الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ

٢٨١

مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ

٢٨٢

وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ)(١٦)

٢٨٣

نتسمى هذه السورة بالزمر لأنها تتحدث عن الزمر جملة وتفصيلا ، ففي جملتها سوق الذين كفروا إلى النار زمرا وسوق الذين اتقوا إلى الجنة زمرا ، وتفصيلا حيث تتحدث على طولها عن زمر الجنة وزمر النار.

وكلها تحوي محوى موضوع واحد هو توحيد الله تعالى ، طائفة بالقلب في تعاقب جولاتها تطبع فيه حق التوحيد والتوحيد الحق ، وتمنع عنه تسرّب كل شرك ، حيث تستعرضها في صور شتى.

وتقارب آياتها في صلاتها يبرزها كأنها نزلت كما الّفت والّفت كما نزلت ، حيث الصلة الأليفة تبعّد اختلاف تاليفها عن تنزيلها ، وليست بذلك بدعا من السّور فكم لها من نظير.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)(١) إنا أنزلنا.

كما أن إنزال الكتاب من الله العزيز الحكيم كان جملة في إحكام في ليلة القدر دفعة دون تدريج ، كذلك تنزيل الكتاب تفصيلا في تدريج طول البعثة هو من الله العزيز الحكيم (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١١ : ١) ف «الكتاب» المنزّل هو المنزل مهما اختلفت صورة الجملة عن صورة التفصيل.

(تنزيل الكتاب) مبتدأ و (من الله) خبره المؤكد ، أو أنه خبر للبسملة ، أنها تنزيل الكتاب في تفصيله المجمل فإنها تحوي الكتاب جملة كما الكتاب كله تحويه تفصيلا ، أم إنه خبر ل (هذا) أمّاذا من مبتدء؟ وكلّ محتمل والأول أجمل وفاقا لأدب اللفظ دون حذف ، ولأدب المعنى حيث أردف التنزيل بالإنزال.

فعزة الله وحكمته باهرتان في هذا التنزيل كما هما في ذلك الإنزال ، ومن تنزيل الكتاب (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)!

٢٨٤

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ)(٢).

(إنا أنزلنا) تأكيد مثلث في (إن) وتكرير (نا) لجمعية الصفات في مثلث الحق : (أنزلنا بالحق) (إليك بالحق) (الكتاب بالحق) حق أنزل إلى حق إنزالا بحق ، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ، ومن لم يجعل الله له من نور فما له من نور!

فالحق سمة الكتاب في أصله ونزوله ومنزله ، أترى كيف بالإمكان تسرّب الباطل في ذلك الحق؟! إذا (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ)

و (الدين) يوم الدنيا هو الطاعة ، وهو يوم الأخرى جزاء الطاعة ، وهو بروز حقيقة الطاعة ولا جزاء لها إلّا هي ، (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) : الطاعة ، في عبادة السر والعلانية ، في النية والعقيدة المطوية ، وفي أعمال الجارحة الظاهرة جهارا وخفية ، دون شرك ولا رئاء الناس أمّن ذا حتى نفسك ، متخليا عمن سوى الله ، متحليا بالله.

فإخلاص الطاعة لغير لله إلحاد في الله ، ومشاكسة الطاعة لله ولغير الله إشراك بالله ، وإخلاص الطاعة لله توحيد في طاعة الله (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أنت يا حامل الرسالة السامية ، لتكون نبراسا تنير الدرب على الدينين كيف يدينون الله في طاعته وعبادته! ولتقوم الحياة فرادى وجماعات على هذا الأساس ، مراسا في إخلاص وإخلاصا في ذلك المراس ، وليكون متراسا وجاه كل إشراك بالله في أي حقل من الحقول.

ليس الدين الخالص كلمة تقال ، فكثيرون يتكلمون بالإخلاص ولا يدينون ، إنما هو منهاج حياة في كافة الجنبات يبدأ من تصور فتصديق فاعتقاد ، وينتهي إلى نظام عملي في حياة الفرد والجماعات.

(ألا) : فانتبهوا ـ إعلانا عاليا مدوّيا في إذاعة قرآنية ، وتعبيرا جليا

٢٨٥

جليلا مجلجلا للعالمين أجمع : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) فكما له الألوهية والربوبية الخالصة دون ندّ ولا ضد ولا شريك ، كذلك له الدين الخالص طاعة وعبادة ، فلا يعبد في ميزان الله ـ وهو الحق ـ إلّا الله ، ولا يطاع إلّا الله ، اللهم إلّا من يحمل رسالة الله كوسيط في طاعة الله ف (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ).

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ)(٣).

إنه لا ولي في كافة معاني الولاية الحق إلّا الله ، أمّن يلي شرعة الله والدعوة كوسيلة إلى الله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) يعبدونهم من دون الله ، لقد هرفوا فخرفوا في أسطورتهم العاذرة في تخيّلهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (١٠ : ١٨)!

عبادة غير الله يبعّد العابد عن الله ، لأنها تسوية بالله ، فكيف تعبّد طريقا إلى الله : (لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)؟! فالمعبود الوثن لا يعقل ، فلا يقرّب ولا يبعّد إلّا تبعيدا في فعل العابد ، والمعبود الطاغوت طاغ على الله فكيف يقرّب إلى الله زلفى ، والمعبود العابد من ملك او نبي أمّن ذا من الصالحين هم يتقربون إلى الله بدينه الخالص ، ويقرّبون إليه بالدين الخالص ، فكيف يقربون إلى الله زلفى بما ينافر دعوتهم في بعديها؟ بثالوث العبادة الخاسرة الكاسرة!

ولقد احتج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجاجه مع قادة الأحزاب ، على مشركي العرب قائلا : (وأنتم فلم عبدتم الأصنام من دون

٢٨٦

الله؟ فقالوا : نتقرب بذلك إلى الله تعالى ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : أو هي سامعة مطيعة لربها عابدة له حتى تتقربوا بتعظيمها إلى الله؟ فقالوا : لا ـ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : فأنتم الذين نحتّموها بأيديكم فلإن تعبدكم ـ هي لو كان يجوز منها العبادة ـ أحرى من أن تعبدوها إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلّفكم) (١).

وفي الحق إن تسوية غير الله بالله في أية منزلة من منازل الربوبية ضلال مبين : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢٦ : ٩٨) وظلم عظيم : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فكيف تكون ـ إذا ـ حال من يعبد من دون الله ولا يعبد الله ، زعم أنه يقرب زلفى إلى الله؟ إنه أظلم وأطغى وأضل سبيلا! حيث الزلفى هي القربة الزلفى (٢) الراجحة على قربة العبادة دون إشراك! فيا لهم مراما ما أبعده أن يعتبروا عبادة غير الله أفضل وأحظى من عبادة الله.

وهكذا خيّل الى بعض الصوفية إذ يوجهون خطابهم في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إلى صورة المرشد القطب ، زعما أنهم لا يليقون لخطاب دون فصل لبعدهم عن ساحته تعالى وبعده في محتده عنهم ، فليعبدوا مقربا عند الله ليقربهم بذلك إلى الله! وهم بذلك يزدادون بعدا عن الله ، كما ازداد طاغوتهم بعدا على بعد (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ)! وهم بهذه الهرطقة الجاهلة القاحلة ينزّلون الرب عن ساحته ، ويمسون من كرامته ،

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث طويل وفيه : ثم اقبل على مشركي العرب ...

(٢) الزلفى هي مؤنث أزلف فهي افعل تفضيل في القرب والحظوة.

٢٨٧

مخالفين أمره في عبادته الخالصة ، ورافعين درجة من يزعمونهم عباده إلى درجته الخاصة!

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (حكم) بين الموحدين وسواهم ، وبين المشركين في مختلف شركهم ، وبينهم وشركائهم ، والمشركون هم المحكومون في هذه الثلاث ل (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ) في إشراكه بالله ، (كَفَّارٌ) لأنعم الله ، لا هدى في الأولى ولا في الأخرى ، فالإشراك بالله محكوم في كافة المحاكم العادلة ، لدى الفطرة والعقل والشرعة الإلهية ، ولا يملك أية برهنة إلّا حجة داحضة (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها)!

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)(٤).

(لو) تنحو نحو الممتنع ، حيث اتخاذ الولد له يمتنع ، ولماذا يتخذ ولدا؟ ألكي يرثه بعد موته؟ وهو الوارث لخلقه حيا لا يموت! أم ليسانده في سلطانه؟ وهو المساند لكل سلطان ، غنيا لا يستند ولا يساند! أم لوحشة عن وحدة؟ ووحشة الوحدة ليست إلّا لضعيف عن ضده الأقوى ، ولا ضد له فضلا عن الأقوى! أمّا ذا من أسباب اتخاذ الولد؟ وهي كلها مستأصلة عن ساحة الربوبية : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١٠ : ٦٨)؟

كل ذلك في بوتقة الاستحالة حيادا عن فقره تعالى ونقصه ، كذلك والتبنّي تشريفيا فإنه مجاز فيما تجوز حقيقته : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ

٢٨٨

مُكْرَمُونَ ...) (٢١ : ٢٦) فهم المصطفون في العبودية دون البنوة التشريفية.

ومع الغض عن هذه الاستحالة «لاصطفى» هو (مِمَّا يَخْلُقُ) ٥ «ما يشاء» دون نظرة لاصطفاء المشركين ما يختلقونه كما يشاءون! «سبحانه» عن أن يتخذ ولدا ، أو يصطفي مما يخلق ما يشاء ولدا ، أو يصطفيه غيره ما لا يشاء له ولدا ، لأنه (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) واحد لا يثنى باتخاذ ولدا أو اصطفاءه ، وقهار لا يحتاج إلى ولد يرثه أو يسانده! ... ولكنهم اصطفوا لله ولدا ليسوا ليصطفوه لأنفسهم (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) (١٧ : ٤٠)؟

ولو تخطّينا هذه الاستحالات فاتخذ الله ولدا ، أم ولد لأبعد تقدير ، لم يكن لزامه أن يشرك به إلّا بإذنه دون الأهواء (سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ)(٥).

آية فريدة في تكوير الليل والنهار على بعض ، قد تعني معنى فريدا من الملاحم الغيبية هو كروية الأرض ودورانها.

تكوير الشيء إدارته وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة ، فتكويره على شيء ادارته عليه منضما إليه ، فكل من الليل والنهار دائر على زميله منضم إليه ، فالكرة الأرضية تنقسم دائبا إلى أفقي الليل والنهار ، متصلين ببعض ، وكلّ ركب الآخر دوريا ، وكما هو الثابت علميا والمشاهد عينيا ، فلا وقت من الأوقات ولا آن من الأوان ، إلّا أن نصف الكرة ليل والنصف الآخر المقابل له نهار ، فكل مكوّر على الآخر ، وهما حسب

٢٨٩

الفصول والأيام في تبادل التناقص والتزايد : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) (٢٢ : ٦١) وهما متلاحقان حثيثا : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) (٧ : ٥٤).

فكلما تدبر الشمس عن أفق يقبل فيه الليل فيغشى النهار في طلبه الحثيث ، وكلما تقبل يدبر فيه الليل فيغشاه النهار! فلولا كروية الأرض لاستحال تكوير كلّ من الليل والنهار على الآخر ، فإما ليل فقط أم نهار فقط! ولولا دوران الأرض لاستحال إيلاج كل في الآخر ، وغشيانه الآخر هو الآخر!.

كور الليل من ناحية وكور النهار من أخرى يقتضيان دورين للكرة الأرضية ، فلولا كور السطح نهارا لم يكوّر النهار على الليل ، ولولا كور السطح المقابل ليلا لم يكوّر على النهار ، حيث التقابل المسطح ليس كورا ، فإنما هو التقابل النصف دائري لمكان الكورين.

فهذه الآية ترسم أنسق تعبير وأدقه لكور الأرض ودورها حول نفسها وحول شمسها ، لا نجده في الصلاحات الجغرافية طول التاريخ الجغرافي!

ثم في الآية ثلاثة مواضع تدلنا على إمكانية ولزوم المعاد الحساب :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ).

فعلى حق الخلق فيهما يحق المعاد ، ولو كان باطلا لبطل المعاد : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٣٨ : ٢٧) (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤٤ : ٣٩). فلو كانت الحياة هي الدنيا لحقّ فيها الحساب ، وإذ لا حساب هنا على الظلم الوفير فخلق العالم باطل لولا عالم الحساب.

ثم في تكوير كلّ من الليل والنهار على بعض تقريب لإمكانية الحياة

٢٩٠

بعد الموت كما الموت بعد الحياة ، وهما لإحياء الإنسان حياة لائقة كما أن الليل والنهار حياة في الأولى سباتا وإبصارا (١).

وأخيرا في جري الشمس والقمر لأجل مسمى دليل ثالث على أجل مسمى.

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)(٦).

«خلقكم» نوع الإنسان الحالي في طوله التاريخي وعرضه الجغرافي ، دون المخاطبين فقط زمن النزول حيث الخطاب من زمرة القضايا الحقيقة ، لا الواقعية الفعلية ، فهي كآية النساء : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ...).

(مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) بادئ الخلق آدم ابو البشر ، دون ثانيه وما يتلوه فإنه من نفسين اثنتين لا واحدة (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) بعد ما خلق النفس الواحدة وفيها خلقكم جملة كبداية ، جعل منها زوجها وفيه خلقكم تفصيلا ، ثم لا ثالث لتفصيل الخلق كما لا ثاني لجملته ، إذا فمبدأ النسل الإنساني ككل في تفصيله ليس إلّا نفسين ، وأسطورة الحورية والجنية ، على تضارب الروايات فيها ، لا توافق القرآن هنا ولا سيما آية النساء (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ،) وهم «الناس» المخاطبون أجمع ، فلو كان هنالك لبثّ الناس ، رجالا كثيرا ونساء ، مدخل من ثالث ورابع لكذب القول

__________________

(١) راجع تفسير الآية ٣٩ من الدخان ففيه تفصيل الدليل على البعث على ضوء حق الخلق.

٢٩١

«منهما» والآية في مقام العرض لواقع التناسل أولا وأخيرا!

و (جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) هنا و (خَلَقَ مِنْها زَوْجَها) هناك تعبيران عن خلق الزوج الأول المجعول لنفس واحدة و «منها» جنسية ونشوية ، فهما متجانسان ، لا في البداية فحسب ، بل على طول الخط كما تلمح له «ثم» الدالة على التراخي ، وليس خلقكم إلّا بعد ما جعل منها وخلق زوجها ، وهذه دلالة ثانية ترفض ثالثا ورابعا من حورية وجنية وهما ليستا «منها» ثم «زوجها» ناشئة منها في البداية ولا تنشأ الحورية والجنية من الإنسان على أية حال ، كدلالة ثالثة على إبطال هذه الأسطورة ، وتفصيل البحث عنه تجده في آية النساء مما يشي ككل بوحدة التصميم الأساسي لهذا الكائن الإنساني مبدأ (نَفْسٍ واحِدَةٍ) وتناسلا (جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) دون تدخّل لكائن آخر أولا وأخيرا.

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ...) أنزولا من السماء إلى الأرض؟ وليس الله إله السماء فقط أو ما كن السماء حتى يعني إنزاله لنا رحمة إنزالا من السماء (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١٥ : ٢١) ومعلوم أن العندية هنا ليست مكانية إذ ليس له مكان ، وإنما عندية العلم والقدرة والرحمة ، فتنزيله ككل ، وإنزال ثمانية أزواج ، إنزال لرحمة من عنده ، نزولا من عليائه إلى دنيا البشر «فإنزاله ذلك خلقه إياه» (١) كما (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ...).

هذا ، ولا يعني الإنزال من السماء إلّا في تصريحة بالسماء (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ ...) (٣ : ١٦٤) و (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) مفسّرة في آية

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٧٦ عن الاحتجاج للطبرسي عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال في الآية : فإنزاله ...

٢٩٢

الأنعام : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً ... ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ... وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ...) (١٤٢ ـ ١٤٤).

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ).

فلنا في بطون أمهاتنا خلق بعد خلق في ظلمات ثلاث ، فما هما الخلقان وما هي الثلاث؟ «خلقا بعد خلق» تشير إلى التطور الخلقي الجنيني منذ النطفة إلى إنشائه خلقا آخر : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢٣ : ١٤).

ف (سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) هي المني الذي جعل في قرار مكين (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) (٧٥ : ٣٧) ف «خلقا بعد خلق» لا تعني اثنين ، وإنما تطور الخلق في مراحله السبع هذه (١)

والظلمات الثلاث هي «ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة» (٢) وهي الكيس الذي يغلف الجنين ، وهو يستقر في الرحم المستقر في البطن ، ويد الله تخلق هذه الخلية الصغيرة في مراحلها وظلماتها

__________________

(١) راجع آية العلق في سورتها من تفسير الفرقان ج ٣٠ ص ٣٦٣ ـ ٣٦٥ ، تجد فيه كيفية انعقاد النطفة وما يليها من الخلق بعد الخلق.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٤٧٧ في المجمع هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وفي كتاب التوحيد للمفضل بن عمر المنقول عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرد على الدهرية قال : سنبتدئ يا مفضل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به فأول ذلك ما يدير به الجنين في الرحم.

٢٩٣

الثلاث ، وعين الله ترعاها ، وهل للعلماء مع كشوفهم العلمية المتقدمة وجهودهم المتواصلة واحدة من هذه المراحل في الأضواء ، فضلا عن السبع وفي ظلمات ثلاث.

وإنها رحلة قصيرة الزمن بعيدة الآماد ، غريبة الأبعاد في مختلف التطورات لخليّة هزيلة في تلك الظلمات إلى إنسان كامل الأعضاء! وهو محجوب في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة ، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى ولا استجلاب منفعة ولا دفع مضرة فإنه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات فلا يزال ذلك غذائه حتى إذا كمل خلقه ، واستحكم بدنه ، وقوى أديمه على مباشرة الهواء ، وبصره على ملاقاة الضياء ، هاج هذا الطّلق ـ بأمه فأزعجه أشد إزعاج ـ ذا عنفة حتى يولد!

سبحان الخلاق العظيم! ـ

رب إنك «ابتدعت خلقي من مني يمنى ثم أسكنتني في ظلمات ثلاث بين لحم وجلد ودم ، لم تشهر بخلقي ولم تجعل الي شيئا من أمري ثم أخرجتني الى الدنيا تاما سويا» (١) ف (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)؟ أفتعبدون ما لا يضركم ولا ينفعكم ولا يخلق شيئا؟ «أم هذا الذي انشأه في ظلمات الأرحام وشغف الأستار نطفة دهاقا وعلقة محاقا وجنينا وراضعا ووليدا ويافعا» (٢)!

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما

__________________

(١) من دعاء الامام الحسين (عليه السلام) يوم عرفه : وابتدعت خلقي ...

(٢) نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين علي (عليه السلام).

٢٩٤

كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧).

رغم هذه النعم السابغة ، سابقة ولاحقة ف (إِنْ تَكْفُرُوا) بالله كفرا أو كفرانا (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (١١ : ٥٧) (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) (٩ : ٣٩) (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) لا تنقصون منه فتيلا ولا تزيدونه كثيرا ولا قليلا.

فلا شكركم ينفعه شيئا ولا كفركم يضره شيئا (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (٤٧ : ٣٨) وإنما يأمركم بشكره حيث (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) لا له (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ...) (٢٧ : ٤٠) يرضى شكره لكم طاعة وعبادة لصالحكم أنتم (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١٤ : ٨) و «عباده» هنا كل عباده ، لا الشاكرون فقط ، إذ ينقلب إلى عكسه في الكافرين ، فيرضى لهم الكفر ولا يرضى لهم الشكر! وفيه إعذار للكافر في كفره وتركه لشكره ، فإنما المكلف بالشكر هو الشاكر بطبعه لا سواه!

ف (لا يَرْضى لِعِبادِهِ) نفي لرضاه الكفر تكوينا وتشريعا ، ولذلك ينهى عنه على أية حال ، ولكنه ليس ليحملهم على شكره وألّا يكفروا تسييرا حيث التكليف يتطلّب الإختيار.

ثم الرضا والغضب من الله كسائر صفاته ، لا تعنيان فيه تعالى تحوّل الحال ، إذ لا يتغير بانغيار المخلوقين شكرا أو كفرا أماذا؟ من غيار ، فرضاه هي موافقة المصلحة فالثواب ، وغضبه خلافها فالعذاب ، وكل من الثواب والعقاب هو صورة واقعية تبرز يوم القيامة عن الشكر والكفر صورة طبق الأصل ، ف (ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)!

٢٩٥

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(١) لا يحمل الشاكر وزر الكافر ، ولا يحظو الكافر حظو الشاكر مهما تقاربت الأنساب أم تغاربت ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ـ «ثم» بعد ما تقضون هذه الأدنى «إلى ربكم» في ربوبية الحساب والجزاء بعد ربوبية التكليف «مرجعكم» إليه فقط لا سواه ، فإنه هو ربكم لا سواه «فينبئكم» بعد تغافل في تساهل (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إن خيرا فخير وإن شرا فشر ـ ل (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّار)(٨).

هذه هي سيرة الإنسان وسريرته ، أن فطرته وهي الأصيلة في كيانه ، تبرز عارية في حالة الضر ، متكشفة عن غبارها ، ساقطة عنها ركامها وأوهامها ، حين تنقطع الأسباب وتحار الألباب ، حينئذ يتناسى الإنسان كل سبب لفشلها ، ويذكر ربه مصلحيا ف (دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) راجعا عما كان يدعو ـ في غير ضره ـ إليه ، نوبة بعد أخرى (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً) أعطاه نعمة عظيمة بعد أن كشف ضره ، وكلّ نعمة هناك عظيمة ، فكشف الضر نعمة ، وإعطاء نعمة بعده نعمة على نعمة (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ) من ضر منيبا إليه و «نسي التوبة إلى الله» (٢) : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ

__________________

(١) راجع تفصيلها الى الآية في سورة النجم.

(٢) «ما» بين موصولة وموصوفة ففي الاولى تعني «الضر» وفي الثاني تعني التوبة حال الضر وهما هنا معنيّان ، والثاني نص الحديث التالي في نور الثقلين ٤ : ٤٧٨ ، ح ١٦ في روضة الكافي باسناده عن عمار الساباطي قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ ...) قال : نزلت في أبي الفضيل انه كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنده ساحرا فكان إذا مسه الضر يعني السقم دعا ربه منيبا اليه يعني تائبا اليه من قوله في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما ـ

٢٩٦

الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ...) (١٠ : ١٢).

(ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) ليس إلّا ضره وتوبته لا ربّه ، فإنه كان عند ضره يدعوه ولا يدعو إليه ، والتعبير الصريح عن الله هنا «نسي ربه» و «ما» لا تناسب ساحته وهو المعبّر هنا عن نفسه المقدسة ، ثم (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) هي الاخرى قرينة على انه ليس ربه وإلّا لاكتفى بضميره «وجعل له ...»!

(نَسِيَ ... وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) كما كان قبل ضره ، والند هو المشارك في جوهر الذات فهو أعم من المثل المشارك في الذات والصفات ، والأنداد هنا تعم الوسائل الظاهرة التي يعيشها بعد ما بطلت ، والأوثان بعد ما ضلت ، وسائر المحاولات بعد ما كلّت ، فاضطر ـ بعد ثالوث الأنداد التي تبنّاها في حياته ـ أن ينيب إلى ربه ، وبعد ما خوّله نعمة منه نسي إنابته إليه وجعل لله أندادا في ثالوثها المنحوس (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) التي اتضحت في ضره ، تغطية على تعطية الرب ، كأنها من الأنداد ، وما أخونه وأظلمه وأكفره ، أن يقضي وطره من إنابته حين ضره ، ثم يخيّل إلى المستضعفين أن الأنداد هي التي كشفت ضره وخولته نعمته.

«قل» لهذا الكفور المبين والأحمق اللعين (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) وكلّ متاع الدنيا بحياتها قليل (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ).

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ

__________________

ـ يقول (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ) يعني العافية (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ) يعني نسي التوبة الى الله عز وجل مما كان يقول في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه ساحر ولذلك قال الله عز وجل : قل تمتع بكفرك قليلا إنك من اصحاب النار ...

٢٩٧

رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٩).

هناك صورة مطموسة نكدة مرهقة تقابلها هنا صورة ووضيئة ووضاءة مرهفة ، حساسة وشفافة مشرقة ، أتلك هي الخيّرة النيّرة (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) يلزم الطاعة متخضعا (آناءَ اللَّيْلِ) (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) حال كونه فيها (ساجِداً وَقائِماً) وعلّ «راكعا» هنا مضمّن في «ساجدا» بقرينة «قائما» وإنّ الصلاة هي خير موضوع فهي خير قنوت! (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) حذرا عن موجبات عقابها على أية حال (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) رجاء بما يقدمه من صالحات تصلح للرجاء ، فهو عائش حياته بين الخوف والرجاء.

فأين تلك الجهالة الحمقاء الخواء ، وهذه المعرفة اللئلاء (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) قانتين في سجود وقيام ، عائشين بين الخوف والرجاء على الدوام ، (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) المضلون عن سبيل الله؟

فالعلم المخرج عن الإستواء هو المعرفة بالله وتحقيق مرضاة الله ، مهما جهل مختلف الصّلاحات من علم الظاهر او علم : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣٠ : ٧).

فربّ عالم لا عقل له ولا معرفة ، وأعلمهم إبليس اللعين ، وليست الرفعة في ميزان الله إلّا للإيمان ومعرفة الإيمان : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (٥٨ : ١١) فالأصل هو الإيمان ، والمعرفة هي سبيل الإيمان.

هنا (الَّذِينَ آمَنُوا) و (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) و (أُولُوا الْأَلْبابِ) فهل الأولون والآخرون سواء ، في اللّاسواء بينهم وبين (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)؟ أمّاذا؟

٢٩٨

علّهم هم فإنهم من الذين يعلمون ، أم هم ليسوا هنا إياهم حيث الشاهد يختلف عن المشهود لهم أو عليهم ، فكما أنهم ليسوا من (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) كذلك ليسوا من (الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) مهما كان من أولي الألباب من يعلمون ، فان منهم من هم في سبيل العلم ولمّا يعلموا ، فألبابهم تدفعهم لأن يعلموا ثم يعلموا ، ومن (الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) من هم فوق أولي الألباب ، كالمعصومين (عليهم السلام) ولم يسبق التعبير عنهم باولي الألباب كما «يسمّون قوّامين فإنهم تخطّوا درجات الإيمان إلى محض الإسلام» : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ ...) (٦٥ : ١١)(الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٣٩ : ١٨).

فقد ينطبق هذا التقسيم الثلاثي على المروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) «لقد ذكرنا الله عز وجل وشيعتنا وعدونا في آية من كتابه» فقال عز وجل (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) «فنحن الذين يعلمون وعدونا الذين لا يعلمون وشيعتنا أولوا الألباب» (١) ويشبهه المروي عن الإمام الحسن المجتبى «نحن الناس وشيعتنا أشباه الناس وسائر الناس نسناس».

وهذا من باب التفسير بأظهر المصاديق بين هؤلاء الثلاثة ولهم مصاديق دون ذلك تعمهم الآية.

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٧٨ ح ١٧ الكافي عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد ابن سليمان عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال لابي بصير يا أبا محمد! لقد ذكرنا الله عز وجل ... ورواه مثله جابر وابو بصير وزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) ومحمد بن مروان وحسان العجلي عن أبي عبد الله (عليه السلام)

٢٩٩

ثم العلماء الذين يذبون عن ساحة الدين بحجج الله التي علّمهم إياها هم من الذين يعلمون (١) والذين لا يذبون بل ويذبلون ويترذلون هم من الذين لا يعلمون (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)!

واولوا الألباب هم اولوا العقول الناضجة وعلى حد المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما قسم الله لعباده شيئا أفضل من العقل فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل وإفطار العاقل أفضل من صوم الجاهل وإقامة العاقل خير من شخوص الجاهل ولا بعث الله نبيا ولا رسولا حتى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من عقول جميع أمته ، وما يضمر النبي في نفسه أفضل من اجتهاد جميع المجتهدين وما أدى العقل فرائض الله حتى عقل منه ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل من عقلائهم ، هم أولوا الألباب الذين قال عزّ وجل : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ).

__________________

(١) المصدر ح ٢٢ في كتاب الاحتجاج للطبرسي وروى عن الحسن العسكري (عليه السلام) انه اتصل بابي الحسن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) ان رجلا من فقهاء الشيعة كلم بعض النصاب فأفحمه بحجته حتى ابان عن فضيحته فدخل على علي ابن محمد (عليه السلام) وفي صدر المجلس دست عظيم منصوب وهو قاعد خارج الدست وبحضرته خلق من العلويين وبني هاشم فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدست واقبل عليه فاشتد ذلك على أولئك الاشراف فاما العلويون فأجلوه عن العتاب واما الهاشميون فقال له شيخهم يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا أتؤثر عاميا على سادات بني هاشم من الطالبيين والعباسيين؟ فقال(عليه السلام) إياكم وان تكونوا من الذين قال الله تبارك وتعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أترضون بكتاب الله حكما؟ قالوا : بلى قال : أو ليس قال الله عز وجل (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله إن كسر هذا لفلان الناصب بحجج الله التي علمه إياها لأفضل له من كل شرف في النسب ....

٣٠٠