الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وهم «من جاهد» بصيغته الأخرى السائغة ، المفسرة للجهاد والمستفسرة منه ، حيث الإيمان جهاد نفسي وعمل الصالحات هو الجهاد الآفاقي ، وكيف يحصل أو يتكامل ايمان بلا جهاد ، وكيف تتحقق الصالحات دون جهاد.

وهنا الله يعد المجاهدين تكفيرا عن سيئاتهم اللّمم وسواها ، المتفلتة عنهم في حياة الجهاد ، تغافلا أو تساهلا ، فيأمنوا بأس السيآت حيث اجتنبوا كبائرها (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً).

ولأن (الَّذِينَ آمَنُوا) قد تعم هؤلاء والذين لا يعترفون السيآت حتى اللمم كالمعصومين من السابقين والمقربين ، فالتكفير بالنسبة لهم دفع عن السيآت ألّا يرتكبوها ، لا رفع لهما بعد ارتكابها ، كما الغفر يعم الدفع والرفع.

ثم للذين آمنوا ـ ككلّ على قدر ايمانهم ـ تكفير الدفع كما لهم تكفير الرفع (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

ام ان (الَّذِينَ آمَنُوا) تعني من سوى المعصومين فإنهم مسلمون لله ، لا فقط انهم مؤمنون ، وقد يتأيد ب (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (٩) فإنهم بطبيعة الحال من فوق المؤمنين من (النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) فالمؤمنون هنا (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ ... مِنَ النَّبِيِّينَ ..) والصالحون هنا دون مقابل هم كل هؤلاء الأربع الذين على صراط مستقيم.

ثم ولا وحسبهم هذا ، بل (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) جزاء الحسنى بالحسنى ، وحتى الحسنات التي ليست بالحسنى ، وهي الجزاء بعشرة أمثالها وزيادة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (١٠ : ٢٦) والحسنى هنا

٢١

والأحسن هناك هما الأحسن وجزاءه لا يتفارقان ، ففي اربع ـ آيتنا منها ـ الجزاء هو الأحسن نفسه ، وفي ثنتين الجزاء بالأحسن (١) مما يبين أن الجزاء هو العمل نفسه بما يظهر بملكوته هناك ، وانه العمل الأحسن دون السيء إذ كفّر عنهم ، ولا الحسن فان أقله عشرة الأمثال ، فالجزاء الأحسن جزاء للأحسن والحسن سواء ، فليجاهد المؤمن ويبالغ أن يأتي بالأحسن فالأحسن فانه درجته يوم القيامة ، وكلما كان الأحسن اكثر فالجزاء ـ بطبيعة الحال ـ احسن ، حيث القصد من الأحسن مجموعة الكم والكيف ، فالذي يكون كل اعماله الأحسن دون سيء ولا حسن كأوّل العابدين ، فدرجته كذلك أحسن ممن يكون أحسنه اقل في كم أو كيف أو فيهما ، و (لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً). ويا له من فضل عظيم عميم ونعيم مقيم للمجاهدين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، تكفيرا عنهم سيئاتهم ، وجزاء الحسنى بكل حسناتهم وليست كلها حسنى ، فما أكرمك يا رب ، وما الأمنا يا رب!.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ٨.

هذه وصية ربانية لصالح الوالدين والأولاد «حسنا» هنا و «إحسانا» في أخرى ، مما يدل انهما واحد ، ان تكون حياتك معهما حياة حسنة بإحسان حالا ومالا ومآلا دونما أية إساءة ولا سوء حتى في قلبك فضلا عما يظهر ، ولا

__________________

(١) فمن الأول : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩ : ١٢١) (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٢٤ : ٣٨) (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) (٤٦ : ١٦).

ومن الثانية : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦ : ٩٧)(وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٩ : ٣٥).

٢٢

ترك احسان ألّا تسيء إليهما ولا تحسن حيث الفرض هو الإحسان ، وهذه هي الضابطة الشاملة على أية حال ، المقتضية لطاعتهما على أية حال ، إلّا إذا كانت عصيانا لله فكلّا ، فتركا لطاعتهما فيه مع الحفاظ على المصاحبة الحسنة فيما وراءها ، حيث الصلة بالله وفي الله هي الصلة القمة الأولى ، لا تساويها أو تساميها أية صلة ، فلا تناحرها صلة الوالدية فيما تنافرتا ، وليست الصلة الوالدية إلّا بما قرر الله في حقلي التكوين والتشريع ، فكيف تتقدم على صلة الله! فكل صلة تتهاوى بجنب صلة الله ، إلّا ما تصلك بالله ، وتسرع عجلة سيرك إلى الله (١) فانما طاعتهما في المباحات التي لا امر فيها ولا نهي ، صارما ام راجحا أم فعل المستحبات وترك المكروهات ، فكما تجب المستحبات وتحرم المكروهات بنذر أو عهد أو قسم ، كذلك ـ وبأحرى ـ بأمر الوالدين فان طاعتهما فيهما هو من حسن عشرتهما ، اللهم إلّا في الموارد الحرجة أو العسرة فلا ، فترك المستحبات وفعل المكروهات بأمر الوالدين ليس من واجب الطاعة لهما مهما جازت إلّا إذا حملت تشريعا فمحرمة.

(وَإِنْ جاهَداكَ) بالغ الجهد في جحد التوحيد الحق بكل حقوله طاعة وعبادة (لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) اشراكا في ايّ من شئون الربوبية ، من

__________________

(١) روى الترمذي عند تفسير هذه الآية انها نزلت في سعد بن أبي وقاص وامه حمنة بنت أبي سفيان وكان بارا بامه فقالت له : ما هذا الدين الذي أحدثت ، والله لا آكل ولا اشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتتغير بذلك ابد الدهر يقال : يا قاتل امه ، ثم انها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب فجاء سعد إليها وقال يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني ، فكلي ان شئت وان شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلت وشربت فانزل الله هذه الآية .. وفي الدر المنثور عن قتادة في الآية قال : أنزلت في سعد بن مالك لما هاجر قالت امه : والله لا يظلني ظل حتى يرجع فانزل الله في ذلك ان يحسن إليهما ولا يطيعهما في الشرك.

٢٣

توحيد الذات أو الصفات أو الأفعال ، أو الوحي أو العبادة والطاعة أماهيه من قضايا الربوبية الوحيدة (فَلا تُطِعْهُما) فانه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولما ذا تطيعهما فيها ، ومنه مبدئكم (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، (فَلا تُطِعْهُما) في معصيتي وكلها اشراك بي مهما اختلفت دركاتها ، ثم ولا تسيء إليهما في عشرتك إياهما إلّا ترك هذه الطاعة وهي في الحق إحسان إليهما ألّا يزرا مع وزرهما وزرا منك ، وليس في طاعتهما بمعصية الله أو العمل خلاف حب الله حسن ، ودائرة الوصية بالوالدين مضيقة ب «حسنا» أترى أن الله يفرض طاعة أو يسمح ما فيه معصية ويراه حسنا وهو يحمل مثلثا من السوء : سوء بساحة الربوبية ، وسوء بنفسه في هذه الطاعة ، وسوء بالوالدين حيث تخلف طاعتهما في معصية الله مزيدا في وزرهما.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣١ : ١٥).

ولما ذا خصوص (وَإِنْ جاهَداكَ) في «لا تطعهما»؟ لأنها القمة العالية من الحمل على العصيان ، في كل المحاولات الممكنة تحبيبا وتهديدا وضربا وشتما وأية مجاهدة تحلّق على كافة السلبيات والإيجابيات في سبيل حملك على (أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فلتكن مجاهدتك في هذا الميدان ترك طاعتهما كاقل الجهاد ، ثم ودعوتهما إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة وجدالهما بالتي هي احسن كما هي السنة في الدعوة الصالحة ، وأنت أولا وأخيرا عليك كأصل اصيل أن «لا تطعهما» ثم (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) و (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) هي كحجة لترك الطاعة ، وهي بصورة

٢٤

عامة : (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، وهنا بصورة خاصة من المحال ان يحصل علم بشريك لله تعالى لا فطريا ولا عقليا ولا كونيا ولا نقليا ، بل ومربع الأدلة برهان قاطع لا مرد له ان «لا إله إلا هو رب كل شيء» (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إذا ف (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) برهان قاطع على ضلال الإشراك ، حيث لا يبرهنه أيّ علم.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) ٩.

«الصالحين» هنا بطبيعة الحال هم الأئمة القمة في الصلاح حتى يلحق بهم كل (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فهم (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٤ : ٦٩) و «الصالحين» الأولين علّهم كل هؤلاء الأربع ، وذلك حشر في الحياتين لأولئك المؤمنين على درجاتهم مع الصالحين الأولين من السابقين والمقربين (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) ١٠.

إن طبيعة الحال لمن يؤمن بالله شاهرا مجاهرا ان يؤذي في الله وفي سبيل الله حيث الناس في الأكثرية الساحقة هم في الحق نسناس ، يعارضون شرعة الله في الناس ، فالتأذي في الله سنة في هذه الأدنى في الأمثل فالأمثل من المؤمنين بالله ، ومما يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسمل): «لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت على ثالثة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلّا ما يوارى إبط بلال(١)

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٤٢ ـ اخرج احمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه ـ

٢٥

و «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت» هذا! (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) ولمّا يؤمن بالله أو يرتكن الايمان في قلبه أم هو منافق كافر في قلبه بالله ، وإلّا كان حق التعبير «من يؤمن بالله» لا (مَنْ يَقُولُ) حيث القول أعم من الواقع ، ولا واقع لهكذا قولة يجعل صاحبها الإيذاء في الله كعذاب الله ، ويكأن الله يعذب من آمن به ، وفتنة الناس حين لا تزوى عن هؤلاء كما عن المؤمنين حقا ، لا يحق ان تنسب إلى الله كأنه يعذب من آمن به حيث لا يدفع عنه الأذى ، رغم انها في سبيل الله من فتن الايمان ، وأنحس منه أن يجعل الأذية في الله من الله ويكأن الله هو الذي يدفع هؤلاء النحسين لإيذاء من يقول آمنا بالله!. فهؤلاء الذين يقولون آمنا بالله ثم يجعلون فتنة الناس كعذاب الله ، لم يؤمنوا ، أم هم مؤمنون على حرف : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) (٢٢ : ١١).

للمؤمن أيا كان ، إيذاء في الله كما هنا ، وإيذاء في سبيل الله ، فمن اجتاز الإيذاء في الله سليما في ايمانه دون قولة جارفة مجازفة كتلك التي يقولها : (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) فقد يجتاز الإيذاء في سبيل الله مشكورا محبورا : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) (٣ : ١٩٥).

والتصبر في الإيذاء في الله بحاجة ماسة إلى الجهاد في الله ، حتى يهتدي الى سبل الله والجهاد في سبيل الله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ

__________________

ـ وابن ماجه وابو يعلى وابن حبان وابو نعيم والبيهقي في شعب الايمان والضياء عن انس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

٢٦

اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٢٩ : ٦٩). فما لم يستحكم الإيمان في مرحلته الأولى ، لم يهتد المؤمن إلى سبل الله ، تعرفا إليها وصمودا فيها أمام عراقيلها والتواءاتها وأذياتها.

فمن (أُوذِيَ فِي اللهِ) وتصبّر عن حالة مركوسة وقالة منكوسة ، ولم يزدد إلّا إيمانا ، فهو الذي جاهد في الله فيهتدي ـ إذا ـ إلى سبل الله.

وامّا إذا (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) في قال أو حال ، فهو المنافق حقا ، أو لمّا يدخل الإيمان في قلبه : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٤٩ : ١٤).

وقد تعني الآية ـ فقط ـ المنافقين دون الآخرين ، حيث القول (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) في النصر قولة فارغة منافقة ، وليست جاهلة من هؤلاء الأعراب ، ولمّا يدخل الايمان في قلوبهم ، اللهم إلّا أن يدّعوه بسذاجة زعم أن إسلامهم ايمان ، إلّا أنّ جعل فتنة الناس كعذاب الله لا يلائم أضعف الإسلام ، إلا الاستسلام مصلحيا وهو النفاق!.

فكما عذاب الله يتحرز منه ، فهؤلاء يتحرزون عن الإيمان حيث يخلّف بزعمهم عذاب الله ، وهو (فِتْنَةَ النَّاسِ) وحياة التكليف كلها فتنة خيرا أو شرا ، ومن أصعب الفتن أن يعذب المؤمن في الله حيث يتفلت عنه الايمان غير الركين ولا المكين ، فضلا عن إسلام النفاق ، فالمسلمون هم في حقل الأذية في الله درجات ، أعلاهم من يزدادون ايمانا ، وأدناهم من يرجعون كفارا أو اكفر مما كانوا قبل الإيذاء في الله وهو أنزل ودركات الكفر وأنذلها مهما (قالُوا آمَنَّا) وبينهما عوان ، وما انحسها كتلة البتلة والرياحة والرعونة ، حيث تبغي الجمع بين (قالُوا آمَنَّا) وألا يؤذى في الله ، فيعلن كلمة الايمان في الرخاء رجاء الأمن المطلق في ظلها دون نصب ولا تعب في الله ، يحسبها خفيفة الحمل ، هيّنة المؤونة والمسئولية ، قد يبقى على

٢٧

قالته ما أصابه خير ، فإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ، فاختلّت في نفسه القيم واهتزت العقيدة ـ إن كانت ـ! فهؤلاء ليسوا مع المؤمنين إلّا في النصر والرخاء ، دون الحصر والبلاء (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) نصر رباني يخصك كأول العابدين وآخر النبيين ليقولن إنا كنا معكم» وهم لم يكونوا معهم في واقع الإيمان ، إلّا في قالته القالة الخاوية ، وقد تعني المشابهة بين فتنة الناس وعذاب الله فيما عنته ، أننا تكفينا فتنة الناس عذابا هنا عما في الأخرى ، فلا نعذّب ـ إذا ـ فيها مهما عصينا ، أم قاسوا عذاب الله بفتنة الناس ، فلا علينا إذ نعصيه إذ لا تصيبا في الأخرى إلا كالذي أصابنا هنا من فتنة الناس!. واين فتنة الناس من عذاب الله في أيّ من هذه الزوايا الخاوية الغاوية! وقد تعني (كَعَذابِ اللهِ) كل هذه الثلاث ، فهي لدركات ثلاث من النفاق ، ولكنما الثالث على هامش الأوّلين لمكان (كَعَذابِ اللهِ) دون (عَذابُ اللهِ).

(أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) والواو هنا تعطف إلى محذوف معروف ك «ا لم يجعلوا فتنة الناس كعذاب الله ، فتركوا الايمان المدعى إلى الكفر ، وتركوا ان يكونوا في الله كيلا تصيبهم فتنة الناس التي حسبوها كعذاب الله ، أو تركوا طاعة الله إذ حسبوا فتنة الناس هنا كعذاب الله في الأخرى! (أَوَلَيْسَ اللهُ) إن لم تكن هذه وتلك (بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) وهذه من الفتن المظهرة لما في الصدور : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) :

(وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) ١١.

هنا «ليعلمن» كما هناك من العلم العلامة ، والإيذاء في الله بفتنة الناس ، هو فتنة من الله ، إذ لا يصده عمن يقول آمنا بالله ، ولا عن

٢٨

المؤمنين بالله ، لتظهر علامة الإيمان صمودا وعلامة النفاق خمودا ، «ليحق الله الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين» أترى الآية مدنية لأن واقع النفاق كان في المدينة ، واما في مكة فايمان صارم حيث الجوّ كان جو الضيق والمحنة دون رجاء فيها لأمن وراحة فلما ذا ـ إذا ـ إيمان النفاق فيها؟ ولكن النفاق دركات ، منها ألّا يرتكن الايمان في القلب ، فيذبل عند الفتنة كما كانت في مكة أشد الفتن للمؤمنين ، دون المدينة التي أسست فيها دولة الإسلام.

أو ان الآية تشمل كل دركات النفاق مكية ومدنية أماهيه ، إذ لا تختص بمكان أو زمان خاص بل تحلّق على الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، عرضا شاملا لكل (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) سواء الذين قيل لهم : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أو الذين أسلموا كرها وطمعا فلما أوذوا في الله جعلوا فتنة الناس كعذاب الله بمختلف الوجوه التي أسلفناها ، والدرك الأسفل فيها أن فتنة الناس هي عذاب الله ، فهو يعذب الذين قالوا آمنا! ثم ولا تقف الفتنة عند حدّ الميز بين الايمان والنفاق ، بل والمؤمنون غير المنافقين ايضا يفتنون ، لتظهر درجات الايمان وتنبو وتربوا ، كما :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ١٢ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) ١٣.

حين يئس الذين كفروا من ارتداد فريق من المؤمنين إذ يؤذون في الله ، احتالوا حيلة أخرى هي دعوى حمل خطاياهم : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) تركا لسبيل الايمان ، وليس ذلك خطأ ، وحتى لو كان خطأ يحمل خطايا عملية يخلفها ترك الايمان (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) نفرض على أنفسنا ان نحملها ، فأنتم أخفّاء ـ إذا ـ عن أثقالكم «و» الحال انهم (ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ

٢٩

شَيْءٍ) حيث لا تزر وازرة وزر اخرى ، وحتى إذا صدقوا في وعدهم فلا يؤذن لهم في ذلك الحمل (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في وعد الحمل ببعديه : فهم كاذبون في حملهم الموعود ان اسطاعوا ، ثم هم كاذبون في امكانية هكذا حمل ، فذلك خلاف الواقع في بعدي التصميم حينه وبعد الواقع إذ لن يسمح لهم فيه.

«لنحمل» أمر هم يلزمون به أنفسهم ، فهو ـ إذا ـ إخبار ضمني أنهم ملتزمون بما لزموا به أنفسهم ، ولكنهم كاذبون في التزامهم نفسيا ، ومن ثم خارجيا حتى لو التزموا ، إذ ليس الجزاء بكمه وكيفه يوم الجزاء بأيديهم فكل يحمل خطيئة نفسه ، دون زيادة ولا نقيصة ، مهما كان للمضلّل ضعف العذاب ثانيه لإضلاله كما الأوّل لضلاله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) بما ضلوا (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) بما أضلوا ، ولا ينقص أولئك من أثقالهم شيء.

وليست الأثقال الثانية هي نفس أثقال المضلّلين ، بل هي أثقال تضليلهم إضافة إلى أثقال ضلالهم ، وما اتسع ودام ذلك الضلال بين المضلّلين والذين يتبعونهم كسنة ضالة ، فهناك أثقال ثالثة هي مثل أثقال المضللين بذلك الضلال كلهم ف (ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أبدا ، بل (أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) بما أضلوا : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١٧ : ٢٥) ف «من» هنا جنسية وليست تبعيضية ، فهم يحملون مثل أوزارهم جزاء وفاقا ، قدر ما كانوا معهم بإضلالهم رفاقا.

وكما يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله «أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليها وعمل بها فعليه

٣٠

مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيء» (١).

(وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) من شركاء لله ، وأنه ما أنزل الله من شيء ، ولا حياة بعد الموت ، وإن كانت فلنا أن نحمل خطايا المضللين ، كأنّهم خوّل إليهم أمر الجزاء يوم الجزاء.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٤٣ ـ اخرج عبد بن حمد وابن المنذر عن الحسن ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ... وفيه اخرج احمد عن حذيفة قال سأل رجل على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فامسك القوم ، ثم ان رجلا أعطاه فاعطى القوم فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من سن خيرا فاستن به كان له اجره ومن أجور من تبعهم غير منتقص من أجورهم شيئا ومن سن شرا فاستن به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا .. أقول وهذا المعنى متواترا عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعن عترته المعصومين عليهم السلام.

٣١

الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ

٣٢

وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧)

هنا عرض لنماذج من الفتن التي اعترضت الدعاة الرساليين من لدن نوح وإلى خاتم النبيين صلوات الله عليهم أجمعين ، وليعلم الذين قالوا آمنا ان ليس الايمان رخيصا دونما فتنة في سبيله ، وليتذكر الفريقان مصارع الغابرين والعاقبة الحسنى للمتقين.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) ١٤.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) وطبعا «قومه» في هذه الرسالة العالمية هم العالمون أجمعون ، كما في غيره من اولي العزم الذين دارت عليهم الرحى ، فليس قومه ـ فقط ـ مواطنوه الخصوص : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) وهو اللبث الرسالي ، إذ «فلبث» بعد «أرسلنا» (١) فليس ـ إذا ـ لبثه في كل حياته وعلها آلاف من السنين خلافا للتوراة القائلة انها سنّي

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٥٤ في الاحتجاج للطبرسي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حديث طويل في مكالمة بينه وبين اليهود وفيه قال لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لقد اقام نوح في قومه ودعاهم الف سنة إلا خمسين عاما ثم وصفهم الله تعالى ـ

٣٣

عمره ككل! ولا نحتمل أن السنة هنا أقل مما نعرفها حيث النص يمانع غيرها ، و (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ). تجعل السنة أثني عشر شهرا على طول الخط دونما استثناء حتى يعني من السنة غيرها لوقت ما.

وليكن ذلك العمر الطائل نبراسا ينير الدرب على هؤلاء الذين يتشككون ويشكّكون في عمر صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف. وإذا كان ذلك العمر الطويل لذلك الايمان القليل : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) فبأحرى لصاحب الأمر عمر أطول ليملأ الله به الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا» : وبيمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء!

وقد يعني عرض سنّي الدعوة لنوح (عليه السلام) تسلية لخاطر الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ألّا يضيق صدره بتعنّد قومه وتعنّتهم ضد الدعوة ، ونموذجا من طول العمر يفتح الطريق لتقبّل طائل العمر لصاحب الأمر ، إذ لم يذكر نبي في القرآن بسني رسالته إلا نوح.

ولقد عرضت قصص نوح (عليه السلام) في معارض ثلاث سورة من القرآن ، مختصرة كما هنا وفي غيرها ، ومفصلة كما في أخرى ، ولم تأت سنّي

__________________

ـ فقللهم فقال : وما آمن معه إلّا قليل ـ ولقد تبعني في سنّي القليلة وعمري اليسير ما لم يتبع نوحا في طول عمره وكبر سنه ، وفيه عن كتاب كمال الدين وتمام النعمة عن الباقر (عليه السلام): فمكث نوح الف سنة الا خمسين عاما لم يشاركه في نبوته احد ، وفيه عن عيون الأخبار في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من خبر الشامي وما سأل عنه امير المؤمنين (عليه السلام) في جامع الكوفة ـ حديث طويل وفيه : وسأله عن اسم نوح ما كان؟ فقال : اسمه سكن وانما سمي نوحا لأنه ناح على قومه الف سنة إلا خمسين عاما.

(١٦) وهي الأعراف ـ يونس ـ هود ـ الأنبياء ـ المؤمنون ـ الشعراء ـ العنكبوت ـ الصافات ـ الذاريات ـ القمر ـ التحريم ـ الحاقة ـ نوح.

٣٤

رسالته إلّا هنا.

ولماذا (خَمْسِينَ عاماً) استثناء عن «ألف سنة» وهما واحد؟ علّه رعاية لعدم التكرار لفظيا ، والتوافق معنويا ، قضية الفصاحة القمة القرآنية ، كما وفي الاستثناء حصر يحدّد سنّي الرسالة دون احتمال نقيصة ولا زيادة ، ثم هذه الصيغة أجمل من «تسعمأة وخمسين سنة» لفظيا كما هي أكمل منها معنويا.

ولقد كان عاقبة امر قومه اللّد الكافرين المتعنتين (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) بطوفان الظلم ، فاخذهم ـ إذا ـ طوفان بطوفان جزاء وفاقا.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) ١٥.

(أَصْحابَ السَّفِينَةِ) هم المؤمنون القلة الذين آمنوا معه بين أقارب نسبيا وأغارب ، وكيف (جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ)؟

انها بقصتها المقصوصة في كتابات الوحي وهذا القرآن العظيم ، آية للعالمين على مدار الزمن الرسالي منذ نوح الى خاتم النبيين والى يوم الدين ، وعلّها كذلك ببعض انقاضها الباقية ، المرقوم عليها اسماء الخمسة الطاهرة المحمدية كما فصلناها في «الحاقة» آية حسية مبصرة للعالمين (١).

فضمير التأنيث راجع إلى قصة السفينة وإليها نفسها دونما اختصاص بواحدة دون الأخرى ، ومما يدلنا على آيتها الحسية (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥٤ : ١٥) و (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (٦٩ : ١٢) فلا يصغى إلى قبلة القائل من السفارة السوكيتية ـ بعد ما نشرت المجلات (٢) هذه

__________________

(١) ج ٢٩ ص ٩٠ ـ ٩٤ من الفرقان ، وفي الدر المنثور ٦ : ٣٦٠ عن قتادة في الآية قال : عبرة وآية أبقاها الله حتى نظرت إليها هذه الأمة وكم من سفينة غير سفينة نوح صارت رمما.

(٢) نشرته المجلة الروسية الشهرية الصادرة في موسكو تشرين الثاني ١٩٥٣ ، ومجلة ـ

٣٥

الآية الإلهية ـ أنها لا أصل لها ، إخفاء للحق الصادر عنهم أنفسهم ، وما ذا بعد الحق إلّا الضلال!.

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ١٦.

«إذ قال» تحدّد قومه المخاطبين هنا بقومهم الحالي الحضور عند قوله ، ولأن القالة هذه هي قالة الرسالة الابراهيمية ، فقومه ـ إذا ـ هم قومه الرسالي ، فعلى حملة شرعته حملها الى كافة المكلفين عرض المكان وطول الزمان لهذه الرسالة السامية ، وكما هي طبيعة الحال في كل رسالة عالمية لمن دارت عليهم الرحى من اولي العزم من الرسل.

وهذه القالة الإبراهيمية هي القالة الرسالية لكافة المرسلين ، وهي الأمر بعبادة الله وحده وتقواه وحده «ذلكم» الله «خير لكم» ممن سواه في عبادته وتقواه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وتعرفون الحق عن الباطل ، و «تعلمون» ان الله هو الحق المبين ، فمن يعلم انه الله كيف ينحو الى سواه؟ واين هنا «وحده» ولا حصر تخص به التقوى والعبودية؟ علّه لأنهم ما كانوا يعبدون الله حتى مع شركائهم زعما منهم انه لا يعبد إلّا بشفعاء عنده ، فإذا صحت عبادته دون واسطة فقد بطلت عبادة من سواه ، معه أولا معه ، حيث الفرع ساقط بوجود الأصل!

__________________

ـ «ويكلي ميرر» الأسبوعية اللندنية العدد الصادر ٢٨ كانون الأول ١٩٥٣ ، ومجلة «أستار» اللندنية كانون الثاني ١٩٥٤ وجريدة «سنن لايت» الصادرة في مانجستر ٢٣ كانون الثاني ١٩٥٤ وجريدة «ويكلي ميرر» اللندنية في ١ شباط ١٩٥٤ وجريدة «الهدى» القاهرية في ٣٠ مارس ١٩٥٣ ، ومن مصادره كتاب إيليا من منشورات دار المعارف الاسلامية بلاهور برقم ٤٢ باللغة الأردية.

٣٦

أم لأنهم ضروب عدة ، منهم هؤلاء الذين يوحدون العبادة لما سواه ، فيؤمرون بتحويل عبادتهم الى الله توحيدا لعبادة الله ، ومنهم من يعبدون مع الله سواه ، وليست هذه عبادة لائقة لله ، فليعبدوه كما تحق وليست إلّا توحيد العبودية له دون سواه! ام ان (اعْبُدُوا اللهَ) اثبات لعبادته عقائدية وعملية ، ثم «واتقوه» نفي لعبادة غيره عملية أو عقائدية ، فمن يعبد مع الله سواه لم يتق الله ، وتقوى الله تحلّق على كل سلبية تقتضيها عبادة الله ، كما أن (اعْبُدُوا اللهَ) محلّقة على كل الإيجابيات في عبادة الله ، والايجابية القمة فيها أن يوحّد في عبادته ، كما السلبية القمة ألّا يشرك به سواه ، إذا فهي صيغة اخرى عن (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) في قالب الأمر والنهي بالترغيب والترهيب! ثم الآية التالية تتكفل صراحا تلك السلبية الملمحة من «واتقوه» بصورة مبرهنة بينة :

(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ١٧.

«انما» هنا تحصر عبادتهم في «أوثانا» وهي تماثيل خشبية أم حجرية أماهيه من جمادات ، مما يبين انهم كانوا ـ فقط ـ عبدة الأوثان وهي أنذل العبادات وارذلها بين كل ما يعبد من دون الله ، ان يعدلوا بها عن عبادة الله.

وليس فحسب ان تعبدوها بل (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) خلقا لما تنحتون ، ثم أنتم تعبدون ما تخلقون ، وإفكا فيها انها شفعائهم عند الله ، ما نعبدهم إلّا ليقربونا إلى الله زلفى ، وأمثالها من مختلفات الزور والغرور التي يخلقونها فيما يعبدون ، وما ذا يملكون لكم حتى تعبدوهم؟ (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) وأصناما أم حيوانا وطواغيت ام أيا كان حتى النبيين والملائكة

٣٧

المقربين ، والجامع لهم انهم (مِنْ دُونِ اللهِ) وهم كلهم (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) بل ولأنفسهم (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) أيا كان «واعبدوه» لأنه الله الخالق الرازق «واشكروه» بما يرزق ، فانكم «إليه» لا إلى سواه «ترجعون» ، وإن الرزق هو مشغلة النفوس في الأكثرية المطلقة ، تعبد من تراه رازقا ، فكيف أنتم تبغون الرزق من دون الله وتتركون الرازق وهو الله ، فهو المبدء وهو المنتهى وهو الرازق لكم فيهما وبينهما (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) مما كسبت أيديكم أمّا لم تكسب ، و «عند» هنا دون «من» علّها اشارة الى معدنية الرزق ولد نيته عنده ، مهما كانت له أسباب منها يرزق المرزوقون ، سواء أكانت اختيارية أم سواها ، فليطلب المرتزق الرزق من أي سبب «عند الله» لا عند سواه.

أمن العقل أن يترك الرازق ويبغى الوسيط أن يطلبه من الله ، فتعبدونه حتى يطلب؟ ولا وسيط في طلب الرزق ، ولا يملكون هؤلاء طلبا له من الله ، ولا أن يعبدوا من دون الله ، وحتى لو ملكوا طلبا من الله فعبادتكم إياهم دون الله يقطع عنكم رزق الله وشفاعتهم ـ المزعومة ـ عند الله (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ـ

وهكذا نرى كيف يفنّد أوثانهم في كل زوايا الربوبية ، فذاتية أنها «أوثان» لا تعقل ، وصفاتية أنها لا تملك لكم من الله شيئا إلّا أنكم «تخلقون» لها «إفكا» وأفعالية أن (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أيا كان ، والعبادة قد تعني كمال الذات ، أم كمال الصفات ، أم كمال الأفعال ، وهي مسلوبة الكمالات ، إذا (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) كله ، فما احمقكم إذ تنحون نحو الفقير اللّاشيء وتتركون رب كل شيء؟!

وهنا ندرس ان طلب الرزق عند غير الله كعبادة غير الله إشراك بالله ،

٣٨

وإنما علينا ان نتوسل بالأسباب المسموحة لنا في طلب الرزق عند الله ، متّكلين في ذلك على الله دون سواه.

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ١٨.

أترى (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) هي من تتمة الحجة الإبراهيمية؟ ولم تسبقه أمم إلّا أمة نوح! أم هي الحجة القرآنية دون نقل ، تلحيقا للحجة الإبراهيمة للمخاطبين بالقرآن ، كما وتؤيدها (أَوَلَمْ يَرَوْا ..) بصيغة الغائب؟.

الجمع هو الأرجح ، وأمم قبل ابراهيم تشمل أمة نوح ومن قبله من المرسلين كإدريس وآدم وشيث ، كما وان امة نوح في قرونه العشرة قرون عشرة قد يعبر عنهم بأمم.

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا) قالتي الحقة عن الله وما عند الله فلستم أنتم بدء من المكذبين (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) دون سباق وشطارة لكم بينهم (وَما عَلَى الرَّسُولِ) تجاهكم «إلا البلاغ» عن الله «المبين» لما أرسل الله ولقد بلغت وأبنت رسالة صادقة من الله و «المبين» في مواصفة «البلاغ» هي مما تبين أن البلاغ الرسالي لا خفاء فيه ولا إجمال يعتريه ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة بلاغ غير مبين ، فلا يصدّق على الوحي الرسالي إطلاقا.

هذه خطوات تربوية يخطو بها الداعية إلى هؤلاء الألداء ضد الدعوة ، تدخل إلى قلوبهم من مداخلها ، بإيقاعات قوية على أوتارها ، ودقّات عميقة في أوطارها ، كنماذج خلّابة غلّابة يجب ان يتملاها أصحاب الدعوات الرسالية لينسجوا على منوالها في كل أحوالها في مخاطبة النفوس وإزالة النحوس.

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)١٩

٣٩

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ٢٠.

الواو هنا تعطف الى محذوف معروف من الآيات الأنفسية الدالة على وجود الله وتوحيده في كل ربوبيته ، وانكم اليه ترجعون ، فإذا لم يروا أنفسية الآيات حيث الأبصار كليلة والنفوس عليلة (أَوَلَمْ يَرَوْا ..) الى آفاقية الآيات : (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) على طول الخط هنا في الأولى ، و (كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) أوّل مرة (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) مرة اخرى في الأخرى (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) بدأ وإعادة «قدير».

وعلّ الرؤية الأولى هي ـ فقط ـ الرؤية البصرية ، ام والبصرية الناتجة عن النظر كما في الثانية : «فانظروا» وهي على أية حال رؤية مستمرة على مدار الحياة العقلية لكل عاقل راء راع في رؤيته تكشّف الحق ، و «كيف» لا تعني هنا وفي «فانظروا» حق الكيفية فانه خاص بالخالق علما وقدرة في «كيف يبدئ وكيف بدأ»؟ وانما تعني ظاهرا من البدء والإبداء والإعادة ، الباهر لكلّ راء وناظر ، فقد يبدي الله خلق كل شيء من كل شيء ـ بعد خلق المادة الأم ـ فان خلقها بدء صيغته «بدء» كما الثانية ، دون «يبدئ» كما هنا ، الدالة على الاستمرار ، ومن باب الإفعال ، فكل ما يخلق من شيء ثم يعاد إلى شيئه الأوّل كالماء والبخار ، والتراب والأشجار والحيوان والإنسان ، كل ذلك داخلة في نطاق (يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) على مدار الخلق بعد المادة الأولى ، والإبداء هو إظهار البدء ، كما الإعادة هي إظهار العود ، عودا إلى بدء ، فالمادة واحدة وإنما الاختلاف في الصورة الماهوية والظاهرية.

ثم «ثم يعيده» كما تعني الإعادة المستمرة كذلك تعني الإعادة الأخيرة

٤٠