الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

بمختلف المناسبات ترى جديدة في كل مرة ، جادة نحو تذكير الإنسان النسيان.

و «كم» هنا كما في «تروا» هم كافة المكلفين ـ وعلّهم ـ في كل الأرضين ، دون هذه فحسب ، والتسخير له تعني لمسة من الملكية وشطرة من الغاية المعنيّة للخلق كله ، مما يقرر لنا إمكانية الانتفاع من الكون كله ، مما في السماوات وما في الأرض كلّه.

وهذه الآية لا نظيرة لها بهذه الشمولية إلّا ما في الجاثية : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣) (١).

لا تعني «لكم» ان الله جعلنا مسخّرين للكائنات ، وإنما «سخر لكم» بتسبيل السبل العقلية والعلمية كفاعليات ، والسبل القانونية الكونية كقابليات ، حتى نتمكن من مختلف الانتفاعات مما في الأرض وما في السماوات ، مهما اختص قسم منها بخوارق العادات الخاصة برسل الله ومن إليهم ، ثم :

(وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) والإسباغ هو التوفير والإتمام ، فلا تفريط من ربنا فيما أنعم علينا من نعمه مهما فرطنا نحن في جنبه!

ثم (ظاهِرَةً وَباطِنَةً) حالان من «نعمه» والنعم الظاهرة ككل هي المادية المرئية بمحاولة ودون محاولة ، فالباطنة ـ إذا ـ هي الروحية من فطرية وعقلية وفكرة وشرعة ربانية.

ثم ومن الظاهرة «ما سوى من خلقك وأما الباطنة فما ستر من عورتك

__________________

(١) راجع تفسير الآية في الجاثية من الفرقان يغنيك عما نختصره هنا.

٢٤١

ولو أبداها لقلاك أهلك (١) مهما كانتا من الظاهرة في التقسيم الشامل.

كما الإسلام وهو من الباطنة هو من النعم الظاهرة إذ هو ظاهر لكل من يتحرى عنه كما من الباطنة ما ستر من مساوي عملك» (٢) ومن الباطنة الظاهرة ما هي ظاهرة لكل المسلمين ك «النبي وما جاء به من معرفة الله عز وجل وتوحيده ، ومنها ما هي غير ظاهر للكل كولاية أهل البيت عليهم السلام (٣).

ثم ومن الولاية نفسها ما هي ظاهرة كالإمام الظاهر ، وما هي باطنة

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٦٧ ـ اخرج البيهقي في شعب الايمان عن عطاء قال سألت ابن عباس عن الآية قال هذه من كنوز علي قال سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : اما الظاهرة فما سوى ...»

(٢) المصدر اخرج ابن مردويه والبيهقي والديلمي وابن النجار عن ابن عباس قال سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الآية قال : اما الظاهرة فالإسلام وما سوى من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه واما الباطنة فما ستر من مساوي عملك يا ابن عباس ان الله تعالى يقول ثلاث جعلتهن للمؤمن صلاة المؤمنين عليه من بعده وجعلت له ثلث ماله اكفر عنه من خطاياه وسترت عليه من مساوي عمله فلم افضحه بشيء منها ولو ابديتها لنبذه اهله فمن سواهم.

(٣) نور الثقلين ٤ : ٢١٢ في تفسير القمي بسند متصل عن جابر قال : قال رجل عند أبي جعفر عليهما السلام : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ ...) قال : اما النعمة الظاهرة فالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما جاء به من معرفة الله عز وجل وتوحيده ، واما النعمة الباطنة فولايتنا اهل البيت وعقد مودتنا فاعتقد والله قوم هذه النعمة الظاهرة والباطنة ، واعتقدها قوم ظاهرة ولم يعتقدوها باطنة فانزل الله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) ففرح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند نزولها انه لم يقبل الله تبارك وتعالى ايمانهم إلا بعقد ولايتنا ومحبتنا.

٢٤٢

كالإمام الغائب (١) وعلى أية حال فالظهور والبطون هما من الأمور النسبية وهذه تفاسير بمصاديق من النعم الظاهرة والباطنة ، والتفسير بالمفهوم هو كالأول ، كل ما ظهر لكل ناظر هو الظاهرة ، وكل ما هو غير ذلك هو الباطنة ، ولكن الثانية ليست بالتي لا تظهر ام لا تعرف مهما لم تظهر ، ونعم الله ظاهرة وباطنة لا تحصى (٢)(وَمِنَ النَّاسِ) وهم النسناس منهم «من

__________________

(١) المصدر محمد بن مسلم وحماد بن زياد عن الكاظم (عليه السلام) قال : الظاهرة الامام الظاهر والباطنة الامام الغائب.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٢١٣ في امالي الطوسي باسناده إلى أبي جعفر عليهما السلام قال : حدثني عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله الأنصاري قالوا اتينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مسجده في رهط من أصحابه فيهم ابو بكر وابو عبيدة وعمر وعثمان وعبد الرحمن ورجلان من قراء الصحابة ـ الى قوله حاكيا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : وقد أوحى إلى ربي جل وتعالى ان أذكركم بالنعمة وأنذركم بما اقتص عليكم من كتابه واملى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ..) ثم قال لهم : قولوا الآن قو لكم ما اوّل نعمة رغبكم الله وبلاكم بها؟ فخاض القوم جميعا فذكروا نعم الله التي أنعم عليهم وأحسن إليهم بها من المعاش والرياش والذرية والأزواج الى ساير ما بلاهم الله عز وجل من أنعمه الظاهرة فلما امسك القوم اقبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على عليّ (عليه السلام) فقال يا أبا الحسن قل فقد قال أصحابك ، فقال : وكيف بالقول فداك أبي وامي وانما هو انا الله بك؟ قال : ومع ذلك فهات قل ما اوّل نعمة أبلاك الله عز وجل وأنعم عليك بها؟ قال : ان خلقني جل ثناءه ولم أك شيئا مذكورا ، قال : صدقت فما الثانية؟ قال : أحسن بي إذ خلقني فجعلني حيا لا مواتا ، قال : صدقت فما الثالثة؟ قال : أن انشأني فله الحمد في احسن صورة واعدل تركيب ، قال : صدقت فما الرابعة؟ قال : أن جعلني متفكرا راعيا لا بلها ساهيا ، قال : صدقت فما الخامسة؟ قال : ان جعل لي شواعر أدرك ما ابتغيت بها وجعل لي سراجا منيرا ، قال : صدقت فما السادسة؟ قال : ان هداني الله لدينه ولم يضلني عن سبيله ، قال : صدقت فما السابعة؟ قال : ان جعل لي مردا في حياة لا انقطاع لها ، قال : صدقت ـ الى قوله ـ ان سخر لي سماءه وارضه وما فيهما ـ

٢٤٣

يُجادِلُ فِي اللهِ) جدالا سيئا نكرانا له أم إشراكا به أو إنكارا لوحيه واليوم الآخر «بغير علم» فطري أو عقلي أو تجريبي أماذا من علم ذاتي «ولا هدى» رسالية أماهيه كحجة ربانية من المكتسب أم وأخيرا ، (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) وهو كتاب الوحي الذي ينير الدرب على السالكين إلى الله إسباغا لسائر الحجج آفاقية وانفسية ، وقد فصلناها في آية الحج : (وَمِنَ النَّاسِ ... مُنِيرٍ).

وهذا هو الجدال بالتي هي أسوء ألّا يملك أية برهنة ذاتية أو كسبية إلّا تعنتا على الحق وتعندا للحق :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) ٢١.

(ما أَنْزَلَ اللهُ) حيث يصاحبه علم وهدى وكتاب منير متروك عندهم إلى (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) الذي لا يحمل أيّة حجة إلّا التقليد الأعمى (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) هؤلاء الآباء وإياهم (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) فان أخطر الوسائل الشيطانية وأشرها هو الحمل على تقليد الآباء القدامى ـ فقط ـ بحجة انهم آباء ، والمقلّد الأول في هذه السلسلة هو الشيطان الداعي إلى عذاب السعير ، لمسة موعظة موقظة مخيفة ، بعد تلكم الأدلة العظيمة اللطيفة ، تأخذ بازمة القلوب غير المقلوبة ، قارعة للقلوب المقلوبة ، حيث

__________________

ـ وما بينهما من خلقه ... قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فما بعدها؟ قال : كثرت نعم الله يا نبي الله فطابت (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) فتبسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال ليهنئك الحكمة ليهنئك العلم يا أبا الحسن فأنت وارث علمي والمبين لأمتي ما اختلفت فيه من بعدي من أحبك لدينك وأخذ بسبيلك فهو ممن هدي الى صراط مستقيم ومن رغب عن هواك وأبغضك وتخلاك لقى الله يوم القيامة لا خلاق له ..».

٢٤٤

يجادل أصحابها في الله دون اي اسناد إلى علم أو هدى أو كتاب منير من الله.

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) ٢٢.

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ..) (٤ : ١٢٥) (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ١١٢).

هذه واضرابها تحمل الإسلام المطلق أو إسلام الوجه لله ، وآيتنا (يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) مما يجعلها يتيمة في آيات الإسلام ، وقد يكون إسلام الوجه إلى الله كتقدمه لإسلام الوجه لله.

واشمل الوجه هنا للوجه المسلم إلى الله هو وجه الفطرة والعقل والعلم فانه الدين القيم كما في آية الفطرة ، فلما اسلم وجهه إلى الله هكذا يسلم وجهه لله بوجه الشرعة الربانية ، وكل ذلك مصحوبا بالإحسان (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في إسلام وجهه ، تزويدا لإسلامه في وجوهه المعرفية بالوجوه العلمية (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) في هذا السبيل (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) هنا ويوم يقوم الأشهاد.

فحذار حذار ، إن الرحلة شاقة وطويلة ، حافلة بالشبكات والأخطار ، ولا زاد فيه إلا إسلام الوجه لله ، ولا راحلة إلا الإحسان في الله ، وليعرف السالك إلى الله أن خطر الوجدان ليس أقل من خطر الحرمان ، وخطر السّراء ليس بأهون من خطر الضراء.

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ٢٣ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) ٢٤.

ولما ذا (فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ)؟ أتأسفا عليه؟ وقد أديت ما عليك

٢٤٥

فكذبوك! أم زعم أنهم سابقونا؟ ف (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) لا مفلت لهم عنا حين يرجعون «فننبئهم» إنباء الإخبار علميا وواقعيا لما يرون العذاب (بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) لا يعزب عنه مثقال ذرة!.

«نمتعهم» هنا «قليلا» وكل متع الدنيا قليلة مهما كانت كثيرة غزيرة (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) بما عملوا (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) هو في الحق أعمالهم أنفسهم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ٢٥.

«هم» المسئول عنهم هنا هم المشركون المعترفون أن الله هو خالق السماوات والأرض ، ف (قُلِ الْحَمْدُ) كله لله الذي يعترف بتوحيد خالقيته المشركون و (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي يملك كافة البراهين آفاقية وانفسية على توحيده و (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على وضوح الحق للحق المتعالي عن كل شائبة وشاكلة.

«بل» هم يخالفون اعترافهم هذا بما يشركون ، فقليل منهم يعلمون الحق وهم منكرون و (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) جهلا عن تقصير في تقاليد آباءهم وكبرائهم ، فالكل ـ إذا ـ مقصرون ، حيث الإشراك بالله في العبودية مع الاعتراف بتوحيد الخالقية مما لا يقبل القصور المطلق.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ٢٦.

«لله» لا سواه ملكا وملكا ، علما وقدرة ، بداية ونهاية وعلى أية حال كل (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأنه الخالق لهما دون سواه ، ول (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) غني في ان «لله ...» «حميد» في هذه السلطة الملكية والمالكية.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ

٢٤٦

أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ٢٧.

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (١٨ : ١٠٩).

لقد تحدثنا عن الثانية في الأسرى بما قد يكفي تفسيرا للأولى وفيها زيادة عنها كالتصريح بأقلام شجرة الأرض ، وسبعة أبحر إضافة إلى البحر ، والثانية خلو عنهما إلّا ضعف البحر وهنا اربعة اضعاف ، مما يؤكد لنا انهما يمثلان الكثرة الكثيرة من الماء المداد ، ولم يذكر فيهما كاتب للكلمات ، وعلّه اشارة إلى انه يحلّق على الجنة والناس أجمعين ان لو كانوا كلهم كاتبين وبأية سرعة ممكنة.

وكما لم يذكر فيهما الأوراق المكتوب عليها ، لمحة إلى كل بساط الأرض بكل ما يمكن ان يكتب عليه ، مهما كانت رءوس الأقلام كأدقّها ، فالكلمات كأنعمها وأرقها.

ففي ذلك المربع ذي الزوايا الشاسعة الشاملة كلما بالإمكان كونه موادا من البحر الحبر وزيادة ، وأقلاما وكاتبين ومكتوبا عليه ، يقول الله (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) وهناك (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي).

وبالنظر إلى كل قلم في مدى امكانية الكتابة به ، وكل كاتب كما يمكن ان يكتب ، وكل مكتوب عليه من أجزاء الأرض وبسيطها ، ومداد الأبحر الثمانية ، نعرف سعة كلمات الله حيث لا تنفد بهذه الكتابات!

في حين نعلم ان ليترا واحدا من الحبر قد يكتب به بقلم واحد وكاتب واحد وكراسات عدة في خمسين سنة ملايين الكلمات التي تشكل مكتبة ضخمة ، فضلا عن ذلك المربع الشاسع الواسع!

انه ينفذ حبر البحار وأقلام الأشجار وأعمار الكتّاب بكتاباتهم (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) و (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

٢٤٧

وقد تعني الزيادتان في آية لقمان أن الكلمات فيها أكثر مما في الأسرى ، زيادة كلمات الله على كلمات ربي ، فانه الله قبل كونه ربا ، والربوبية صفة فعل فكلماتها محدودة طالما لا نحيط بها علما ولا إحصاء ، والألوهية تحلّق عليها بزيادة للذات وصفات الذات ولهما كلمات كما لصفات الفعل.

لا نقول إن كلمات ربي هي ربع كلمات الله لمكان سبعة أبحر إلى البحر هنا ، ومثله هناك ، فإنهما لا تمثلان إلّا الكثرة ، إلّا ان الكثرة في كلمات الله اكثر بكثير من كلمات الرب ، وهي فيهما لا تنفد مهما اتسعت البحور وكثرت الأقلام ، فانها ـ أيضا ـ كلها من كلمات الرب فكيف تحلق على كل كلمات الرب فضلا عن كلمات الله!.

وكما الأقلام هنا تحلق على كل أشجار الأرض ، كذلك البحر يعني كل بحارها ام والأرضين السبع كلها ، ام وبحار السماء أيضا.

هنا يروى ان أحبار يهود قالوا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمدينة يا محمد أرأيت قولك (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) إيانا تريد أم قومك؟ فقال : كلّا ، فقالوا : الست تتلوا فيما جاءك أنا قد أوتينا التورات وفيها تبيان كل شيء؟ فقال : إنها في علم الله قليل فانزل الله في ذلك : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ ...)(١).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٦٧ ـ اخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ان ... وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : اجتمعت اليهود في بيت فأرسلوا إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان ائتنا فجاء فدخل عليهم فسألوه عن الرجم فقال : اخبروني باعلمكم فأشاروا الى ابن صوريا الأعور قال : أنت أعلمهم؟ قال : انهم يزعمون ذاك قال فنشدتك بالمواثيق التي أخذت عليكم وبالتوراة التي أنزلت على موسى ما تجدون في التوراة؟ قال : لو لا انك نشدتني بما نشدتني به ما أخبرتك ، أجد فيها ـ

٢٤٨

فالكلمات ـ إذا ـ هي علم الله ذاتيا وصفاتيا وواقعيا ، لفظيا ومعنويا ، تكوينيا وتشريعيا ، وليست لهذه المجموعة ـ ككل ـ حد ولا نهاية ، مهما كانت نعمه حسب المنعم عليهم محدودة ، وهي ايضا كما الكلمات لا تحصى ، وقد تكفي كلمة «كن» مثالا لهذه السعة المعجزة ، ولا سيما ما بالإمكان أن يتلون به ، فلا حد لها محدودا ولا عدّ معدودا ، فلو ان الأقلام كلها بثمانية أضعاف من مداد البحر كتبت هذه الكلمات لما نفذت (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وقضية عزته الطليقة وحكمته ، هي اللامحدودية في كلماته الإلهية ، واللامحصورية في كلماته الربانية بحصار الكتابات التي هي ايضا بوسائلها والكاتبين لها من كلمات الرب.

وعلّ (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) تلمح إلى أنها محدودة ولكنها لا تنفد ، ولكن (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) لا تلمح إلى نفادها ، حيث النفي هنا

__________________

ـ الرجم ، فقضى عليهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا : صدقت يا محمد عندنا التوراة فيها حكم الله فكانوا فسب ذلك لا يظفرون من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بشيء قال فنزل على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فاجتمعوا في ذلك البيت فقال رئيسهم يا معشر اليهود لقد ظفرتم بمحمد فأرسلوا اليه فجاء فدخل عليهم فقالوا يا محمد ، ألست أخبرتنا انه انزل عليك (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) ثم تخبرنا انه انزل عليك (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فهذا مختلف ، فسكت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يردّ عليهم قليلا ولا كثيرا ، قال ونزل على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «ولو ان ما في الأرض من شجرة أقلام وجميع خلق الله كتاب وهذا البحر يمد فيه سبعة أبحر مثله فمات هؤلاء الكتاب كلهم وكسرت هذه الأقلام كلها ويبست هذه البحور الثمانية وكلام الله كما هو لا ينقص ولكنكم أوتيتم التوراة فيها شيء من حكم الله قليل فأرسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتوه فقرأ عليهم هذه الآية فرجعوا مخصومين بشر».

٢٤٩

أعم من ذلك دونما هناك.

اجل ، وكما يتوارى كل شيء إلّا الله ، كذلك تتوارى الأشجار والبحار ، وتنزوي الأحياء والأشياء ولا تتوارى كلمات الله (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) كما لا يغلب في ذاته كذلك لا يغلب في كلماته.

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ٢٨.

آية يتيمة بين آي المعاد تجعل خلق الجمع وبعثهم كنفس واحدة في خلقها وبعثها ، وعلّها إجابة فيما تعنيه عن السئوال : كيف يحشر الجميع وقد خلطت أجزاؤهم مع بعض ، فضلّت كل نفس في الآخرين ، كما قالوا : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ. قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١١).

فالجواب : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أمام الحيطة العلمية والقدرة الإلهية ، إذ لا تضل نفس في انفس الآخرين عن علم رب العالمين مهما ضلّت عمن سواه ، فكما أنه تعالى خلق كل نفس ثم يبعثها كما خلق ، وهو أهون عليه ، كذلك يبعثكم ليوم الجمع كما خلقكم أول مرة ، وذلك أهون عليه ، ف (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) أقوالكم «بصير» بأحوالكم روحية وجسمية ، فلا يفلت عنه فالت ولا يعزب عن علمه عازب ، فعلمه لازب كل معلوم ، وقدرته لازبة كل مقدور.

إنه تعالى لا يختلف في خالقيته القليل والكثير ، والسهل والعسير ، لأنه على كل شيء قدير.

لقد (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) على توالي الدهور والأنسال وفق الحكمة الربانية ، ثم يبعثكم جميعا في ساعة واحدة قضية العدالة في

٢٥٠

الحكمة (١) ، دون رحلات الأجنّة ، ولا انتسالات مترتبة ، فإنهما لدى الله سيّان ، بل والبدء أيا كان أصعب ـ لو صح التعبير ـ وليس إلا تنازلا في التعبير : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ٢٩.

هذه وتسع أخرى عشرة كاملة تحدث عن إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل ، وهي تدل على كروية الأرض ، لولاها لكانت الأرض كلها ليلا ام كلها نهارا فلا مجال لولوج كلّ في الآخر.

ثم (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ) في شروقات وغروبات مختلفة حسب مختلف ايام السنة ، في الآفاق الأرضية ، بما يتحقق معه الولوجان (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو يوم القيامة الكبرى ، أو ليس الله الذي يجريهما مع سائر الجاريات إلى أجل مسمى ، ليجري المكلفين إلى أجلهم المسمى وهم أحق وأحرى؟ إذ (أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فليجازكم بما عملتم قضية العدل ، وإذ لا جزاء وافيا هنا فليكن هناك.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ٣٠.

«ذلك» العظيم العظيم ، الكثير الكثير من البراهين الساطعة من الآيات الآفاقية والأنفسية التي تحلّق على الكائنات كلها ، دالة على وجوده

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢١٦) عن تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليهما السلام في الآية : بلغنا والله اعلم انهم قالوا : يا محمد خلقنا أطوارا : نطفا ثم علقا ثم أنشأنا خلقا كما تزعم ونزعم انا نبعث في ساعة واحدة فقال الله : ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

٢٥١

تعالى وتوحيده وكمال ربوبيته (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) بكل ما للحق من معنى : ثبوتا ضروريا لا بدء له ولا ختام ، وثبوتا لكل شئون الألوهية والربوبية ، وثبوتا لكل استحقاقات واختصاصات المعبودية.

و «ذلك» الصغير الصغير ، الجافي الهزيل من كل دليل مما يدعون من دونه ، إنه هو الباطل بكل معاني البطلان كونا وكيانا (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ) فلا يسامى أو يساوى «الكبير» فلا يوازى.

فكل حق يملك من البرهان ما يحققه قدره ، وكل باطل هو صفر اليد عن أي برهان يثبته ، بل ويبطله ، ولأن الله هو الحق المطلق ، فحقّ للكائنات كلها ان تكون معسكر البراهين الدالة على حقه دون قصور ولا فتور.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ٣١.

«نعمت الله» هي التي تجري بها الفلك على طول الخط ، من الرياح التي تجري السفن الشراعية ، ومن البترول والكهرباء وسائر الوسائل المكتشفة ، حيث الكلّ نعم الله ، والعلم الكاشف لها من نعمت الله (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) الدالة على حقه و «إن في ذلك» البعيد الغور (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).

وعلّ الآيات هنا هي رقة الماء وخفة الفلك الثقيلة على الماء ، وسببية الرياح لجريانها فوق الماء ، وسائر الأسباب التي تكشف لكل صبار شكور ، ومن الآيات هي الفطرية البارزة (إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ ..).

ثم للصبر والشكر واجهتان ، صبر في البأساء وشكر في السرّاء وقد يعنيه قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «الايمان نصفان نصف صبر ونصف شكر».

٢٥٢

ثم صبر في التروك وشكر في الأفعال كما يعنيه قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «الصوم صبر والأفعال شكر» (١).

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) ٣٢.

(وَإِذا غَشِيَهُمْ) هؤلاء الراكبين في الفلك مؤمنين ومشركين «موج كالظلل» وهي السحب السوداء الحاملة العذاب كما في (عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) ـ (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) قضية نبوع الفطرة عند تقطع الأسباب (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ) كقلة قليلة «مقتصد» في دعوته ودعاءه ، باقيا على إخلاصه لله مهما قل أو كثر (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) كهذه الفطرية ، واضرابها من عقلية وعلمية وحسية أمّاهيه (إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) : غدّار «كفور» : مليء بالكفر والكفران.

ف «منهم» هناك تلمح إلى قلة ، و «كل ختار» هنا إلى كثرة وكما هي طبيعة الحال في الناس وحتى في المؤمنين منهم ، مهما اختلف شرك عن شرك.

ويا للهول العظيم ـ وعوذا بالله العظيم ـ موج يغشاهم كالظلل بسرادقه المحيطة بهم من كل جانب ، وهم في الفلك كالريشة الحائرة في خضمّ البحر المائر ، مما يعرّي النفوس عن كل حالة مشركة خاترة غادرة حيث تقطعت الأسباب ، فيتجهون عنها إلى رب الأرباب.

هنا يفتح كتاب الفطرة شاءوا ام أبوا ، انفتاحا اتوماتيكيا كما فطرهم

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥ : ١٦٢ يرويهما عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

٢٥٣

الله ليقرأوها قراءة خاشعة خاضعة ، ويدعوا الله حق الدعوة الخالصة (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قاصد قصد الفطرة ، دون ان ينجرف بجارف الأمن والرخاء ، ومنهم من يجحد ختارا كفورا.

هبهم هؤلاء الختارين الكفارين قد ينجون من ظلل البحار هنا ، فمن ذا الذي ينجيهم عن ظلل الأخرى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) ٣٣.

جزى عنه : كفى ، وهنا قد يجزي والد عن ولده مالا أو حالا ، ام يجزي مولود عن والده حالا او مالا ، وفي يوم القيامة لا جزاء من أحد وان كان اقرب الأقارب كالوالد والولد (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) لا حول عنه بأي حول ومحاولة (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) ان تغفلكم عن الأخرى ، ام تحسبوها كما الأولى قد يجزي أحد أحدا أو يجزى عنه (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وهو الشيطان الرجيم الذي يرأس كل نمرود وليست الحياة الدنيا في حد ذاتها مذمومة ، بل هي حسب ما يعامل معها إما حسنة وإما سيئة.

ف «اثبت الناس رأيا من لم يغره الناس من نفسه ولم تغره الدنيا بتشويقها» (١).

وخير تعريف عادل بالدنيا في قول فصل ما يروى من كلام امير المؤمنين (عليه السلام) لرجل سمعه يذم الدنيا من غير معرفة بما يجب ان يقول في

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢١٧ عن الفقيه عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل وفيه قال السائل : فاي الناس اثبت رأيا؟ قال : ..

٢٥٤

معناها : الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ، مسجد أنبياء الله ومهبط وحيه ، ومصلى ملائكته ، ومتجر أولياءه ، اكتسبوا فيها الرحمة ، وربحوا فيها الجنة ، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها ، ونادت بفراقها ، ونعت نفسها فشوقت بسرورها الى السرور ، وببلاءها الى البلاء ، تخويفا وتحذيرا وترغيبا وترهيبا ، فيا ايها الذام للدنيا والمغتر بتغريرها متى غرتك؟ أبمصارع آباءك في البلى ، ام بمصارع أمهاتك تحت الثرى ، كم عللت بكفيك ومرضت بيديك تبتغي لهم الشفاء ، وتستوصف لهم الأطباء ، وتلتمس لهم الدواء ، لم تنفعهم بطلبك ، ولم تشفعهم بشفاعتك ، مثّلت لهم الدنيا مصرعك ومضجعك حيث لا ينفعك بكاءك ، ولا يغني عنك احباءك» (١).

وعن علي بن الحسين عليما السلام «حب الدنيا رأس كل خطيئة والدنيا دنيا آن : دنيا بلاغ ودنيا ملعونة».

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ٣٤.

عرض لشطر من اختصاصات العلم والقدرة الربوبية دون اختصاص بها علما وقدرة ، ف (يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) نموذج من خاصة القدرة ، والأربعة الأخرى نماذج من خاصة العلم.

فليست الآية لتحصر اختصاصات العلم والقدرة بهذه الخمس وهناك

__________________

(١) المصدر عن ارشاد المفيد من كلام امير المؤمنين (عليه السلام) لرجل سمعه يذم الدنيا ...

٢٥٥

مآت المآت من الاختصاصات ـ علميا وفي القدرة ـ بالله ذكرت بطيات آيات أخرى ، فانما هذه الخمس اجابة عما سئل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكما في قصته الروح واضرابها (١) فلا يصدق ما يفترى على رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انه «قال» أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (٢) فان غيب الذات وصفات الذات

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٦٩ ـ اخرج ابن المنذر عن عكرمة ان رجلا يقال له الوارث من بني مازن بن حفصة بن قيس غيلان جاء الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : يا محمد متى قيام الساعة ، وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد وقد علمت ما كسبت اليوم فما ذا اكسب غدا وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت فنزلت هذه الآية ، وفيه اخرج ابن مردويه عن سلمة ابن الأكوع قال كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قبة حمراء إذ جاء رجل على فرس فقال : من أنت؟ قال : انا رسول الله ، قال : متى الساعة؟ قال : غيب وما يعلم الغيب الا الله ، قال : ما في بطن فرسي؟ قال : غيب وما يعلم الغيب إلّا الله ، قال : فمتى تمطر؟ قال : غيب وما يعلم الغيب إلا الله.

(٢) المصدر اخرج احمد والطبراني عن ابن عمران النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : .. وفيه اخرج مثله ابن مردويه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : لم يعم على نبيكم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلا الخمس من سرائر الغيب هذه الآية في آخر لقمان. وفيه اخرج احمد عن عامر او أبي عامر أو أبي مالك ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بينما هو جالس في مجلس فيه أصحابه جاء جبرئيل عليه السلام في غير صورته فحسب رجلا من المسلمين فسلم فرد عليه السلام ثم وضع يده على ركبتي النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال له يا رسول الله ما الإسلام؟ قال : ان تسلم وجهك لله وتشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت ، قال نعم ثم قال : ما الايمان؟ قال : ان تؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والموت والحياة بعد الموت والجنة والنار والحساب والميزان والقدر خيره وشره ، قال : فإذا فعلت ذلك فقد آمنت؟ قال : نعم ، ثم قال : ما الإحسان؟ ـ

٢٥٦

وصفات الفعل وغيب المعجزات وكثير أمثالها لا يعلمها إلا الله وكما قال الله عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) (٧ : ١٨٨) فليست هذه الخمس إلا قسما من الغيب لا كله.

وهكذا يفسّر ما يروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قوله : «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ...» (١). والغيب هنا يعم غيب العلم والقدرة ، فان (يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) مفتاحه الأوّل هو القدرة وعلى هامشه العلم.

وقد يعلم غير الله أشراطا من هذه الخمس وسواها بوحي الوحي أو

__________________

ـ قال : ان تعبد الله كأنك تراه فان كنت لا تراه فهو يراك ، قال : فإذا فعلت ذلك فقد أحسنت؟ قال : نعم ، قال : فمتى الساعة يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : سبحان الله خمس لا يعلمها الا الله ان الله عنده ..

أقول : خمس هنا وفي أمثاله يعني شطرا من المصاديق الظاهرة المسئول عنها كرارا ، ولا يعني الحصر فيها فانه خلاف نصوص من القرآن.

ويشهد لهذا التوجه ما فيه ايضا عن رجل من بني عامر قال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هل بقي من العلم شيء لا تعلمه؟ فقال : لقد علمني الله خيرا وان من العلم ما لا يعلمه الا الله الخمس ان الله عنده علم الساعة ف «من» تبعيض فالآية بيان لبعض الغيب الخاص.

(١) المصدر ـ اخرج الفريابي والبخاري ومسلم وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ... لا يعلم ما في عند الله إلا الله ولا متى تقوم الساعة الا الله ولا يعلم ما في الأرحام إلّا الله ولا متى ينزل الغيث إلّا الله وما تدري نفس باي ارض تموت إلا الله أقول : متى ينزل غير مستفاد من ينزل الغيث» الا على هامش القدرة ف «ينزل» فعل وليس ـ فقط ـ علما».

٢٥٧

العقل والعلم والحس (١) والضابطة العامة هي اختصاص علم الغيب بالله ، اللهم إلّا غيب الوحي الرسالي حيث يحمل الأحكام الرسالية ، وبعض من سائر الغيب ليس منها هذه الخمس واضرابها المعدودة في الذكر الحكيم ، فعلم الغيب الخارج عن واجب الوحي بحاجة إلى برهان ام ضرورة رسالية.

فالأحاديث القائلة ان عليا والحسين عليهما السلام كانا يعلمان مضجعهما ، بين مطروحة ومؤولة إلى إجمال دون تفصيل (٢) وكما يروى عن

__________________

(١) المصدر اخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة ان رجلا قال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) متى الساعة؟ قال : ما السمئول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثكم بأشراطها إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها وإذا كانت الحفاة العراة رؤس الناس فذاك من أشراطها وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذلك من أشراطها في خمس من الغيب لا يعلمهن الا الله ثم تلا هذه الآية.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٢٢٠ في اصول الكافي بسند متصل عن الحسن بن الجهم قال قلت للرضا (عليه السلام) امير المؤمنين (عليه السلام) قد عرف قاتله في الليلة التي يقتل فيها والموضع الذي يقتل فيه وقوله لما سمع صياح الأوزّ في الدار : صوائح تتبعها نوائح ، وقول ام كلثوم : صليت تلك الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلي بالناس فأبى عليها وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح وقد عرف ان ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف كان هذا مما لا يحسن تعرضه؟ فقال : ذلك كان ولكنه خيّر في تلك الليلة لتمضي مقادير الله عز وجل.

وفيه عن مقتل الحسين لأبي مخنف : وان الحسين لما نزل كربلاء واخبر باسمها بكى بكاء شديدا وقال : ارض كرب وبلاء ، قفوا ولا تبرحوا وحطوا ولا ترحلوا ، فههنا والله محط رحالنا وهاهنا والله سفك دمائنا وهاهنا والله تسبى حريمنا ، وهاهنا والله محل قبورنا ، وهاهنا والله محشرنا ومنشرنا بهذا اعدني جدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا خلاف في وعده.

٢٥٨

أئمة الهدى ان هذه الأشياء الخمسة لا يعلمها على التفصيل والتحقيق غيره تعالى.

فقد يعلم رسول او أمام او ولي بأي بلد يموت ولكنه ليس ليعلم مضجعه الخاص لمكان الإختصاص بالله فانه من الخمس المذكورة في الآية.

فطالما يعلم إجمال الأرض التي فيها يموت ، لا يعرف تفصيلها ، ام يعرف ما في الأرحام ـ أذكر؟ أم أنثى؟ حي أو ميت؟ صغير أو كبير؟ ـ بالوسائل الحديثة ولكن لا يعلم ما في الأرحام على التفصيل (١).

__________________

(١) المصدر في امالي الصدوق باسناده الى امير المؤمنين (عليه السلام) لما أراد المسير الى النهروان أتاه منجم فقال له : يا امير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار ، فقال له امير المؤمنين (عليه السلام) ولم ذاك؟ قال : لأنك ان سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك أذى وضر شديد ، وان سرت في الساعة التي امرتك ظفرت وظهرت وأصبت كلما طلبت ، فقال له امير المؤمنين (عليه السلام) تدري ما في بطن هذه الدابة اذكر ام أنثى؟ قال : ان حسبت علمت ، قال له امير المؤمنين (عليه السلام) من صدقك على هذا القول كذب بالقرآن (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ...) ـ «ما كان محمد يدعي ما ادعيت» وفيه عن نهج البلاغة يؤمي به الى وصف الأتراك : كأني أراهم قوما كأن وجوههم المجانّ المطرقة يلبسون السرق والديباج ، ويعتقبون الخيل العتاق ويكون استمرار قتل حتى يمشي المجروح على المقتول ، ويكون المفلت أقل من المأسور فقال له بعض أصحابه : لقد أعطيت يا أمير المؤمنين (عليه السلام) علم الغيب؟ فضحك (عليه السلام) وقال للرجل ـ وكان كلبيا ـ يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب ، وانما هو تعلم من ذي علم وانما علم الغيب غيب الساعة وما عدده الله سبحانه بقوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ..) فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر او أنثى وقبيح أو جميل وسخي او بخيل وشقي أو سعيد ومن يكون للنار حطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه الا الله وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ودعا لي ان يعيه صدري ويضطم عليه جوارحي» ـ

٢٥٩

«الأرحام» هنا طليقة فلا تختص بأنثى الناس ، بل الجنة والناس وسائر ذوات الأرحام ، من الحيوان والنبات بل والجماد ، بل والأرض كلها فانها تحمل من صنوف الكائنات الحية والميتة ، وتحمل كل الميتات الإنسانية وسواها.

والعلم البالغ ما بلغ في معرفة الأجنة الإنسانية لا يحيط خبرا بما هو في الأرحام في كل لحظة وفي كل طور من فيض وغيض : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) (١٣ : ٨).

ذلك العلم لم يصل الى ما ليس به جرم ظاهر وحجم ، ولا نوعية من ذكورة وانوثة حين لا يملك أحد أن يعرف عن ذلك شيئا في اللحظة الأولى لاتحاد الخلية والبويضة ، ولا ملامح الأجنة وخواصها وحالاتها واستعداداتها ، ولا أنها تموت في الأرحام أم تولد حية ، ولا ملامح الأرواح التي تحملها ، ولا آماد أعمارها ولا ... إلّا طرفا ضئيلا بالوسائل الحديثة على أخطاءها أم بسائر الوسائل.

كذلك وتنزيل الغيث ، مهما استطاع الإنسان بالمجهود العلمية ان يحصل على غيث صناعي أحيانا قليلة ضئيلة ، ولكنما الغيث النازل من السحاب المسخر في جو السماء لا ينزله إلّا الله ، ومهما عرف ناس بتجارب ومقاييس أشراط نزول الغيث وقربه ، ولكنهم لا يقدرون على خلق الأسباب التي تنشئه.

وكذلك (ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من مكاسب روحية ام مادية كما وكيفا ،

__________________

ـ أقول : «ما سوى ذلك ...» مطروح او مخصوص بما سوى ذلك أضرابه من علم الغيب كما في صدر الحديث.

٢٦٠