الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

وترى كيف كانت معهم عاقبة المرسلين ، فهل قتلوا مع صاحب يس؟ و (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) لا تشملهم! أم هم نجوا من هذه المعركة الدموية الصاخبة ، وقتل مؤمن واحد لا يخلّف صيحة تخمدهم جميعا! الأمر الواضح في هذا البين أن الرجل الأقصى قتل وأن أصحاب القرية خمدوا بصيحة واحدة ، ولو أن الرسل قتلوا لأشير إلى قتلهم كما الإشارات إلى قتل المناصر.

والصيحة التي اخمدتهم كذلك تخمد الرواية القائلة أن السلطان آمن وأهل مملكته (١) فلو أن هناك مؤمنين ولا سيما السلطان وجماهير من أتباعه

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٧٩ ج ٣٠ القمي حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن مالك بن عطية عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن تفسير هذه الآية فقال : بعث الله عز وجل رجلين الى اهل مدينة انطاكية فجاءهم بما لا يعرفون فغلظوا عليهما فأخذوهما وحبسوهما في بيت الأصنام فبعث الله الثالث فدخل المدينة فقال أرشدوني الى باب الملك قال فلما وقف على الباب قال انا رجل كنت أتعبد في فلاة من الأرض وقد أحببت ان اعبد إله الملك فابلغوا كلامه الملك فقال أدخلوه الى بيت الآلهة فأدخلوه فمكث سنة مع صاحبيه فقال لهما بهذا ينقل قوم من دين الى دين بالخرق أفلا رفقتما؟ ثم قال لهما لا تقران بمعرفتي ثم ادخل على الملك فقال له الملك بلغني انك كنت تعبد الهي فلم أزل وأنت اخي فسلني حاجتك فقال : ما لي من حاجة ايها الملك ولكن رأيت رجلين في بيت الالهة فما حالهما؟ قال الملك : هذان رجلان أتياني ببطلان ديني ويدعواني إلى آله سماوي فقال ايها الملك مناظرة جميلة فان يكن الحق لهما اتبعناهما وان يكن الحق لنا دخلا معنا في ديننا وكان لهما ما لنا وعليهما ما علينا. قال : فبعث الملك إليهما فدخلا اليه قال لهما صاحبهما : ما الذي جئتما به؟ قالا : جئنا ندعوه الى عبادة الله الذي خلق السماوات والأرض ويخلق في الأرحام ما يشاء ويصور كيف يشاء وأنبت الأشجار والثمار وانزل القطر من السماء قال : فقال لهما إلهكما هذا الذي تدعوان اليه والى عبادته ان جئنا بأعمى يقدر ان يرده صحيحا؟ قالا : إذا سألناه أن ـ

٤١

فلما ذا الصيحة والقتلة الجماهيرية؟

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٣٢)

__________________

ـ يفعل فعل ان شاء قال : ايها الملك عليّ بأعمى لم يبصر شيئا قط قال : فأتي به ، فقال لهما ادعوا إلهكما أن يرد بصر هذا فقاما وصليا ركعتين فإذا عيناه مفتوحتان وهو ينظر الى السماء فقال : ايها الملك علي بأعمى آخر فأتى به قال : فسجد سجدة ثم رفع رأسه فإذا الأعمى بصير فقال : ايها الملك حجة بحجة علي بمقعد فأتي به فقال لهما : مثل ذلك فصليا ودعيا الله فإذا المقعد قد أطلقت رجلاه وقام يمشي فقال : ايها الملك على بمقعد آخر فأتى به فصنع به كما صنع اوّل مرة فانطلق المقعد فقال : ايها الملك قد أتيا بحجتين وأتينا بمثلهما ولكن بقي شيء واحد فان هما فعلاه دخلت معهما في دينهما ثم قال : ايها الملك بلغني أنه كان للملك ابن واحد ومات فان أحياه إلههما دخلت معهما في دينهما فقال له الملك : وأنا أيضا معك ثم قال لهما : قد بقيت هذه الخصلة الواحدة قد مات ابن الملك فادعوا إلهكما ان يحييه قال فخرا ساجدين لله عز وجل وأطالا السجود ثم رفعا رؤسهما وقال للملك ابعث الى قبر ابنك تجده قد قام من قبره ان شاء الله قال : فخرج الناس ينظرون فوجدوه قد خرج من قبره ينفض رأسه من التراب قال : فأتى به الى الملك فعرف انه ابنه فقال له : ما حالك يا بني؟ قال : كنت ميتا فرأيت رجلين بين يدي ربي الساعة ساجدين يسألانه ان يحييني قال : يا بني تعرفهما إذا رأيتهما؟ قال : نعم قال : فاخرج الناس جملة الى الصحراء فكان يمر عليه رجل رجل فيقول له أبوه انظر فيقول لا ثم مروا عليه بأحدهما بعد جمع كثير فقال : هذا أحدهما وأشار بيده اليه ثم مروا ايضا بقوم كثيرين حتى رأى صاحبه الآخر فقال : وهذا الآخر قال : فقال النبي صاحب الرجلين اما انا فقد آمنت بإلهكما وعلمت ان ما جئتما به هو الحق قال : فقال الملك وانا ايضا وآمن اهل مملكته كلهم. أقول وفي المجمع عن وهب بن منبه ذكر القصة باختلاف يسير ، وهذه القصة تخالف الآيات من جهات عدة فهي إذا مختلقة مردودة لمخالفة القرآن.

٤٢

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) وهم عباد الله تكوينا وتشريعا ، كيف أصبحوا عباد الشيطان ، ف ـ (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) طول التاريخ الرسالي ، وهم المترفون المفرطون في تكذيب الرسالات ، وأتباعهم الضعفاء. «ألم يروا» رؤية في أعماق التاريخ ، وأصدقه ما يقصه القرآن (كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ) الطائلة «أنهم» بعد هلاكهم (إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) فهل ينتظرونهم لكي يخبروهم بصدق الحياة الحساب بعد الموت أم كذبه؟ أم ينتظرونهم أن يرجعوا فيصلحوا أعمالهم ، ولات حين مناص ، إذ فات يوم خلاص!

إن الهلكى وسواهم «إن كل» دونا استثناء «لما» إلا (جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) إحضارا للحساب فالثواب أو العقاب ، كسائر المؤمنين ، أم ثوابا دون حساب (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ).

٤٣

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا

٤٤

هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٤٧)

آيات خمس ذات دلالات على وحدانية المبدإ الخالق المدبر المعبود وإمكانية ولزوم المعاد ، نعيشها طول حياتنا ليل نهار ونحن عنها غافلون.

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ)(٣٣)

الأرض الميتة بموتتها الأولى قبل حياتها ، وبموتات لها تترى ، إنها آية لميتاتهم ، أولاها لأولاها وأخراها لأخراها : «أحييناها» عن موتتها الأولى ، ويستمر إحياءها طول كونها قبل قيامتها الكبرى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤١ : ٣٩) أفلا يدل هذا الواقع المكرور على إمكانية إحياءكم بعد موتكم؟ ومن ثمّ على لزومها في ميزان العدل والفضل كما (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) فذلك الحب الكامن في الأرض لا يخرج ليؤكل إلّا بإحياء الأرض بالماء ، وكذلك معادن الإنسانية وكنوزها

٤٥

لا تخرج كاملة شاملة إلّا بإحيائها بعد موتها ، إذ لا نرى محاصيل أعمالها ومساعيها خيرا أو شرا في أولاها فلتخرج في أخراها.

ففي الحياة بعد الموت أولويتان اثنتان بالنسبة للحياة الدنيا ، أولاها بجنب القدرة الإلهية أنها أهون على الله : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) وأخراها بجنب العدل والفضل حيث الأولى قضية الفضل والأخرى قضية العدل والفضل.

(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ)(٣٥).

في حياة الأرض جنات وعيون ، ليأكلوا من ثمر ذلك الإحياء (١) أو الجعل ، أم ثمر الله (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) نفيا واثباتا (٢) ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم كله ، حيث الأرض بأشجارها وعيونها ليست من عملهم ، وإنما يعملون فيها فتثمر لهم أكثر مما عملوا ، و (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) ومن ما عملته أيديهم ، فهنالك ثمر لم تعمله أيديهم وهو الأكثر من كيان الثمر ، وهناك ثمر عملته أيديهم وهو الأقل من محاولات صورية لنضد الثمر ونضجه «أفلا يشكرون» الله فيما أثمر لهم من إحياء الأرض وعمل الأيدي؟ ثم هم وأيديهم ـ كما الأرض ـ من عمله سبحانه «أفلا يشكرون»؟ فيختلقون معاذير كأنها تحيل الحياة بعد الموت : استبعادا لإحياء الموتى؟ (الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) ونحييها بعد موتات طول كونها!

أو استحالة لأنه من إعادة المعدوم الممتنعة عقليا؟ وليس المعاد في المعاد إلّا الروح بعينه والبدن بمثله ، والمادة من مادته الأولى ، فكما المعاد في

__________________

(١). الضمير الغائب لا يصلح رجوعه ادبيا ومعنويا الا الى الإحياء المستفاد من أحييناها او لجعل الله المحيي الجاعل.

(٢). «ما» هنا تعني النافية والموصولة معا فالمعنيان معنيّان وهما متقاربان.

٤٦

ثمرات الأرض الميتة هي أمثالها في صورها وأعيانها في موادها ، كذلك الأحياء في الإحياء هي اولى حيث الأرواح هي عين الأرواح! وإنما تماثلها الأجساد.

أو استحالة حيث استئناف الحياة بحاجة إلى استعداد البدن لقبول الحياة ، واكتماله بمضي المراحل الجنينية؟ وخالق الاستعداد ليس محصورا في خلقه بصورة واحدة كما في هذه النشأة ، بل قفزة في الأخرى كما في الخلق الأول هنا : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) وكما الأرض تحيى لمرات تترى ، والله هو الذي يعيدها في طائل الزمن أم قصيره!

أم إن الحياة بعد الموت لا غاية فيها ترجحها أو تلزمها؟ و (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) في إحياء الأرض بعد موتها بيان لغاية قصوى من إحيائها (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) مثالا لثمرات الصالحات أنها تربوا أعمال أيديهم في وجه النفي من «ما عملت» أم وفي الإثبات ايضا حيث الثمر ليس عمل أيديهم!

بل كل ذلك من يد الله وأياديه ، فكما قدرت الزرع على الحياة والنماء ، كذلك أقدرتهم على العمل (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ)؟ وكذلك يكون الثمر في اليوم الآخر حيث يخرج الله من المكلفين حبوبهم وثمارهم (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (١٧ : ١٣) وذلك الكتاب هو مجموعة العقائد والنيات والأقوال والأعمال ، وهي هي جزاء أصحابها بما تظهر في ملكوتها وحقائقها ف (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٢ : ١٦) إلّا أن العقاب ليس إلّا عدلا جزاء وفاقا دون زيادة على العمل بل وقد ينقص ، ولكنما الثواب فضل وعطاء غير مجذوذ : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (١٠ : ٢٦) (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ)؟ كعلة غائية

٤٧

قصوى للإحياء في الأولى ثم الأخرى ، والأولى قائد الأخرى ورائدها (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)(٣٦).

ما سوى الله كلّها أزواج ، ف (الْأَزْواجَ كُلَّها) تعني الكائنات كلها سوى الله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥١ : ٥٠)(١) فكل ممكن زوج تركيبي ، مزدوج الكيان ، فليس بالإمكان كونه إلّا في زوجية مّا أيا كان ، فلا كائن فردا بسيطا إلّا الله ، فلا غنيّ مطلقا إلّا الله (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) ف (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ...) أن يتخذ منها شريكا والكل فقراء إلى الله فكيف يفتقر إليها الله؟!

وزوجيته كلّ شيء هي لأقل تقدير ذات بعدين ، في ذاته ، وبالنسبة لسواه ، فحاجة ذات بعدين يتعلق فيها بالله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) حيث ازدواجية الرباطات المنضّدة بوحدة القاعدة الضابطة في التكوين ، إنها تشي بوحدة اليد المزدوجة المبدعة على اختلاف الأشكال والأحجام والميّزات والسمات ف (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ..) من شريك أو ند ، أو عجز أو ظلم أمّا ذا من نقص في ساحته أو ركس في سماحته.

__________________

(١). تجد بحثه الوافي في الفرقان ج ٢٧ ص ٣٣٧ ـ ٣٤٣ وفي الدر المنثور ٥ : ٢٦٢ اخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله سبحانه «سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها» قال : الأصناف كلها الملائكة زوج والانس زوج والجن زوج وما تنبت الأرض زوج وكل صنف من الطير زوج ثم فسر فقال : مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ـ الروح لا يعلمه الملائكة ولا خلق الله لم يطلع على الروح احد وقوله : ومما لا يعلمون : لا يعلم الملائكة ولا غيرها.

٤٨

ومن (الْأَزْواجَ كُلَّها) (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) مثل ثلاثي عن الأزواج كلها ، كنموذج شامل يمثل لنا الأزواج كلها ، فإن أرض الأزواج كسمائها ، متماثلة في طولها وعرضها و (مِمَّا لا يَعْلَمُونَ) تعم ما لا نعلمه أو لن نعلمه.

و (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) تشمل نباتاتها الجمادية والنباتية والحيوانية وكما الإنسان : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (٧١ : ١٧) ف «من أنفسهم» تخصيص لذكر الإنسان بعد تعميم فإنه المحور في ذلك التذكير.

ثم (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) يشمل من كائنات الأرض وسواها ما نجهله ، وعلمنا وجودها كالروح ، أم لم نعلم ككائنات في الأرض أو في السماء لمّا عرفناها ، ومما سوف نعلمه كما عرفنا الذرة بأجزاء لها بعد قرون من نزول القرآن ، وما لن نعلمه رغم التأكّد من وجوده كالمادة الأولية الأم بتركّبها الثنائي ، حيث العلم بحقيقتها يساوق القدرة على إيجادها وإفنائها ، وهو منحصر في الخالق منحسر عن غير الخالق ، ف «لا يعلمون» تعم كل من له أن يعلم دون خصوص الإنسان.

إذا ففي الكون مثلث (مِمَّا لا يَعْلَمُونَ) ثالثه مما لن نعلمه ، وصاحباه ما لم نعلمه ثم علمناه او علّمناه أم نستكمل معرفتنا إياه.

فالروح من الأزواج (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فهي مما لا يعلمون ، والمادة الأم من الأزواج وهي مما لن يعلموه ، والذرة من الأزواج وقد علموها شيئا مّا!

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ)(٣٧)

أترى الليل لابس لباس النهار حتى يسلخ منه النهار (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ)؟ وكلّ من الليل والنهار حالة تعرض الأثير بإشراقة الشمس عليه أو إطباقتها

٤٩

عنه! ولماذا الليل نسلخ منه النهار دون النهار نسلخ منه الليل؟

هذا تعبير قاصد لمثل آخر زمانا بعد المكان يمثّل تواتر الموت والحياة ، إحياء لميت المكان : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) ثم إماتته هناك ، وإماتة لحي الزمان ثم إحياءه كما هنا ، يصور لنا الليل ملتبسا بالنهار ، فكما الحياة للأرض المكان كانت عارضة متواترة ، كذلك الحياة النور لليل الزمان عارضة متواترة ، أصالة الموت في المكان والزمان ، وعارضية الحياة فيهما ، والأثير المظلم في أصله يصبح بإشراقة الشمس نهارا ، فإذا سلخ منه لباس النهار يرجع ليلا كما كان.

إن الجو بالزمان ككل هو مدار الليل الأصل والنهار الفرع : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) (٣٩ : ٩)(وَآيَةٌ لَهُمُ) توحيدا للمبدء وتحقيقا للمعاد «الليل» الخامل بظلامه مثالا لميت الزمان (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) نزعا للباس النهار عن الجو (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) فالأرض الكروية بفضائلها في دورتها حول نفسها في مواجهة شمسها ، تمر كل أفق ونقطة منها بضوء الشمس فتحيا بالنهار ، ثم يسلخ منها وإلى نقاط وآفاق أخرى (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) : داخلون في الظلام.

تعبير يصور الحقيقة الدائبة المتواترة الكونية بأدق تصوير ، فليس النهار لابس الليل حيث الأصل في الأثير ، الجوّ الظلام ، ثم يلبس النور النهار ، وبانتقالة الشمس عن كل أفق يسلخ النهار عن الجو فيرجع ليلا كما كان.

وما ألطفه تعبيرا (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) والسلخ هو إخراج الشيء مما لابسه والتحم به ، فكلّ من الليل والنهار متصل بصاحبه اتصال الملابس بأبدانها ، لا ـ بل الجلود بحيوانها ، ففي تخليص أحدهما من الآخر لحد لا يبقى منه شيء ، آية باهرة للمبدء والمعاد ، أن الله تعالى يسلخ لباس الحياة عن هذا البدن فيبقى ميتا لا حياة فيه ، ثم يرجعه حيا كأنه لم يمت قط!

٥٠

فسلخ النهار من الليل ثم رجعه إليه ثم سلخ ورجع ، آية ذات بعدين للحياة بعد الموت ، أن الموت اصيل تعرضه الحياة (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) وإن عارضة الحياة متواترة متلاحقة متلاصقة.

فكما أن في الحياة الدنيا ـ مكانا وزمانا ـ لبس للحياة وخلع ، كذلك الموت خلع للروح عن هذا البدن ثم لبسه للحياة الأخرى ، طالما الحياة العارضية العادية هنا تصبح أصيلة دائبة هناك في الأخرى.

وكما أن في إحياء الأرض بعد موتها إخراج لحبّها وثمرها فمنه يأكلون كذلك في لبس الليل بالنهار وتكوير النهار على الليل حركات للحياة ، فهما إذا آيتان للمبدء والمعاد نعيشهما في كل مكان وزمان.

فليس سلخ النهار الضوء من الليل إلّا بانسلاخ الشمس غاربة في آفاقها ، فإنها تجري لمستقر لها ، فإن الظلمة عرض قائم بالأثير لزام ، والنور عرض يعرض ذلك العرض بمعروضه ، والنور تموّج ، وإذا كثرت الموجات النورية في الثانية الواحدة آلاف الملايين تصبح ضوء أحمر وأصفر وبرتقاليا وبنفسجيا إلى سائر الألوان السبعة ، فإذا تعددت في الثانية الواحدة زهاء (٧٠٠) مليون تصبح ضوء النهار المرسل من الشمس وهو لباس على الظلمة العارضة على الجو ، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) : جوهر مظلم ألبس نورا ، فإذا سلخ منه النور رجع كما كان مظلما.

ندرس على ضوء هذا السلخ ، وذلك الإحياء للأرض ، أصالة الموت وعارضية الحياة المتواترة على الميتات ، الأرض الميتة تحيى للإثمار ، والليل المظلم يضاء لمنافع منها الإثمار ، وكما الحياة الدنيا للإثمار كذلك الأخرى وبأحرى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى).

٥١

(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(٣٨).

و (آيَةٌ لَهُمُ) ثالثة «الشمس» حال أنها «تجري» طول حياتها وبجريها الدائب تسلخ النهار عن الليل ، ولو لا حراكها لكان النهار سرمدا في أفقها ، والليل سرمدا في آخر ، ولكنها تجري ، وبجريها تسلخ النهار عن الليل.

وهل إن جريها هو حركتها الدورية حول الأرض كما يترائى؟ وقد أثبتت النظرية العلمية أن الأرض هي التي تجري حول الشمس كما تجري حول نفسها!

أم إن جريها أعم من هذه الحركة وهي على أقل تقدير غير ثابتة ، ومن حركات أخرى كشف العلم النقاب عن وجه البعض منها وبقيت الأخرى؟ والمترائى من جريها من مشارقها الى مغاربها ليس إلّا صورة ظاهرة عن جري الأرض حولها! فكما أن راكب الطائرة يخيّل إليه أن الجاري هو الفضاء بما فيه حولها ، كذلك سفينتنا الفضائية «الأرض» الجارية في يمّ الفضاء وخضمّ الأثير تترائى لركابها كان الشمس والقمر هما الجاريان حولها و (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) (٣١ : ٢٩) وليست الأرض أجلا لهما ولا مسمى ، فلا يعني جريها حول أرضها.

فللشمس جريانات واقعية وأخرى خيالية علّ منها أو أنها ما نراه من حركة الشمس حول الأرض ، ومن الأولى حركتها حول نفسها دورية ، وحركتها مع سياراتها نحو النسر انتقالية أماذا؟

وترى ما هو (لِمُسْتَقَرٍّ لَها)؟ هل هو ـ فقط ـ الأجل المسمّى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى.)» (٣١ : ٢٩)؟ وقضيته «إلى مستقر لها» الصريحة الخاصة لمنتهى الغاية الأخيرة من جريها!.

٥٢

أم إن مستقرها هو الفلك الذي تجري عليه ، والجادة الفضائية التي تسري فيها ، فهو مستقر الجري ، قرار جري بنظام دون قرار ، وكما الأرض على حدّ تعبير الأمير عليه السّلام «وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال وأرساها على غير قرار ...»؟ وليس ذلك لها أجلا مسمّى و (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى)!

«لمستقر» كجنس تناسب لها مستقرات عدة ، تعنيها المصدر الاستقرار ، واسم زمانه ، ومكانه ، وهي بين ما يترائى لها ، من مستقرات غروباتها عن كل أفق حيث تسلخ عندها الأنهار ، وهذا مستقر لها فيما نرى كما (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) ولا واقع لغروبها فيها ولا لأي مغرب إلّا وجدان الرؤية وهي شارقة منذ خلقها إلى تكويرها وتكديرها ، فغروبات الآفاق الأرضية ليست إلّا لدوران الأرض حولها ، وهذه من مستقراتها الزمانية والمكانية المتكررة في حياتها ، وكما أن غاية ارتفاعها صيفا وغاية انخفاضها شتاء هما من مستقراتها السنوية.

ومن ثم لها مستقر فيهما نهائيا في قيامتها وهي أجلها المسمى ، وهو تكديرها النهائي عند تكويرها حين لا تبقى شمس تجري أو تسكن حيث تستقر عن كونها وكيانها فضلا عن جريها ، كما مستقرها البدائي هو تقدير العزيز العليم وبينهما متوسطات : بين المبدء والمعاد.

ولا جامع بين هذه المستقرات في بعديها أدبيا إلّا «ل» دون «إلى» مع العلم أن الأهم هنا مستقرها المبدء ومستقرها المعاد المسمى في أجلها كما في آيات عدة.

ف (الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) تعم مصدر المستقر لاستقرارها طول جريها بتقدير الله وكعاية لها في جريها بقصده ، واسم زمانه ومكانه في دنياها وأخراها ، مهما كانت الأصالة المعنية مبدءها وأجلها المسمّى ، و (ذلِكَ تَقْدِيرُ

٥٣

الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) : تقديرا لها حيويا سلخا للنهار ولباسا له ، كحياة وموت متواترين تلو بعض في جريها الدائب على فلكها ، وتقديرا لتكويرها في مستقرها الأخير وأجلها المسمى ، ثم يجدد الله حياتها بعد تكويرها حين (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (٧٦ : ١٣) كميّزة لأهل الجنة ، فلو لا وجود الشمس يوم القيامة ، كان أهل الجنة واهل النار سواء في عدم رؤيتها والزمهرير ، مهما كانت هي الوحيدة في هذه اللمحة بين ال (٣٣) من آيات الشمس!.

في قيامة الإماتة تكوّر الشمس كما سائر الأحياء إلّا من شاء الله ، ثم في قيامة الإحياء تحيى الشمس كما سائر الأحياء دونما استثناء ، ففي جري الشمس لمستقر لها آية القدرة الإلهية ، وكما في توالي الموت والحياة حتى لغير المكلفين ، فهم أحرى بذلك في ميزان العدل والرحمة و (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

وأين هذه المستقرات للشمس الجارية و «لا مستقر لها» كما يروى عن الأئمة الثلاث (٢) نفيا مستغرقا لأي استقرار ، وهي على أقل تقدير لها مستقر التكوير بالمبدء العلي القدير ، وساحة الأئمة براء عن كل تجديف وتحوير! ولأن الشمس من الكواكب وهي كلها في السماء الدنيا ، فلتطرح الرواية بجريها في السماوات السبع (٣) او تؤوّل كما يناسب القرآن ، فقد تعني

__________________

(١) مجمع البيان وروي عن علي بن الحسين زين العابدين وأبي جعفر الباقر وجعفر الصادق (عليه السلام) «لا مستقر لها» بنصب الراء. أقول وهذا باطل لفظيا حيث يحمل فرية التحريف ومعنويا كما بيناه في المتن.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٣٨٥ ج ٤٧ في كتاب التوحيد باسناده الى أبي ذر الغفاري رحمه الله قال : كنت آخذا بيد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ونحن نتماشى جميعا فما زلنا ننظر الى الشمس حتى غابت فقلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)! اين ـ

٥٤

سجدتها تحت العرش خضوعها لإرادة الرب في عرش التدبير ف «مستقرها تحت العرش» (١)تعني لها مستقرا لجريها هو (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) تقديرا

__________________

ـ تغيب قال : في السماء ثم ترفع من سماء الى سماء حتى ترفع الى السماء السابعة العليا حتى تكون تحت العرش فتخر ساجدة فتسجد معها الملائكة الموكلون بها ثم تقول : يا رب من اين تامرني ان اطلع امن مغربي ام من مطلعي؟ فذلك قوله عز وجل (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) يعني بذلك صنع الرب العزيز في ملكه بخلقه فيأتيها جبرئيل بحلة ضوء من نور العرش على مقادير ساعات النهار في طوله في الصيف وفي قصره في الشتاء او ما بين ذلك في الخريف والربيع قال : فتلبس تلك الحلة كما يلبس أحدكم ثيابه ثم تنطلق بها في جو السماء حتى تطلع من مطلعها قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : كأني بها قد حبست مقدار ثلاث ليال ثم لا تكسى ضوء وتومر أن تطلع من مغربها فذلك قوله عز وجل : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) والقمر كذلك من مطلعه ومجراه في أفق السماء ومغربه وارتفاعه الى السماء السابعة ويسجد تحت العرش ثم يأتيه جبرئيل بالحلة من نور الكرسي فذلك قوله عز وجل (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً).

(أقول سير الشمس والقمر في السماوات وسجودها تحت العرش بانتظار امر الرب ، كل ذلك تعبيرات عن مستقر تقديره تعالى ، ف (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) تبتدئ من المستقر الربوبي وتنتهي الى مستقر قيامتها.

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٦٣ ـ اخرج عبد بن حميد والبخاري والترمذي وابن أبي حاتم وابو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي ذر قال : كنت مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في المسجد عند غروب الشمس فقال يا أبا ذر! أتدري اين تغرب الشمس؟ قلت : الله ورسوله اعلم قال : فانها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) قال : مستقرها تحت العرش ، واخرج عند جماعة عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن الآية قال «مستقرها تحت العرش» وفي نقل ثالث عنه قال : دخلت المسجد حين غابت الشمس والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس فقال يا أبا ذر أتدري اين تذهب هذه قلت الله ورسوله اعلم قال فانها تذهب حين تسجد بين يدي ربها فتستأذن في الرجوع فيأذن لها ربها وكأنها قيل لها ـ

٥٥

لجريها كما وكيفا ، وتقديرا لعمرها وكل أمرها.

فالشمس تجري لمستقر تقدير العزيز العليم دونما فوضى ، لكافة مستقراتها وجرياناتها في أولاها وأخراها ، دونما تخلف ولا قيد شعرة ولا آن عن ذلك التقدير العزيز العليم!

إذا ف «لا مستقر لها» ك «إلى مستقر لها» لا مستقر لها لفظيا ومعنويا ، فإن (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) تجمع كل مستقراتها من قراراتها في جرياناتها يوم دنياها ، وإلى قرارها عند تكويرها (١) في قيامتها ، وإلى تجديد حياتها لقرارات أخرى في أخراها ، فكل جري لها وكل قرار بادئ من مستقر التقدير من عزيز حكيم ، ومنته إلى ذلك المستقر من العزيز الحكيم ف (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

وللشمس في مستقرها الأخير يوم التكوير آراء متهافتة ، من مائل إلى أنها سرمد في حراكها ، كما العالم أجمع كقسم من الدهريين ، ومن قائل على ضوء العلم أنها تجري إلى انقراضها (٢) ولا نجد تعبيرا كالذي في القرآن عن جريها لمستقر لها وتكويرها وجمعها مع أخيها القمر ، فلها كورها بعد دورها كما لكلّ كائن دور وكور و (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

تقدير بعزة وعلم ولا تقدير إلّا بعد عزة وعلم ، وبعد التقدير قضاء وإمضاء وكما سئل العالم : الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السّلام) : كيف علم الله؟ فقال : علم وشاء وأراد وقدّر وقضى وأمضى ، فأمضى ما قضى ، وقضى ما قدر ، وقدر ما أراد ، فبعلمه كانت المشية وبمشيته كانت

__________________

ـ اطلعي من حيث جئت فتطلع ..

أقول : فهذه رواية واحدة عن أبي ذر تشترك في قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) «مستقرها تحت العرش» والمعنى المناسب ان مستقرها في كل قرار هو امر الرب ، جريا ووقوفا ام أيا كان.

(١). راجع سورة التكوير ج ٣٠ : ١٣٧ للتعرف الى تكويرها.

٥٦

الإرادة ، وبإرادته كان التقدير وبتقديره كان القضاء وبقضائه كان الإمضاء ، والعلم متقدم المشية ، والمشية ثانية ، والإرادة ثالثة ، والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء ، فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء ، وفيما أراد لتقدير الأشياء ، فإذا وقع القضاء بالإمضاء ، فلا بداء ، فالعلم في المعلوم قبل كونه ، والمشية في المنشأ قبل عينه ، والإرادة في المراد قبل قيامه ، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عيانا ووقتا ، والقضاء بالإمضاء هو المبرم من المفعولات ذوات الأجسام المدركات بالحواس من ذوي لون وريح ووزن وكيل ومأدب ودرج من إنس وجن وطير وسباع وغير ذلك مما يدرك بالحواس فلله تبارك وتعالى فيه البداء مما لا عين له ، فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء والله يفعل ما يشاء ، فبالعلم علم الأشياء قبل كونها ، وبالمشيّة عرف صفاتها وحدودها وأنشأها قبل إظهارها ، وبالإرادة ميّز أنفسها في ألوانها وصفاتها ، وبالتقدير قدر أقواتها وعرف أولها وآخرها ، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ودلهم عليها ، وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها و (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(١).

وختامه المسك لمحة لامعة أن جري الشمس ومعه كل جري ليس إلّا بتقدير العزيز العليم ، فللكل مبدء ومعاد وبينهما متوسطات الحياة ، فلجري الشمس مستقر التقدير من الله الى مستقر التكوير وبينهما عوان من مستقرات غروباتها وجريها في فلكها ، ومن الفارق بين المستقر وسواه أنه مصدر لفظيا ومعنويا وسواه صادر اسم زمان أو مكان.

فالشمس إذا تجمع بين مستقرات لها فعلية هي لزامها في كونها وكينونتها ، ومستقرات مستقبلة في أمكنة وأزمنة آتية يوميا وسنويا وعند

__________________

(١). نور الثقلين ٤ : ٣٨٥ ج ٤٨ في اصول الكافي الحسين بن محمد عن معلى بن محمد قال سأل العالم (عليه السّلام) ...

٥٧

تكويرها ومن ثم خلفها مرة أخرى.

فكما أن مستقرات الغروبات للشمس ـ المتكررة يوميا ـ ليست إلّا مرئيات وهي في الحق شارقة دوما ، لا غاربة ولا لحظة ، كذلك الأموات هم في الحق أحياء مهما نراهم في ظاهر الأمر أمواتا ، فليس الموت فناء وفوتا حتى تستبعد رجعة الحياة ، فالروح بعد الموت هو الروح وأروح منه ، والبدن هو البدن بمادته ، فعملية الإحياء ليست إلّا خلق الأمثال للأبدان ونقل الأرواح إليها.

وكما أن المستقر الأخير للشمس في التكوير ليس هو الأجل الأخير حيث ترجع بمثلها ، كذلك الإنسان لا يعني موته عن هذه الحياة فوته عن أية حياة.

وكل (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فله القدرة على كل تحوير وتغيير وتقدير ، وله العلم كذلك دون اي مانع ونكير!.

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ)(٣٩)

«و» آية لهم رابعة (الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) له في جريه كما يترائى مكانا ومكانة وزمانا ، «حتى عاد» كما بدء في منزله الأول ليلة هلاله واستهلاله (كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) وهو عذق النخلة اليابس إذا قدم فانحنى.

فالقمر في منازله الثمانية والعشرين ، يبتدء من هلاله مبتدرا كالعرجون القديم إلى ختامه كالعرجون القديم كما بدء ، فهو كالولد حين يولد ثم يكبر رويدا رويدا حتى بدره الأربعين ، ثم يتنازل شيئا فشيئا منكّسا ويرجع كالولد (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) ثم يموت ومن ثم الحياة كما بدء (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).

وهذه آية لتواتر الموت والحياة تلو بعض ، وكما القمر في منتقص منازله

٥٨

يترائى للناظرين ناقصا عن بدره لحد الانمحاء التام ، ولكنه لا ينتقص في واقعه ، وإنما يحتجب بحجب ، كذلك ميت الإنسان ليس بميّت وإنما الحياة الروح تحتجب عن هذا البدن ثم تعود إليه يوم المعاد.

وعلّ العود كالعرجون القديم لمحة إلى أن المعاد في المعاد ليس كل البدن ، وإنما أصله العرجون الذي عاشه طول حياته ، فالأقمار الإنسانية وأضرابها تقدّر منازل في سيرها الحيوي حتى تنمحي ثم تعود كأصغر ما كان كالعرجون القديم ، حيث يمثّل كيان الإنسان كأصل عاشه في حياته خيّرة وشرّيرة.

أهلّة القمر الثمانية والعشرون تفيدنا مواقيت الشهور والحج (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) وتفيدنا إمكانية المعاد وكيفيته لوجه ما.

للقمر في منازله أشكال حسبها كما قدرها العزيز العليم ، من منزل المحاق أو الاقتران والاجتماع والتوليد ، لا يرى فيه لأن وضعه مجاور جدا في الظاهر للمحل الذي تشغله الشمس في السماء ، فيوجه نصف كرته المظلم المحجوب عن الأشعة الشمسية نحو الأرض ماكثا في استتاره يومين أو ثلاثة ، ولكن لحظة الاقتران المضبوطة التي يستدل عليها من السنويات الفلكية ، تحصل متى كان للشمس والقمر طول واحد.

وفي اليوم الثاني او الثالث بعد تلك اللحظة يظهر القمر ليلا بعد غروب الشمس بمدة قليلة على شكل هلال رفيع تحد به نحو القطعة التي توجد فيها الشمس تحت الأفق ، وبسبب الحركة اليومية يغرب القمر بعد قليل في الأفق الغربي.

وفي اليوم التالي تحصل الحالة بعينها ولكن الجزء المستنير فيه أعظم ، ولأنه فيه أبعد من سابقه عن الشمس يتأخر غروبه.

٥٩

وفي اليوم الرابع بعد الاقتران يغرب بعد الشمس بثلاث ساعات.

وبعد اليوم الرابع يسمى التربيع الاوّل ، ثم ينمو شيئا فشيئا ، وبين اليوم السابع والثامن من لحظة الاجتماع يظهر لنا نصف دائرة ويرى في النهار مدة ، والحركة اليومية لا تأتي به في مستوى الزوال إلّا بعد مرور الشمس به بست ساعات تقريبا.

وبين التربيع الأول والبدر تمضي سبعة أيام أخر ، في غضونها يقرب الجزء المستنير شيئا فشيئا حتى يصبح دائرة تامة وبدرا كاملا.

وبعد الاقتران بخمسة عشر يوما يظهر لنا قرصا بأكمله مستنيرا ، ولحظة شروقه ـ إذا ـ كلحظة غروب الشمس حيث تشرق عند غروبه ، ومتى ارتقى إلى أعلى نقطة من سيره وهو بمستوى الزوال يكون نصف الليل ، وفيه تمرّ الشمس تحت الأفق بمستوى الزوال الأسفل بحيث يكون القمر مقابلا للشمس بالضبط بالنسبة للأرض.

وبعد ذلك يتناقص على التوالي (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) وفي البين له التربيع الثاني نازلا عكس التربيع الأول صاعدا.

فالمنازل الرئيسية هي المحاق والهلال والتربيع الأوّل والبدر والتربيع الثاني (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ).

ولأن قدم العرجون لأقل تقدير هو ستة أشهر فقد يصدق عليها القديم لأقل تقدير ، فقد نصدّق الرواية القائلة بسناد الآية أنها من القديم (١)

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٨٦ القمي حدثني أبي عن داود بن محمد النهدي قال : دخل ابو سعيد المكاري على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقال له ابلغ من قدرك أن تدعى ما ادعاه أبوك؟ فقال له الرضا (عليه السلام) ما لك اطفأ الله نورك وادخل الفقر بيتك اما علمت ان الله عز وجل اوحى الى عمران اني واهب لك ذكرا فوهب له مريم ـ

٦٠