الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

إلّا بما شرّعه الله لا ما فرقه هو من دين الله ، وهؤلاء كما المشركون تبنّوا دينهم على أهوائهم بغير علم وهم يعلمون ، متجاهلين عن حكم الفطرة والعقل والدين ، ولأن الأهواء مختلفة ، والجهالات متفرقة ، فهم لذلك فرقوا دينهم بكل فرقة فرقة فرقة ، وشيعة شيعة ، وحزبا حزبا (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ـ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٦ : ١٥٣).

إنه لا تنتهي أنماط الشرك وسبله إلى نهاية إذ لا نهاية للأهواء الجاهلة في هوساتها ، والصراط المستقيم هو إقامة الدين بشرعة واحدة ، مهما اختلفت بعض التصورات الفرعية في بعض الفروعات على ضوء الاجتهادات السليمة فانها لا تضر بوحدة الشرعة في إقامة الدين ، كما أن مختلف الواجبات والمحرمات حسب مختلف الظروف والحالات لا تضرّ بها ، وإنما التنديد في هذه الآية واضرابها بمن يتفرقون في أصل الدين عن هوى جاهلة ، دون اختلاف الاجتهادات في البعض من فروعها عن هدى كاملة ، سنادا إلى الكتاب والسنة ، اللهم إلّا اجتهادات منتخلّفة عن حجة الكتاب وثابت السنة قاصرة أم مقصرة.

ومن جلوات الفطرة بأحكامها حالات الضرّ وتقطّع الأسباب إذ لا أمل فيما كانوا يأملون أو يعملون :

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) ٣٣.

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٢٩ : ٦٦).

١٨١

وهذه اندفاعة وانابة إلى الله فطريا بتيارات الضر الطائرات أحيانا ، إذ لا يجد الإنسان عندها ملجأ إلّا الله الذي كان ناكره او مشركا به قبلها ، فهنا (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) اتجاها ضاربا بنوبات متتالية وصرخات مدوية لا تنقطع.

(ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) تكشف ضرهم (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) وهم الأكثرية الساحقة (بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) سواه قائلين : هذه صدفة طيبة ، ام لو لا فلان لما كشف عني ضري ، أماذا من خربطات القيلات التي هي ويلات على أصحابها ، وترى ما هو موقف «منه» هنا؟ هل هي : من الله؟ ولا ريب في ان رحمة الله هي من الله لا سواه ، ولا سيما أن القائل هو الله ، فقد تلمح «منه» كأن هناك رحمات من غير الله يؤتيها الله لمن مسّه ضر ، ويكأن الله ليست عنده رحمة فيستدينها ممن سواه! «منه» قد لا يعني من الله ، بل هو من ضر مسّه ، ليعلم انها رحمة خاصة بهذا الضر دون مطلق الرحمة التي لا ينالها إلّا الأقربون ، وإنما رحمة من ضرهم ، تخلصهم عنه ، فقد تكون ـ على خاصتها ـ رحمة سلبية ـ فقط ـ هي ازالة الضر الخاص.

فهناك من الضر زحمة بإيجابه ورحمة بسلبه «فإذا أذاقهم منه (الضر) رحمة» تسلبه ...

وقد تعني «منه» ـ اضافة إلى الضر ـ الله سبحانه ، رحمة من الله من ضرّ ، ولا ضير ان يكون ضمن المعنى وعلى هامشه ، إذ لا تلمح ـ إذا ـ ما لمحته أولا ، بل وقد يعنى الثاني أصالة كما الأول كما (.. وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها ..) (٤٢ : ٤٨).ئو «منا» هي لبيان أن الرحمة ليست مستحقة للإنسان أيا كان ، فانما هي فضل من الله دونما استحقاق لأهله ، بل هو إمتحان كما الضر إمتحان.

إذا فأصل المعني في «رحمة منه» هو الرحمة من الله ، مهما كانت بازالة

١٨٢

ضر مسّه أم سواها.

ولما ذا (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) بعد الانابة وذوق رحمة منه؟ :

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ٣٤.

لا يعني إشراكهم عند الرحمة انقلاب الفطرة عن الله الى سواه ، فانما هو غفلة عامدة ، وغفوة عائدة ، مصلحية الحفاظ على إشراكهم بالله (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) بعد ما آمنوا ، كفرانا فكفرا ، وهنا يوجّه إليهم خطاب العتاب. «فتمتعوا» بما أذقناكم من رحمة تمتّع الحيوان وأحون ، وهذا نهي صارم بصيغة الأمر ، يوجّه إلى من لا يجديه نهي ولا أمر حين يتخلف عن فطرته وعقليته وشرعته ، تجاهلا عن كل ذلك كأنه لا يعلم (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) في البرزخ والقيامة ام وهنا في الرجعة او قبلها «تعلمون» عين اليقين وحق اليقين ، برؤية العذاب وذوقه بما كنتم تكفرون.

في العنكبوت «ليتمتعوا» بعد «ليكفروا» وهنا «فتمتعوا» بيان لموقف هذا الأمر ، انهم يشركون بغية الكفر والتمتع ، فليؤمروا بما ابتغوا كنهي صارم بصيغة الأمر إذ لا أسماع تصغي ولا قلوب تعي ف (ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) ٣٥.

أتدلهم فطرتهم أو عقليتهم أو شرعة الله إلى اشراكهم؟ (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) آخر غير سلطان التكوين فطرة وعقلية ، وسلطان التشريع في كل شرعة «فهو» السلطان المتخلف عن مثلث السلطان (يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) فما هو ذلك السلطان؟! أم هل يجوز أن ينزل عليهم سلطانين متناقضين في التوحيد والإشراك ، ام لهم سبيل الى نكران مثلث السلطان الدال على التوحيد ، ولا سيما فطرت الله التي فطر الناس عليها.

١٨٣

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) ٣٦.

«رحمة» هنا علّها أعم مما هناك ، فانها مطلق الرحمة وتلك «رحمة منه» وقد تكون خاصة بإزاحة الضّر ، و (فَرِحُوا بِها) مقابل «يقنطون» يتضمن الأمل ، فالناس هنا هم الآملون في إذاقة الرحمة ، القانطون في اصابة السيئة بما قدمت أنفسهم.

تراها كيف تلائم المعاكسة في الآية السابقة القائلة عن الناس أنهم حين يمسهم الضر ينيبون الى ربهم ولزامها الأمل وحين ذوق الرحمة مشركون ولزامه القنوط؟

هنا (رَحْمَةً فَرِحُوا بِها) تعم الفرح المرح ، وقد يتضمن الإشراك بالله ، وغيره الجامع أحيانا مع ايمان دون تمام ، وهناك «رحمة منه» هي المزيلة للضر وهنا فريق منهم يشركون لا كلهم ، ثم وإصابة السيئة حيث تقنطهم قد تجمع القنوط القاحل بنكران الله ، وأخرى القنوط الذي يدفعه للإنابة إلى الله لكي يزول بزوال أسبابه.

ثم الناس هنا غير الناس هناك فإنهم مختلفون في إذاقة الرحمة وإصابة الضر بمعاكسة ، ف (مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) (٢٢ : ١١) والناس هنا مثالهم كما (.. وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) (٥٢ : ٤٨). ومنهم من يعاكس هؤلاء ، والآية الأولى مثالهم كما (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (٤١ : ٥١) ومنهم من هم على سواء في الحالتين ، راضين بمرضات الله ومثلهم : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (٥٧ : ٢٣).

١٨٤

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ٣٧.

بسط الرزق وقدره أيا كان إنما هما بمشيئة الله حسب الحكمة العالية الربانية كما يراها الله ، وفي كلّ من البسط والقدر (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله ، أنه لا يبسط أو يقدر رزقه إلّا بحكمة امتحانا أو امتهانا ، وفي كلّ ابتلاء ، بل البلاء في خضمّ الرزق أبلى وأشجى من قدره.

والواو هنا قد تعطف الى ما تغافلوا عنه وهو : إن لم يروا معاكسة في الرزق وقدره بين المؤمنين وسواهم ، بسطا لهم في الأكثر وقدرا للمؤمنين ، وليس في ذلك حط لقدرهم أولاء ورفع لقدر هؤلاء ، فإن لم يروا (أَوَلَمْ يَرَوْا) بصورة طليقة بين القبيليين (أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) مؤمنا وكافرا على قلة اهتمام في طلبه وجهله بموارده «ويقدر» لمن يشاء على كثرة اهتمامه وعلمه بموارده (إِنَّ فِي ذلِكَ) الاختلاف الظاهر في بسط الرزق وقدره «لآيات» تدل على قدرة حكيمة وإرادة طليقة وراء القدرات والمحاولات.

ثم البسط والقدر هنا لا يخصان حقل التكوين بل والتشريع ايضا حيث يفضّل الله بعضا على بعض في الرزق إيتاء وإنفاقا وكما :

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ٣٨.

آيتان تامرانه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بإيتاء ذي القربى حقه أولاهما في الأسرى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً)(٢٦) وقد قدمنا فيها أن «ذا القربى» هو صاحب القرابة الأدنى الى رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : نسبيا ورساليا ، حقّ المال وحقّ

١٨٥

الحال ، إمرة للإمام علي وفدكا لفاطمة عليهما السلام وقد آتاهما (٣١).

__________________

(٣١) ومما ورد في شأن نزولها ما ذكره ملا معين الكاشفي في معارج النبوة (١ : ٢٢٧) لما نزل جبرئيل الىرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقوله (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : من ذو القربى وما حقه؟ قال : هو فاطمة فأعطها فدك. وفي مجمع الزوائد عن أبي سعيد قال : لما نزلت دعا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاطمة فأعطاها فدك ، كما أخرجه عنه البزار وابو يعلي وابن أبي حاتم وابن مردويه ، ومن وجه عام في القربى اخرج الثعلبي في تفسيره روى عن السدي عن أبي الديلمي عن علي بن الحسين عليهما السلام قال : نحن ذو القربى.

أقول : قد اوردنا أحاديث من طرق إخواننا السنة حول قصة فدك في تفسير الآية (وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) في سورة النمل فلا نعيدها هنا ، وانما نذكر نموذجا مما رواه أصحابنا الإمامية ، منها ما في تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لما بويع لأبي بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منها فجاءت فاطمة عليها السلام الى أبي بكر فقالت : يا با بكر منعتني ميراثي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأمر الله عز وجل؟ فقال لها : هاتي على ذلك شهودا فجاءت بأم ايمن فقالت : لا اشهد حتى احتج يا أبا بكر عليك بما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالت : أنشدك يا أبا بكر الست تعلم ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ام ايمن امرأة من أهل الجنة؟ قال : بلى قالت : فأشهد بان الله أوحى إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) فجعل فدك لفاطمة بأمر الله وجاء على فشهد بمثل ذلك فكتب لها كتابا ودفعه أليها فدخل عمر فقال : ما هذا الكتاب؟ فقال ابو بكر : ان فاطمة ادعت في فدك وشهدت لها ام ايمن وعلي فكتبت لها بفدك ، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فمزقه وقال : هذا فيء المسلمين ، وقال : أوس بن الحدثان وعائشة وحفصة يشهدون على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انه قال : انا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ، وان عليا زوجها ـ

١٨٦

وتراها كيف تعني الحقين وهما مدنيتان وهي مكية؟ قد تكون هي وصاحبتها مكية إعلانا من قبل ان يؤتي ذا قرباه حقه وقته مهما كان مدنيا ،

__________________

ـ يجرّ الى نفسه وام ايمن فهي امرأة صالحة لو كان معها غيرها لنظرنا فيه ، فخرجت فاطمة عليها السلام من عندها باكية حزينة فلما كان بعد هذا جاء علي (عليه السلام) الى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال : يا با بكر لم منعت فاطمة من ميراثها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد ملكته في حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال ابو بكر : هذا فيء المسلمين فان أقامت شهودا ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جعل لها والا فلا حق لها فيه ، فقال امير المؤمنين (عليه السلام) تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال : لا ، قال : فان كان في يد المسلمين شيء يملكونه وادعيت انا فيه من تسأل البينة؟ قال : إياك كنت اسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين ، قال : وإذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون فتسألني البينة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبعده ولم تسأل المسلمين البينة على ما ادعوا علي شهودا كما سألتني على ما ادعيت عليهم شهودا؟ فسكت ابو بكر ثم قال عمر : يا علي دعنا من كلامك فانا لا نقوى على حجتك فان أتيت شهودا عدولا وإلا فهو فيء المسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه ، فقال امير المؤمنين (عليه السلام) يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال : نعم ، قال : فاخبرني عن قول الله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فيمن نزلت ، فينا ام في غيرها؟ قال : بل فيكم ، قال : فلو ان شاهدين شهدا على فاطمة بفاحشة ما كنت صانعا؟ قال : كنت أقيم عليها الحد كما أقيم على سائر المسلمين ، قال : كنت إذا عند الله من الكافرين ، قال : ولم؟ قال : لأنك رددت شهادة الله لها بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها كما رددت حكم الله وحكم رسوله ان جعل لها فدكا وقبضته في حياته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثم قبلت شهادة اعرابي بائل على عقبيه مثل أوس بن الحارث عليها وأخذت منها فدك ، وزعمت انه فيء المسلمين وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) البينة على المدعي واليمين على من أدعى عليه ، قال : فدمدم الناس وبكى بعضهم فقالوا : صدق والله علي (عليه السلام) ورجع علي الى منزله قال : فدخلت ـ

١٨٧

ثم نزلت في المدينة ثانية ، أم فسرت فيها بالحقين وأضرابهما ، ام هي مدنية ولا تنافيها مكية السورة ككلّ ، وأمثالها غير قليل.

__________________

ـ فاطمة عليها السلام المسجد وطافت بقبر أبيها (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهي تبكي وتقول :

انا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختل قومك فاشهدهم ولا تغب

قد كان بعدك انباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

قد كان جبريل بالآيات يونسنا

فغاب عنا فكل الخير محتجب

وكنت بدرا منيرا يستضاء به

عليك تنزل من ذي العزة الكتب

تهضمتنا رجال واستخف بنا

إذ غبت عنا فنحن اليوم مغتصب

وكل اهل له قربى ومنزلة

عند الإله على الأدنين مقترب

أبدت رجال لنا نجوى صدورهم

لما مضيت وحالت دونك الترب

فقد رزينا بما لم يرزه أحد

من البرية لا عجم ولا عرب

فقد رزئنا به محضا خليقته

صافي الضرائب والأعراق والنسب

فأنت خير عباد الله كلهم

صافي الضرائب والأعراق والنسب

سيعلم المتولي الظلم حامتنا

يوم القيامة أنى كيف ينقلب

قال : فرجع ابو بكر الى منزله وبعث الى عمر فدعاه ثم قال : اما رأيت مجلس عليّ بنا اليوم؟ والله لئن قعد مقعدا مثله ليفسدن علينا أمرنا فما الرأي؟ قال عمر : الرأي ان نأمر بقتله ، قال : فمن يقتله؟ قال : خالد بن الوليد ، فبعثا الى خالد فأتاهما فقالا : نريد ان نحملك على امر عظيم ، قال : احملاني على ما شئتما ولو قتل علي بن أبي طالب قالا : فهو ذاك ، قال خالد : متى اقتله؟ قال ابو بكر : إذا حضر المسجد فقم بجنبه في الصلاة فإذا انا سلمت فقم اليه فاضرب عنقه ، قال : نعم ، فسمعت اسماء بنت عميس ذلك وكانت تحت أبي بكر فقالت لجاريتها : اذهبي الى منزل علي وفاطمة فاقرئيهما السلام وقولي لعلي (عليه السلام) : ان الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين. فجاءت الجارية إليهما فقالت لعلي (عليه السلام) إن اسماء بنت عميس تقرأ عليكما السلام وتقول لك : (إِنَّ الْمَلَأَ ....) فقال علي (عليه السلام) : ان الله يحول ـ

١٨٨

و «حقه» قد تلمح بحق ثابت لا قبل له ، وهو حق القرابة روحية رسالية كالإمرة بعده أم سواها كفدك وسواه من حق لفاطمة (عليها السلام) ثم (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) تعني حقوقهم أيا كانوا وأيان ، ثم ومن واجهة أخرى تامر الآية كافة المخاطبين بإيتاء ذي القربى حقه والمسكين وابن السبيل. و «ذلك» البعيد المدى من إيتاء الحق «خير» قبال الشر وهو ترك الإيتاء (لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) في الحياة الدنيا ، دون وجهها الظاهر الملهي الملغي وجه الله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) شقا لمزرعة الحياة فإنتاجا منها ، كما الفلّاح يشقّ ، فأولئك هم الناجون الناجحون ، ولأن الإيتاء هنا طليق فليكن كذلك طليقا في الوجه العام فيشمل الزكاة كأهم الإيتاءات كما في الآية التالية ، ترغيبا فيها بأضعاف ، وترهيبا عن الربا بتضعيفه :

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ٣٩.

هنا «من ربا» هي الزيادة أيّا كانت لمكان «من» فتشمل كل زيادة

__________________

ـ بينهم وبين ما يريدون ، ثم قام وتهيأ للصلاة وحضر المسجد ووقف خلف أبي بكر وصلى لنفسه وخالد بن الوليد بجنبه ومعه السيف فلما جلس ابو بكر في التشهد ندم على ما قال وخاف الفتنة وشدة علي (عليه السلام) وبأسه فلم يزل متفكرا لا يجسر ان يسلم حتى ظن الناس انه قد سهى ثم التفت الىّ خالد فقال : يا خالد ما الذي أمرك به؟ قال : امرني بضرب عنقك ، قال : او كنت فاعلا؟ قال : اي والله لو لا أنه قال لي لا تفعل لقتلتك بعد التسليم ، قال : فأخذه علي فضرب به الأرض واجتمع الناس عليه فقال عمر : يقتله الساعة ورب الكعبة ، فقال الناس : يا أبا الحسن الله الله بحق صاحب هذا القبر فخلى عنه ، قال : فالتفت إلى عمر فأخذ بتلابيبه وقال : يا ابن صهاك لو لا عهد من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكتاب من الله عز وجل سبق لعلمت أينا أضعف ناصرا واقل عددا».

١٨٩

مؤتاة لتزيد في أموال الناس ، سواء أكانت الربا المحرمة ام المحللة ، فحين لا يقصد مؤتيها ليربوا في أموال الناس ، بل يقصد تمشية حاله بالقرض الربوي دون ضرورة واضطرار كان محظورا ، فضلا عما إذا ينوي ليربوا في أموال الناس قصدا إلى تضخيم الرأسمالية المحرمة ودولة المال بين الأغنياء فانه أشد محظورا وأشجى.

ومن الربا المحرمة دون هذه إيتاء الزكاة لغير أهليها من الأثرياء وغير المحاويج ، «ليربو في أموالهم» وإن قصد وجه الله لو صح منه هذا القصد.

ومنها إيتاء الزكاة لأهليها المحاويج دون اتجاه فيه لوجه الله فانه لا يسقط حق الزكاة لفقدان قصد الوجه ، وغير ما يقصد فيه (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) منها ، داخلة في حظر الآية وسواه في سواها مما تشترط الفقر وقصد الوجه في صالح الزكاة.

ومن الربا المحلّلة «أن يقرض الرجل أخاه قرضا لأن يزيده ويعوضه بأكثر مما يأخذ بلا شرط بينهما فان أعطاه اكثر مما اخذه على غير شرط بينهما فهو مباح له وليس له عند الله ثواب فيما أقرضه ..» (٣٢).

ومنها «هديتك الى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها فذلك ربا يوكل» (٣٣).

__________________

(٣٢) نور الثقلين ٤ : ١٨٩ عن تفسير القمي بسند عن حفص بن غياث قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) الربا ربائان أحدهما حلال والآخر حرام فاما الحلال فهو ان يقرض ... وهو قوله : (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) واما الحرام فالرجل يقرض قرضا ويشترط ان يرد اكثر مما اخذه فهذا هو الحرام.

(٣٣) المصدر عن التهذيب بسند عن ابراهيم بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية «قال هو ...» وفيه عن الكافي بسند عن ابراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد الله ـ

١٩٠

ومنها الهدية دون عوض للأثرياء دون ابتغاء وجه الله ، بل ليوجّه اليه وجوههم ويزيد في أموالهم ، وهذه الأخيرة تشملها الآية نصا ، والأوليان تأويلا حيث القصد فيهما ليس ليربوا في أموال المؤتى إليهم ، بل في أموال المؤتي ، توسيعا للناس الى المؤتين تأويلا.

وقد تعم الربا كل زيادة مالية سواء أكانت زيادة دون مقابل في معاملة كالربا المحرمة المعروفة ، ام زيادة أيّ من الثمن والمثمن أو العمل وأجرته على بعض بشرط ، فمحرمة ايضا مهما كانت دون الربا المصطلحة.

أم أموالا زائدة على حاجيات الحياة ، وهي العفو في : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٣ : ٢١٩) فإيتاء هذه الزيادة لوجه الله وكما أمر الله إضعاف للمال (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) وايتاءها ليربوا ـ فقط ـ في أموال الناس (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) إذ هو خلو عن وجه الله ، وما يؤتى لوجه الله من ربا المال : الزائد فرضا أو نفلا ، هو زكاة (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).

كما أن ما يؤتى بغير وجه الله حلا أو حراما هو ربا (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) إذ لا اجر فيه عند الله.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ٤٠.

«الله» هنا مبتدء خبره (الَّذِي ... يُحْيِيكُمْ) تعريفا به في مربّعه الشامل للبدء والعود وما بينهما ، وضلع الخلق من هذا المربع تتبناه الأضلاع

__________________

ـ (عليه السلام) قال الربا ربائان ربأ يؤكل وربا لا يؤكل فأما الذي يؤكل فهديتك .. وهو قول الله عز وجل (وَما آتَيْتُمْ ..) وأما الذي لا يؤكل فهو الذي نهى الله عنه وأوعد عليه النار.

١٩١

الأخرى ، فالرزق هو من لزامات الخلق الحكيم ، وهو مرحلة ثانية من الخلق ، والإماتة هي خلق الانفصال بين الروح والبدن ، والإحياء هو خلق ثان في الأخرى لرزق ثان فيها هو من خلفيّات الحياة الأولى.

ذلك عرض خاطف للرحمتين الرحمانية والرحيمية يحلق على كافة الرحمات الإلهية ، «ورزقكم» لا تعني ـ فقط ـ الرزق المادي فانه أدناه ، بل والروحي فانه أعلاه ، فكل هدى لأيّ خلق هي رزقه حسب الحاجيات والدرجات والمتطلّبات : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢٠ : ٥٠) ف (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) أيا كان ، عقلاء خيّرين كالعباد الصالحين ، ام شريرين كالطواغيت ، فضلا عن سواهم من أصنام وأوثان ، فان «من» هنا تستغرق كل الشركاء المختلقة من دون الله ، (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) :

وهنا «من الأولى تستغرق مربع الرحمة ككل ، والثانية تستغرق الأجزاء من كلّ ، تدليلا على ألّا شريك له ـ فضلا عن مستعل ـ في اي خلق ورزق وإماتة وإحياء ، فهذه الأربع هي قواعد عرش الربوبية ، لا شريك له فيها (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وترى الفساد الظاهر في البر والبحر هو ايضا من رزق الله ام من خلق الشيطان ـ إذا ـ فهو من شركاءه؟ كلا بل :

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ٤١.

فلما تكسبه ايدي النسناس من الناس أثر حسب سنة التكوين كما للحسنات أثر ، ولا تبرز هذه الآثار حسنة وسيئة ككل إلّا يوم الحساب ، وهنا (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بعضا منبها (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) لا

١٩٢

لأنها دار الجزاء الأوفى ، وإنما (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) : عما تكسبه أيديهم ، فكما أن العذاب في الأخرى ليس إلّا نفس ما كسبت أيديهم من آثام كذلك يوم الدنيا.

فهنا الله لا يظهر فساد ما كسبت أيدي الناس لأنه ليس يوم الجزاء ، وإنما (بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ـ (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٤٢ : ٣٠) عفوا هنا مؤقتا ثم يظهر في الأخرى ما لا يعفى عنه بمكفرات هنا.

وليس ظلم الناس هنا ـ فقط ـ بالذي يفسد عليهم ، بل وكل دابة (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (١٦ : ٦١).

هذه أبعاد ظلم الناس حيث لا تبقي دابة في الأرض ولا تذر إلّا قضت عليها لو لا تأخيرهم إلى أجل مسمى ، وتأخير العذاب إمهال لمن يتذكر ببعضه هنا ، وإملال على الطغاة وقد يأخذهم عذاب الاستئصال.

وما كسبت ايدي الناس في كل حقل يظهر منه حقله ، ثقافيا ـ عقائديا ـ سياسيا ـ اقتصاديا (٣٤) ، وإمرة علينا (٣٥).

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ

__________________

(٣٤) نور الثقلين ٤ : ١٩٠ عن القمي قال الصادق (عليه السلام) في الآية : حياة دواب البحر بالمطر فإذا كف المطر ظهر الفساد في البر والبحر وذلك إذا كثرت الذنوب والمعاصي.

(٣٥) المصدر عن ميسر وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال : ذلك والله يوم قالت الأنصار منا امير ومنكم امير.

١٩٣

أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ٤٢ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) ٤٣.

اكثر الهلكى الغابرين كانوا مشركين ، والباقون موحدون ، أهل كتاب وسواهم بما كانوا يتخلفون عن شرحة التوحيد ، ولا سبيل للفرار عن سوء العاقبة هنا وفي الأخرى إلّا إقامة الوجه للدين القيم وهو التوحيد الحق وحق التوحيد الذي تتبناه الفطرة والعقلية والشرعة ، كل تلو بعض ولصق بعض في تعاضد ثلاثي سامي.

(فَأَقِمْ .. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) وهو يوم انقطاع التكليف ، بدايته يوم الموت ونهايته يوم الأخرى ، ولأن هذا التكليف قائم على كل مكلف الى يوم الدين ، لم يكن ليخص أحد اليومين ، فمن مات قبل القيامة ف (يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) بادئ له من الموت ، ومن مات في قيامة الإماتة فيوماه يوم واحد ، وهو على اية حال (لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ).

والمردّ هو مصدر ميمي واسم زمان ومكان ، و «من» قد تعني كلا الابتدائية والتجاوز ، فمثلث المردّ لذلك اليوم مسلوب «من الله» إذ لا يرد ، ومن غير الله «من الله» أن نحمله على المردّ.

(يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أصلها يتصدعون ، وهو التفرق والتمزق ، فلا تصدّع يوم الدنيا بما عملوا إذ لا تتفجر وتظهر بحقائقها النارية ، فانما هو يوم بعد الموت برزخا بينه وبين الأخرى ، وجزاء أوفى فيها : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٥٣ : ٤١).

فهنا يتصدعون بكل تصدّع وصداع في أنفسهم ، ويتفرقون بعضهم عن بعض ، ويتفرق الكل عن المؤمنين ففريق في الجنة وفريق في السعير.

(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ٤٤ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) ٤٥.

١٩٤

فانما كفر الكافر عليه في كل النشآت ، كما صالح الصلحاء لأنفسهم حيث يجزون من فضل الله ، وأولئك يعذبون من عدل الله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) فيبغضهم ، إذ لا تخفى على ربنا خافية حتى يخلوا أحيانا من حب وبغض جهلا بالحال! فمن لا يحبه فهو يبغضه ، ومن لا يبغضه فهو يحبه. وكما «كفر» تعم كفر العقيدة والعمل كذلك (عَمِلَ صالِحاً) إذ لا يصلح عمل إلّا بإيمان.

والإفراد في «عليه» لرعاية اللفظ «من» والجمع في «يمهدون» لرعاية المعنّي منها ، ولما ذا ـ بعد ـ لم يأتيا بصيغة واحدة إفرادا أو جمعا واللفظ نفس اللفظ والمعنى نفس المعنى؟ قد يعني الإفراد في «عليه» التبعة الفردية في الكفر ، والجمع في «يمهدون» المهاد الجمعي في الايمان ، فان أولاد المؤمنين ـ الصغار ـ يلحقون بهم في مهدهم ، ولا يلحق أولاد الكفار بهم ، كما وذرية المؤمنين التابعين لهم بإيمان يلحقون بهم في درجتهم تكريما لهم : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٥٢ : ٤١).

فالرحمة لأنها قضية الفضل هي أعم من الغضب وهو قضية العدل ، لا فحسب في الأخرى بل وايضا في الأولى حيث يشمل برحمته كل مرزوق مؤمنا وكافرا ولا يأخذ بعذابه هنا إلّا الكافر فقد «سبقت رحمته غضبه» بكل سبق وفي كل سباق (٣٦).

ومنءايته أن يرسل الرّياح مبشّرت وليذيقكم (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ

__________________

(٣٦) نور الثقلين ٤ : ١٩١ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان العمل الصالح ليسبق صاحبه الى الجنة فيمهد له كما يمهد لأحدكم خادمه فراشه.

١٩٥

مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣)

١٩٦

اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)(٦٠)

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ٤٦.

(وَمِنْ آياتِهِ) لرحمته الشاملة (أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) برحمات : ازالة للعفونات ، وتلقيحا لشجرات ، وتلحيقا للسحاب ركاما أم إثارة لها

١٩٧

بسطا في السماء كيف يشاء ، وتلطيفا للأجواء ، وتبريدا للهواء ، أماذا مما تخلّفه الرياح المبشرات (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) فالإذاقة قلة ، و «من» التبعيض قلة اخرى تجعلان غزير الأمطار قلة قليلة من رحمته ، ولنعرف ما هي رحمته يوم الرحمة الأخرى.

(وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) بالرياح (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بجريان الفلك والرياح (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) مرسل الرياح مبشرات ، بهذه الرحمات ومحققات لهذه العطيات.

وحين يرسل الله الرياح مبشرات لرحماته المادية للأولى أفلا يرسل رياح الوحي مبشرات لرحماته الروحية التي تعيّشنا في النشأتين :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ٤٧.

إن الرياح الروحية الرسالية المبشرة بكل الرحمات قد أتت بالبينات (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) ثمرات الحياة قطعا لها قبل إيناعها ، فتحويلا لها إلى نكبات ، وأما الذين آمنوا (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) في حقول الرسالات هنا ويوم يقوم الاشهاد : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (١١ : ١٨).

و «كان» هنا تضرب إلى أعماق الماضي الرسالي بمستقبله ، تأكيدا لاستمرارية النصر الرباني لهؤلاء الأكارم قدر ما ينصرون الدين والدينين.

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ٤٨.

إثارة السحاب وبسطها في السماء كيف يشاء وجعله كسفا فترى الودق

١٩٨

يخرج من خلاله ، ذلك من مبشّرات الرياح المبشّرات ، أفردت بالذكر فصلا بعد وصل لأنها أهم بشارات الرياح (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).

فمن فاعليات الرياح انها تثير سحابا من المياه بما تحمله من الأبخرة المائية ، فكما بقر الحرث تثيره ، كذلك السحاب تثير حرث الأبخرة قلعا من الكتل المائية على وجه الأرض «فيبسطه» الله (فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) (٣٥ : ٩).

(وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) : ويجعل الله السحاب المبسوط في السماء : كسفا : قطعا ركاما فوق بعض : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) (٢٤ : ٤٣).

والودق هو بداية المطر ، يخرج من خلال السحاب كأنها غرابيل ، ثم يصبح الودق مطرا نزيرا ام غزيرا (فَإِذا أَصابَ) الله (بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) برحمة الماء من السماء.

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) ٤٩.

وما هو المرجع لضمير الغائب في «من قبله»؟ أهو الودق وقد أغني عنه من قبل ب «من قبل»! ولا فصل بعيدا يقتضي التكرار! وليس الإبلاس الإياس إلّا من قبل الرياح! أم إنه «السحاب»؟ فكذلك الأمر معنويا مهما صح لفظيا! ..

انه إرسال الرياح المؤوّل من (يُرْسِلُ الرِّياحَ) ـ : وان كانوا من قبل ان

١٩٩

ينزل عليهم الودق من قبل إرساله الرياح لملبسين.

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ٥٠.

«فانظر» نظرة العبرة النبهة بصرا وبصيرة (إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) الودق المطر (كَيْفَ يُحْيِ) به (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) كيفية متواترة مرئية ليل نهار ، أن يضم رحمة السماء إلى رحمة الأرض ببذر ، وكل الثلاث ميتة بمفرداتها ، ثم تحصل الحياة بجمعيتها كما يشاء الله «إن ذلك» الرحمن الرحيم القدير «لمحيي الموتى» أيا كانت وأيان ، وأهمها لإحياء يوم الحساب فإنه قضية عدله مهما كان سائر الإحياء في سائر الأحياء قضية فضله.

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) ٥١.

هذا الريح هو ريح العذاب حارا ام باردا يصفّر به الزرع عن اخضراره ، وترى «فرأوه» تعني الريح؟ وليس لريح العذاب كما سواه لون! ولو كان وهو مصفر فصالح التعبير عنه «ريحا مصفرا ـ أو ـ اصفر»! ولم يوصف الريح فيما وصف بأي لون اللهم إلّا بفاعلية العذاب : (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) (٣ : ١١٧)(٣٧).

مرجع الضمير هو الزرق أو مطلق النبات المعلوم من السياق (أَرْسَلْنا رِيحاً) بعد إرسال الرياح «فرأوه» : النبات المخضّر بالمطر الحاصل عن إثارتها السحاب ، رأوه مصفرا (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) كفرانا برحمته السابقة السابغة ، ام وكفرا به.

__________________

(٣٧) «جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ» (١٠ : ٢٢) «قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ» (١٧ : ٦٩) «الرِّيحَ الْعَقِيمَ» (٥١ : ٤١) «بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ» (٦٩ : ٦).

٢٠٠