الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

الذات ظاهرة وباطنة حين الحساب (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ، اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٧ : ١٤) وبين الكتابين كتاب الشرعة الإلهية (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ..) (٧٣ : ٢٠)(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

للفطرة احكام ثابتة لا مرد لها كما هي نفسها : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) إذا فهي أمتن قاعدة وأحسنها لتبنّي الكمالات الإنسانية ، وعلى السالك الى الله أن يعتبرها أولى المنازل في سيره وأولاها.

ولكي تكون هذه السفرة ناجحة ، عليه أن يتزود براحلتها «الفطرة» وزادها الستة الأخرى من عرفات آية الفطرة ، وقد عرفنا الفطرة بعض المعرفة وإليكم الستة الأخرى :

١ ـ معرفة النفس ، ٢ ـ وحبها ، ٣ ـ وإقامتها ، وهي المطوية في «فأقم» ، ٤ ـ ثم «وجهك» ، ٥ ـ «للدين» ، ٦ ـ «حنيفا» هي الأخرى من ألفاظها الأخرى.

معرفة النفس كما هيه حسب الطاقة البشرية هي اولى الخطوات في هذه الرحلة وعلى حد قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «من عرف نفسه فقد عرف ربه».

فلتعرف أولا من أنت ، هل أنت ـ فقط ـ هذا البعد الحيواني ، وكما اكثر الناس يظنون ، (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣٠ : ٧) أولئك الذين يستعمرون كافة طاقاتهم المادية والمعنوية للشهوات والحيونات ، إذ ضلوا عن أنفسهم فظلوا عاكفين على حيوناتهم ف (لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ ... وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (١٨ : ٢٧) وذلك رأس كل خطيئة.

١٦١

أم أنت الروح الانساني كما هو مكتوب في كتاب الفطرة ، فما الإنسان إلا عقلا فاهما ، وما قيمته إلا قدر عقله ، فلتكرّس كافة طاقاتك مادية ومعنوية في ترقية روحك.

ولما وجدت نفسك من أنت ، تحب نفسك كما أنت ، وذلك الوجدان والحب يدفعانك إلى محبوب مطلق وموجود مطلق ، هو المنطلق لكل محب وموجود ، وهو الله تعالى شأنه.

فمعرفة النفس بالحيوانية فحبها بها هي الكفر بالله وبغضه ، ولكن معرفتها بالروحانية وحبها بها هي معرفة الله وحبه.

فمن وجد نفسه كواقع الحق فقد وجد ربه ، ومن ضل عن نفسه فقد ضل عن ربه ، وكلما ازداد الإنسان معرفة صالحة بنفسه ازداد معرفة بربه ، فحين يعرف نفسه أنه لا شيء في ذاته ، يعرف الله وانه مصدر كل شيء ، فقر مطلق يتعلق بغنى مطلقة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ـ (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ).

ثم الوجه من كل شيء ما يواجه به شيئا أو يواجه إليه ، فتختلف وجوهه حسب اختلاف كيان المواجه والمواجه إليه.

فإذا كان المواجه إليه من عالم المادة فوجه الإنسان الموجّه إليه هو بعده المادي ، سواء الوجه المعروف منه كعضو بين الأعضاء ك (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) (١٢ : ٩٣).

ام ظاهر المقاديم من بدنه كما يتجه إلى القبلة (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٣ : ١٤٤) ، ام البدن كله حيث يواجه حريقا شاملا يحرقه ظاهرا وباطنا ، فكما وجه النار هنا هو كلها كذلك وجه الإنسان المحترق بالنار هو كله ، ووجه الأرض ككل هو ظاهر الكرة الأرضية ، وهو بوجه أخص

١٦٢

الأفق الذي أنت فيه حيث تواجهها بعين مجردة أو مسلحة.

وقد يعني وجه الشيء أوّله لأنه في أوّل المواجهة ، كوجه لنار : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) (٣ : ٧٢).

وإذا كان الموجّه إليه أمرا معنويا كعلم أو عقيدة أو شرعة ودين فالوجه إليه هو المعنوي من المواجه ، وأحرى مصداق له هو الله (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (٣ : ١١٢) والعبد كله ، بظاهره وباطنه وجه لله حيث يواجهه بعلمه وقدرته ، ووجه إلى الله ، حيث يتجه اليه بكله ، بجسمه وروحه وعقله وصدره وقلبه ولبه وفؤاده.

إذا فللوجه وجوه حسب مختلف الوجوه ، فالوجه المقام (لِلدِّينِ حَنِيفاً) هو الإنسان ببعديه ، بظاهر الحواس الخمس ، وباطن المدركات الست روحا ككل ، وعقلا ثم صدرا ثم قلبا ثم لبا ثم فؤادا ، فانها المراتب المتدرجة المتفاضلة لادراكات الروح ومعتقداته واتجاهاته.

وهنا الفؤاد أعمق أعماق الروح المتكامل حيث يتفأد بنور المعرفة واليقين كما للرسول الصادق الأمين : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) (٥٣ : ١١ ـ ١٦).

هذه وجوه سبعة للإنسان يجب ان يقيمها (لِلدِّينِ حَنِيفاً) ابتداء ب (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها).

تجب إقامتها ، دون توجيهها غير مقامه ، حيث الروح الخامل ، والعقل المتكاسل ، والصدر الضيق الشاغل ، والقلب المقلوب القاحل ، واللّب او الفؤاد غير المتكامل ، لا توجّه للدين إلّا أن تبوء بخسار ، وكما الحسّ وهو الخطوة الأولى والبلد الأوّل من هذه الرحلة في بلاد العرفات ، لا يأتي بغير قيامه إلّا بالبوار.

١٦٣

إلى هنا ، وقد عرفت نفسك وأحببته مشيا على صراط مستقيم دون إكباب على وجهك ، ثم عرفت وجهك بوجوهه وإقامته فيها ، يجب ان تعرف «الدين» المتوجّه إليه كخامسة الخطوات فما هو الدين؟

الدين في أصله هو الطاعة ، وهو هنا طاعة الله لأعلى مراتب التسليم ، فهو الإسلام ، ولا إسلام إلّا بالتوحيد فهو التوحيد ، ولا توحيد إلّا بولاية الله تكوينا وتشريعا ، بدء وعودا ، وولايته عبودية و «إلى هاهنا التوحيد» حيث يشمل دين التوحيد والتوحيد الدين : اصول الدين بفروعه.

وإلى سادسة هي عشيرة العشرة «حنيفا» فلتكن حنيفا مائلا عن الضلالة الى الاستقامة في معرفة نفسك وحبها ووجهها وإقامتها والدين المتّجه إليه ، حيث الجنف في ايّ من هذه يخسرك في رحلتك ، والحنف يربحك فيها ، ومهما كان الإنسان حنيفا بذاته فقد يقصّر أو يقصر فيبدل حنفه إلى جنف :

(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ثم وبصيغة سائغة واجب الحنافة ان تكون في هذه الرحلة عشيرة لعشرة كاملة بين العرفات السبع والوجوه السبعة ، باستثناء الحنافة نفسها لأن حنافتها تحصيل للحاصل اللهم إلّا كشفا عن غطاءها حيث تحسب الجنف حنفا إذ يحسب ضلاله هدى! وباستثناء الفطرة لأنها حنيفة في ذاتها ، والوجه فانه منقسم الى سبعة محسوبة في العشرة ، ووجه الروح فانه وجهان من الوجوه السبعة ، فهذه العشرة العشيرة مع الحنافة هي الروح : ١ ـ بمعرفته ، ٢ ـ وحبه وهما وجه الروح ، ٣ ـ وإقامته ، ٤ ـ ومعرفة الدين ، ٥ ـ ووجه الحس ، ٦ ـ والعقل ، ٧ ـ والصدر ، ٨ ـ والقلب ، ٩ ـ واللب ، ١٠ ـ والفؤاد.

تلك عشرة كاملة مكملة إذا كانت عشيرة الحنف مهما كانت درجات ،

١٦٤

ثم هي عشرة ناقصة ناقضة إذا كانت أسيرة الجنف وعشيرته ، مهما كانت دركات.

درجات لتلك الكاملة ، ودركات لهذه الناقصة ، تأمرنا آية الفطرة ان نزودها كلها بحنف ، و (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).

فمن حنف الحس بادراكاته الخمس ان يحس بالدنيا ورائها دون إخلاد عليها ونظرة قاصرة إليها ، فالدنيا أمام الحس اثنتان على حد المروي عن الامام علي (عليه السلام) «من ابصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته».

فجنف الحس ان يقصر استعماله في الشهوات فتصبح عينا لا تبصر وسمعا لا يسمع ، كما وجنف القلب فأصحابها كما قال الله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٧ : ١٧٩).

ولأن القلب هو قلب الروح فيشمل صدرا قبله ولبا وفؤادا بعده وعقلا معها والروح كأمها ، وكذلك العين والسمع هما أهم الحواس الظاهرة ، فالآية تشمل حنف الحواس الخمس الظاهرة والإدراكات الست الباطنة.

والحنافة من قضايا الفطرة الإنسانية في أعمق أعماق الإدراكات ، والجنف ليس مقصودا بنفسه إلّا لمن يخطأ اليه الحنف قاصرا أو مقصرا وكما يروى عن الامام علي امير المؤمنين (عليه السلام) «إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجالا فلو أن الحق خلص لم يخف على ذي حجى ولو ان الباطل خلص لم يكن اختلاف ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا فهناك استحوذا الشيطان على أولياءه ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى».

١٦٥

ومن حنف النفس معرفتها كما هي حسب الطاقة البشرية ، ومن جنفها تجاهلها كأن النفس هي البدن ، وهناك ـ إذا ـ حنف في حبها فحب الله ، ام جنف في حبها فحب اللهو ، وكذلك حنف إقامتها وجنفها ، وحنف الدين وجنفه ، وحنف الحس وجنفه.

ومن حنف العقل ان يعقل ما يحق عقله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٣ : ٣٤٢).

ومن جنفه إلّا يعقل : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٣ : ١٣١) (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (٨ : ١٢).

أم يصرف عقله في خدمة : الشيطنات والحيونات (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٢٨ : ٦٠).

ومن حنف الصدر انشراحه لتقبّل الحق المعقول : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (٦ : ١٢٥).

ومن جفنه ضيقه : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (١٢٥) أو شرحه بالكفر وهو ضيقه عن الايمان.

ومن حنف القلب وعيه وسلمه (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٢٦ : ٨٩).

ومن جنفه تقلّبه عن قلب الإنسان الى قلب حيوان وهو طبعه (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٤٠ : ٣٥).

ومن حنف اللب ذكره الدائب دون غفلة (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢ : ٢٦٩).

ومن جنفه أن يكون لباب الحيوان والشيطان ، خاويا عن لب الذكر والايمان.

ومن حنف الفؤاد تفئوده بنور اليقين : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى)

١٦٦

(٥٣ : ١١) وتثبّته بانباء الحق : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) (١١ : ١٢٠) (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٢٥ : ٣٢).

ومن جنفه تفؤده بنيران الجهالات : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (١٠٤ : ٧).

ان الإنسان أيا كان يدرك بوجه الحس المحسوسات ، وبوجه العقل يدرك المعقولات ببرهان ودون برهان كالمشهودات العقلية وضرورياتها ، وبوجه الصدر يصدرها ليعتقدها ، وبوجه القلب يطمئن بها ، وبوجه اللب يزيل أقشارها واغشاءها ويبقي ألبابها ، وبوجه الفؤاد يتفأد تفدية لها ، فلا يبقي مجالا في لبّه لها.

نفس حنيفة بوجه حنيف واقامة حنيفة لدين حنيف ، تسلك صراطها المستقيم دون زلة ولا ضلة ، ابتداء من (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) وإنهاء الى شرعة الله التي كلف الناس بها و (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

فالعقل هنا يأخذ الدين بيديه وكلتا يديه يمين ، بيد اولى تأخذ من الفطرة ، وبثانية تأخذ من الشرعة ، ثم تنقل ما أخذت الى الصدر متكاملا ، ثم الى القلب فأكمل ، ثم اللب فأفضل ، ثم الفؤاد وهو أكمل الأفضل وأفضل الأكمل ، حيث لا يبقى في لب القلب إلّا شعلة النور المعرفية ، متجاهلا عما سوى الله ، متدليا بالله (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)!

ولأن هذه الوجوه السبع درجات ، وتلك العرفات السبع درجات.

فالنتيجة الحاصلة للسالك الى الله درجات حب الدرجات ، من ادنى الايمان الى أعلاه وإلى العصمة ، والى أعلاها الخاصة بالرسول الأقدس محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واهليه الطاهرين (عليهم السلام).

١٦٧

هناك وجه للدين وهو شرعة الدين ، وهنا وجه الى الدين وهو مشرعة الدين : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وكما ان دين الشرعة معصوم كذلك دين التكوين الشرعة معصوم ، لا اختلاف ولا تخلف في احكامها.

إذا ـ فإلى أحضان الفطرة وأحكامها ، لنقيم وجوهنا إليها للدين حنيفا ، وليكن الله معنا.

حب الكمال المطلق

إنّ الإنسان أيا كان يحب الكمال المطلق الذي لا حدّ له ، ولأنه لا يجده في نفسه ، فهو دائب السعي والجد للوصول اليه ، دون أية وقفة في جده وسعيه ، ولأن هذا الكون كله محدود وناقص ، وكله فقير مفتاق ، فلا يجد بغيته الأصيلة فيه ، وهو متأكد أن ليس يجدها فيه على أية حال ، فلو لا ان هناك في الكون كمالا مطلقا وهو لا يجده بتا في هذا الكون ، فكيف لا تخمد نار حبه وتفؤّد فؤاده للوصول اليه ، فلا فتور للفطرة في حب الكمال المطلق.

انه ـ قطعا وبيقين ـ يحب الكمال المطلق ، وهو لا يجده قطعا ويقينا في هذا الكون المحسوس وكله محدود ، فليكن ذلك الكائن اللّامحدود موجودا وراء الحس والمادة ، وهو يحدّد الحدود ، ويفيض على المحدود الفقير الفقير في ذاته على أية حال ، وهذه هي فطرة المعرفة ودين المعرفة لله.

وهذه ضابطة سارية قاطعة ان واقع الحب يقتضي واقع المحبوب ، إلا حبا خاطئا بتخيّل وجود المحبوب أو إمكانيته ، فإذا تأكد من استحالة المحبوب زال حبه إذ لا يعقل حسب المستحيل.

والإنسان المحب للكمال المطلق اللّامحدود حين يتأكد أنه مستحيل في

١٦٨

الكون المادي ، نراه لا يزول حبه ولا يزال محبا كما كان ، وهذا يكشف عن واقع المحبوب وراء عالم المادة دون جدال ولا هوادة.

ولأن الكمال المطلق يقتضي كأصول صفاته الذاتية ، الحياة السرمدية ، والعلم غير المحدود المطلق عن كل حد وحدود ، والقدرة اللّامحدودة بحدود ، فهذه الثلاث ايضا محبوبة فطرية لأنها من لزامات الكمال المطلق ، كما ان الحياة السرمدية هي محط العلم والقدرة اللّانهائية.

ثم وكل واحدة منها محبوبة فطرية ذاتية ، فلا تجد من الناس أحدا إلّا ويحب هذه الثلاث حبا دائبا لا فتور فيه ولا فطور ، ولأنه لا يجدها في هذا الكون المحسوس المحدود ، وهو متأكد أنها مستحيلة الوجود له ولسواه من كائن محدود (٣٠) ومع ذلك لا تفتر فطرته في حبّها ذاتية ، فلتكن موجودة لمحبوبه الأول الكامل المطلق اللانهائي وهو الله تعالى شأنه.

حبّ عريق في الفطرة ، عميق مندغم في ذاتها دون فترة ، أولا يكشف عن وجود محبوبه ، ولو أخطأت الفطرة في هكذا حب عريق دائب ، فليعش الإنسان أيا كان حياته كله اخطاء واخطاء ، وليخطأ عقله على طول الخط ، ما دامت فطرته المعصومة عن الخطأ خاطئة في هكذا محبوب ، وبأحرى الأخطاء في حواسه وكل إدراكاته ما دامت فطرته وهي الأصيلة في كيانه ، والقاعدة الأصيلة في انسانيته ، هي خاطئة فيما تحبه ذاتية دون تبدّل ولا تبديل ، ولكن (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

ان العقلاء يرون عقولهم حجة مصيبة على أخطاءها ، وكذلك

__________________

(٣٠) وذلك لأن اللامحدود من وجود وكمالاته لا يحل في المحدود من جسم ، وهذا دليل فطري على انه تعالى مجرد عن المادة وخواصها.

١٦٩

حواسهم رغم أخطاءها ، أفلا يرون ـ بعد ـ أن فطرهم مصيبة ولا يختلفون فيها ولا يتخلفون عنها؟

إذا فدين الفطرة تدين له البشرية عن بكرتها دون خلاف ، وهكذا يكون كتاب الله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها).

ومن ثم حكم ثان ـ كما الأول ـ للفطرة ، ان المحبوب واحد لا شريك له ، حيث لا يتعلق قلب الإنسان أيا كان ، ملحدا أو مشركا أو موحدا ، لا يتعلق ـ على أية حال ـ إلّا بنقطة واحدة ولا سيما إذا انقطعت الأسباب ، وحارت دون الخطر المحدق كلّ الألباب ، كما وآيات ركوب البحر الملتطم بأمواجه ، والضر المحيط على الإنسان بأفواجه ، تدل على ذلك الحكم الفطري ، ومنها الآية التالية آية الفطرة كمثال ماثل من احكامها : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٣٢ ـ ٣٤) وكم لها من نظير في سائر القرآن مثالا من أحكام ثابتة عدة للفطرة ، لا نكير لها بين الناس أجمعين ، وهي حجة الله على الناس بينهم وبينه مهما أنكروها أمام الناس بغية استمرارية حياة الشهوة وحرية الحيونة : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ. ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (١٦ : ٥٤) (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) (٣٩ : ٨) ـ (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٩ : ٤٩).

ومثال ثان لحكم التوحيد حسب الفطرة : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ

١٧٠

عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ٢٢ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠ : ٢٣) ـ (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٢٩ : ٦٦) ـ (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) (١٧ : ٦٧).

آيات سبع مما تدل على ذلك الحكم الفطري ، أن الإنسان في أعمق أعماق كيانه منعطف الى نقطة واحدة من الكمال اللّامحدود ، لا ينعطف إليها بطبيعة الحال ، إلّا عند ما تقطعت الأسباب التي يعيشها ويظن انها هي التي تعيّشه وتنفعه أو تضره ، فيشركها بربه ، ام وينكر ربه مؤلّها إياها ملحدا بربه.

ولو لا هنا إلّا ذلك الحكم الحكيم ل (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) لكفي برهانا صارخا من عمق ذاته أن (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فان الاعتراف بأصل وجود الله مطوي فيها دون هوادة.

ومن ثم العقل حيث يتبني الفطرة وسائر الآيات أنفسية وآفاقية ، يكمل المعرفة التوحيدية ببراهين تفصيلية هي كتفسير لإجمال ما في الفطرة ، ثم الشرعة الإلهية حيث يتبناهما ، تشرح كلمة التوحيد بتفاصيل حكيمة معصومة ، ملائمة للفطرة اوليا وللعقل ثانويا ، إذا فثلّت الدين الحنيف القيم ، كله صارخ بأن (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

١٧١

فالشرعة تصوّب إجمال حكم الفطرة وتخطّئ البعض من أحكام العقل المتخلفة عن الفطرة ، وترشده على ضوء الفطرة إلى صراط مستقيم.

ومن حكم العقل استحالة التعدد في المطلق ، ولا سيما الذي لا حدّ له ، حيث التعدد بحاجة ماسة الى ميزة بين المتعددين ، هي الفصل المايز الفاصل بينهما ، وما يز الزمان والمكان والحدود المادية الأخرى مسلوب عن ذلك الكامل المطلق ، ومايزة الصفات ذاتية وفعلية مستحيلة في غير المحدودين ، فانها إما صفة كمال أو نقص ، والثاني يناقض كما له فضلا عن اللانهائي ، والكمال لكلّ دون الآخر يحكم بنقص الآخر فهما ـ إذا ـ ناقصان.

وكيف يمكن التعدد في المطلق اللّامحدود ، ولا يمكن في محدوده ، فمطلق الماء دون أية قيود وحدود وألوان ليس إلّا واحدا ، والماء في ذلك الإطلاق محدود في واقعه ، فالمطلق اللّامحدود مستحيل التعدد من بعدين اثنين.

وحكم ثالث تحكم فيه بالحياة الآخرة هو حب الحياة اللانهائية لنفسه ، وهذا يختلف عن حب الحياة السرمدية المستحيلة له ، حيث الفطرة تحب مطلق الكمال كما تحب الكمال المطلق ، والثاني منفصل عن ذاته ، مستحيل لذاته ، والأول محبوب لذاته في ذاته ومنه الحياة الأبدية ، ففي حين تعلم كلّ نفس انها ذائقة الموت ، ومع ذلك لا فتور في فطرته لحب الحياة الأبدية ، فلو كان موته فوته ، دون حياة بعده ، لكان محبوبه تخيّلا لا واقع له ، والحب الفطري المندغم في الذات يحيل عدم المحبوب ، ويفرض وجوده ، وإذ لا أبدية في الحياة الدنيا فلتكن بعدها وهي حياة الحساب.

ولئن سألت : إذا كانت الحياة محبوبة الذات فلما ذا ينتحر البعض رغم حب الحياة؟

١٧٢

قلنا : وذلك دليل آخر على حب الحياة ، فلا أحد يرجّح الموت على الحياة إلّا لحب الذات بحياة مريحة ، واما الحياة الهرجة المحرجة المريجة ، فلا يتصبّر عليها إلّا كل ذو حظ عظيم من معرفة الحياة بعد الممات ، ثم قليلو المعرفة ، والناكرون للحياة بعد الموت ، هؤلاء قد يفضّلون الموت على شقوة الحياة ، حبا لراحة الحياة وبغضا لشقوتها ، ثم وكافة المحاولات للإنسان تهدف الى حياة مريحة مستمرة كأطول ما يمكن ، فلا أحد ـ إذا ـ إلّا ويحب الحياة بأبديتها.

ومما يؤيد ذلك الحكم حكم الفطرة بحب استدامة الصيت والاسم بعد الموت ، فلو كان الموت فوتا لفترت الفطرة في حكمها او نفدت فيه ، ونحن نرى المعترف بالحياة بعد الموت والناكر لها يحبان ذلك الصيت كما يحبان الأبدية ، دون فتور لهذا الحب أو ذاك ، مع العلم بواقع الموت ، فلو لا الحياة بعد الموت ، فلا موقع لذلك الحب! ولا سيما لمنكر الحياة بعد الموت ، فما يفيده صيته وتردّد اسمه بخير على الألسن بعد موته إذا كان موته فوته ، فمن ذا الذي يحظو ببقاء اسمه لو لا حياته بعد موته؟

هذا حكم الفطرة ، وثم العقل يحكم بلزوم الحياة بعد الموت قضية علمه تعالى وعدله فليجازي المحسن والمسيء ، وإذ لا جزاء في الدنيا فليكن في الأخرى ، تداوما وتفصيلا لحكم الفطرة.

ثم الشرعة المعصومة فيها كل تفاصيل ذلك الحكم الفطري والعقلي ، مخطئة أخطاء العقل ، مقررة صوابه وحكم الفطرة.

وحكم رابع للفطرة وجوب احترام المحبوب الكامل الحاضر المقتدر العالم المنعم المنتقم ، وكل هذه السبع موجودة لله الواحد القهار لأعلى القمم ، ولا بد أن يحترم كما يشاء ويرضى ولا سبيل الى معرفة مشية ورضاه في كيف

١٧٣

يحترم ويعبد إلّا بوحيه ، وإذ لا يوحي إلينا أجمع فليوح إلى بعض الصالحين من عباده المخلصين ، وهذه هي النبوة العامة ، الأصل الثالث من اصول الدين الحنيف القيم.

فلأنه تعالى هو الكامل لغير النهاية ، فليكن محبوبا لغير النهاية ، وقضية الحب احترام المحبوب قدر الحب حتى في غيبه فكيف إذا كان حاضرا ناظرا فانه قضية العلم المطلق ، وكيف إذا كان قديرا على كل شيء؟ فانه قضية الكمال المطلق كما العلم! وكيف إذا كان منعما؟ (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) ومن ثم إذا كان منتقما بعدله بين خليقته.

ثم الفطرة تحب مطلق المعرفة كما تحب المعرفة المطلقة ومعرفة المطلق وهو الله تعالى شأنه ، ومن ثم العبودية لذلك المطلق استكمالا للإنسان ، ثم العدالة تعديلا لكيانه وسائر الإنسان.

حب المعرفة يجذبه إلى معرفة الله وتوحيده ، وحب المعدلة تعرّفه أنه لا بد من حياة الحساب بعد الموت ليظهر فيه عدل الله تعالى إذ لم يظهر تماما يوم الدنيا لأنها يوم التكليف الاختبار الاختيار ، وحب العبودية تدفعه إلى التفتيش عن كيف يعبد ربه ولا سبيل له إلا الوحي.

فهذه الأصول الثلاثة المعرفية كلها مندغمة في الفطرة إذا أزيلت عنها حجب الظلمة ، واستفرغت لاتجاه الإنسان بوجوهه لها وإليها حنيفا في عشرة كاملة ، و (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

ما من انسان إلّا ويحب التخضع لحد والعبودية للأكمل منه ، فهل يجد أكمل من الله وأفضل أو من يساميه في محتده فيعبده دونه او يشركه به؟

ذلك هو الميثاق المأخوذ على ذرية بني آدم كما تتحدث عنها آية الذرية ، وهي ذرية الروح لمكان المعرفة (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ف (مِنْ ظُهُورِهِمْ

١٧٤

ذُرِّيَّتَهُمْ) لا تعني إلّا ظهور الأرواح وهي أصلابها الأعماق ، وهي الأصول الفطرية التي تتبناها الأرواح.

فكما للجسم ظهر الصلب وهو النطفة الجرثومية التي هي اصل الجسم ، كذلك للروح ظهر الصلب وهو الفطرة الجرثومية التي هي اصل الروح ، وهما البعدان الأولان لأيّ انسان! وإليكم تفاصيل الدرجات السبع لأحكام الفطرة ، حيث تتدرج الست منها من حب الكمال المطلق الذي لا حدّ له.

سبق ان تحدثنا عن حب الكمال المطلق وعلى ضوءه معرفة الخالق وتوحيده و «هل الدين إلا الحب»؟

١ ـ ثم حب ذلك المطلق اللانهائي تفرض احترامه على أية حال دون اي اخترام ، واحترام الكامل ـ أيا كان ـ هو من الحقائق الفطرية بالنسبة لأي كامل باي كمال ، حاضرا وغائبا ، مقتدرا وعاجزا ، عالما وجاهلا ، منعما أو متنعما ، منتقما ان لم تحترمه أو غير منتقم ، فما جوابك في الهول المطلع حين يسألك ربك : ألم أكن كاملا وأكمل من سائر الكون ، فكيف احترمت كل كامل واخترمت خالقهم؟

٢ ـ ثم احترام المحبوب فطري حتى ان فقدت الست الأخرى ، فما جوابك حين تسأل : ألم أكن محبوبك ، واجدا للست الأخرى أكمل وأحرى من سائر الكون ، فكيف احترمت كل محبوب واخترمتني وانا فوق كل محبوب؟

٣ ـ ثم احترام المقتدر فطري إذا كان عادلا حتى ان فقدت الست الأخرى ، فما جوابك حين تسأل : الم أكن مقتدرا عدلا وأفضل من سائر الكون ، فكيف احترمت كل مقتدر سواي واخترمتني؟

١٧٥

٤ ـ ثم احترام العالم فطري حتى إذا فقدت الست الأخرى ، فما جوابك حين تسأل : الم أكن عالما واعلم من سائر الكون؟ فكيف احترمت كل عالم سواي واخترمتني؟

٥ ـ ثم احترام المنعم فطري حتى إذا فقدت الست الأخرى فما جوابك حين تسأل : الم أكن منعما عليك وعلي كل المنعمين عليك ، فكيف احترمت كل منعم عليك واخترمتني؟. ثم احترام المنتقم ـ إلى ـ واخترمتني.

٧ ـ ثم احترام الحاضر ـ أيا كان ـ فطري ، حتى إذا كان عدوا لك ، وحتى إذا كان صورة منه أو تمثال ، لا يتجاوز حضوره عالم الخيال ، فما جوابك حين تسأل : ألم أكن معك حاضرا حضور العلم (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) حاضرا عندك أكثر من حضورك أنت لنفسك ، ف «اعبد ربك كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

ما جوابك حين يسألك ربك ، الم أكن كاملا محبوبا مقتدرا عالما منعما منتقما وحاضرا عندك ، وأفضل في كل ذلك لغير النهاية من غيري ولو جمع السبعة ، فكيف احترمتهم واحترمتني؟.

ان جواب المخلصين من عباد الله هو إخلاص العبادة لله على درجاتهم ، بل ليسوا ليسألوا كمن سواهم! ثم جواب المؤمنين فيما قصروا في كبيرة أو صغيرة : أننا كنا غافلين ، مهما كنا في غفلتنا مقصرين : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا ..) (٣ : ١٤٧) اعتذارا مقبولا لمن تركوا كبائر ما ينهون عنه : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١).

ثم لمن يستشفع فيشفع له عفوا في قسم من الكبائر ، ثم لمن لا شفاعة وله بقية من الايمان عقوبة الدنيا ثم البرزخ ثم القيامة ثم إلى رحمة الله.

١٧٦

ومن مقال المذنبين من المؤمنين ما قاله آدم وزوجه (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٧ : ٢٣).

ثم لا جواب لغيرهما من مطلق الكافرين ، منافقين ام اهل كتاب منسوخ ، ام مشركين ام ملحدين ، حيث الأحكام الفطرية تشمل الناس أجمعين ، لا يفلت منها فالت.

فيا ويلنا من هول المطّلع حين يستجوبنا ربنا عما اخترمناه ، حينما احترمنا سواه من خلقه وهم غيّب ، وإذا كانوا حضورا فهم بحضرته صغار صغار.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) فانها مشرّعة لمعرفة الشرعة الإلهية وتصديقها ، وما هذه الشرائع إلّا شراحا لأحكام الفطرة ، وقد يعتبرها القرآن ذكريات لما في الفطرة حيث حججت فاستغفلت ، فآيات القرآن ذكريات لآيات الفطرة واين آيات من آيات وان كانت كلها معصومة لأنها مما كتب الله.

فآيات ذكر الله في كتاب الشرعة توحي بأصل المعرفة المحجوبة في الفطرة (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (٢ : ١٥٢) ولا ذكر إلّا بعد نسيان ، كما لا نسيان إلّا عن كائن سابق.

كما وآيات ذكر الإنسان بخلقه ولم يك شيئا توحي بأصل المعرفة أن الله خالقه :

(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (١٩ : ٦٣).

وآيات ذكر الإنسان بنعم الله السابغة توحي باعترافه المنسي المتغافل المتجاهل :

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) (٢ : ٢٣١) (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٧ : ٧٤).

١٧٧

ثم والشرعة الإلهية جملة وتفصيلا ، أصولا وفروعا ، ليست إلّا ذكرى ، ولا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلّا مذكرا : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٥٠ : ٤٥) (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) (٨٧ : ٩) وأخيرا : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٨٨ : ٢٢) ولا تذكير إلّا بماله اصل سابق سابغ مغفول ، فلتكن الشرعة كائنة في الفطرة مغفولة.

لذلك يسمى كتاب الشرعة ذكرا (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (٣ : ٥٨) (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٥ : ٩) (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٨١ : ٢٨) (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٢١ : ٥٠) (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) (٣٦ : ١١) كذلك وكل كتاب سماوي ذكر : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ..) (٢١ : ٣).

كما وان رسوله ذكر يحمل ذلك الذكر : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ ..) (٦٥ : ١٠) (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (٣٦ : ٦٩).

يذكر الذكر في القرآن بمختلف صيغة وموارده زهاء (٢٦٧) مرة مما يبرهن واضحة ان كتاب التدوين الشرعة نسخة كاملة عن كتاب التكوين الفطرة ، مهما بان البون بينهما جملة وتفصيلا.

فلنقرء كتاب الفطرة بإقامة الوجه إليها حنفاء لكي تتسهل لنا قراءة كتاب الشرعة ، نقرء كتاب الفطرة بحنف في بنوده العشرة.

ففي إقامة وجه الحس بوجوهه الخمسة ، المفروض إصلاح الحس دون إخلاد فيها إلى الأرض واتباع الهوى ، فليعرف بفطرياته السبع انه في استعمال حواسه أمام محبوب كامل مقتدر عالم منعم منتقم حاضر ، فليكن حاذرا متحضرا في صلاحه على أية حال.

١٧٨

وفي اقامة وجه العقل الى الدين حنيفا لا بد من مراجعة الفطرة في احكامها ، كيلا يخطأ أو يقصر أو يقصّر في تعقله ، ولينظر إلى آيات الله آفاقية وانفسية على غرار الفطرة.

وفي اقامة وجه القلب الى الدين حنيفا لا بد من قطع العلائق العالقة الحالقة الدنيوية لكي تتجلى فيه نور المعرفة ، وهذه الثلاث هي اصول وجوه الإنسان ، حيث القلب قلب بين الصدر قبله واللب والفؤاد بعده ، وهذه حالاته ودرجاته.

وبذلك نرى ربطا عريقا عميقا بين كتاب الفطرة وكتاب الشرعة وكلاهما من صنع الله وفقا لناموس الكون.

فالاعتراف بالربوبية الوحيدة فطرة غير وهيدة في الكيان الانساني ، أودعها الله تعالى في هذه الكينونة الغالية ، فالرسالات ـ إذا ـ ليست إلا تذكيرات لها ، وتحذيرات ، لمن ينحرفون عنها وينجرفون ، فهم ـ إذا ـ يحتاجون إلى تذكيرات وتحذيرات ، فالتوحيد إذا ميثاق معقود بين فطرت الناس وخالق الناس منذ كينونتهم الأولى ، فلا حجة لهم في نقض ذلك الميثاق وحتى لو لم يبعث إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، ولكن رحمته تعالى اقتضت ألّا يكلهم إلى فطرهم إذ قد تنحرف حين تحجب ، ولا إلى عقولهم إذ تنجرف حتى إذا لم تحجب ، فلتلك معصومة في أصلها ، وهذه ليست معصومة.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ٣١.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ .. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ـ إقامة بادئة من رسول الهدى ، ناحية منحى كل المرسل إليهم ك (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (٦٥ : ١) و (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) (١١ : ١١٢). والإنابة هي الرجوع بنوبات متتاليات ، وإقامة الوجه الى الدين حنيفا بحاجة في كمالها إلى حالة

١٧٩

الإنابة الى الله كما و «منيبين» حال من «أقم» بتأويل الجمع كما قلناه ام لأنه يعني الجمع على الأبدال ، «فأقم» أنت يا رسول الهدى ، وكل من يأهل لهذا الخطاب ، أم «أقم» (وَمَنْ تابَ مَعَكَ).

وليس فقط (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) بالوجوه الباطنة ام بوجه القال ، بل وبوجوه الأعمال : «واتقوه» ولكي تكمل الصلاة في هذه الإقامة الإنابة الاتقاء : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فانها خير الصلات الى الله (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) المفرّقين دينهم بين الله وما اتخذوها شركاء لله :

(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ٣٢.

تفريق الدين وهو الطاعة لله عز وجل ، يقابل إقامته له لا شريك له : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ..) (٤٢ : ١٣) ـ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٦ : ١٥٩).

ف «المشركين» هنا ليسوا فقط الوثنيين ، بل وأهل الكتاب المفرقون دينهم هم داخلون هنا في زمرتهم ، فان إقامة الوجه للدين حنيفا بإتابة واتقاء وإقام الصلاة ، هذه تناحر وتفرق الدين ، فانه خلاف الفطرة والشرعة الإلهية ، ولا يرضى الله من عباده شيعا متفرقين في دينه ، ولا يحكم في عصر واحد إلّا شرعة واحدة من الدين ، وهذا هو إقامة الدين ، قياما له في كل زمن بشرعة يشرعها الله منه.

والمفرقون في الدين هم أحزاب وليسوا متشرعين بشرعة الدين الموحدة بين كافة المكلفين : ف (كُلُّ حِزْبٍ) ـ منهم ـ (بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ولا فرح لديّن

١٨٠