الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

آيات ثمان تختص بحكمة لقمان التي تلقاها من ربه ثم ألقاها الى ابنه ، تجمع من عظات الحكم جوامعها ولوامعها ، فيها الحكمة الحكيمة للعبد وجاه الله ، ووجاه خلق الله أمرا لهم بالمعروف عند الله ، ونهيا عن المنكر لدى الله ، وصبرا على ما أصاب في مسرح العبودية والدعوة إلى الله ، وقصدا في المشي بين خلق الله.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ١٢.

«لقد» تأكيدان و «نا» الدالة على جمعية الصفات ثالثهما ، تؤكد هذه الثلاث الحكمة المؤتاة للقمان ، المختصرة في (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) بيانا لهذه الحكمة الجامعة العالية ، وقد تكون هي حكمة الشكر وشكر الحكمة ، حيث الشكر هو وضع النعم مواضعها التي يرضاها المنعم.

والشكر مقابل الكفر يعم الإيمان بكل قضاياه ، كما الكفر يعمه والكفران بكل رزاياه ، فهي ـ إذا ـ حكمة فطرية وعقلية ونفسية في كل حقولها ، إضافة إلى حكمة عملية ، هما يقضيان على كافة التفسخات العارمة الذاهبة بالإنسان مذاهب الكفر والكفران.

واصل الحكمة هو «الفهم والعقل» (١) ولقد «كان رجلا قويا في امر الله ، متورعا في الله ، ساكتا مستكينا ، عميق النظر ، طويل الفكر ، حديد النظر ، مستغن بالعبر ... ويعتبر ويتعلم ما يغلب به على نفسه ، ويجاهد به هواه ، ويحترز به من الشيطان ، وكان يداوي قلبه بالفكر ، ويداوي نفسه بالعبر ، وكان لا يظعن إلا فيما يعنيه ، فبذلك أوتي الحكمة ، ومنح

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٩٥ في أصول الكافي عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام يا هشام ان الله قال : ولقد آتينا لقمان لحكمة ـ قال : الفهم والعقل.

٢٢١

العصمة ..» (١) «كان عبدا كثير التفكر ، حسن الظن ، كثير الصمت ، أحب الله فأحبه الله تعالى فمن عليه بالحكمة ... فنام نومة فغط بالحكمة غطا فانتبه فتكلم بها ...» (٢).

__________________

(١) المصدر تفسير القمي حدثني أبي عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقري عن حماد قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لقمان وحكمته التي ذكرها الله عز وجل فقال : اما والله ما اوتي لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال ولكنه كان رجلا قويا .. لم ينم نهارا قط ولم يره احد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال لشدة تستره وعموق نظره وتحفظه في امره ولم يضحك من شيء قط مخافة الإثم ولم يغضب قط ولم يمازح إنسانا قط ولم يفرح بشيء أتاه من امر الدنيا ولا حزن منها على شيء قط ...

(٢) الدر المنثور ٥ : ١٦١ ـ اخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي مسلم الخولاني قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان لقمان كان عبدا .. نودي بالخلافة قبل داود (عليه السلام) فقيل له يا لقمان هل لك ان يجعلك الله خليفة تحكم بين الناس بالحق؟ قال لقمان : ان اجبرني ربي عز وجل قبلت فاني اعلم ان فعل ذلك اعانني وعلمني وعصمني وان خيّرت قبلت العافية ولم اسأل البلاء ، فقالت الملائكة يا لقمان لم؟ قال : لأن الحاكم باشد المنازل واكدرها يغشاه الظلم من كل مكان فيخذل او يعان فان أصاب فبالحرى ان ينجو وان اخطأ اخطأ طريق الجنة ومن يكون في الدنيا ذليلا خير من ان يكون شريفا ضائعا ، ومن يختار الدنيا على الآخرة فاتته الدنيا ولا يصير إلى ملك الآخرة ، فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام ... ثم نودي داود (عليه السلام) بعده بالخلافة فقبلها لوم يشترط شرط لقمان فأهوى في الخطيئة فصفح الله عنه وتجاوز وكان لقمان يوازره بعلمه وحكمته فقال داود (عليه السلام) طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة فصرفت عنك البلية وأوتي داود الخلافة فابتلي بالذنب والفتنة».

أقول : لا بأس بهذا الحديث إلا في نسبة الذنب والخطيئة وعدم الحكمة إلى داود فانها من المختلقات الاسرائيلية. فان داود (عليه السلام) اوتي الحكمة كما أوتيها لقمان :

(وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) (٢ : ٢٥١) (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ ـ

٢٢٢

ولقد أتت «الحكمة» في الذكر الحكيم عشرين مرة ، هي في هذه المرة اليتيمة عطية ربانية للقمان ولم يكن من النبيين ، فقد أوتي الحكمة البالغة دون رسالة ، مما يدل على عظم موقفه تجاه الله ، ولم يكن إلّا عبدا حبشيا فأصبح من سادات السودان (١).

والشكر درجات ارفعها ان يعرف الشاكر النعمة ويعترف بعجزه عن أداء شكرها ، ف «من أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه فقد ادى شكورها» وقد «اوحى الله عز وجل الى موسى (عليه السلام) يا موسى اشكرني حق شكري ، فقال : يا رب وكيف أشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به علي؟ قال : يا موسى! الآن شكرتني حين علمت أن ذلك مني» (٢).

وكما الحكمة هي بين معرفية وعملية ، كذلك الشكر المفسر لها معرفي وعملي ، أن يحلّق الشكر على الشاكر ككلّ ، فلا تبقى من قالاته وحالاته وفعالاته إلا ترسيمات لمرضاة الله.

__________________

ـ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٣٨ : ٢٠) كما وان الحكمة هي من العطيات الربانية لكافة النبيين : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ...) (٣ : ٨١) وان قول لقمان للملائكة : فإني اعلم ان فعل ذلك اعانني وعلمني وعصمني» دليل العصمة لمن اوتي الحكمة من النبيين.

(١) المصدر اخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن يزيد عن جابر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): سادات السودان اربعة لقمان الحبشي والنجاشي وبلال ومهجع وفيه قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اتخذوا السودان فان ثلاثة منهم سادات اهل الجنة لقمان الحكيم والنجاشي وبلال المؤذن.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٢٠١ ـ ح ١ و ٢ عن أبي عبد الله (عليه السلام).

٢٢٣

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ١٣.

عظة لا بقة لائقة من والد حكيم لولده ، بادئة بالسلب : (لا تُشْرِكْ بِاللهِ) وخلفيّته الإيجاب وهو توحيد الله ، فهي عبارة اخرى عن (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) تحقيقا لها حقيقا بولد الحكيم وهو يعظه بحكمة الله التي آتاه.

وليست مجرد عظة ، بل هي معلّلة بأقوى البراهين البيّنة (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ظلم يبتدء من الإنسان المشرك نفسه أن يعبد أكرم خلق الله خلقا خسيسا كوثن أو صنم أو حيوان ، ام خلقا مثله في الحاجة المحلّقة على الخلق كله ، كملك او نبي او ولي وهم أنفسهم يوحدون الله وينهون عن أن يشرك بالله.

ثم ظلم للحق أن يسوّى بين الخالق والمخلوق ، ثم يفضّل المخلوق على الخالق ، بأن يختص عبوديته للخلق ويترك الخالق ، وظلم في كافة الموازين والمقاييس ان يشرك بالله العظيم ، إذا فهو ظلم عظيم لا يساوى باي ظلم ، ولبعده في عظمه (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

ولأن عظة الوالد ولده غير متهمة إذ لا ارأف منه به ، تعرض في هذه الإذاعة القرآنية استئصالا لكل ريبة تعتري ألدّاء المشركين زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن ليس وراءها انتزاع سلطان منهم وتفضل عليهم.

لذلك نرى الآيتين التاليتين تأتيان كجملة معترضة بين عظات لقمان لابنه ، عرضا لمدى حق الوالدين على الأولاد وفرضا لطاعتهما وشكرهما بعد شكر الله إلّا في الإشراك بالله ، فان هذا الظلم العظيم لا يقبل حلولا حتى

٢٢٤

بين أقرب الأقارب الوالدين والأولاد.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) ١٤.

لقد فصلنا القول حول هذه الوصية بطيات آيات لها لا سيما آية الأسرى ، وهذه الآية هي اليتيمة في خصوص الأم حيث اختصت بذكرى اتعاب لها وأشغاب ليست للوالد مثلها ولها نظيرة في (وَإِنْ جاهَداكَ ..) (٢٩ : ٨).

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) وهو الضعف الحمل لذلك الحمل ، وعلّ الأوّل هو منذ الحمل حتى الوضع ، فانه كله ضعف مهما اختلفت مراحله ، والثاني هو منذ الوضع حتى قيامه على ساقه ، والحد المتوسط هو العامان للرضاعة.

«وفصاله» عن الرضاعة ، وعن ثاني الوهنين «في عامين» وهما أكثر زمن للرضاعة ، وبما أن (حَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) نتعرف إلى أقل الحمل وهو ستة أشهر ، و «في» هنا ظرفا ل «فصاله» تقرر أن انفصال الرضاعة هو ضمن عامين ، لا ـ فقط ـ في منتهاهما ، بل خلالهما ، البادئ من بداية العام الثاني ، والحدّ المعتدل منه الشهر التاسع قضية الجمع بين «في عامين» و (ثَلاثُونَ شَهْراً) لمن يكون حمله تسعة أشهر ، فلا فصال ـ إذا ـ قبلها إلّا عند العسر أو الحرج ، فحقّ للولد أن يرتضع عامين إلّا ثلاثة أشهر.

(وَوَصَّيْنَا ... أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) اشكر لي أن خلقتك وجعلت حبك في قلوبهما لحدّ التضحية في صالحك صغيرا أو كبيرا ، واشكر «لوالديك» ان تحمّلا كلّ عبء في سبيل تحويل هذه الأمانة الربانية (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) فأسألك عن واجب الشكر لي ولهما «فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله

٢٢٥

تعالى» (١) فإنهما منعمان عليك بعد الله «ومن لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجل» (٢) والأم بطبيعة الحال لها الحق الأوفر للعبء الأكثر.

الشكر للوالدين هنا هو الحسن والإحسان المأمور به في آيات اخرى بحقهما ، ولا سيما الأم المتحملة في حمله أكثر من الوالد فلها حق أكثر منه : «واما حق أمك فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل احد أحدا ، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحدا ، ووقتك بجميع جوارحها ولم تبال أن تجوع وتطعمك وتعطش وتسقيك وتعرى وتكسوك وتضحى وتظلك وتهجر النوم لأحلك ووقتك الحر والبرد فانك لا تطيق شكرها إلا بعون الله وتوفيقه ، واما حق أبيك فان تعلم أنه أصلك فانك لولاه لم تكن فمهما رأيت من نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه فاحمد الله واشكره على قدر ذلك ولا قوة إلا بالله» (٣).

وقد «جاء رجل الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله من أبر؟ قال : أمك قال : ثم من؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال: أباك» (٤).

وعلّ الأم تزيد عن الأب مرتين لوهنيها في حمل الولد.

__________________

(١) نور الثقلين عن العيون باسناده إلى الرضا (عليه السلام) حديث طويل وفيه يقول : وامر بالشكر له وللوالدين فمن ..

(٢) المصدر بإسناده الى محمود بن أبي البلاد قال سمعت الرضا (عليه السلام) يقول : ..

(٣) المصدر في الفقيه في الحقوق المروية عن زين العابدين (عليه السلام) ...

(٤) المصدر عن تفسير القمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال جاء رجل .. وفيه عنه قال جاء رجل وسأل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن بر الوالدين فقال : ابرر أمك ابرر أمك ابرر أمك ، ابرر أباك ابرر أباك ابرر أباك وبدء بالأم قبل الأب.

٢٢٦

وللوالدين تأويل انهما الرسول وعلي صلى الله عليهما وآلهما فإنهما أبوا هذه الأمة ، وكذلك كل العلماء الربانيين ، فان حق الوالدية الروحية التربوية فوق الجسمية الولادية (١).

ذلك ، وكما الله لا يشكر حقه مهما بلغ الشكر مبلغه القمة ، كذلك الوالدان ، إلّا ان يعترف بالعجز عن أداء شكره وشكرهما ، وهو الحق الحقيق بالأجر.

وقد يروى «ان رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها فسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هل أديت حقها؟ قال : لا ولا بزفرة واحدة» (٢).

ذلك ، ولأن الأصل في حقوقهما هو الله الخالق لهما وإياكم منهما ، الجاعل حبكم في قلوبهما ، الآمر بشكرهما ، فلا تناحر ـ إذا ـ بين حق الله وحقوقهما ، ولا حق لهما إلّا في طول الخط من حق الله دون مشاقة ، ف :

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما

__________________

(١) المصدر عن الكافي بسند متصل عن الأصبغ بن نباتة انه سأل امير المؤمنين (عليه السلام) عن قوله تعالى : ان اشكر لي ولوالديك اليّ المصير؟ فقال : الوالدان اللذان أوجب الله لهما الشكر هما اللذان ولدا العلم وورثا الحكم وامر الناس بطاعتهما ثم قال الله : «إلى المصير» فمصير العبّاد الى الله والدليل على ذلك الولدان ثم عطف القول على ابن حنتمة وصاحبه فقال في الخاص والعام (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي) تقول في الوصية وتعدل عمن أمرت بطاعته «فلا تطعهما» ولا تسمع قولهما ثم عطف القول على الوالدين فقال : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) يقول : عرف الناس فضلهما وادع الى سبيلهما وذلك قوله (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) فقال : الى الله ثم إلينا فاتقوا الله ولا تعصوا الوالدين فان رضاهما رضا الله وسخطهما سخط الله».

(٢) رواه الحافظ ابو بكر البزاز في مسنده باسناده عن بريد عن أبيه ان رجلا ..

٢٢٧

وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ١٥.

(وَإِنْ جاهَداكَ) جهدهما في جحدهما توحيد الله ، وقدر ما كل جهودهما (عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وبطبيعة الحال ليس لأي إنسان علم بشريك لله «فلا تطعهما» ـ فقط ـ في حقل الضلال ، واما العشرة الحيوية الدنيوية ، غير المناحرة لتوحيد الله ف (صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) كما كنت ، ف «بر الوالدين واجب وإن كانا مشركين ولا طاعة لهما في معصية الله ولا لغيرهما فانه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (١) وليس يختص «فلا تطعهما» في الإشراك بالله كعبادة وثن ، بل في معصية الله ككل ، بل وكل معصية لله اشراك بالله ، فانه واحد في ان يطاع كما هو واحد بسائر شئون الألوهية والربوبية ، لا شريك له على أية حال وفي كافة حقول المعرفة والعبودية والطاعة ، مهما اختلفت دركات الإشراك به كما تختلف درجات توحيده (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٠٣ عن العيون في باب ما كتبه الرضا (عليه السلام) للمأمون من محض الإسلام وشرايع الدين : .. وفيه (٢٠٤) محاسن البرقي باسناده عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حديث طويل وفيه يقول : أطيعوا آباءكم فيما امروكم ولا تطيعوهم في معاصي الله.

(٢) وفي المناقب مرّ الحسين بن علي عليهما السلام على عبد الرحمن بن عمرو بن العاص فقال عبد الله : من أحب ان ينظر إلى أحب اهل الأرض الى السماء فلينظر الى هذا المجتاز وما كلمته منذ ليالي صفين ، فأتى به ابو سعيد الخدري الى الحسين (عليه السلام) فقال له الحسين (عليه السلام) أتعلم اني أحب اهل الأرض الى اهل السماء وتقاتلني وأبي يوم صفين؟ والله ان أبي لخير مني ، فاستعذر وقال : ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لي : أطع أباك فقال له الحسين (عليه السلام) اما سمعت قول الله عز وجل : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) وقال رسول الله (صلّى الله ـ

٢٢٨

اجل وان «بر الوالدين من حسن معرفة العبد بالله ، إذ لا عبادة اسرع بلوغا بصاحبها الى رضا الله تعالى من حرمة الوالدين المسلمين لوجه الله ، لأن حق الوالدين مشتق من حق الله تعالى إذا كانا على منهاج الدين والسنة ، ولا يكونان يمنعان الولد من طاعة الله تعالى الى معصيته ، ومن اليقين الى الشك ، ومن الزهد الى الدنيا ، ولا يدعو انه الى خلاف ذلك ، فإذا كانا كذلك فمعصيتهما طاعة وطاعتهما معصية قال الله (وَإِنْ جاهَداكَ ..) واما في باب العشرة فدارهما واحتمل أذاهما نحو ما احتملا عليك في حال صغرك ولا تضيّق عليهما مما قد وسع الله عليك من الحال والجلوس ولا تحوّل بوجهك عنهما ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما فان تعظيمهما من الله تعالى وقل لهما بأحسن القول وألطفه (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)» (١).

فعلى أية حال (صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) والدين وغيرهما ، ولا تتبع سبيل من صدّ عني والدين وغيرهما فان (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) لا إلى سواي (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وجاه الله وخلقه.

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) ١٦.

«إنها» تعني أن الطاعة في الإشراك بالله وان كانت للوالدين ، مما تلمح ان الوصية بالوالدين كما هنا هي من نصائح لقمان ، مهما كانت هنا كجملة معترضة بين وصاياه ، وما أجمله ترتيبا رتيبا في أسلوب البيان! وهذه الآية إنذار صارم عن الطاعة في الإشراك بالله ، فضلا عنها مستقلة لغير الله ، فالإشراك على اية حال مسئول عنه ، قصورا أو تقصيرا ،

__________________

ـ عليه وآله وسلّم) : انما الطاعة بالمعروف ، وقوله : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٠٢ عن مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام) :

٢٢٩

تقليدا وسواه.

ثم (مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) تصوير عن أدنى الشرك و (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) عن أخفاه ثم (أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) عن أبعده ، وذلك مثلث من صغار الشرك في أبعاده ، فضلا عن كباره في كل أبعاده ف «اتقوا المحقرات من الذنوب فان لها طالبا ، لا يقولن أحدكم أذنب وأستغفر الله إن الله يقول (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ..)(١).

و (يَأْتِ بِهَا اللهُ) تصريحة بين نظائرها أن الإشراك بالله سرا وإعلانا مما يؤتى به بنفسه يوم القيامة : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٣ : ٣٠) حيث تعم عمل القلب والقالب والسر والعلن : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)(لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) (٣٤ : ٣).

وما أتمها أداء وأجملها إيقاعا تصويرا عن الطاعة صالحة وطالحة ب (حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) صغيرة كأصغر ما كان يعرفه الإنسان (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) صلبة لا سبيل إليها كالعادة (أَوْ فِي السَّماواتِ) في خضمّ الأجواء الشاسعة التي يبدو فيها النجم الكبير نقطة سابحة ام لا تبدو ولو بالعيون المسلحة (أَوْ فِي الْأَرْضِ) ضائعة في أعماقها ، ومع كل ذلك الخفاء (يَأْتِ بِهَا اللهُ) دونما انفلات عن علم الله وقدرته.

__________________

(١) المصدر روى العياشي بالإسناد عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : اتقوا ...» أقول : يأت بها الله قطعي بالنسبة لمن مات مشركا ، ثم من مات مذنبا دون توبة ولا شفاعة ، فالمعاصي المكفرة لا يأتي بها الله فان التائب عن الذنب كمن لا ذنب له.

٢٣٠

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ١٧.

أوامر أربعة تتبنّى شخصية المؤمن كشخص أولا وكداعية ثانيا ، وصمودا في كلا البعدين ، ف «أقم الصلاة» هي في الحق إقامة لكافة الصلات المعرفية الايمانية والعملية بالله ، ثم (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) تشمل الدعوة إلى كافة الخيرات الفردية والجماعية ، كما (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) تعم كافة المنكرات.

ولأن إقام الصلاة بحقها ، ثم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، تحول دونها عراقيل وصدمات ، لذلك (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) في صالح الإيمان وعمله ، دون تزعزع عن قواعده ، ولا تلكع وانكسار في سواعده «إن ذلك» التكليف الصارم والصبر على تحقيقه (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

وإذا كان الصبر على المصاب في فرائض الايمان من عزم الأمور ، فليس الأمن عن الضرر من شروطات الجواز أو الوجوب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إلّا إذا كان الضرر فيه أهم من الضرر في تركه فمرفوض ، أم يتكافئان فغير مفروض.

فالضابطة العامة في هذين الفرضين فرض الصبر على ما أصابك إلّا فيما يستثنى بأهمية ام مكافئة ، وكما الدفاع والقتال في سبيل الله لا يشترط في وجوبهما الأمن عن الضرر كضابطة ، كذلك وبأحرى ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما اقل تعرضا للضرر(١).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٠٥ عن الخصال فيما علم امير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه من الأربعمأة باب ائمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر واصبروا على ما أصابكم ، وفيه عن اصول الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : الجنة محفوفة بالمكاره والصبر فمن صبر ـ

٢٣١

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) ١٨.

من مظاهر الاختيال والفخر تصعير الخد للناس ، والمشي في الأرض مرحا ، وتصعير الخد للناس هو إمالة العنق عن النظر إليهم استكبارا ، كأنهم لا شيء وهو فقط كل شيء ، فإن الصعر داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها ، والمرح هو كثرة الفرح بمال او منال : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) (١٧ : ٣٧)(١) وهذا المشي الرديء هو المشي في تخايل ونفخة وقلة مبالات بالناس ، وقد يعني تصعير الخد للناس ليّ العنق لهم تذللا واستكانة ، ام هما معنيّان حيث يحملهما تصعير الخد ، فان ليّ العنق وإمالته قد يعني الاختيال ، واخرى الإذلال وكلاهما منهيان.

و «لا يحب» من الله يعني البغض ، إذ لا تخفى عليه خافية حبيبة أو بغيضة ، فإذا لا يحب فهو ـ إذا ـ يبغض ، وقد يروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله : من مشى على الأرض اختيالا لعنته الأرض ومن تحتها ومن فوقها (٢).

__________________

ـ على المكاره في الدنيا دخل الجنة وجهنم محفوفة باللذات والشهوات فمن اعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار» وفيه عن المجمع عن علي (عليه السلام) «واصبر على ما أصابك من المشقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

(١) المصدر في المجمع عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية لا تمل وجهك من الناس بكل ولا تعرض عمن يكلمك استخفافا به.

(٢) المصدر في كتاب ثواب الأعمال باسناده الى ابن فضال عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : وفيه عنه قال ابو جعفر (عليه السلام) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويل لمن يختال في الأرض معارض جبار السماوات والأرض.

٢٣٢

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) ١٩.

القصد في المشي هو الاعتدال في المشي والمشية الحيوية وتمشية الأمور ، مجانبا حد الإفراط والتفريط فان خير الأمور أوسطها ، فالمشية القاصدة الى الأهداف الصالحة بكل بساطة وانطلاق هي التي توصل إليها دون تلكّا وانحياق ، ف «سرعة المشي يذهب ببهاء المؤمن» (١) ومن القصد في المشي ـ ككل ـ هو المشي القاصد الحق على أية حال ، وهو الاعتدال العدل في مشي الإنسان كإنسان (٢).

ومن القصد في المشي في انطلاقته الغض من الصوت دون رفع صارخ ولا خفض هامس ، والمنكر بينهما هو الصارخ فوق الحاجة إلّا إذ اقتضت الضرورة ، أم فيه رجاحة كأن يكون داعيا أو يقرأ القرآن (٣) فليس القصد من الصوت في كلام وسواه إلا تفهيم المخاطب ، فليكم قدر الحاجة من سماعه لا زائدا ولا ناقصا ، فالناقص حماقة والزائد حماقة اخرى بل هي أحمق ف (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٠٨ في كتاب الخصال عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : ...

(٢) عن الكافي ابو عمر والزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث : ان الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها وفرض على الرجلين ان لا يمشي بهما الى شيء من معاصي الله وفرض عليهما المشي الى ما يرضى الله عز وجل فقال : ولا تمش في الأرض مرحا انك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ـ وقال : واقصد في مشيك واغضض من صوتك ان أنكر الأصوات لصوت الحمير.

(٣) المصدر عن المجمع وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : هي العطسة المرتفعة القبيحة والرجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا إلا ان يكون داعيا أو يقرأ القرآن.

٢٣٣

فالغض من الصوت أدب صارح ، ورفعه سوء أدب قارح ، إساءة إلى صاحبه كأن لا يحسب صوته صوتا ، وإلى مخاطبه كان يحسبه أصم أو لا يفهم ، فلذلك يشبه بصوت الحمير في كونه أنكر الأصوات ، ولكن اين حمير من حمير ، الحيوان تعلي صوتها قصورا بلا نية سوء ، وحمير الإنسان تعلي تقصيرا وبنية سوء ، ام قصورا عن تقصير مهما لم ينو سوء.

ومن الغض من الصوت ـ بل هو أهمه ـ غضه عما لا يحل ، أن يربط الإنسان لسانه عما لا يعنيه ، فيجعل لسانه وراء قلبه ، دون ان يجعل قلبه وراء لسانه.

هذه عظات غرة ، سلبية وايجابية ، فردية وجماعية ، تأتي في القرآن من لقمان (عليه السلام) كأصول عظاته لابنه وسواه ، وقد يروى عنه عظات أخرى نذكر قسما منها هنا كما يناسب الفرقان :

«قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان لقمان قال لابنه يا بني عليك بمجالس العلماء واستمع كلام الحكماء فان الله يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر» (١).

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عنه (عليه السلام) كان يقول : إن الله إذا استودع شيئا حفظه» (٢).

وقال (عليه السلام) لابنه يا بني لا تكونن أعجز من هذا الديك الذي يصوت بالأسحار وأنت نائم على فراشك» (٣).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٦٢ ـ اخرج الطبراني والرامهرمزي في الأمثال عن أبي امامة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) :

(٢) المصدر اخرج احمد والحكيم الترمذي والحاكم في الكنى والبيهقي في شعب الايمان عن ابن عمر عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ..

(٣) المصدر اخرج البيهقي عن الحسن ان لقمان (عليه السلام) قال لابنه ...

٢٣٤

وقيل للقمان : ما الذي أجمعت عليه من حكمتك؟ قال : «لا أتكلف ما قد كفيته ولا أضيع ما وليته» (١).

«فوعظ لقمان ابنه بآثار حتى تفطّره وانشق وكان فيما وعظه به أن قال : يا بني إنك منذ سقطت الى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة فدار أنت إليها تسير أقرب إليك من دار أنت عنها متباعد ، يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ، ولا تجادلهم فيمنعوك ، وخذ من الدنيا بلاغا ولا ترفضها فتكون عيالا على الناس ، ولا تدخل فيها دخولا يضر بآخرتك ، وصم صوما يقطع شهوتك ولا تصم صياما يمنعك من الصلاة فان الصلاة أحب الى الله من الصيام ، يا بني ان الدنيا بحر عميق قد هلك فيها عالم كثير ، فاجعل سفينتك فيها الايمان ، واجعل شراعها التوكل ، واجعل زادك فيها تقوى الله ، فان نجوت فبرحمة الله وإن هلكت فبذنوبك ، يا بني إن تأدبت صغيرا انتفعت به كثيرا ، ومن عنى بالأدب اهتم به ومن اهتم به تكلف علمه ، ومن تكلف علمه اشتد له طلبه ، ومن اشتد طلبه أدرك منفعته ، فاتخذه عادة فانك تخلف في سلفك ، وينتفع به من خلفك ، ويرتجيك فيه راغب ، ويخشى صولتك راهب ، وإياك والكسل عنه بالطلب لغيره ، فان غلبت على الدنيا فلا تغلبن على الآخرة ، وإذا فاتك طلب العلم في مظانه فقد غلبت على الآخرة ، واجعل في أيامك ولياليك وساعاتك نصيبا في العلم فانك لن تجد له تضييعا أشد من تركه ، ولا تمارين فيه لجوجا ، ولا تجادلن فقيها ، ولا تعادين سلطانا ، ولا تماشين ظلوما ولا تصادقنه ، ولا تصاحبن فاسقا ناطقا ، ولا تصاحبن متهما ، واخزن علمك كما تخزن ورقك.

__________________

(١) قرب الاسناد هارون بن صدقة عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قيل للقمان : ...

٢٣٥

يا بني خف الله عز وجل خوفا لو أتيت القيامة ببر الثقلين خفت أن يعذبك ، وارج الله رجاء لو وافيت القيامة بإثم الثقلين رجوت أن يغفر الله لك ، فقال له ابنه : يا أبت كيف أطيق هذا وانما لي قلب واحد؟ فقال له لقمان : يا بني لو استخرج قلب المؤمن يوجد فيه نوران نور للخوف ونور للرجاء لو وزنا لما رجح أحدهما على الآخر بمثقال ذرة ، فمن يؤمن بالله يصدق ما قال الله عز وجل ، ومن يصدق ما قال الله يفعل ما أمر الله ، ومن لم يفعل ما أمر الله لم يصدق ما قال الله فان هذه الأخلاق يشهد بعضها لبعض ، فمن يؤمن بالله ايمانا صادقا يعمل لله خالصا ناصحا فقد آمن بالله صادقا ، ومن أطاع الله خافه ، ومن خافه فقد أحبه ، ومن أحبه فقد اتبع أمره ، ومن اتبع امره استوجب جنته ومرضاته ، ومن لم يتبع رضوان الله فقد هان عليه سخطه ، نعوذ بالله من سخطه ، يا بني لا تركن إلى الدنيا ولا تشغل قلبك بها فما خلق الله خلقا هو أهون عليه منها ، ألا ترى انه لم يجعل نعيمها ثواب المطيعين ، ولم يجعل بلاءها عقوبة للعاصين» (١).

وقال يا بني : إن تك في شك من الموت فارفع عن نفسك النوم ولن تستطيع ذلك ، وإن كنت في شك من البعث فارفع عن نفسك الانتباه ولن تستطيع ذلك فانك إذا فكرت في هذا علمت أن نفسك بيد غيرك ، وإنما النوم بمنزلة الموت وإنما اليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت.

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٩٨ عن تفسير القمي حدثني أبي عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقري عن حماد قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لقمان وحكمته التي ذكرها الله عز وجل؟ فقال : ـ ذكرنا الشطر الأول من كلامه بداية البحث عن عظات لقمان ـ ثم قال ابو عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ ...» قال : فوعظ ...

٢٣٦

وقال : يا بني لا تقترب فيكون ابعد لك ولا تبعد فتهان ، كل دابة تحب مثلها وابن آدم لا يحب مثله ، لا تنشر بزك إلّا عند باغيه وكما ليس بين الكبش والذئب خلة كذلك ليس بين البار والفاجر خلة ، من يقترب من الزفت تعلق به بعضه كذلك من يشارك الفاجر يتعلم من طرقه ، من يحب المراء يشتم ، من يدخل مدخل السوء يتهم ، ومن يقارن قرين السوء لا يسلم ، ومن لا يملك لسانه يندم.

وقال يا بني صاحب مأة ولا تعاد واحدا ، يا بني إنما هو خلاقك وخلقك ، فخلاقك دينك وخلقك بينك وبين الناس فلا تبغضن إليهم وتعلّم محاسن الأخالق.

يا بني كن عبدا للأخيار ولا تكن ولدا للأشرار ، يا بني أد الأمانة تسلم دنياك وآخرتك وكن أمينا فان الله لا يحب الخائنين ، يا بني لا تر الناس أنك تخشى الله وقلبك فاجر» (١).

وقال : «يا بني إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا ولم يبق من جمعوا له وإنما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل ووعدت عليه أجرا فأوف عملك واستوف أجرك ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع أخضر فأكلت حتى سمنت فكان حتفها عند سمنها ، ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها فتركتها ولم ترجع إليها آخر الدهر ، أخربها ولا تعمرها فانك لم تؤمر بعمارتها ، واعلم انك ستسأل غدا إذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن أربع : شبابك فيما أبليته ، وعمرك فيما أفنيته ، وما لك مما اكتسبته وفيما أنفقته ، فتأهب لذلك وأعد له جوابا

__________________

(١) البحار عن قصص الأنبياء باسناده عن جابر عن أبي جعفر عليهما السلام قال : وكان فيما وعظ به لقمان ابنه ان قال : ...

٢٣٧

ولا تأس على ما فاتك من الدنيا فإن قليل الدنيا لا يدوم بقاءه ، وكثيرها لا يؤمن بلاءه ، فخذ حذرك وجد في أمرك ، واكشف الغطاء عن وجهك ، وتعرض لمعروف ربك ، وجدد التوبة في قلبك ، واكمش في فراقك قبل أن يقصد قصدك ، ويقضي قضاءك ، ويحال بينك وبين ما تريد» (١).

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ

__________________

(١) في الكافي باسناده عن يحيى بن عقبة الأزدي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان فيما وعظ به لقمان لابنه : ...

٢٣٨

الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ

٢٣٩

دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(٣٤)

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) ٢٠.

«الم تروا» خطاب التنبيه لكل راء من المكلفين من الجنة والناس أمن سواهما أجمعين ، ولا دليل على اختصاصه بالمشركين لمكان اطلاق العموم وعموم الإطلاق ، ثم (وَمِنَ النَّاسِ) حيث تستثني جماعة من هؤلاء توكّد واقع العموم.

(أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ..) لفتة مكرورة في الذكر الحكيم ، ذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد ، ورغم تكرارها هنا وهناك

٢٤٠