الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

انه ارتداد مليا أو فطريا ، ولا يتنافى وجوب قتل المرتد كما يقتل القاتل أمن ذا وتقبل توبته ، وقتله من كفارته ، فالآية ـ إذا ـ تشمل مثلث الإشراك بالله دون سواه ، فالله لا يغفر الإشراك لمن مات مشركا ، ويغفره لمن كان مشركا ثم آمن ، أم أشرك بعد ما آمن ، تقية أم ارتدادا.

ولأن (الذُّنُوبَ جَمِيعاً) تعم كافة الذنوب شركا فما دونه ف «يا عبادي» تعم كافة المذنبين مشركين ومن دونهم ، حيث ينظر إلى واقع العباد فينسبهم إلى نفسه ، لا إلى عبادتهم حتى تختص بالعابدين وليس لهم الذنوب جميعا ، فالآية عامة في منطوقها ، مهما كان المؤمنون أحرى بها.

ولأن الذنب هو الآخذ بذنب الشيء وهو كل فعل يستوخم عقباه ، فلا يخص الصغائر ، ولا الكبائر دون الشرك والكفر ، والإسراف على النفس ـ وهو تجاوز الحد عليها ـ يشمل ثالوث الذنب دون إبقاء ، وقد عد الله تعالى التبنّي وما فوقه من دركات الكفر من الذنوب : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ...) (٥ : ١٨) وخرافة البنوة الإلهية وسائر كفرهم من ذنوبهم ، وكما (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) (٨ : ٥٢) ، وكل هذه وأضرابها إسراف من المسرفين على أنفسهم لا على الله إذ لا تنال ساحته بما يفتعله خلقه.

أترى كيف يغفر الشرك بين الذنوب جميعا و (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)؟

إنه الغفران المطلق للشرك ، أن يغفر من مات على الشرك كما قبله ، لا مطلق الغفران حيث يغفر الشرك قبل الموت ، وآية الإسراف تعني مطلق

__________________

ـ بعذاب عذبوه فنزلت هؤلاء الآيات وكان عمر بن الخطاب كاتبا فكتبها بيده ثم كتب بها الى عياش والوليد والى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.

٣٦١

الغفران ، لا سيما وأن موردها التوبة عن الشرك قبل الموت ، دون آية الشرك حيث تعني بعد الموت ، ثم و (ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) بلا فوضى جزاف.

أترى آية الإسراف تسرف في غفران الذنوب دون شروط ، من توبة أو شفاعة أمّا هيه من مكفراتها؟ وآية الشرك تربطه بمشيئة الله وقد تعني شروطاتها المسرودة في آياتها!

كلّا فإنها إضافة إلى سائر آيات الغفران ، المحدّدة حدوده ، المقرّرة شروطه ، هنا تأمر بالإنابة إلى الرب ، والإسلام له ، واتباع ما أمر به ، مما يجمع جملة شروطات التوبة (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ... وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً ...) إضافة إلى ذكر أمد التوبة أنه قبل الموت لا بعده ، فإطلاق آية الإسراف مربوط بالتوبة أم أي مكفر قبل الموت ، ولا سيما بالنسبة لذنب الشرك (١).

وترى أنها تغفر حقوق الناس بجنب حقوق الله؟ وحقوق الناس لا تغفر إلّا بعد ان يغفر الناس! حيث «الذنوب ثلاثة فذنب مغفور وذنب غير مغفور وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه ، ومن الذي لا يغفر مظالم العباد ...» (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٣٢ ـ اخرج عبد بن حميد عن أبي مجلز لاحق بن حميد السدوسي قال : لما انزل الله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) (يا عِبادِيَ ...) قام نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخطب الناس وتلا عليهم فقام رجل فقال يا رسول الله والشرك بالله؟ فسكت فأعاد ذلك ما شاء الله فأنزل الله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) أقول : استثناء الشرك يخص بما بعد الموت لمن مات مشركا.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٤٩١ ح ٧٥.

٣٦٢

إنها مغفرة على شروطها المسرودة في محالها ، وهذه هي الآية المطلقة الأمّ في باب الغفران ، تلميحا إلى مثلث من شروطه جملة والتفصيل في سائر آيها دون إهمال ولا فوضى جزاف.

وآيها تمنع عن القنوط من رحمة الله ما كان للغفران مجال (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (١٥ : ٥٦) ولكن أكثر الناس (إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) (٣٠ : ٣٦).

وليست رحمة الله على سعتها تصيب إلّا من يأهلها ، قريبا أم بعيدا بدرجاتها (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢ : ٢٢٨) و (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٧ : ٥٦).

إن الغفران رحمة لمن أسرف على نفسه ما لم تكن ظلما على الصالحين ، وتشجيعا للإسراف يوم الدنيا وتعطيلا للحساب يوم الدين ، فلا تشمل ـ لأقل تقدير ـ الشرك وسائر الكفر لمن مات كافرا ، مهما شملت ما دونهما بشروطاتها العادلة والفاضلة يوم الدنيا ويوم الدين.

والرواية القائلة «والذي نفس محمد بيده لو لم تخطأوا لجاء الله بقوم يخطئون ثم يستغفرون فيغفر لهم» (١) حيث تشجّع على الخطأ معروضة على

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٣٢ ـ اخرج احمد وأبو يعلي والضياء عن انس قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : والذي نفسي بيده لو اخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم لغفر لكم والذي نفس محمد بيده لو لم تخطأوا ... واخرج ابن أبي شيبة ومسلم عن أبي أيوب الانصاري سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون فيغفر لهم.

٣٦٣

القرآن والسنة القاطعة ، فمضروبة عرض الحائط ، كالتي تؤيس عباد الله عن رحمة لله (١) فما هو إلّا عوانا بين الخوف والرجاء ، دون ترسّل اللّامبالاة في الأخطاء رجاء فوضى ، ولا تمحّل القنوط عن رحمة الله خوفا مطلقا ، فإنما هو كما قال الله (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ... وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ... وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ...).

و (يا عِبادِيَ) تذكير بأنهم ليسوا إلّا عباد الله ، و (الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) إسرافا في التخلف عن عبودية الله نكرانا لله ، أو اشراكا بالله ، أو كفرا بآيات الله ووحيه ، أم تركا لشرعة الله كلّا أو بعضا ، إسرافا يقنط العبد عن رحمة الله ويهبطه يأسا إلى نقمته ، ولكنه على إسرافه في أيّة دركاته يبشّر برحمة الله بعد ما ينهى عن القنوط منها ، وقد ولج في العصيان ولجّ في الطغيان ، شاردا عن الطريق ، ماردا عن الحق الحقيق ، ويا لها من رحمة واسعة نديّة رخيّة ، ولكنها ليست بفوضى رديّة ، فهناك الإنابة والإسلام للرب وإتباع أحسن ما أنزل.

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)(٥٤).

فلولا الإنابة قبل الموت فالعذاب بالباب وقد تقطعت الأسباب وحارت الألباب ، والإنابة هي الأوبة إلى أفياء الطاعة بعد ما أسرف في تركها ، رجوعا إلى الله نوبة بعد نوبة مرة بعد أخرى.

__________________

(١) المصدر اخرج ابن الضريس وابو القاسم بن بشير في اماليه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ان الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يرخص لهم في معاصيه ولم يؤمنهم عذاب الله ولم يدع القرآن رغبة عنه الى غيره انه لا خير في عبادة لا علم فيها ولا خير في علم لا فهم فيه ولا قراءة لا تدبر فيها.

٣٦٤

ثم إسلاما لله بعد إسلامه لغير الله ، إسلاما بقلبه وقالبه ، بجوارحه وجوانحه ، فلا يبقى من كونه ولا كيانه إلّا إسلام لله ، فأمّا أن يلفظ بالإنابة والإسلام وقلبه ساه وعمله واه ، فما هي بإنابة وما هو بإسلام! ولماذا الإسلام بعد الكفر وأحرى منه الإيمان؟ لأنه بعد الطغيان فيناسبه الإسلام وهو قبل الإيمان ومعه وبعد الإيمان ، درجات ثلاث من الإسلام ترجى على رسلها بعد الإنابة ، وأقلها التسليم في المظاهر خروجا عن الطغيان.

فهيّا أيها المسرفون قبل فوات الأوان (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) فإنما النصرة الرحمة قبل الموت ولمّا يأت العذاب.

فهيّا هيّا إلى الإنابة والإسلام ، فالوقت غير مضمون ، والرب غير ضامن ، وقد يحل الموت وهنا الفوت ولات حين مناص ، وقد أفلت الخلاص (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) إذ لا توبة بعد الموت ولا أوبة بعد الفوت.

ثم كما ليس الغفران إلّا بشروط ، كذلك الإنابة والإسلام هما على شروط :

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(٥٥).

وإنه القرآن (أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) واجب الإتباع علميا ومعرفيا وعقائديا وعمليا (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً) هنا أم بعد الموت (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) واجب الإتباع او واقع العذاب ، وقد تلمح بغتة العذاب بأنه عذاب الاستئصال (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) (٤٠ : ٨٥) أم ومعه عذاب البرزخ ومن ثم القيامة وأجمعه ثالوث العذاب ، وأيقنه الآخران ، وأتقنه الأخرى ، فاشعروا

٣٦٥

الإنابة الإسلام الإتباع (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً) فلا يفيدكم شعور بعده إلّا عذابا فوق العذاب :

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)(٥٦).

تفريطا في طاعة الله وعبادته حيث (أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أو تفريطا في الإنابة والإسلام والإتباع ، تقصيرا ذا بعدين (فِي جَنْبِ اللهِ) يتحسر عليه بعد فوات الأوان.

والجنب هو جانب الشيء إنسانا وسواه : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ...) (٣٢ : ١٦) (أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) (١٧ : ٨٣) وقد يستعاد للسمت القريب والناحية: (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ) (١٩ : ٥٢) (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) (٤ : ٣٦) أو يجرد عن القرب أيضا كما عن العضو ويبقى السمت والسبيل (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) (٣٧ : ٨).

ولأن الله سبحانه يتعالى عن الجنب العضو ، والسمت الناحية ، وحتى لو كان له هذا الجنب استحال التفريط فيه واقعيا وفي الإسراف على النفس ، فلم يقل «أسرفوا على ربهم» إذ لا ينال من ساحته أبدا! فجنبه ـ إذا ـ قربه وسبيله ووجهه وجهته ، تجريدا عن الزمان والمكان وكما في كل فعل أو صفة بجنبه سبحانه حيث يجرد كما يناسب التجرد الإلهي السامي.

إذا ف (جَنْبِ اللهِ) هو قربه ، وهو طاعته وعبادته المقربة إليه (١) وهو

__________________

(١) كما في نور الثقلين ٤ : ٤٩٦ ح ٩٤ في محاسن البرقي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال ان أشد الناس حسرة يوم القيامة الذين وصفوا العدل ثم خالفوه وهو قول الله عز وجل (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ).

٣٦٦

القريب لديه ، وهو السبيل اليه ، والمسرف على نفسه ، مفرّط في قرب الله فإنه قريب ، وأقرب إليه من حبل الوريد ، أفإسرافا في عصيانه بمحضره؟ وهو مفرّط في طاعته وعبوديته ، وهو مفرط في رسله وأوليائه ، الدالون إليه الحاملون أوامره ، وهو مفرّط في السبيل إليه رسولا ورسالة وطاعة وعبادة.

إذا فكل تخلف عن شرعة الله ، أصلية وفرعية ، إنه تفريط في جنب الله ، إن في توحيده ، او رسالته ، أمّن يحملون رسالته وهم درجات.

فكما أن نكران الله والإشراك بالله وترك طاعته وعبادته تفريط في جنب الله ، كذلك نكران الرسول القريب لديه ، الدال إليه ، تفريط في جنب الله ، ذلك ونكران وصيه الولي وأوصيائه الأولياء تفريط في جنب الله وكما يروى متواترا «جنب الله أمير المؤمنين (عليه السلام)» أو «نحن جنب الله» (١) بيانا لمصداق من جنب الله مختلف فيه بين الأمة ، إلحاقا له بجنب

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٩٤ ح ٨٢ في خطبة لعلي (عليه السلام) وأنا جنب الله الذي يقول : ...

وفي المناقب لابن شهر آشوب ابو ذر في خبر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يا أبا ذر يؤتى بجاحد علي يوم القيامة أعمى ابكم يتكبكب في ظلمات يوم القيامة ينادي يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وفي عنقه طوق من النار ، وفي الكافي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في الآية : جنب الله امير المؤمنين (عليه السلام) وكذلك ما كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع الى ان ينتهي الأمر الى اخرهم والقمي عن الصادق (عليه السلام) نحن جنب الله ورواه العياشي عن الباقر (عليه السلام) ، وفي المناقب عن الصادق والباقر والسجاد والرضا (عليهم السلام) جنب الله علي ، وفي بصائر الدرجات عن الصادق (عليه السلام) قال : أنا شجرة من جنب الله فمن وصلنا وصله الله ثم تلا هذه الآية ، وفي كفاية الخصام ص ٤٣٧ يرويه من طريق إخواننا عن محمد بن ابراهيم النعماني عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

٣٦٧

الرسالة المتفق عليها ، مصداقا ثالثا من جنب الله بعد الله ورسوله.

«وأنيبوا ... وأسلموا ... واتبعوا» حذار (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) مسرفة غير منيبة ولا مسلمة ولا متبعة (يا حَسْرَتى ... وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) للدين والدينين (١).

وهذه قولة صادقة من المسرفين الساخرين ، وقد تكون لهم أخرى كاذبة يكذبون بها ويعذبون :

(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(٥٧) وقد استحالوا تقواهم بما استحالوا هداهم من الله ، قولة جارفة في بعديها ، إنهم كانوا مضطرين في إسرافهم ، وكان مستحيلا على الله هداهم (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي ...)! وقولة ثالثة هي ترجّ للمحال (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(٥٨).

__________________

ـ وعن صاحب مناقب الفاخرة في العترة الطاهرة عن أبي بكر وعن ابراهيم بن محمد الحمدويني باسناده عن خثيمة الجعفي عن الصادق (عليه السلام) ، ويرويه من طريق أصحابنا عن محمد بن يعقوب عن موسى بن جعفر وعن امير المؤمنين (عليه السلام) وعن أبي عبد الله وعن ابن بابويه عنه (عليه السلام) وعن محمد بن عباس الماهيار عنه عن آبائه وعنه عن الباقر (عليه السلام) وعن الرضا (عليه السلام) وعن الشيخ في مجالسه عن الباقر (عليه السلام) وعن ابن شهر آشوب عن زين العابدين والباقر والصادق وزيد بن علي (عليهم السلام) وعن الطبرسي في الاحتجاج عن امير المؤمنين (عليه السلام) ومحمد بن الحسن الصفار في بصائر الدرجات والى سبعة عشر سندا عنهم عليهم السلام.

(١) إن هنا مخففة عن المثقلة اي وانني كنت لمن الساخرين.

٣٦٨

فإذا بجواب صارم عن هذه وتلك (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٥٩).

«بلى» إنني هديتك و (قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) التي بها يهتدى (فَكَذَّبْتَ بِها) أنت في خيار دون إجبار (وَاسْتَكْبَرْتَ) عنها بكل إصرار «وكنت» أمام هذه الآيات وبجنب الله (مِنَ الْكافِرِينَ).

ثم وجواب الكرّة هنا أن لا جواب ، أم (قَدْ جاءَتْكَ ...) من زمرة الجواب ، وقد فصل في غيرها (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (٦ : ٢٨) (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٤ : ٧٥) (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٣٣: ٩٩) ف (قَدْ جاءَتْكَ ...) إجمال عن هذين الجوابين وما أجمله! فالمسرفون على أنفسهم هم متحسرون في ثالوثه المنحوس ، بين متحسر على ما فرّط في جنب الله ، ومتقوّل على الله ما هو منه براء (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) ومترجّ مستحيلا له على الله (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) والجواب لفظيا هو الجواب (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي ...) وعمليا :

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ)(٦٠).

وقد تلمح (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) بعد هذه القيلات ، أنها قبل يوم القيامة ، حين يرون عذاب الاستئصال ، وحين الموت دون استئصال ، وهما بداية رؤية العذاب المحتوم حين لا يرجون عنها إفلاتا ولا محيدا ، وقد يؤكده أن قولة الكذب على الله يوم القيامة غير مسموحة ولا ممنوحة ، فكيف تقول نفس (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي ...) اللهم إلا سماحا لمزيد العذاب ، ليكون

٣٦٩

عذابا فوق العذاب ، وقد تلمح (حِينَ تَرَى الْعَذابَ) ان هذه القولة الثالثة لنفس القائل الأول والثاني ، بفارق أنها حين ترى العذاب : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦ : ٢٧) والثانية قبل رؤية العذاب حالة الحساب ، والأولى قبل الحساب (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) (٦ : ٣١) قولات ثلاث في حالات ثلاث لكل نفس مسرفة عليها.

ولأنهم واجهوا آيات الله بوجوه منكرة كافرة مستكبرة فهم يوم القيامة (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) بما سودوها قبلها (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ)؟ «وقد يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : يجاء بالجبارين والمتكبرين رجالا في صورة الذر يطؤهم الناس من هوانهم على الله حتى يقضى بين الناس ثم يذهب بهم إلى نار الأنيار ، قيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما نار الأنيار؟ قال : عصارة أهل النار» (١) أتراهم ـ فقط ـ المتكبرين على الله؟ كلّا وهم في دركات حسب الدركات ، من مستكبر على الله ، أو على رسول الله ، أم على أئمة الهدى أمناء الله ، ف «من ادعى أنه إمام وليس بإمام وإن كان علويا فاطميا» (٢) هو ثالث ثلاثة

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٣٣ ـ اخرج احمد في الزهد عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... وفيه بسند عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون الى سجن في جهنم يشربون من عصارة اهل النار طينة الخبال ، وفيه عن انس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ان المتكبرين يوم القيامة يجعلون في توابيت من نار يطبق عليهم ويجعلون في الدرك الأسفل من النار.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٤٩٦ في كتاب اعتقادات الامامية للصدوق وسئل الصادق ـ

٣٧٠

بين المتكبرين ، ومن ثمّ كل من ادعى مقاما روحيا ليس له ، كأن يحتل المرجعية العليا وفي العلماء من هو فوقه ، مهما اختلفت عذاباتهم بحساباتهم ، فمنهم من يخلد في النار مهانا ، ومنهم من يخرج بعد ما قضى منها وطره ، ومنهم من لا يدخلها.

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦١).

وكما يعذب الله الذين طغوا بطغواهم ، كذلك (يُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) بتقواهم ، حيث فازوا بها فوزهم العظيم ، فهو ـ إذا ـ ينجيهم «بمفازتهم» دون أية فوضى هنا أو هناك ، مهما كان هنا قضية الفضل وهناك قضية العدل (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى)!

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ

__________________

ـ (عليه السلام) عن هذه الآية قال : من زعم انه امام وليس بإمام ، قيل وان كان علويا فاطميا قال : وان كان علويا فاطميا ، أقول : هذا من باب الجري والتطبيق على المصداق المختلف فيه ، ورواه مثله في ثواب الأعمال عن أبي جعفر (عليه السلام).

٣٧١

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا

٣٧٢

إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٧٥)

٣٧٣

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(٦٢).

«الله» لا سواه لا استقلالا ولا مشاركة او معاونة (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) جملة وتفصيلا ، جماعات وفرادى ، وإحياء الأموات أمّاذا من خلق يظهر على أيدي الرسل ، كل ذلك من خلق الله يبرزها على أيديهم تدليلا على اختصاصهم بالله ورسالاتهم عن الله «وهو» لا سواه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) خلقه «وكيل» يكل أمره (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٧ : ٥٤).

وخالقيته لكل شيء مما أجمع عليه الموحدون ، بل والمشركون أيضا وكما سئلوا فأجابوا : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ...) (٣٨) وعلى حدّ المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «ليسألنكم الناس عن كل شيء حتى يسألوكم هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟ فان سئلتم فقولوا : كان الله قبل كل شيء وهو خالق كل شيء وهو كائن بعد كل شيء» (١) وأنما المسئول عنه «من خلقه» هو المخلوق ، لا كل شيء لأنه شيء ، فالله الأزلي الذي هو قبل كل شيء ، والابدي الكائن بعد كل شيء ، ليس من الشيء المخلوق حتى يسئل عنه «من خلقه»؟

ف (كُلِّ شَيْءٍ) بقرينة (اللهُ خالِقُ) يعني كل شيء مخلوق ، ولو أنّ كل شيء بحاجة إلى خالق ، خالقا ومخلوقا ، استحال وجود كل شيء ، حيث لا ينتهي إلى خالق غير مخلوق ، إذا فكل شيء أصبح مخلوقا دون خالق ، أم لا يوجد أي شيء!

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٣٣ ـ اخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

٣٧٤

هذا السئوال المتعنت هو نظرية البعض من فلاسفة الماركسية ، زاعما أن الوجود ـ أيا كان ـ لا يستغني عن علة تعاصره ، وافتراض موجود دون خالق يناقض هذه الضابطة.

وقد تغافلوا عن أن الحاجة إلى خالق ليست قضية الوجود بما هو وجود ، وإلّا كانت المادة الأولية الأزلية على زعمهم بحاجة إلى خالق ، وإنما هو الوجود الحادث المادي ، يسئل عمن خلقه لأنه مخلوق ، وهذا يهدم صرح أزلية المادة ويبني صرح الخالق الأزلي وراء المادة.

فوجاه قولتهم «من خلق الله إذا كان هو الخالق لكل شيء»؟ نقول : من خلق المادة الأولية إذا كانت هي المتطورة والمطوّرة لكل شيء. وجوابهم : أن المادة خالقة غير مخلوقة لأنها أزلية ، هو جوابنا وبأحرى : أن الله خالق غير مخلوق لأنه أزلي كما برهن به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجاجه المنيرة ، وإذا كان الله خالق كل شيء ، فكل شيء فقير إليه لا يملك لنفسه شيئا ، إذا (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يكل أمره فيما يكلّ في أمره ، ولولا وكالته على كل شيء ، إيكالا لها إلى أنفسها ، لزال كلّ شيء ، أو كلّ كل شيء فيما يصلحه ويدبر أمره.

أترى (كُلِّ شَيْءٍ) هنا وهناك يعم أفعال العباد؟ إذا فهم مسيّرون فيها لا حيلة لهم ، فلما ذا يثابون أو يعذبون؟! أقول : لا ونعم ، لا ـ حيث الشيء يعني شيء الذات ، لا وشيء الفعل مما له فعل ، وحيث يعنيهما أيضا فلا ـ حين يعنى خلقا لها ينافي التخيير ، ونعم ـ حين يعنى أنه الخالق للمختار واختياره وفعله بالاختيار.

فالفعل المختار له نسبة إلى الفاعل المختار حيث اختاره دون إجبار ، ونسبة أخرى إلى خالق كل شيء ، إذ لولا إرادته بعد إختيار المختار لما حصل الفعل المختار ، فإنه «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» وبعد كل

٣٧٥

ذلك فالخلق هو التقدير وهو منه على اي تقدير ، في شيء الذات وشيء الفعل دون أن ينافي الاختيار ، فالله هو المقدر تخييرا دون تسيير حيث يحضّر مقدمات الأفعال إبقاء لحال الإختيار وحوله.

ثم ترى كل ممكن شيء لإمكانية وجوده ، فليخلق ما أمكن إيجاده ، ولكنه لم يخلق إلّا ما يصلح في تقدير الحكيم دون سائر ما أمكن؟

نقول : كل شيء هو كل ما يوجد أم وجد أو هو موجود ، وهو بطبيعة الحال صالح لأن يخلق ، لا كلما يمكن إيجاده ، إلا بتأويل أن بإمكانه وفي قدرته أن يخلق كل ممكن ، ولكنه لحكمته لا يخلق إلّا ما يصلح في نظام التكوين! وليس ـ فقط ـ خالق كل شيء وكيلا عليه ثم لغيره تدبير كل شيء أم بعض الشيء ، بل و :

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٦٣).

«له» دون «وله» تلميحة إلى أن ذلك لزام خالقيته لكل شيء ووكالته على كل شيء ، ثم وتقديمه على «تقاليد ...» يحصرها له دون سواه ، فليست مقاليد السماوات والأرض لمن سواه استقلالا أم مشاركة أم معاونة.

والمقاليد واحدها مقليد ، كما الأقاليد واحدها إقليد وهما بمعنى ، أهو المفتاح؟ ولفظه «مفاتيح» كما آيتها ، بل هو من القلد الفتل ، والمقلاد مبالغة الفتل ، وهو أبلغ تطويق لما ينفصم بطبعه.

فالسماوات والأرض بأمورهما ، المنفتلة في ذاتها ، هي منفتلة لأبلغها

٣٧٦

بارادة الخالق لكل شيء ، الوكيل على كل شيء ، والسماوات والأرض ، صيغة أخرى عن كل شيء.

فكما أن الله هو خالقهما ، كذلك له مقاليدهما صدا عن الانفلات ، وسدا عن الانفراط ، وحجزا عن التفريط والإفراط.

فله ـ لا سواه ـ رتقهما وفتقهما ، وله فتح أبوابهما بخيراتهما وبركاتهما من إدرار الأمطار وإيراق الأشجار وسائر وجوه المنافع وعوائد المصالح ، مادية ومعنوية أمّا هيه.

ف (لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١٥ : ٢١) (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ...) (٦ : ٥٩) مقاليد ومفاتح وخزائن من الغيب والشهود ، فهو الذي يرتق وهو الذي يفتق ف (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ...).

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في هذا البين ، فإن لهم كل رين وشين ، إذ لم يفتحوا صفحات قلوبهم ووجوههم إلى آيات الله فيعتبروا بها ويتبصروا.

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) (٦٤) فبعد أنه الخالق لكل شيء ، الوكيل على كل شيء ، وله مقاليد كل شيء ، «تأمروني» أن «اعبد» خلقه (أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) الغافلون المتجاهلون ، عرضا سخيفا سحيقا نابعا عن الجهل المطلق المطموس والقلب المركوس المعكوس ، تأمروني ان اعبد غيره وأتركه ، أو ان أشرك به غيره في عبادته ، وهذه وتلك إذا قسمة ضيزى وضلال مبين ، وكما سوف تعترفون حينما أنتم في النار تسجرون : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

٣٧٧

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦٥).

الشرك أيا كان ومن أيّ كان وأيان يحبط العمل إلّا إذا كان قبل العمل الصالح النابع عن إيمان لاحق ، ومن الشرك الرئاء ، فإنه يحبط العمل المرائى فيه حتى وإن كان الرئاء بعده ، أم قبله ولمّا يتوب عنه ، وكما يستفاد ذلك الإطلاق من آية الكهف (... فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠) آيتان تتجاوبان في ذلك ، ولكن الثانية خاصة بالإشراك الرئاء ، والأولى تعمّه والإشراك بالله.

فالإشراك بالله أم في عبادة الله لا يقبل المصلحية ، أن يشرك الداعية مغبة أن يميل المدعو إلى توحيد الله ولن ، إذ لو كانت نيته صالحة لما تطلّب من الداعية إشراكا يميل ـ كما يدعي ـ إلى تركه ، وحتى إذا صدق في قولته فلا مبرر أن يفسد الداعية نفسه لإصلاح غيره ف (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (٥ : ١٠٥).

أترى النبي ـ على توحيده القمة الصارمة ـ يشارف أو يقارف إشراكا بالله حتى يتهدد ومن قبله من المرسلين (لَئِنْ أَشْرَكْتَ)؟ إنه ـ لو كان ـ لم يكن إلّا مصلحيا ظاهرا جذبا للمشركين إلى توحيد الله كما تطلبوه إليه ، أم هو من باب «إياك اعني واسمعي يا جاره (١)» لكي يسمعه المشركون

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٩٧ ح ١٠٠ عيون الاخبار عن ابن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أليس من قولك ان الأنبياء معصومون؟ قال : بلى قال فما معنى قول الله ـ الى ان قال ـ : فاخبرني عن قول الله (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) قال الرضا (عليه السلام) هذا مما نزل بإياك اعني واسمعي يا جاره ، خاطب الله بذلك نبيه وأراد به الأمة وكذلك قوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وقوله تعالى : ولولا ـ

٣٧٨

عن هذه الإذاعة القرآنية فيقطعوا آمالهم فلا يطلبوا إليه مشاركتهم في إشراكهم لفترة ، ويسمعه المسلمون فيعلموا أن إشراكهم بعد الإيمان أحرى بالإحباط ، إذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على محتده يحبط عمله لو أشرك ولن (١) ، فلا يعني «إياك اعني واسمعي يا جاره» انه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس هو المعني بالخطاب ، بل يعني تعميم الخطاب لغيره بالأولوية حين يعنيه (٢) وهذا لا ينافي العصمة حيث الخطاب يعني مثل قوله (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) فالعصمة ليست لتنافي التكليف بالواجب وترك الحرام مهما لن يترك الواجب ولن يفعل الحرام.

ففي (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) إذا ثلاث واجهات ، تكليف النبي استمرارا لترك الإشراك ، وقطعا لآمال من يريدون منه الإشراك مغبة إيمانهم ، وتهويلا للمؤمنين أنهم مأخوذون بالتكاليف الإلهية وبأحرى حين

__________________

ـ (أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) قال : صدقت يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(١) ومما يقرّبه ما في مناقب ابن شهر آشوب عن صحيح الدار قطني ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) امر بقطع لص فقال اللص يا رسول الله قدمته في الإسلام وتأمره بالقطع؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لو كانت ابنتي فاطمة فسمعت فاطمة فحزنت فنزل جبرئيل بقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) فحزن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزل (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) فتعجب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك فنزل جبرئيل وقال ، كانت فاطمة حزنت من قولك فهذه الآيات لموافقتها لترضى ، أقول هذا من باب الاولوية ان لو أخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باشراك وسواه فغيره أحرى دون ان ينظر الى محتده ومنزلته.

(٢) القمي عن الصادق (عليه السلام) ان الله عز وجل بعث نبيه بإياك اعني واسمعي يا جارة والدليل على ذلك قوله عز وجل : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) وقد علم الله ان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) يعبده ويشكره ولكن استعبد نبيه بالدعاء اليه تأديبا لامته.

٣٧٩

يؤخذ النبي بها ، ف «إياك اعني» في الواجهة الأولى «واسمعي يا جاره» في الأخريين! يبدأ صراحا بالأنبياء (عليهم السلام) ـ وهم لا يتطرق إلى قلوبهم طائف الشرك أبدا ـ تنبيها لمن سواهم إلى تفرد ذات الله بالعبودية له وتوحّد الخلق في مقام العبودية بمن فيهم الأنبياء دونما استثناء ، والتأكيد في «ليحبطن ولتكونن» يؤكد التهديد بالنسبة للآخرين إذا كان يشمل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لو أشرك!

والإشراك بالله هو القمة المعنية هنا في إحباط العمل ، ويتلوه الإشراك برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفاءه المعصومين سلام الله عليهم أجمعين في التأويل والمصداق الخفي المختلف فيه (١) ، وكما تختلف دركات الإشراك الظلم فكذلك دركات الإحباط حسبها.

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(٦٦).

لا تعبد غير الله ولا تشرك بالله (بَلِ اللهَ) لأنه الله الواحد «فاعبد» «وكن» في توحيد العبادة (مِنَ الشَّاكِرِينَ) لله.

فلو سمح لك او أمرت أن تعبد غير الله وأنت أعلى وأرقى من كل من سوى الله ، لحبطت منزلتك ، ولو كان على مستواك كان ترجيحا عليك دون مرجح ، وحتى لو كان أعلى منك كان ظلما للحق ، بل إن هذا الثالوث كله من الشرك ظلم فإن الشرك لظلم عظيم وضلال مبين (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) ...

__________________

(١) المصدر في اصول الكافي علي بن ابراهيم عن أبيه عن الحكم بن بهلول عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : يعني ان أشركت في الولاية غيره (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) يعني بل الله فاعبد بالطاعة وكن من الشاكرين ان عضدتك بأخيك وابن عمك.

٣٨٠