين زجرة؟ وهي بداية العذاب! كلا ، فانها لمن (قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) كأولى ويلة لهم! دون سواهم.

ثم «هي» في «إنما هي» تعني الصيحة والنقرة والنفخة ، فهي للناكرين زجرة وللمصدقين نفحة ، مهما ليست هي في ذاتها إلّا هيه ، فلكلّ شاكلته يوم الرجعة (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) «... بالساهرة»!

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ)(٢٠)

نقلة قاصدة من برهان الواقعة ـ لمّا لم يك ينفع ـ إلى واقعة البرهان ، تستعرض معرض الويل والعويل من حصيلة الزجرة الواحدة علّهم ينتبهون ، وعن غيّهم يرجعون!

«يا ويلنا» كيف كذبنا يوم الدين رغم براهينه القاطعة! يا ويلنا مما وقعنا فيه نتيجة تكذيبنا ف (هذا يَوْمُ الدِّينِ) : الطاعة ، حيث تبرز في جزاء وفاق : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).

وبينا هم في قولتهم الويلة ، إذا لهم بويلة أخرى تقرعهم من حيث لا يحتسبون ، كما لم يحتسبوا حسابا ليوم الدين :

١٣٨

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)(٢١).

خطاب العتاب لأهل العذاب والتباب من رب الأرباب ، أمّن يؤمرون بهذه القولة العاتبة ، وليس من كلامهم ، إذ «كنتم» خطاب ، فمن هو المخاطب منهم الخارج عن «تكذبون»؟ وقضيته ـ إذا ـ «كنا به نكذب» تلاوما بينهم أنفسهم ، ثم «احشروا ...» تلوه دليل ثان أنه خطاب الله.

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) بين المكذبين والمصدقين : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (٩٠ : ٤) و (يَوْمُ الْفَصْلِ) بين كل حق وباطل مزيجان يوم الدنيا ، وكذلك كل فصل يتطلبه (يَوْمُ الدِّينِ) فصلا بالعدل والفضل ومن ثم خطاب للزبانية تحقيقا لجزاءهم الوفاق مع كل الرفاق :

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ)(٢٣).

وترى هؤلاء (الَّذِينَ ظَلَمُوا) يحشرون إلى صراط الجحيم ، فما ذنب أزواجهم بعولة أم زوجات؟ فإن كانوا من الذين ظلموا شملتهم (الَّذِينَ ظَلَمُوا) وإن كانوا من الذين عدلوا فقد سبقت لهم الحسنى ، ف (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (٢١ : ١٠١) بعولة أم زوجات أو سواهم؟.

(الَّذِينَ ظَلَمُوا) هنا هم أصول الظلم والضلال ، ف «ظلموا» تضرب إلى عمق الماضي وتجعل حياة أصحابها ظلما ، فهم الذين عاشوا ظالمين بحق الحق وبحق أنفسهم وعباد الله ، ف «أزواجهم» هم أشباههم (١) وقرنائهم الذين عاشوا على هامش الضالين يتبعونهم فيما هم ،

__________________

(١). نور الثقلين ٤ : ٤٠١ ح ١١ ـ القمي قال قال : أشباههم.

١٣٩

بعولة أم زوجات أم أية أقارب أو أغارب ، ولذلك يتباغصون في حوار : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) فالأوّلون هم فروع الضلالة والآخرون المسؤولون هم الأصلاء.

وهل إن (ما كانُوا يَعْبُدُونَ) تشمل كل المعبودين من دون الله ، ملائكة ونبيين إلى جنب طواغيت وأوثان؟ كلّا! حيث المعبودون الثلاث لا يستحق كلهم الجحيم ، فإذا الطواغيت يعذبون لطغيانهم وتألههم لأنفسهم ، ثم الأوثان والأصنام تحشر مع عابديها الجحيم تعذيبا ثانيا للعابدين ، فما بال المسيح (عليه السلام) وملائكة معبودين يعذبون وهم براء : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ ... إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ...) (٥ : ١١٧) و (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) (٢١ : ١٠١).

لذلك تاتي هنا «ما» دالة على غير ذوي العقول من أصنام ، أم وطواغيت بردفها في أنهم لا يعقلون ، وكما أتت في غيرها (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٢١ : ٩٨) (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)(٢٥ : ١٧).

وحتى إذا أتت فيما أتت «من» اختصت بغير (الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) ولأنهم صالحون.

احشروهم : جمعا بينهم يتراءون بعضهم البعض (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) فإذ لم يهتدوا يوم الدنيا إلى صراط مستقيم ، فليهتدوا يوم الدين إلى صراط الجحيم ، والصراط هو السبيل المستقيم الذي يبتلع سائله دونما

١٤٠