الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

على طول الخط ، والماء هنا مثل للحياة المبتلاة بزرع واصفرار وحطام ولكنه باق لا يفنى فكذلك الحياة مهما تغيرت الأحوال باخضرار واصفرار!

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢٢).

أولوا الألباب هم الذين شرح الله صدورهم للإسلام فهم على نور من ربهم ، كما استناروا بأنوار فطرهم وعقولهم ، آيات أنفسية ومن ثم الآفاقية ، (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) حيث قست فما تنورت لا استنارة منهم ولا إنارة من ربهم (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يبين بمظاهر الأقوال والأفعال.

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ ...) خير أم القاسية قلوبهم من ذكر الله؟ لا يستويان! (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) حيث تقسوا فلا تلين منه فتطمئن.

الصدر هو برّانية القلب ، كما العقل هو برانية الصدر ، فإذا كمل العقل تم اللب ، وإذا تم اللب انشرح الصدر ، وإذا انشرح الصدر تنور القلب وهو آخر المطاف في السلوك إلى الله.

وكما القلب هنا وفي أمثاله هو قلب الروح ، كذلك الصدر واللّب والعقل ، مهما كان كل في مكانه من سميّاته ، فالعقل في المخ واللب في عمقه ، والصدر في الصدر والقلب في القلب ، وكل من جنبات الروح حيث يعمها ويحلّق عليها وهي درجات فوق بعض.

واردات القلوب هي من صادرات الصدور ، تصدر عنها إليها فتقلّبها ، إن خيرا فنور وإن شرا فظلام ، فانشراح الصدر بالحق هدى وضيقه عن الحق ضلال : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ

٣٢١

وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٦ : ٢٥).

فكما ينزّل الله من السماء ماء فينبت لهم به زرعا مختلفا ألوانه ، كذلك ينزل ذكرا ونورا تتلقاه الصدور المنشرحة فتلقيها إلى القلوب الحية ، دون الصدور الحرجة الضيقة ، والقلوب المقلوبة القاسية ، فأين قاسية مظلمة من منشرحة نيّرة؟

أترى ما هي علامة الإنشراح والنور؟ إنها على المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل حلول الفوت» (١).

ف «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وأن أبعد الناس من الله القلب القاسي» (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٨٥ ح ٤٠ عن روضة الواعظين للمفيد روي ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ ...) فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ان النور إذا وقع في القلب انفسخ له وانشرح ، قالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! فهل لذلك علامة يعرف بها؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): التجافي ... وفي الدر المنثور ٥ : ٣٢٥ اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! فهل ينفرج الصدر قال نعم قالوا هل لذلك علامة قال نعم التجافي ... وفيه اخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية فقلنا يا رسول الله كيف انشراح صدره قال : إذا دخل النور القلب انشرح وانفسخ قلنا فما علامة ذلك قال: الانابة ...

(٢) الدر المنثور ٥ : ٣٢٥ ـ اخرج الترمذي وابن مردويه وابن شاهين في الترغيب في الذكر والبيهقي في شعب الايمان عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تكثروا ... وفيه اخرج ابن مردويه عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه ـ

٣٢٢

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢٣).

أترى تدافعا بين هذه التي تحكم بكون الكتاب متشابها كله ، وبين التي تعمّم الإحكام له كله : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١١ : ١) وثالثة هي آية التقسيم : (... مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ...) (٣ : ١)؟ (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)!

الإحكام والتشابه أمران نسبيان ، فالقرآن محكم كله قبل تفصيله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (٣١ : ٢) ـ (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ...) فهو إحكام وجاه تفصيل وقبله ، ثم وحكيم كله جملة وتفصيلا : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (٥٤ : ٥) (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حكمة في كيانه أيا كان وأيان ، في تفصيله وقبله ، في لفظه ومعناه ومغزاه ، في بلاغه وبلوغه وحكمه ، وفي أي حقل من حقوله ، دون أن يتسرب إليه أمر غير حكيم ، أو يتدخل فيه حكيم أو غير حكيم ، فحكمة القرآن هي أفضل برهان على رسالة من جاء به (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ...)!

ثم وهو متشابه كله ـ وجاه التهافت والتدافع ـ تشابه المثاني : المعاطف ، عطفا لبعض على بعض ، وانعطافا مع بعضه البعض ، حيث يفسر بعضه بعضا وينطق بعضه على بعض ويشهد بعضه لبعض.

__________________

ـ وآله وسلم) قال : يورث القسوة في القلب ثلاث خصال حب الطعام وحب النوم وحب الراحة.

٣٢٣

وهو محكم في أمه ، متشابه في سواه ، إحكام الدلالة على مغزاه تفهما ، وتشابهها لغير البالغ فهمه ، دون قصور في الدلالة ، ولا عضالة في التعبير ، إلّا جزالة لأعلى قمم الفصاحة والبلاغة ، ولكنها الأفهام درجات ، والقرآن يحلّق على كافة الدرجات ، فآية واحدة هي محكمة لمستفسر وهي متشابهة لآخر وما هي إلّا هيه ، على حدّ المروي عن الإمام الرضا (عليه السلام): «المتشابه ما اشتبه علمه على جاهله»!

إنه متشابه المثاني كله ، ومتشابه المعاني بعضه ، ومحكم المعاني كله ، فإنه أحسن الحديث ، وقصور الدلالة من أقبح الحديث ، وتناقض الأبعاض من أقبح الحديث ولكن :

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) ، لا سواه ، وكل حديث الله أحسن من سواه ، وكما الله نفسه حديث أحسن من سواه : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) (٤٥ : ٦) ولكن أحاديث الله في مختلف الرسالات بين حسن وأحسن ، وهذا القرآن هو أحسن الحديث بقول مطلق ، لا يوازى ولا يسامى طول الزمان وعرض المكان (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ...) (٥٥).

ولقد عبر عن القرآن بالحديث في اثني عشر موضعا اخرى في الذكر الحكيم (١) وهو ما يحدّث عنه ، فمنه ما يحدث كسائر الكون ، ومنه ما يحدث ولا يحدث كمكون الكون ، يتحدث عن كل محدث بلسان حال أو مقال وعلى أية حال ، فلسان الفطرة والعقل يحدثان عنه ، ولسان التكوين والتشريع محدثان عنه ، ويتلوه أحسن الحديث ، فهو حادث يحدّث عن كل

__________________

(١) وهي هنا و : ٤ : ١٤٠ و ٦ : ٦٨ و ٧ : ١٨٥ و ١٨ : ٦ و ٤٥ : ٦ و ٥٢ : ٣٤ و ٥٣ : ٥٩ و ٥٦ : ٨١ و ٦٨ : ٤٤ و ٧٧ : ٥٠ و ١٢ : ١١١.

٣٢٤

شيء : (لا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦ : ٥٩) ويحدّث عنه كل من كملت عقولهم ، إذا فهو (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) : «نورا لا تطفأ مصابيحه وسراج لا يخبؤ توقده ، وبحر لا يدرك قعره ، ومنهاج لا يضل نهجه وشعاع لا يظلم ضوءه ، وفرقان لا يخمد برهانه وبنيان لا تهدم أركانه ...»

ولأنه (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) بقول مطلق فهو ـ إذا ـ آخر حديث من عليا الوحي ، لا حديث بعده ، فلا شرعة ولا رسالة بعده.

(كِتاباً مُتَشابِهاً) بعضه ببعض ، في ألفاظه ومعانيه ، في أغراضه ومغازيه ، دونما اختلاف ولا قيد شعرة فإنه «مثاني» : معاطف ، فآياته كلها لصق بعض ، في مواصلات دون أية مفاصلات ، وفي تجاوبات دون تهافت وتفاوت ، فقد «نزل القرآن ليصدق بعضه بعضا فلا تجعلوه يكذب بعضه بعضا نثرا لآياته نثر الدقل»! (١).

ومن تشابه أبعاضه مع بعض انسجام أحكامه ومعارفه في وحدة جامعة تناسب الأجزاء (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) فأحكامه الفردية تجاوب الجماعية ، وأحكامه العبادية تناسب السياسية ، وأحكامه الاقتصادية تناسج هذه وسواها ، دون أي صدام والتطام بين حقوله المختلفة صورة ، الواحدة سيرة! ومتشابها مع قضية الفطرة والعقل ، وحاجيات العالمين أجمعين إلى يوم الدين دون إبقاء.

ومتشابها مع سائر الوحي مهما كان أحسن منه فإنه (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) ويؤيده ويبشر به سائر الوحي الأصيل.

__________________

(١) من الخطبة ١٩٣ عن الامام امير المؤمنين في نهج البلاغة وقد أوردناها بتمامها في مفتتح المجلد الثلاثين.

٣٢٥

ومتشابها مع محكمه في هذا التفصيل (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) نسخة طبق الأصل.

(كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) وترى ما هي الصلة بين جمع المثاني صفة لمفرد الكتاب؟ علّها صفة لآياته في مثنياتها كلها ، وصفة للكتاب كله في مثانيه كلها ، ف «المثاني» جمع المثنية ، تعني المعطوف ، لانعطافها كلها مع بعض ، ولا سيما التي تتحدث عن موضوع واحد ، فهي تفسر بعضها بعضا وتنطق بعضها على بعض ، وهي تلائم بعضها بعضا في مختلف حقولها ، مثنية هنا في إثنتين.

وهي جمع المثنى لأنها تثنى على مرور الأوقات وكرور الحاجات فلا تدرس ـ ولا تنقطع ـ دروس سائر الكتب ، كما وهي تجدد حالا بعد حال في فوائده وإشراقاته ، فالقرآن يجري كجري الشمس ، لا غروب لإشراقه ، ولا أفول لإضاءته.

وقد نزلت آياته مثنى ، واحدة نزولا وأخرى تأليفا : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (٧٥ : ١٨) ولا جمع إلّا بعد نزول.

وهي جمع مثنى الثناء ، فالقرآن معارض للثناء عليه في كله بكله ، ل (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ)! وهو في مثانيه المكرورة ، وعلى تجدد الحالات والحاجات المعروضة عليه ، المستضيئة به ، وفي مثاني معاطفه تفسيرا لبعضها البعض ، وموافقة لبعضها البعض ، وفي مثنى تأليفه الأليف ، هو في كل ذلك مثاني ومجالات للثناء ، وما أجملها خماسي المعاني للمثاني ، مما يحضّ على الثناء.

فالقرآن العظيم كله مثاني بكل هذه المعاني ، مهما كانت ل (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) منزلتها الخاصة بين سائر المثاني (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (١٥ : ٨٧).

٣٢٦

(مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) خوفا مما قدمت يداهم فهم في وجل وارتعاش وقشعريرة الجلود كخلفيّة لاقشعرار القلوب (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) فهم بين خوف مما قدمت أنفسهم ، ورجاء مما عرفوا من رحمة ربهم ، يعيشونهما طول حياتهم.

فطالما قلب المؤمن يضطرب وجلده يقشعر من الكتاب المتشابه المثاني حين يرى نفسه قاصرة عما يتوجب عليها تجاهه ، ويسمع ربه العظيم يكلّمه ، فيغشى قلبه خاشعا ويقشعر جلده خاضعا خائفا وجلا.

ولكنه يطمئن بعد ذلك إلى ذكر الله : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) فهم عند ما سمعوا آيات العظمة والجلال طاشوا ، وإذا سمعوا آيات الرحمة والجمال عاشوا ، فهم بين طيش وعيش ، وخوف ورجاء ، حيث القرآن آخذ بازمّة قلوبهم ، و «قد سئل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تفسير الترتيل فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : حركوا به القلوب» أجل و (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ...)! فالغالب على من يستمع القرآن الخشية والخشوع ، مهما لان قلبه وجلده إلى ذكر الله ، ولكنه بعد ما مليء خشية وانقلابا «ثم تلين»! فلا تعني الخشية الصعقة «إنما هو اللين والرقة والدمعة والوجل» (١).

__________________

(١) «تفسير البرهان ٤ : ٧٤ عن الكافي بسند عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قلت : ان قوما إذا ذكروا شيئا من القرآن أو حدثوا به صعق أحدهم حتى يرى ان أحدهم لو قطعت يداه ورجلاه لم يشعر بذلك فقال : سبحان الله ذاك من الشيطان ما بهذا نعتوا انما هو اللين والرقة والدمعة والوجل» أقول : يعني (عليه السلام) من الخشية عوانا بين الغشية واللينة ، والا لكان الائمة غير خاشين او هم مغشي عليهم في جميع أحوالهم حيث يعيشون القرآن فيها.

٣٢٧

ترى لماذا هنا (إِلى ذِكْرِ اللهِ) وليس كما هناك (بِذِكْرِ اللهِ)؟ قد تكون «إلى» لامحة إلى وقت اللين بعد الاضطراب ، أنها تضطرب مقشعرة بكلام الله ، فلما سلكوا به إلى ذكر الله ، فملئت به قلوبهم ، لانت بعد اضطراب ، فرارا منه إليه ، وفرارا من كلامه إلى ذكره (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)!

أنت تزور عظيما يكلمك بما يتوجّب عليك ، فتأخذك الهيبة والرهبة لأوّل وهلة ، ثم بعد هنيئة تستكن إليه وتنعطف بعطفه ولطفه ، فيلين قلبك بعد اضطراب ، وتفرح بعد اكتئاب!

كذلك الله وأحرى بكلامه وفوق خلقه قدر ما يفوق خلقه ، يقشعر منه جلدك ثم تلين إلى ذكره (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)!

و «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها» (١).

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) ولكن هدى الله وإضلاله ليسا فوضى جزاف ، فإنما يهدي الله من يهتدي توفيقا له في هداه ، مزيدا واستمرارا ، ويضل من ضل تركا له فلا يوفقه ويذره في طغيانه يعمه وفي غيه يتردّد.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)(٢٤).

في الاتقاء بالوجه وجهان قد تعنيهما الآية ، اتقاء في الدنيا فيوم القيامة ظرف لسوء العذاب ، واتقاء يوم القيامة فهو ظرف الاتقاء.

__________________

(١) المجمع روى عن العباس بن المطلب ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ...

٣٢٨

والوجه الأول هو كل الوجه قلبا وقالبا أن يتقي الإنسان يوم الدنيا سوء العذاب يوم القيامة بوجهه الظاهر والباطن ، في كل مواجهة لنية واعتقاد أو عمل أما ذا ، فهو يتقي سوء العذاب بوجهه في كل وجوهه ومواجهاته ، هل يستوي هو ومن لا يتقي فهو ظالم (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)!

والوجه الثاني هو وجه القالب ، فلأنه أشرف الأعضاء ، مظهر الحسن والحسّ وصومعة الحواس ، فإذا اتجه إلى الإنسان عذاب اتقى بيده وسواها من أعضاء وجهه ، حفاظا على الأشراف الأعلى ، حيث فيه حفاظ عليها كلها ، ففيه سمعه وبصره وفمه ولسانه ، وإذا تعطلت الأعضاء أو عطّلت ، فاليدان مغلولتان إلى العنق أمّاذا لغيرهما ، فهو ـ إذا ـ يتقي بوجهه سوء العذاب حين يلقى في النار : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٤١ : ٤٠) حيث يلقى فيها مكتوفا فأول ما تمس النار وجهه ، فيتقي بوجهه سوء العذاب وهو الإلقاء مهانا في النار.

وما أخطره موقفا (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) ومع هذا الهول في زحمة العذاب يتلقى كلمة التأنيب عذابا فوق العذاب : (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) بوجوهكم وكل الوجوه! والمعنيان علّهما معنيّان مهما كان الثاني أوجه ، والقرآن حمال ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه ، ومن الأحسن الجمع بين الحسن والأحسن ، فإنه أحسن من ذلك الأحسن ، اللهم إلّا أن يختص الحسن بعناية التفسير فغير حسن.

ثم يلتفت من مشهد الحاضرين إلى مشهد من الغابرين ليدل على سنة الله في الكافرين ، غائبين وحاضرين ليصبح أهل الذكرى من فعلتهم حاذرين.

٣٢٩

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٢٦).

إن عذاب الدنيا أيا كان ليس إلّا ذوقا للخزي والعذاب ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) وأخزى «لو كانوا» في الحياة الدنيا «يعلمون» فسنة الله في المكذبين ماضية ، ومصارع القرون الغابرة شاهدة ، ويكفي هذا الذكر لمن يذّكر والله من ورائهم محيط.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(٢٨).

لا يبقي القرآن ولا يذر مثالا للذكرى إلّا ويضربه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أمثلة فطرية وعقلية وحسية وكونية أمّا ذا من أمثال واقعية ، دون اختلاق لما لا يكون أم يستحيل.

و «الناس» هنا مثل لأفضل محور لوحي القرآن ويتبعه الجن أمّن ذا من المكلفين ، إذ ليس القرآن ـ فقط ـ كتاب الناس ، فلا أقل من أنه للجنة والناس ، ومهما كان هناك من المكلفين من هو يوازي الناس ، فلأن صراح الخطاب في القرآن موجّه إلى الناس ، فلا ضير أن يصبح الناس فيه هم الأساس.

«قرآنا» يقرء ، وما أسهله تناولا معجزة تقرء «عربيا» واضحا بينا لا تعقيد فيه ، لا تفهّما فتصديقا ، ولا تطبيقا طول الزمن ، فهو عربي في كافة الحقول ، تحويه كافة الفطر والعقول (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) في قرآنه وعربيته (عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) على مر العصور ، فلا يخلق على الرد ومضيّ الزمن وتقدّم العلوم والعقول ، وتوسّع الحاجات في مختلف الحقول ، وقد يعنيه ما

٣٣٠

يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تفسيرا ل (عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) «القرآن كلام الله غير مخلوق» (١) وهو حجة تحكم ولا يحكم عليه وكما يروى عن علي (عليه السلام) «ما حكمت مخلوقا ما حكمت إلا بالقرآن» (٢) (عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ولا يطغون ، ومن أمثال القرآن :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٢٩).

الشكوس هو العسر وسوء الخلق ، فالمتشاكسون هم المتعاسرون المتشاجرون لشكاسة خلقهم ، فمن الشركاء من هم العدول المتنافسون وليست إلّا في حق ، ومنهم من هم شركاء متشاكسون وليست إلّا في غير حق ، ويضرب الله هذا المثل الأمثل لرجل الشرك ورجل التوحيد ، فالمشرك هو كعبد يملكه شركاء متشاكسون ، موزّعا بينهم فيه يتخاصمون ، حائرا لا يستقر على منهج ، ومائرا لا يقر على مدخل واحد ومخرج ، لا يملك إرضاءهم أجمع فهم عليه ساخطون.

وهكذا يكون دور المشرك في اتجاهاته ولا سيما بين الطواغيت ، يعيش عيشة متناقضة متباغضة ، لا يدري من أيّ إلى أيّ.

ويتلوه الذي يعبد نفسه ويعبد ربه إلهين اثنين ، مهما كان موحّدا في التأليه ، فإنه مشرك بالفعل في أعماله واتجاهاته لا يهدف هدفا واحدا

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٢٦ ـ اخرج الديلمي في سند الفردوس عن انس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية قال : ... أقول : و «غير مخلوق» علّه من الاختلاق ام الخلق العتيق ، ألّا يخلق على مر الدهور!

(٢) المصدر اخرج ابن أبي حاتم في السنة والبيهقي في الأسماء والصفات عن الفرج بن زيد الكلاعي قال قالوا لعلي (عليه السلام) حكمت كافرا ومنافقا فقال : ...

٣٣١

ثم المرائي الذي يعبد ربه رئاء الناس (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) فثالوث الإشراك منحوس حسب مختلف دركاته ، في حياة رذيلة مضطربة تخرج الإنسان عن وحدته إلى كيان ممزّق مفرّق.

والموحد هو كعبد سلما لرجل ، إذ يملكه سيد واحد ، عالما طلباته ، متوجها إلى مرضاته ، فهو في راحة عن تناقض الحياة وتضاد الطلبات ، فالقلب المؤمن بحقيقة الإيمان هو الذي يقطع رحلات الحياة على هدى واضحة ، إذ لا يعرف ولا يهدف إلّا مصدرا واحدا ومصيرا ومسيرا واحدا منحا ومنعا ، فتستقيم اتجاهاته في مختلف الحقول إلى هذا المبدء المصير ، عابدا له وحده ، ومطيعا له وحده ، ومعلّقا آماله وأعماله عليه وحده ، معلّقا يديه بحبل واحد يشد بكل إمكانياته عروته ، يعيش في الأرض متطلعا إلى إله السماوات والأرض ، رافضا سواه وراءه ظهريا.

(هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) حتى يستويان ممثّلا؟ فذلك في جحيم الحياة الدنيا قبل الآخرة ، وهذا في جنة الله هنا قبل الآخرة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على وحدته وأمره بتوحيده توحيدا لاتجاهات الحياة نحو الكمال (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) مدى نحوسة الشرك واكتئابه ، وطيبة التوحيد واكتسابه.

وترى إذ «لا يعلمون» فمرفوع عنهم تكليف التوحيد حيث «رفع ما لا يعلمون»؟ كلّا! حيث الجهل هنا متجاهل عامد ، ومتعاضل شارد ، وكيف لا يعلمون وهذا من أوضح موارد العلم لمن له مسكة حتى المجانين ، فضلا عن العقلاء العارفين ، ولذلك (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)!

وكما الإشراك بالله ـ أيا كان ـ فيه نحو سته وانجرافه ، كذلك الإشراك برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسوّى به من دونه ، فيطاع كما

٣٣٢

يطاع ، وقد يروى عن علي (عليه السلام) قوله : أنا ذلك الرجل السّلم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) ثم من يحملون رسالة الله كما هو من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) (٢) ثم العلماء الربانيون ، مهما كان الإشراك في هذا المربع دركات حسب الدرجات.

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)(٣١).

«ميت وميتون» في صفة مشبهة دالة على ثبات ، دلالة على أن الموت لزام لهم كلّهم لا يفلت عنه فالت مهما كان نبيا وحتى أنت يا سيد الأنبياء (٣).

ولا يعنى الموت هنا الفوت ، وإنما موت الأبدان حقيقة بخروج الأرواح ، وذوق الموت للأرواح تخلصا عن الأبدان وهي أحياء في البرزخ

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٨٥ عن المجمع وروى الحاكم ابو القاسم الحسكاني بالإسناد عن علي (عليه السلام) انه قال ... وفي معاني الاخبار باسناده الى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) عن امير المؤمنين (عليه السلام) مثله.

(٢) المصدر عن روضة الكافي باسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال : اما الذي فيه شركاء متشاكسون فلان الذي يجمع المتفرقون ولايته وهم في ذلك يلعن بعضهم بعضا ويبرأ بعضهم من بعض فاما رجل سلم لرجل فانه الاول حقا وشيعته ...

(٣) المصدر ٤٩ في عيون الأخبار باسناده قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزلت هذه الآية (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) قلت يا رب أتموت الخلائق كلهم وتبقى الأنبياء؟ فنزلت (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أقول : لا يبقى بعد نص الآية الأولى شك في انه (صلى الله عليه وآله وسلم) يموت مع الباقين حتى يزول بعموم الآية الثانية ، فالحديث إذا مركوس او معكوس ان الثانية نزلت قبل فسأل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سؤاله فنزلت الأولى نصا انه يموت.

٣٣٣

ثم في القيامة الكبرى ، وهناك فارق بين (مَنْ شاءَ اللهُ) وسواهم ، أنهم لا يصعقون ويفزعون يوم الصعقة الموت عن البرزخ ، فإنه كموت الأرواح : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٣٩ : ٦٨).

ليس الموت آخر المطاف في رحلة الحياة ، إنما هو حلقة بعدها أصل الحياة (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) وهنالك اختصام العباد المشركين كما كانوا يختصمون في الدنيا في مواليهم وفيما بينهم : (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ. تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢٦ : ٩٧) (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) (٥٠ : ٢٨) و (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٣٨ : ٦٤) اختصاما متصلا بين الحياتين دون إمهال (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) (٣٦ : ٤٩).

العبّاد من دون الله يختصمون فيما بينهم وكما يختصم المعبودون ، ثم ثالث ثلاثة اختصام العبّاد والمعبودين ، ثالوث منحوس ، ثم اختصام بين الرسل والمرسل إليهم ، وبين كلّ الدعاة والمدعوين : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (٢٥ : ٣٠) وأين اختصام من اختصام؟!

ومن الاختصام ما هو بين الأمة مع بعض في ظلامات «في الدماء» (١)

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٢٧ اخرج عبد بن حميد عن الفضل بن عيسى قال لما قرئت هذه الآية قيل يا رسول الله فما الخصومة قال : في الدماء ، واخرج عن الزبير بن العوام قال لما نزلت (إِنَّكَ مَيِّتٌ ...) قلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أينكر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال نعم لينكرن ذلك عليكم حتى يؤدّي الى كل ذي حق حقه.

٣٣٤

وسواها ، ثم لا خصام بين العدول إلّا مع سواهم حجاجا عليهم وتبكيتا ، وحتى الظالم والمظلوم بين الدواب والأنعام (١) فضلا عن سائر المكلفين كالزوجين والخدمة والمخدومين واهل الأسواق (٢) والجارين (٣) والأمراء والرعايا (٤) وحتى الأرواح مع الأجساد (٥) فالخصام هناك واقع بين كل ظالم ومظلوم من الجنة والناس والحيوان أمّاذا؟

__________________

(١) المصدر ٣٢٨ اخرج احمد بسند حسن عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليختصمنّ يوم القيامة كل شيء حتى الشاتين فيما انتطحتا. (٢) المصدر ٣٢٨ ـ اخرج الطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به عن أبي أيوب ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته والله ما يتكلم لسانها ولكن يداها ورجلاها يشهدان عليها بما كانت لزوجها وتشهد يداه ورجلاه بما كان يوليها ثم يدعى الرجل وخادمه بمثل ذلك ثم يدعى اهل الأسواق وما يوجد ثمّ دوانق ولا قراريط ولكن حسنات هذا تدفع الى هذا الذي ظلم وسيئات هذا الذي ظلمه توضع عليه ثم يؤتى بالجارين في مقامع من حديد فيقال أوردوهم الى النار فو الله ما ادري يدخلونها او كما قال الله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها).

(٣) المصدر ـ اخرج احمد الطبراني بسند حسن عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أول خصمين يوم القيامة جاران.

(٤) المصدر ـ اخرج البزار عن انس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجاء بالأمير الجائر فتخاصمه الرعية.

(٥) المصدر اخرج ابن منده عن ابن عباس قال يختصم الناس يوم القيامة حتى يختصم الروح مع الجسد فيقول الروح للجسد أنت فعلت ويقول الجسد للروح أنت أمرت وأنت سولت فيبعث الله تعالى ملكا فيقضي بينهما فيقول لهما ان مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستانا فقال المقعد للضرير اني ارى هاهنا ثمارا ولكن لا أصل إليها فقال له الضرير اركبني فتناولها فركبه فتناولها فأيهما المعتدي فيقولان كلاهما؟ فيقول لهما الملك فإنكما قد حكمتما على أنفسكما يعني ان الجسد للروح كالمطية وهو راكبه.

٣٣٥

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ)(٣٢).

من كذب على الله أن له شركاء أم لم يوح إلى أحد أمّاذا من أكاذيب ، ثم كذب بالصدق إذ جاءه وحيا وموحى إليه بآياتهما البينات ، فمن اظلم منه ، إنه في الدرك الأسفل من الظلم كذبا على الله وتكذيبا بما جاءه عن الله ، مهما كان له أمثال في دركه.

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(٣٣).

لعل (الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) وجاه (مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) هو الذي جاء الله بكل صدق ، صادقا به وبتوحيده وبأقواله.

كما الذي «صدق به» وجاه من (كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) ، هو المصدق لما جاءه عن الله من وحي بمن جاء من رسل ، تخاصما بينهما في بعدين ف (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

ولماذا «أولئك»؟ و «الذي» مفرد؟ علّه لأن «الذي» يعم الرسول والمرسل إليه ، وكل عدّة تعم المكلفين المصدقين أجمعين ف (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)!.

فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء كمن قبله بالصدق عن الله ، وصدّق بما جاء به وبما جاء به من قبله ، والمرسل إليه جاء إليه بالصدق في كيانه ووحيه ، وصدق بالصدق الذي جاءت به رسله ، فهما على ـ جمعيتهما ـ معا معنيان ف (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ثم احتمال ثالث أن (الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) هو الرسول (وَصَدَّقَ بِهِ) هو المرسل إليه (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٢٨ ـ اخرج ابن مردويه عن أبي هريرة (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ)

٣٣٦

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ)(٣٤).

لهم عند ربهم في مقامات القرب والزلفى «ما يشاءون» مشية مختارة وليست مختارة ، و «ذلك» العظيم العظيم (جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) ... أتراهم إن شاءوا رؤية الله ، أم شاءوا أن ينالوا درجات الأنبياء ، أم شاءوا زوجات المتقين الآخرين فلهم كل ذلك حيث (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ)؟

كلّا! فليسوا ليطلبوا المحال ، وهم على علم أن رؤية الله مستحيلة ، ومن المجيء بالصدق والتصديق به تصديق أنه لا يرى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ).

ثم ولأنهم يعرفون درجاتهم ليسوا ليطلبوا فوقها مما يخص من فوقهم فإنه طلب لغير العدل ، والطالب ما فوقه من مكانة إما ظالم متطاول ، أو جاهل متعاضل ، وهم عن هذه الظلامات والجهالات مبعدون.

ثم ولأنهم لهم ما يشاءون من زوجات فلم يشتهون زوجات آخرين ، وهكذا تطلّب عارم ناشئ إما عن فقدان ولهم ما يشتهون ، أو عن طيش

__________________

ـ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَصَدَّقَ بِهِ) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وفي المجمع انه المروي عن أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام ، أقول ومنه ما في تفسير البرهان : ٤ : ٧٦ محمد بن العباس بسند عن أبي الحسن (عليه السلام) قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) في الآية وذكر مثله.

أقول : ولقد اخرج الحفاظ وارباب المسانيد والمؤلفون مثله كابن المغازلي في المناقب وابن عساكر في فلك النجاة والكنجي في كفاية الطالب ١٠٩ والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١٥ : ٢٥٦ وابو حيان في البحر المحيط ٧ : ٤٢٨ والسيوطي في الدر المنثور كما مضى ، والمير محمد صالح الكشفي الترمذي في مناقب مرتضوي ٥١ والالوسي في روح المعاني ٣٠ : ٣ وأخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

٣٣٧

وعدوان : «ويخرج أضغانهم» ثم وكل هذه خلاف المجيء بالصدق والتصديق به!

(لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣٥).

(أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) مما يدلنا على أن المحور المعني في (جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) هم المرسل إليهم الذين يجوز عليهم السوء والأسوء حتى يكفّر ، دون المرسلين المعصومين ، ف «عنهم» هنا راجع إلى بعض المعنيّ من (الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) إن كان يشمل الرسل.

ثم و (أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) هو الإشراك بالله قبل الإيمان ، حيث المجيء بالصدق والتصديق به أحسن الأعمال فيكفّر الله به أسوء الأعمال فضلا عن سوءها ، وهذه سنّة ثابتة بالنسبة للأسوء قبل الإيمان ، ثم وبعده (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (٤ : ٣١) دون توبة ، ويكفر كذلك كبائر السيئات بتوبة وشفاعة ، فهذا المثلث من الأسوء مكفّر لكرامة الصدق والتصديق به ، ثم (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وهو الصدق والتصديق ، ففيهما الأجر العظيم والتكفير العظيم ، وكل ذلك من فضله العميم.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ)(٣٧).

من أسباب النزول أنهم قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لتكفّن عن شتم آلهتنا او لنأمرنها فلتجنّنك فنزلت (١).

__________________

(١) المصدر اخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة قال قال لي رجل قالوا للنبي ـ

٣٣٨

إن الله يكفي عباده الصالحين من نبيين ومتقين ـ على درجاتهم ـ من بأس الكافرين المتربصين بهم دوائر السوء ، فأكفى الكفاية ـ إذا ـ هو لأكفى النبيين (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٢ : ١٣٧) (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٦١ : ٨).

إن هناك معركة مصيرية بين الداعية إلى الحق والقوى المضادة المرجفة لقلوب خوت أم تكاد ، والله واعد عباده الصالحين أن يكفيهم في كل بأس ينال من ساحة الرسالة والإيمان مهما كان برحمة الاستشهاد.

(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)! وكل من سواه ليس إلّا دونه ، وعبد الله لا يخاف في سبيل الله إلّا الله دون من دونه و «من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء» (١).

أترى بعد ان هناك كافيا إلّا الله ، والكفاية تعني الاعتناء لحد عدم الحاجة إلى غير الكافي؟ كلّا! إنما الكافي هو الله دون سواه حيث الكفاية تعنى تمام الربوبية ولاية (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٤ : ٤٥) وعلما (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً)(٧٠) ووكالة (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(٨١) وشهادة (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٧٩) وخبرة وبصيرة (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١٧ : ١٧) وحسابا (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٢١ : ٤٧) وهداية ونصرة : (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) (٢٥ : ٣١) وقوّة وعزة : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) (٣٣ : ٢٥) وشهادة على كل شيء : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى

__________________

ـ (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... وعنه قال : بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد ليكسر العزى فقال سادنها وهو قيمها يا خالد اني أحذركها لا يقوم لها شيء فمشى إليها خالد بالفأس وهشم أنفها.

(١) عيون اخبار الرضا عنه (عليه السلام).

٣٣٩

كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤١ : ٥٣).

أترى هذه الصفات الاثنى عشر التي هي لزام الكفاية ، توجد في غير الله ، وحتى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الاثنى عشر (عليهم السلام) حتى يصح الدعاء المختلق «يا محمد يا علي اكفياني فإنكما كافياي» مهما صح «وانصراني فإنكما ناصراي» حيث الكفاية أخص من النصرة! إن ذلك لا يشبه شرعة القرآن وسنة نبي القرآن ، ف (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)!

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ

٣٤٠