الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

حيث القرآن أطلق عليها القديم.

ولأن العرجون القديم هو عذق النخلة من بين الشمراخ إلى منبته ، وقديمه المنحنى المقوّس بصفرته ، فوجه الشبه إذا هو مثلث الاصفرار والدقة والاعوجاج ، وهو بداية المنازل ، ونهايتها العودة كما بدئت.

و (قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) دون «قدرنا له منازل» أم «ذا منازل» كما تكلفوهما تقديرا ، علّه لأن منازله ظاهرة في نفسه بالمحاق والهلال والتربيعين والبدر ، بين منازل الصعود والنزول ، مهما كانت له منازل في مسيره ليل نهار ، ولكنما المقصود هنا منازله الأولى التي تنتهي إلى العرجون القديم.

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ (١) يَسْبَحُونَ)(٤٠).

في تقدير العزيز الحكيم نظام دائب حيوي دونما فوضى جزاف ف (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) في جريها لمستقراتها الحيوية ، وهي أكبر منها وأقدر بملائين الأضعاف ، لاختلاف الفلك المجرى المقدر لكلّ منها ، واختلافهما في جريهما كما وكيفا ، فلو أدركته في سيره بمسيره لكان في شهر واحد صيف وشتاء أمّا ذا من فوضويات التكوين! فإذا كان القمر على أفق المشرق أيام الاستقبال كانت الشمس على أفق المغرب تقابله ، ويطلع القمر عند غروبها ويغرب عند طلوعها ، فلا ينبغي للشمس أن تدرك القمر ، ولو

__________________

ـ ووهب لمريم عيسى فعيسى من مريم ومريم من عيسى وعيسى واحد وانا من أبي وأبي مني أنا وأبي شيء واحد فقال له ابو سعيد فأسألك عن مسألة قال : سل ولا إخالك تقبل مني ولست من غنمي ولكن هاتها فقال له : ما تقول في رجل قال عند موته كل مملوك لي قديم حر لوجه الله؟ قال : نعم ما كان لستة أشهر فهو قديم حرّ لأن الله عز وجل يقول (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) فما كان لستة أشهر فهو قديم حر قال : فخرج من عنده وافتقر وذهب بصره ثم مات لعنه الله وليس عنده مبيت ليلة.

٦١

كان للقمر حركة واحدة بها يسبق الشمس ولا تدركه ، وللشمس حركة واحدة بها تتأخر عنه ولا تدركه ، لبقيا لمدة مديدة في مكان واحد ، لأن حركة الشمس كل يوم درجة ، فقدر العزيز العليم في السيارات حركات أخرى دون حركة الشهر والسنة هي الدورة اليومية ، فلا تسبق ـ إذا ـ سيارة أخرى ، إذ تطلع كلّ وتغرب مقابلها ، وفي ذلك النظام (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا ...).

كما ولا ينبغي لها أن تدركه في ميزّاته الذاتية وتأثيراته الخاصة فضلا عن أن يدركها القمر في ميّزاتها وخواصها ، فلا درك هنا ولا هناك ولا تدارك إلّا درك التلاقي الجمع يوم التلاق الجمع : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ...).

(وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) كما لا يسبق النهار الليل ، ـ إذا ـ يجتمع ليلان أو نهاران فيختل بذلك النظام ، ف : «الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل ، لا ينبغي للشمس أن تكون مع ضوء القمر ولا يسبق الليل النهار فلا يذهب الليل حتى يدركها النهار (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يجيء وراء فلك الاستدارة» (١).

ولأن الليل والنهار متضايفان ، فلا ليل إلّا بعد نهار حيث الليل يحصل بغروب الشمس عن الأفق ، فليس الليل ـ إذا ـ سابق النهار منذ البداية ، كما لا يسبقه حتى النهاية وكما وردت به الرواية (٢).

__________________

(١). نور الثقلين ٤ : ٣٧٨ ج ٥٢ تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٣٨٧ ج ٥٣ عن المجمع العياشي في تفسيره بالإسناد عن الأشعث بن حاتم قال : كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا والفضل بن سهل والمأمون في الإيوان بمرو فوضعت المائدة فقال الرضا (عليه السلام) ان رجلا من بني إسرائيل ـ

٦٢

في سبق الليل النهار تأخير طلوع الشمس قدر الليل فيقوم ـ إذا ـ مقام النهار وهذا لا ينبغي في نظام الكون.

إذا فللنظر في رد الشمس وأضرابه مجالات هذه منها في حقل النظام المقدر الحيوي و (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)! ..

ومن سبق الليل النهار أن يمانع ظهور النهار والجو الحامل لهما واحد ، كذلك لا ينبغي ان يكون الموت سابق الحياة ان يمنع لحوقها بعده في الدار الحيوان ، كما الحياة لم تمنع الموت قبل الحياة الحيوان.

وكيف ينبغي الفوضى ـ إذا ـ في درك او سبق «و» في ذلك التقدير «كل» من الأرض والشمس والقمر «في فلك» يخصه ، وجادة معبّدة فضائية تخصه «يسبحون»؟!

كل من هذه الثلاث عمال للدرك والسبق سلبا وإيجابا دونما استغلال لليل أو نهار ، فانما هو الأرض والشمس والقمر السابقة الذكر ، العاملة لحادث

__________________

سألني بالمدينة فقال : النهار خلق قبل ام الليل فما عندكم؟ قال : وأداروا الكلام فلم يكن عندهم من ذلك شيء فقال الفضل للرضا (عليه السلام) أخبرنا بها أصلحك الله قال : نعم من القرآن ام من الحساب؟ قال له الفضل من جهة الحساب فقال (عليه السلام) قد علمت يا فضل ان طالع الدنيا السرطان والكواكب في موضع شرقها فزحل في الميزان والمشتري في السرطان والشمس في الحمل والقمر في الثور فذلك يدل على كينونة الشمس في الحمل في العاشر من الطالع في وسط الدنيا فالنهار خلق قبل الليل وفي قوله تعالى (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) اي قد سبقه النهار.

وفيه عن روضة الكافي ابن محبوب عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال : ان الله خلق الشمس قبل القمر وخلق النور قبل الظلمة.

وفي الاحتجاج للطبرسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل وفيه قال السائل : فخلق النهار قبل الليل؟ قال : نعم خلق النهار قبل الليل والشمس والقمر والأرض قبل السماء.

٦٣

الليل والنهار ، ولإمكانية السبق والدرك لولا (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فلا سبح لليل ولا نهار ولا فلك فيه يسبحان ، اللهم إلّا سبحا بالأرض في فلكها.

إن لكلّ من سابحات اليمّ الفضاء فلكا تسبح فيه ، وجادّة فضائية جادّة لا تنزلق عنها ، وإلّا لاصطدمت وتساقطت وتناثرت وقامت قيامتها!

«كل» هنا دون ريب تعم ولأقل تقدير هذه الثلاث ، ومما يبرهن له «يسبحون» دون «يسبحان»

ولماذا السابحات هذه وهي غير العاقلة «يسبحون» وهي للعقلاء؟

لأن سبحها في أفلاكها هو سبح العقلاء وأعقل ، إذ لا تغرق في يمّ الفضاء ولا تنزلق عن أفلاكها ، ولا تتغير عن حراكها المقدرة لها ، فللأرض فلكها وحراكها ، وللشمس فلكها وحراكها ، وللقمر فلكه وحراكه دون تبادل واصطدام ، ولا تعارك فانهزام ، اللهم إلّا في حرب قاصدة هادفة يوم القيام.

هذه الثلاث كأضرابها من سابحات السيارات تسبح دائبة في خضمّ الفضاء الفسيح ، وهي على ضخاماتها الهائلة لا تعدو وان تكون نقطا وسماكا صغيرة في ذلك اليم دون خرق أو غرق ، وكم من خارقة وغارقة في خضمّ الحياة من إنسان وسواه وهو من أعقل العقلاء.

وحقيق للإنسان أن يتضاءل أمام هذه السابحات ويتساءل العزيز العليم ، ما هذه القدرة الشاملة التي انتظمت هذه الملائين الملائين من سابحات السيارات التي لا تحصى؟ ... والجواب (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فهل بعد من ريبة في إحياءه الموتى وهو أهون عليه من ذلك التنظيم القويم!

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ

٦٤

مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) (٤٤).

(وَآيَةٌ لَهُمْ) خامسة للمبدء والمعاد (أَنَّا حَمَلْنا ...) وترى من هم المعنيون ب «هم» ثم من هم ذريتهم؟ ومن ثم ما هو الفلك المشحون؟

«لهم» تعني الموجودين زمن نزول الآية لأقل تقدير ومتيقنه ، حيث الآيات الخمس وأضرابها المسرودة في القرآن تعني توجيه الحاضرين كمبتدء الدعوة ، ومن ثم الآخرين لمّا يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم.

أترى ذريتهم هم أولادهم ، فإنها الأولاد من الذر : الصغير ـ كما في آياتها ال (٣٢) دونما استثناء؟ وهم لم يحملوا أنفسهم في الفلك المشحون : سفينة نوح ، فضلا عن ذريتهم!

أم إن ذريتهم هم أولادهم والفلك المشحون هي السفن الموجودة زمنهم؟ ولكنه مشحون من مبعدات في أبعاد :

فالفلك ياتي مفردا كما هنا وفي عديدة سواها ، وجمعا كأخرى ومنها (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) (١٠ : ٣٢) ولم يأت المشحون في آيات الفلك ال (٣٢) إلا شذرا! ثم وأين ذلك الفلك الواحد الذي حمل ـ فقط ـ ذريتهم زمنهم وهو مشحون؟ ثم هل هو مشحون بهم وذريتهم أم وسواهم بذريتهم أم هم جميعا بهم؟ وهكذا حمل أسهل وأرحم من حمل ذريتهم بخصوصهم لو كان! والفلك أيا كان يحملهم وذريتهم مشحونا وغير مشحون.

ثم لا يحمل الفلك صفعة المشحون إلّا هنا وفي الشعراء (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)(١١٩) شحنة تجمع النماذج من بني الإنسان ومختلف الحيوان : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ

٦٥

عَلَيْهِ الْقَوْلُ ...) (١١ : ٤٠) شحنة مطلقة تجمع من دوابّ الأرض ما تبقي نسلها ، ثم لا نجد مشحونا آخر في (٣٢) فلكا في سائر القرآن إلّا نسبيا في يونس (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٣٧ : ١٤٠).

إذا فليس الفلك المشحون الحامل ذريتهم إلّا فلك نوح (١) إذ لا يحملهم يونس ، فلا نحتمل أنه فلك زمنه يحمل ـ فقط ـ ذريتهم ، كما وتؤيده أخيرا (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) وإذا لم يكن فلكا بخصوصه وعم كل فلك فما مثله إلّا نفسه؟

أم إن «ذريتهم» هنا هم جدودهم الأعلون الناجون في سفينة نوح (عليه السلام) بتأويل أنهم ذرّوهم كما أنهم ذروا منهم؟ وليست الجدود ذرية لا في اللغة ولا في القرآن كلما أتت بمختلف صيغها في ال (٣٢) موضعا وقد قوبلت بالآباء الشاملة للجدود : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ...) (٦ : ٨٧) (مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) (١٣ : ٢٣) و (٤٠ : ٨).

فليست ذريتهم جدودهم بل هم من (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) (١٧ : ٣).

وحتى إذا أتت الذرية بمعنى الجدود في لغة شاذة وما أتت ، لا ينبغي حمل لغة في القرآن على الشاذ ، الشارد عن مستعملات القرآن واللغة الرائجة الفصحى!

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٨٧ ج ٥٦ في كتاب الخصال عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل وفيه قال : فما التسعون؟

قال : الفلك المشحون اتخذ نوح (عليه السلام) فيه تسعين بيتا للبهائم ، وفي الدر المنثور ٥ : ٣٦٤ هي سفينة نوح ـ أخرجه جماعة عن أبي مالك وأبي صالح وابن عباس

٦٦

اللهم إلّا ان يعنى بها هم أنفسهم بجدودهم وأولادهم إلى يوم القيامة ، صيغة واحدة تضم مثلث المعاني مهما اختلفت مراتبها في إطلاق الذرية عليهم ، وهو عبارة أخرى عن النسل الإنساني منذ نوح حتى القيامة الكبرى! وقد لا تلائم الجدود آية الجارية لمكان «كم» أم لا تنافيها حيث «كم» فيها لا تمانع أعم منه هنا.

ف «ذريتهم» إذا لا هم أولادهم ولا جدودهم ، بل هم أنفسهم وقد كانوا ذرية في أصلاب من حمل مع نوح (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (٦٩ : ١٢) ولم يحمل المخاطبون هنا في الجارية إلّا وهم ذرية (١) إذا ف «ذريتهم» هنا من إضافة الشيء إلى نفسه وكما في آية الذر (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ...)(٢) (٧ : ١٧٢) حملناهم في الفلك المشحون وهم ذرية ، وكما أنهم كانوا ذرية في الفلك المشحون ، فبأحرى ذريتهم الموجودين والذين يأتون إلى يوم الدين ، إذا ف «ذريتهم» تعني أنفسهم وهم ذرية ، وبضمنهم ذريتهم إلى يوم القيامة حيث الكل حملوا في الفلك المشحون في أصلاب من حمل مع نوح (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً).

وهذه منة ربانية بنعمة بالغة أنه حملهم في الفلك المشحون الجارية ولم

__________________

(١). راجع تفسير آية الجارية الى ج ٢٩ ص (٨٨ ـ ٩٤.

(٢). ف «ذريتهم» في آية الذر ليست لتعني أولادهم ، فان «بني آدم» تشملهم بأولادهم ، ففيما تعني «هم» في «ذريتهم» الآباء فقط من بني آدم ، فالأبناء ايضا آباء لآخرين كما الآباء أبناء للأولين ، فلا يصح «ذريتهم» الا كونها اضافة الشيء الى نفسه ، والمقصود ذرية الأرواح لمكان «اشهدهم» وهي الفطر لأنها أعمق أعماق الأرواح كما النطف اعمق اعماق الأجساد ، فالأرواح تتبنى الفطر كما الأجساد تتبنى النطف والتفصيل راجع الى محله.

٦٧

يكونوا شيئا مذكورا ، (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) وهم ذرية في أصلاب آباءهم (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) ولا صراخ مهما كان لآبائهم (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) ...

أو ليس الذي حملكم في الفلك المشحون وأنتم ذرية بقادر على أن يحمل أرواحكم بأجسادكم بعد موتكم في فلك الأرض المشحون ، السابحة في خضمّ الفضاء وأرواحكم هي أرواحكم وأجسادكم من أجسادكم ، يحملكم ليعيدكم فيها مرة أخرى؟ (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١١).

فآية القدرة البارعة الإلهية لإمكانية المعاد ، باهرة في (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) رحمة كامنة تظهر يوم المعاد ، كما كانت لذريتهم.

(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) هم أنفسهم ، فبعد ما حملوا في أصلاب آبائهم في الفلك المشحون كنعمة سابقة سابغة ، يحملون هم كآباء حاملين ذريتهم في مثله تداوما في أنسال بني الإنسان.

وهنا «من مثله» دون «مثله» لتعم كافة أمثاله مما يركب. فالمماثلة بين فلك نوح المشحون ، قد تكون تامة ، ولا تعنيه «من مثله» إذ لا مثيل له تاما طول التاريخ الإنساني ، أم غير تامة تلمح لها «من» فقد تكون مماثلة في «المشحون» نسبيا ، أم ـ فقط ـ في كونه فلكا ، أم وحتى أية سفينة أمّاهيه من مركوبات بحرية ، أم ـ فقط ـ في كونه مركوبا بحريا او بريا او جويا ، مصنوعا أم حيوانا وأيّا كان من مركوب طول الزمان وعرض المكان ، فقد تعني «من مثله» كل هذه الأمثال على اختلافها كونا وكيانا.

فالآية ـ إذا ـ على غرار (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (١٦ : ٨) إذ تشمل ما علّه شملته آية (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ

٦٨

ما يَرْكَبُونَ) ـ (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (٤٠ : ٨٠) (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ (١) الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) (٤٣ : ١٢) اللهم إلّا بفارق المضي في «وخلقنا» هنا و «يخلق» هناك حيث تخرج المخترعات المستقبلة عن نطاق الآية ويبقى ما مضى.

فتعم كل ما صنعه الإنسان ويصنعه من سفن فوق البحرية وتحت البحرية والجوية التي تسبح في البحر كما في الفضاء والبر ، بمختلف الوسائل الشراعية بالرياح ، والبترولية والكهربائية والذرية أمّاذا؟.

(وَخَلَقْنا لَهُمْ) لا ينافي أنها من صنعهم ، فإن الله هو خالقهم وخالق المواد والطاقات التي يستخدمونها ، وخالق العقل الذي يدبرها كيف يخترعها؟ فهم بما صنعوا خلقناهم وخلقنا لهم ، فنصيب الصانعين والمخترعين مما صنعوا أو اخترعوا بجنب ما خلق الله ضئيل هزيل ، إذ لا يبقى لهم منها إلا اختيار الفعل ، وهو أيضا من خلق الله ، فهي من حيث الخلق والصنعة إلى الله أنسب منها إليهم وأقرب.

(وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) لا تشمل مركوبات البر ، ولكنها تعم البحرية وفوق البحرية ، ثم البحرية (إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) تعم غرقهم في سفينة نوح. إذا (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) تعني لا صراخ لهم إذ لا كون لهم ولا كيان إذ هم ذرية في أصلاب آبائهم وبأحرى (لا يُنْقِذُونِ).

ثم في سفن أخرى (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) تعم صراخهم كما هم في الفلك المشحون ، والذي يستجيبهم في صراخهم ، ولذلك (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) دون «لا صراخ لهم» علّه ليشمل الأمرين ، ثم (وَلا يُنْقِذُونِ) حتى إذا كان لهم صريخ وصراخ ، إذ لا يقدر أحد أن ينجيهم والله يشاء أن يغرقهم!

فلك في خضمّ البحر الملتطم كالريشة في مهب الرياح المتماوجة وعصف في بثج الأمواج الهائجة ، لا يدرك هو له إلّا غامر البحار ، فمن

٦٩

ذا الذي ينجي الغرقى حين تقطعت بهم الأسباب (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ).

اجل (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) من غرقه تعالى (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) وهنا يصح المقال : أعوذ بك منك ، وبرحمتك من عذابك ، (وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) قرر في الذكر الحكيم واللوح المحفوظ ، متاع الحياة ابتلاء وامتحانا لعلهم يتقون.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٤٦).

رغم كافة الآيات الدالة على المبدء والمعاد هم أولاء الحماقى الأغفال لا يتبصرون بها (وَإِذا قِيلَ ... لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) لا يتقون.

لا ياتي هنا صراح الجواب إذ هو معروف من حالهم النكدة البئيسة ، وبما يعمم حالهم : (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) و (ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) تعم : حالهم الحاضرة وما تستقبلها يوم الدنيا ، وحياتهم الأخرى التي يستقبلونها بعقوبات فيهما فإنهما (ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) كما وأن «ما خلفكم» تعم حالهم الغابرة هنا والحياة الدنيا بأسرها التي يستدبرونها بما أصاب من قبلكم من عقوبات ، وتقوى الآخرة هي حصيلة تقوى الدنيا بترك الطغوى فيها (١) والتذكر بآيات الرب والتربّي بها.

هذه الآيات الصارمة هي بذواتها تكفي هزّة وارتعاشة وانتفاضة لقلب مفتوح ، ولكنهم على قلوبهم أقفالها ورينها (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٣٨٨ ح ٥٧ في المجمع روى الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : معناه اتقوا ما بين أيديكم من الذنوب وما خلفكم من العقوبة.

٧٠

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٤٧).

كلمة إيمان يقولها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين آمنوا ، للذين كفروا (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) رزقكم لا لكم ـ فقط ـ أنفسكم بل و (أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (٥٧ : ٧) (آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) (٣٤ : ٣٣) (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) استنكارا في عجاب من قولة الإيمان ، أن الرزق إنما هو بمشيئة الله ، وليس إنفاقنا ايمانا بل هو شرك بالله واستقلال بجنب الله ، فلو شاء الله لأطعمهم ، دون حاجة إلى مطالبة وسيط والتكدي من عباده المرزوقين ، فإذ لم يطعمهم الله لم يشاء إطعامهم ، فهل نحن أنداد له ألدّاد حتى نخالف مشيئته ، أو نخلفه في رازقيته؟ «إن أنتم» المؤمنين (إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يبينه ذلك الاقتراح الضال ، حيث يمس من كرامة التوحيد والربوبية الوحيدة (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) لا ما سعاه غيره ، فلا يرزق أحد إلّا قدر سعيه ، وأنتم تطالبوننا خلاف هذه السنة الإلهية.

إن حماقى الطغيان لم يشعروا ، أو تجاهلوا الحقيقة الناصعة في الفرق بين المشيئتين : التكوينية والتشريعية ، فقد يشاء الله أن يرزق بسعي أم دون سعي ولا راد لمشيئته ، وهما وجهان من مشيئة التكوين كسنة إلهية اولى في الأرزاق ، وقد يشاء ان ينفق المرزوقون المخلّفون من فضل ما آتاهم ربهم للذين لم يؤتوا قدر الكفاف تحننا وامتحانا ، ولكي يرتبط الخلق برباط العطف والحنان (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) سعيا في طلب الرزق ، وسعيا في إنفاق العفو (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٢ : ٢١٩) وهذا من خالص إيمان التوحيد ، وهنالك تتوارد المشيئتان : التشريعية بالإنفاق ، والتكوينية أن يرزق الفقراء بأيدي الأغنياء.

والحياة الدنيا ككل هي دار ابتلاء بتجاوب المشيئتين ، فمن عصى الله

٧١

لن يغلبه في مشيئته الاولى ، بل هي الثانية التي يعصى فيها ، ومن أطاعه لم ينصره في أمر يعجز عنه ، وإنما تشرّف بكونه من أداة مشيئته.

وقد تكون هذه القالة الضالة من المجبرة وكما (قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) (١٦ : ٣٥) (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) (٤٣ : ٢٠) حصرا للأفعال كلها في مشيئة الله دونما وسيط الإختيار.

هي قولتهم في كل شيء ، وقولة من سواهم من المغالطين أننا مهما كنا مختارين فالرزق بيد الله (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣)

٧٢

فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٦٥)

٧٣

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٨).

اقتراح متعنت مكرور على ألسنة الناكرين ليوم الدين (١) كأنه حجة على المصدقين ، وما هي الصلة بين كونهم صادقين وأن يعلموا متى وعد يوم الدين؟! أليس يعلم كل منا بيقين انه سوف يموت ولكنه لا يدري متاه ومداه ، فهل لنا نكران موتتنا إذ لا نعلم وقته بيقين؟ إن هي إلّا هرطقة حمقاء يخيّلون إلى الحمقاء كأنها حجة على كذب هذا الوعد!

ولا جواب لهذا السؤال ـ وبعد كافة البراهين القاطعة على إمكانية وضرورة المعاد ـ لا جواب إلّا واقعه ، إذ لا انتظار بعد لجواب آخر :

(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ)(٤٩).

وإنها صيحة الإماتة لقيامة التدمير ، وتتلوها صيحة أخرى لقيامة التعمير ، وترى كيف ينظرونها وهم ينكرونها؟ إنه واقع الانتظار وإن كانوا ينكرون ، حيث المنتظر لهم واقع الجواب ، فإذا لا تقنعهم البراهين القاطعة فلتكفهم صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون.

إنهم ما ينظرون إجابة عن (مَتى هذَا الْوَعْدُ) فحتى لو حدّد لهم كذبوه وزيادة ، فليس لهم ـ إذا ـ إلّا واقع الانتظار لواقع الجواب وآخر الدواء الكي!

إن الصيحة الواحدة تأخذهم على غفلة ونكران ، إذا فالارتجاف أتم والإيخاف أعظم وأطمّ ، وتكفيهم إجابة عن سؤالهم المستهزء المتعنّت ، ثم الصيحة الثانية واقعة وليست إجابة بعد الأولى ، ولذلك (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) لا أكثر ، (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) (٣٨ : ١٥) وتلكم الصيحة الواحدة تجعلهم حيارى لحد: (فَلا

__________________

(١) نجد نفس الصيغة في ١٠ : ٤٨ و ٢١ : ٣٨ و ٣٤ و ٦٧ : ٢٥ : ٢٥. وآية يس خامستها.

٧٤

يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ)(٥٠).

أهلهم كأمثالهم في أخذة الصيحة ، فأين التوصية لهم أو الرجوع إليهم؟ وحتى إذا لم تأخذهم! فالصيحة هي المانعة لهم عن هذه أو تلك وكما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها (١).

ثم تتلو الصيحة الواحدة نفخة هي الصيحة الثانية للإحياء : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) (٥٠ : ٤٢) :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ)(٥١).

ليس الصور جمعا للصورة ، وقرائة الفتح مردودة لمخالفتها المتواترة ، ولرجوع ضمير المفرد المذكر إليه في سائر القرآن : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ).

وهنا نفختان هما الصيحتان ، وصيحتان هما النفختان : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩ : ٦٨) (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٢٧ : ٨٧).

والصور هو البوق الصارخ في أعماق الأرواح فتفيق عن صعقتها

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٦٥ ـ اخرج سعيد بن منصور والبخاري ومسلم وابن المنذر وابو الشيخ عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

٧٥

الناتجة عن النفخة الأولى بأبدانها المثالية ، وفي نسل الأبدان الدنيوية على قدر.

وهو نقرة الناقور (١) تضرب إلى الأعماق (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ).

فكما الصيحة الأولى أماتتهم لوطئتها ، كذلك الثانية تحييهم لوقعتها ، إزعاجة لها فاعليتها ، إماتة مرة وإحيائة أخرى ، ولا عوان بين إماتة وإحياء للأرواح ، فالصيحة الصور بين إماتة كالأولى وإحياءة كالثانية ، ولأن الأرواح ـ إلّا من شاء الله ـ مصعقة في النفخة الأولى ، كما الأبدان ميّتة ، فنسلهم من أجداثهم إلى ربهم هو إفاقة الأرواح ورجعها إلى أبدانها (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ).

وترى ما هو نسلهم من أجداثهم إلى ربهم؟

الأجداث هي القبور : الأمكنة التي تحوي الأجساد برزخية ودنيوية بأرواحها ، سواء أكانت تحت الأرض أمّاذا؟ مجموعة الأجزاء أم متفرقة ، منضمة إلى أشياء أو أبدان أخرى أم مستقلة ، فإنها لا تضلّ عن علم الله مهما ضلت عنا ، فللكل أجداث لأجسادهم وأرواحهم وهي المحالّ التي تضمها : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١١) (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) (٧٠ : ٤٣) (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (٥٤ : ٧) : خروجا للأرواح داخلة في أجسادها على قدر اللازم في المعاد.

والنسل هو الانفصال (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) (٢١ : ٩٦)

__________________

(١) راجع ج ٣٠ ص ٣٤ ـ ٣٦ من تفسير سورة النبأ ففيه نبأ فصل عن الصور.

٧٦

انفصالا من كل المرتفعات ، كما انفصال الذرية عن الآباء : (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٣٢ : ٨) (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) (٢ : ٢٠٥).

أفترى أن نسلهم من أجداثهم هو ـ فقط ـ انفصالهم عنها بأجسادهم؟ وليس كل انفصال نسلا! بل هو انفصال خاص في انفعال خاص كنسل الذرية عن الآباء وهو الخاص بيوم الدنيا ، ونسل الإنسان مرة أخرى يوم الأخرى دون آباء (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٧ : ٢٩) ولكنهم ينسلون هنا سراعا دون مكوث الأولى في رحم أمّاذا؟.

فإذا كان العود كالبدء إلّا في الآباء والمكوث في الأرحام ، فليكن «ينسلون» خلقا لهم جديدا لهم كما خلقوا أوّل مرة.

إنهم ينفصلون بكل أجزائهم عن كل اتصال غريب ، ثم تنفصل أجزاؤهم الأصيلة التي عاشوها في حياة التكليف وكل الحيات ، ثم تنسل هذه الأجزاء لخلق آخر كالأوّل ، دون اختلاف عن الخلق الاوّل إلّا فيما نعلمه هنا (١) أمّاذا؟ سراعا ودون أصلاب وأرحام! فنطفته التي خلق منها أوّل مرة بطول الآماد والأبعاد ، يخلق منها مرة أخرى دون أبعاد وآماد ، ودون أصلاب وأرحام.

وهنا نسل الأرواح هو انفصالها عن صعقتها ، ونسل الأبدان كما بيناه ، ثم الأرواح ترجع إلى أبدانها ، وهذا النسل المثلث يكون إلى ربهم (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)!

إن النفخة الثانية تنسلهم إلى ربهم سراعا دون مهل ، خلاف ما كانوا

__________________

(١) كخروج النطفة من الصلب والترائب واستقرارها في الرحم طول مدة الحمل ، وتنقّلها من صورة إلى صورة حتى انشأها الله خلقا آخر.

٧٧

ينسلون من الأصلاب والأرحام يوم الدنيا ، وانهم يوم الدنيا كانوا ينسلون إلى ربهم بربوبية الامتحان التكليف ، وفي الأخرى ينسلون الى ربوبية الجزاء دون تكليف ، وأين نسل من نسل ، يوم الوصل ويوم الفصل؟

(قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)(٥٢).

الويل والعويل هناك ليس إلّا لمن كذب الرحمن والمرسلين ، وكذب بيوم الدين ، ولكنما المرقد يعمهم وجميع المكلفين ، وما أحسنه وأوضحه تعبيرا عن الحياة البرزخية بالمرقد ، ضلع متضلع بين مربع الاحتمالات في الحالة البرزخية (١) وهي الآية الوحيدة اليتيمة التي تحمل لها سمة المرقد ، والرقدة هي النومة مقابل اليقظة (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) (١٨ : ١٨) فالمرقد هو الرقدة وزمانها ومكانها.

ولأن القرآن كتاب هدى وبيان ، فليس ينقل مقالة زائفة زائغة إلّا زيفها ، فهم ـ على كفرهم ـ مصدّقون في «مرقدنا» لا سيما وهم في نهاية البرزخ وبداية القيامة ، فليسوا ليكذبوا على الله وهم في يوم الله.

إنهم حينذاك (قالُوا يا وَيْلَنا) وقد كنا نكذب بيوم الدين وهذا يوم الدين (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) وقد كنا راقدين قبل بعثنا في برزخنا.

أترى كيف يعبر عن الحياة البرزخية بالمرقد وهم فيها أحياء يرزقون أو يعذبون؟ لأن الغالب لهم فيها الرقاد دون رزق فيه ولا عذاب ، فإنما اليقظة لهم بكرة وعشي (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١٩ : ٦٤) (وَحاقَ

__________________

(١). فبعد التأكد من الحياة البرزخية كنا بين محتملات اربع رابعها المرقد ، والثلاثة الأخرى هي اليقظة الدائمة والرقدة الدائمة وغلب اليقظة على الرقدة ، وعكسها وهي الرابعة.

٧٨

بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٠ : ٥٠).

وكما أن غرفة النوم يغلب فيها النوم واليقظة قلة قليلة كمقدمة له ومؤخرة عنه ، كذلك البرزخ هو كغرفة النوم ، وهذا هو الذي يحملهم أن يقولوا (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أماذا من قلة قليلة من لبثهم في برزخهم.

وترى كيف يستنكرون بعثهم عن مرقدهم في عجاب ، وبحسبهم الحياة البرزخية دليلا صارما على حياة الحساب الجزاء بعد الموت؟

«يا ويلنا» ليست إلّا تصديق الويل لهم ما لم يكونوا يحتسبون و «من بعثنا» ليس استنكارا ، بل هو استعجاب ، ولم تبرهن لهم الحياة البرزخية إلّا نفسها ولمّا يعلموا بيقين أنهم مبعوثون ليوم الدين ، إذ تعرّق الكفر في أعماقهم لحد لا يخرج إلّا بواقع الحياة الحساب ، فقالوا (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) ثم أجابوا هم أنفسهم (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) أن نبعث من مرقدنا (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) فيما أرسلوا به ومنه بعثنا ، أو أن الجواب من الله أو من يجيبهم عن الله؟ قد يعنهما «هذا ...» ولو خص بغيرهم لجيء بما يخصه ، ك «قيل» أو «قلنا» ، ثم «الرحمن» دون «الرحيم» مما يلمح أنه قولهم مهما همّ غيره ، فلو كان قول الرحمن لكان «وعد الرحيم» حيث الرحمة الرحيمية هي المقتضية للحياة الحساب ، مهما اقتضت الرحمانية إمكانية العود في المعاد ، وليس ـ أخيرا ـ وعد الرحمن إجابته تعالى عن فاعل البعث ، وإنما تحقيق الوعد وتطبيق الصدق.

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٥٣).

«إن كانت» النفخة الثانية في الصور كما الأولى (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) فالنفخة هي الصيحة النقرة (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥٤ : ٥٠) دون

٧٩

تكلّف الزيادة ، فصيحة واحدة تأخذهم إماتة ، وصيحة واحدة تحضرهم لدى ربهم إحياءة!

أترى ليسوا هم أولاء هم محضرين عند ربهم حتى يصبحوا في الأخرى محضرين؟ ... بلى قد كانوا ولكنهم في امتحان الإختيار ، ثم هم يوم الأخرى ليس لهم إمتحان ولا إختيار ، فهم فيها (جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) حضورا مطلقا بعد ما كانوا عنده بمطلق الحضور ، وأين حضور من حضور؟

حضور قد يتخلف عن مرضاته وليس فيه هناك حساب ولا عقاب ، وحضور لا يتخلف وفيه الحساب فالعقاب أو الثواب.

و «جميع» تجمع الأولين والآخرين خروجا عن خصوص الكافرين : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى يوم الدين ف «ذلك يوم الجمع» أم يخص الكافرين حيث المحضر تلمح لحضور مكره ، وليس في حضور المؤمن لذلك المحضر اي مكره! وآيات «المحضرين» تخص الكافرين.

(فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٥٤).

لا تظلم نفس انتقاصا في ثواب يستحقه بفضل الله كما وعد ، أم في عقاب بزيادة فإنه بعدل الله كما أوعد ، وعلى اية حال ف (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) فلا نفس تظلم نفسها حيث الحقائق مكشوفة والظلم نتاج الجهل او الجهالة ، ولا أية نفس تظلم غيرها ـ وكذلك الأمر ـ ولا أن الله يظلم نفسا ، فإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف ، فلا المظلوم يوم الدنيا يظلم في الأخرى ألا يقتص من ظالمه كما يحق ، ولا الظالم يظلم ان تزداد عقوبته على ظلمه ، فالجو هناك جو العدل والفضل ، وفي «اليوم» لمحة باهرة بانحصار الظلم في حياة

٨٠