الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

نافعة ام ضارة ، فانه كقرنائه غيب مغلق عمن سوى الله.

و «غدا» هنا تعم غد الدنيا والبرزخ والأخرى ، فلكلّ مكاسب مهما كانت مكاسب الأولى هي التي تكسب للآخرين.

وفي رجعة اخرى الى الآية تحديدا لمواقع الخمسة كلا على حده : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) تختص بالله علم الساعة ككل ، دون إبقاء منه لمن سواه اللهم إلّا أشراطها (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ..) (٤٥ : ١٧).

(وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) اختصاصا في القدرة على إنزال الغيث ، فليس العلم بنزوله من مختصاته حسب النص ، اللهم إلّا العلم بإنزاله الذي يساوق القدرة ، فانه كما القدرة من مختصاته.

(وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) ككلّ بما فصلناه فليس ينافيه علم بما في الأرحام بوسائل مصطنعة أم دونها ام فوقها ، فلم يقل «عنده علم ما في الأرحام» حتى يحلّق على كل علم بكل ما في الأرحام دون إبقاء ، وانما (يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) استغراقا لكل علم ، وبما ان علمه يساوق قدرته ، فهو مختلف عن علم من سواه بشيء مما في الأرحام ايضا فضلا عن كله.

(وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) استغراقان في السلب يختصان هاتين الدرايتين بالله ، وأرض الموت هنا دون بلده تضيّق مكانه بخصوص المواضع التي تموت فيها كل نفس ، فلا ينافيه ان يعلم الإمام الحسين ان مضجعه كربلاء دون المضجع الخاص فيها كما قال «كأني باوصالي تتقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء».

ففي اختلاف التعبير سلبا وإيجابا ، وحصرا محلقا وسواه ، علما وسواه ، اختلاف المعني من هذه الخمس ، وليست هي الخاصة بالله علما او قدرة دون سواها كما فصلناه.

٢٦١
٢٦٢

سورة السّجدة مكيّة

وآياتها ثلاثون

٢٦٣
٢٦٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ

٢٦٥

خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٤)

سورة السجدة تتسمى بها لأنها تحمل آية السجدة الواجبة ، مفتتحة ب «الم» وهي الخامسة بين السور المفتتحة بها ، رابعة من مكياتها ، مما قد تربطها بها لوحدة الافتتاح.

٢٦٦

وهذه السورة تعالج قضية المبدء والمعاد بحجج لهما صارمة ، دفعا لما يخلج القلوب من تخلفات عارمة ، وفيها تبيان فوارق بين فريقي الايمان والكفر ، وهي تلتقي مع سائر المكيات في خطاب القلب البشري بخفاياه ودروبه ومنحنياته ، تخليصا له عن الخطرات والخلجات المتخلفة عن أحكام الفطرة والعقلية السليمة.

وهي تعرض قضايا خمس ، ابتداء بقضية الوحي وانتهاء إلى وحدة الوحي والرسالة بين موسى ومحمد ، وبينهما قضية الألوهية ، والبعث والمصير ، ومشهد الإيمان والكفر في النشأتين.

وهي من العزائم الأربع ، تجب السجدة بقراءة أو استماع ام وسماع آيتها ، وهل يجوز قراءتها في الفرائض فتؤخر سجدتها عن الصلاة «فان السجود زيادة في المكتوبة»؟.

ام يسجد لها فيها قضية فور الأمر ، ووجوبها يرفع محظور الزيادة في المكتوبة كما في زيادة ركن في الجماعة قضية التبعية؟.

ام تحرم قراءتها فيها فتبطل بها الفريضة قضية النهي عن العبادة؟.

ام لا تبطل حيث النهي ليس عن الصلاة ، وإنما هو عن قراءة فيها؟.

هنا أحاديث متضاربة ، يروي إخواننا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جوازها قولا واحدا (١) ويروى أصحابنا عن أئمة أهل البيت

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٧٠ عن أبي هريرة قال كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الفجر يوم الجمعة الم تنزيل السجدة وهل أتى ورواه مثله عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ابن عباس وابن مسعود وعن ابن عمران النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صلى الظهر فسجد فظنا انه قرأ الم تنزيل السجدة ورواه مثله البراء قال : سجدنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الظهر فظننا انه قرأ الم تنزيل السجدة وعن أبي العالية قال كان اصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رمقوه في الظهر فخرر ـ

٢٦٧

كلا الأمرين (١) إذا فلا نتأكد حرمتها في الفريضة ، والأحوط تأخير سجدتها عن الصلاة ، وهي ضمن الصلاة خلاف الاحتياط وإن كان الأشبه عدم بطلان الصلاة بها ، فان الدالة من أحاديث النهي قلة غير قوية الأسناد ، فلا تناحر الثّلة المروية من طريق الفريقين وكثيرة منها قوية الأسناد! والشهرة ليست بنفسها برهانا شرعيا ولا الإجماع ، اللهم إلّا الإطباق بشروطه وهو عادم هنا.

ومحور النهي فيما ينهى عنها ان السجود زيادة في المكتوبة ، ولا بأس

__________________

ـ قراءته في الركعة الأولى من الظهر تنزيل السجدة. ومن طريق أصحابنا حسنة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه سئل عن الرجل يقرء السجدة في آخر السورة؟ قال : يسجد ثم يقوم فيقرء فاتحة الكتاب ثم يركع ويسجد ، وصحيحه محمد بن مسلم عند أحدهما قال : سألته عن الرجل يقرء السجدة فينساها حتى يركع ويسجد قال : يسجد إذا ذكر إذا كانت من العزائم ، وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال : سألته عن امام قوم قرء السجدة فأحدث قبل ان يسجد كيف يصنع؟ قال : يقدم غيره فيتشهد ويسجد وينصرف هو قد تمت صلاتهم (وسائل الشيعة على الترتيب في أبواب القراءة ب ٣٧ ح ١ و ٣٩ : ١ ، ٢٣ و ٤٠ : ٥ و ٦).

(١) الأمر الثاني ما رواه زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال : لا تقرء في المكتوبة بشيء من العزائم فإن السجود زيادة في المكتوبة» وموثقة سماعة : من قرأ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فإذا ختمها فليسجد فإذا قام فليقرء فاتحة الكتاب وليركع وقال : إذا ابتليت بها مع امام لا يسجد فيجزيك الإيماء والركوع ولا تقرء في الفريضة واقرأ في التطوع «وخبر علي بن جعفر المروي عن كتابه وعن قرب الإسناد وقد سأل أخاه موسى (عليه السلام) عن الرجل يقرء في الفريضة سورة والنجم ويركع وذلك زيادة في الفريضة ولا يعود يقرء في الفريضة بسجدة».(الوسائل ب ٤٠ : ١ و ٣ ـ وب ٣٧ ح ٢ صدره وذيله ب ٣٠ : ٢ وب ٤٠ : ٤).

٢٦٨

بهذه الزيادة لأن لها سببا ، ثم إذا أخرنا السجدة الواجبة لم يبق مجال لمشكلة الزيادة ، ولا يترك الاحتياط بترك قراءتها في فريضة.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ٢.

علّ «الكتاب» هنا هو النازل على الرسول ليلة القدر بإحكام ، ثم نزل عليه ثانيا بتفصيل : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١١ : ١).

أم وهو الكتاب المفصل المنزل عليه وقد تشملهما «الكتاب» أم وثالث هو الأول كوكنا وكيانا : «أم الكتاب» : (إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤٣ : ٤).

(لا رَيْبَ فِيهِ) في أصله ولا في تنزيله (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ـ «تنزيل من رب العالمين ـ لا ريب فيه من رب العالمين» مهما شك فيه وفي تنزيله المتجاهلون ، فان الريب شك مسنود إلى برهان ولا برهان يسند إليه أيا كان يشكك الإنسان في وحي القرآن ، بل البراهين كلها مجندة لا ثبات وحيه ، لا مرد لها ولا ريب فيها.

و «تنزيل» مصدرا مبالغة بالغة أن ليس الكتاب المفصل إلّا نفس المحكم بصورة أخرى ، فلم يحصل في ذلك التفصيل إلّا تنزيل تقريبا الى أفهام العالمين بعد غموضه في إحكامه.

وفي «رب العالمين» تلميحة لامعة أن هذا الكتاب يحمل ربوبيته العالمية ، عرضا لبعديها التكوينية والتشريعية دون إبقاء.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) ٣.

أيصدقون ـ بعد ـ بوحي القرآن (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) على الله ، فهو كتاب من عنده ام اكتساب من كتب اخرى ، ام تعلّم من ذي علم؟ «بل»

٢٦٩

إن قولة الافتراء لا تملك برهانا إلّا عليها ، فانه دون ريب «هو الحق» كلّه «من ربك» الذي رباك ، فكما انك كرسول لست صنيع نفسك أو الآخرين ، كذلك ذلك الكتاب ليس صنيع أحد إلّا رب العالمين ، صنيعان اثنان هما صنوان يبرهن كلّ لزميله ، ويستدل به ككامل دليله ، فالسمة الربانية بارزة في القرآن ورسول القرآن ، لا يحتملان ولا يتحملان سمة خلقية أيا كان.

(هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) دون إبقاء لحق إلّا وهو فيه (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) حيث هم وآباءهم عائشون زمن الفترة الرسالية : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) (٣٦ : ٦) (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) (٩ : ٩٧).

انهم قوم لدّ في أصلهم العربي وفصلهم عن المنذرين ، فإذا استطاع رسول القرآن ان ينذر به هؤلاء الألداء الأشقياء فهو بإنذار من دونهم أحرى وأقوى.

إذا فليس هو ـ فقط ـ من الحق ، بل هو الحق كلّه إذ بامكانه إنذار الألداء الذين لم يسبق لهم إنذار رسالي ولا رسولي ، حيث عاشوا تيه الضلالة والمتاهة في ردح بعيد من الزمن ماله مثيل طول الزمن الرسالي في بعد الفترة بعد الشقاوة الأصلية.

وفي الحق إن الحق كيانه الهدى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد ، كلما ازداد الحق توسعا وعمقا ازدادت الهدى على ضوءه ، ولأن القرآن هو كتاب الخلود في هديه فليكن مستغرقا الحق كله :

حقا في طبيعته ومعناه ومغزاه ومرماه ، تطابقة حقة بين أجزاءه دونما اختلاف ، واخرى بينه كله وقضية الفطرة والعقلية الإنسانية وحاجات العالمين أجمعين.

٢٧٠

حقا بكونه ترجمانا بالغا لكل نواميس الكون ، ترجمة قيمة مستقيمة كأنها هي الصورة الواقعية عن واقع الوجود.

حقا بما يحققه ويطبقه من صلات أصيلات بين العالمين وما بينهم وما حولهم من قوى ، ما ظهر منها وما بطن ، دون اى تنافر وتفاوت وتهافت.

حقا يرسم منهاج الحياة لأعلى قممها المقصودة المرموقة ، ملائما مواتيا كل طاقاتها وإمكاناتها ، كل نزعاتها وحاجاتها ، معالجا كل ما يعتورها من آفات وعاهات وابتلاءات.

وحقا لا يزداد على تقدم العقل والعلم إلّا بهورا وظهورا (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ ..) وتراهم في هذه الفترة الخالية عن الإنذار ، كانوا مكلفين دون شرعة تحكمهم ، فيتساءلون إذا ناكرين موقفهم من فصيلة الرسالة : (... رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٢٠ : ١٣٤) (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٤ : ١٦٥)؟.

انهم مهما لم يعيشوا الإنذار الرسولي في هذه الفترة لم يكونوا ليخلوا عن الإنذار الرسالي ، ام ولأقل تقدير الإنذار الفطري والعقلي وهما قد يكفيان حجة للتوحيد الحق ، ولأن الإنذار الرسولي أقوى من الرسالي ، وهو ايضا أقوى من العقلي والفطري ، فلا يهلكون بعذاب في الفترة الرسولية والرسالية ، حيث الحجة ليست صارمة يستحقون بها العذاب حين يتخلفون : (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى ، وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٢٠ : ١٣٤).

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى

٢٧١

عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) ٤.

تعريف بالله في خالقيته المدبرة لما خلق ، توحيدا له في تدبير الخلق كما في الخلق رغم ما يزعمه المشركون انه هو الخالق ولشركائه التدبير.

ومثلث (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) تعبير عن الكون المخلوق كله ، و (سِتَّةِ أَيَّامٍ) هي الأوقات الستة للخلق وقد فصّلت في «فصّلت» وانها ليست من أيام هذه الأرض ، لأنها مقياس زمني ناشئ عن دورتها ، فأين هيه قبل خلقها وخلق السماوات ، فهي من أيام الله التي لا يعلمها إلّا الله ، اللهم إلّا شبحا بعيدا لنوعيته ، دون حده وقدره.

والعرش المستوى عليه هنا هو عرش التدبير بكافة شئون الربوبية ، وهو عوان بين العرش قبل هذا الخلق حين (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (١١ : ٧) والعرش بعد الدنيا (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (٦٩ : ٧) والعرش العوان هو عرش التدبير : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (١٠ : ٣) ومنه إغشاء الليل النهار : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) (٧ : ٥٤) عرش الفعالية لما يريد : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (٨٥ : ١٦) وكذلك عرش العلم : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها ..) (٥٧ : ٤).

ولأن الولاية هنا والشفاعة هنا وهناك هي من شئون عرش التدبير الموحّد ، إذا ف (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ) يلي أمركم وامر الخلق كله لأنه هو ذو العرش «ولا شفيع» عنده في تكوين أو تشريع (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) بعد ذكريات الفطرة والعقلية والشرعة الربانية : أنه هو الولي والشفيع لا سواه فانى تؤفكون وتصرفون ، (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ)؟

وترى كيف يكون الله هو نفسه شفيعا ، فعند من يشفع إذا كلّ مشفوع

٢٧٢

له؟ وهو الذي يشفع عنده! (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢ : ٢٥٥)؟.

علّه لأن الشفعاء عنده لا يشفعون إلّا باذنه ، إذا فهو الشفيع عنده باذنه ، إذ (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (١٠ : ٣) (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) (٦ : ٧٠) (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦ : ٥١).

والشفاعة ـ ككل ـ وهي انضمام سبب إلى آخر يكمله ، إنها في تكوين وتشريع خاصة بالله ، لأنها من شئون عرش التدبير لكل شيء ، فقد يشفع الله اسما من أسماءه باسم آخر منها إتماما لتدبير ما يدبره ، كشفع شارعيته بغافريته للتائبين ، ام يشفع اسما منها بحالة لخلقه كشفع غناه بفقرهم ، بل كل تدبيره لخلقه ولاية وشفاعة في كافة حقول الربوبية.

ومن ذلك شفاعة العاصين ، حيث يشفع عصيانهم بطاعة لهم ، أم وبمقرب عنده ، شفعا لهما بغافريته وإكرامه للمقربين ، فتتحقق الشفاعة بحق المشفوع لهم.

إذا فلا مشكلة في شافعيته عنده حتى تؤول بما لا تتحمل ، من تكلفات لفظية ومعنوية تبعد عنها ساحة الذكر الحكيم.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ٥.

ذلك يوم التدبير ربوبيا يوم الدنيا ، وهو واحد زمنه عند ربك (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٢٢ : ٤٧) وهو / ٣٥٥٠٠٠ ضعفا بالنسبة ليوم عندنا ، وعلّ خمسين ألف المعارجي هو واحد الزمن الربوبي في تدبير الأخرى ، وألف السجدة كألف الحج هو واحد الزمن الربوبي يوم

٢٧٣

الدنيا ، فقد (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ككل (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) وهو أمر تدبير الأرض ومن عليها «تم يعرج» ف «يدبر» التي تقابل «يعرج» مضمّن معنى النزول ، أنه ينزل الأمر تدبيرا من السماء إلى الأرض (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) ذلك الأمر ، وعروجه كنزوله هما من تدبيره.

ثم «في يوم» هل هو زمن النزول والعروج جميعا فلكلّ نصف يوم؟ وهو ظاهر التعبير ، أم هو فقط يوم النزول دون العروج؟ فلما ذا أخر إلى العروج! أم هو العروج دون النزول؟ كأنه هو! ، فإن «يدبر» بيان لأمر التدبير المستمر يوم الدنيا ، و «ثم» الدالة على التراخي يؤخر ذلك العروج عن كل التدبيرات في النشأة الأولى وهي يوم الدنيا ، فقد يكون عروج أمر التدبير للربوبية الأولى (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) كموقف واحد من المواقف الخمسين يوم الأخرى (١).

فكما أن يوم الدنيا لخلقها أيام : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ..) (٩ : ٣٦) وهو ستة أيام حسب التقسيم الداخلي لزمن الخلق ، وكذلك يومها بعد خلقها أيام ، فقد يكون يوم الأخرى ـ وبأحرى ـ أياما ، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون.

ولأن يوم الأخرى ليست لها نهاية بالنسبة لأصحاب الجنة ، فخمسون ألف سنة قد تختص بما قبل دخول كل من أهل الجنة والنار مثواه ، وقد (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٧٠ : ٤) وهو واحد الزمن الربوبي المعارجي ، المفصلة في المعارج.

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٢١ في تفسير القمي في الآية يعني الأمور التي يدبرها والأمر والنهي الذي أمر به واعمال العباد كل هذا يظهر يوم القيامة فيكون مقدار ذلك اليوم ألف سنة من سني الدنيا.

٢٧٤

هنا وفي الحج (إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) مهما اختلفت العندية هنا وهناك ، ثم لا نجد في المعارج «عند ربك» مما يلمح أن يوما فيها خمسون يوما عند ربك (١) ، وقد جمعها (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) يوم قد يعني منه الأيام الخمسون.

وكما أن الأيام الستة للخلق تختلف عن أيامنا ، كذلك يوم العروج إلى الله ويوم المعارج ، وعلى الجملة «يوم» كواحد الزمان «عند ربك» يختلف عن كل أيامنا في تقديراتنا الزمنية كما فصلت في تفسير المعارج.

وعلى أية حال فعروج امر التدبير إليه وفيه انهدام الكون أرضيا وسماويا يتطلب في العادة ألف سنة ، ولكنه يحصل في يوم وهو واحد الزمان وهو الحركة الأصلية للمادة الأولية وكما فصلناها في المعارج.

فأمر الله ككل واحدة كلمح بالبصر : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥٤ : ٥٠) ثم (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (١٦ : ٧٧) وكأن هذه الواحدة هي يوم عند ربك كألف سنة مما تعدون» بيانا لنفاذ أمره وسرعته.

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ٦

«ذلك» الله العظيم ، الخالق المدبر الحكيم ، هو لا سواه (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) على سواء ، إذ لا غيب عندنا إلّا وهو شهادة عنده ، وكثير من الشهادة عنده غيب عندنا وهو «العزيز» في علمه وقدرته «الحكيم» في قدرته

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٢٢ في أمالي الطوسي بأسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في كلام طويل : فإن في القيامة خمسين موقفا كل موقف مثل ألف سنة مما تعدون ثم تلا هذه الآية (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أقول وهذه الرواية متظافرة ذكرت في تفسير آية الحج وآية المعراج.

٢٧٥

وعلمه وعزته ، فإن الغيب أيا كان ، ما لم يكن أو كان (١) ، والشهادة على أية حال ، كل ذلك عنده شهادة.

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) ٧

(أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أن (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢٠ : ٥٠) فإنه من إحسان خلقه ، كما أحسن كلا من الخلق والهدى لكلّ ما خلق وهدى ، فلا أحسن مما فعل ولا اتقن ، ومن ذلك : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) والمبدء هو آدم الأوّل حيث خلق قفزة من طين ، مهما خلق نسله من أصول طينية ولكنه دون قفزة حيث تحولت إلى ماء مهين.

أترى ليس في خلق الله قبيح ولا غير حسن؟ وذلك ملموس! أم إنه ليس من خلق الله؟ وهو الذي (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ...) ، (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢٥ : ٢).

ليس يعني (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أنه خلق كل شيء سواء في الحسن ، وإنما هو إحسان لكل خلق على حدّه ، فهو إتقان وإحكام (٢) لكل خلق حسب الحكمة الربانية بالظروف المواتية والملابسات المقتضية.

فلكل جماد ونبات وحيوان وإنسان أو ملك وجان شاكلة روحية وجسدية أمّا هية ، هي ـ ككل ـ قضية الحكمة كضابطة لكلّ ، أم قضية الملابسات كالعور والعمى والصم والشلل أما ذا من عوارض هي حصيلة الكيفية الخاصة لأصول الولادة وكيفيتها وما يطرء الولائد من طوارئ ، فالخلق

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٢٨١ عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية الغيب ما لم يكن والشهادة ما قد كان» أقول ما لم يكن هو من أغيب الغيب كما ومما كان غيب ، وما قد كان ليس كله شهادة ، وإنما جله.

(٢) الدر المنثور ٥ : ١٧٢ ـ ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الآية قال : أما إن است القردة ليست بحسنة ولكنه أحكم خلقها.

٢٧٦

متقن على أية حال ، فهو حسن من الخالق على أية حال ، والنقائص الطارئة هي من خلفيات التخلفات الولادية قصورا أو تقصيرا.

ثم القبح بين سائر الخلق خلقيا أصليا ليس إلا نسبيا ، فإذا كان العقرب والحية والسرطان وقسم من سائر الحيوان قبيحا في نظرنا ومنظرنا قياسا لها إلى أنفسنا ، لم يلزمه واقع القبح لكلّ بين قبيله ومثيله ، فعلّنا نحن الأناسي أيضا عندها كما هي عندنا ، وكل حسب الواقع والحكمة حسن متقن في خلقه وهداه كما أعطى الله ، مهما كان الحسن في الخلق درجات و (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) رغم أنه (بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ).

فالحكم بقبح أو غير الحسن لخلق من الخلق ليس إلّا نتيجة قصور النظر ، أو القياس إلى الأحسن أو الحسن في المنظر ، وليس يختص واقع الحسن للخلق بمنظر الإنسان أو أيا كان من الناظرين القاصرين ، وعلى ضوء تقدم العقل نحصل على محاسن في الخلق كنا نحسبها مقابح.

فمن الحسن الجامع للخلق ككل أنك (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أجزاء كل خلق في كله ، وافراد كل خلق في مجموعه ، فلا تفاوت ولا تناحر هنا وهناك إلّا ما يخلقه المتخلفون من خلق الله ، غير المتخلقين بأخلاق الله (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٦٧ : ٤).

فلأن الحسن في الخلق وهداه ليس إلّا على ضوء العلم المطلق والقدرة غير المحدودة والحكمة العالية والرحمة الشاملة دون نفاد في شيء منها ولا كساد ولا بخل وضنّة ، فلا يعقل أن يحصل غير الحسن المتقن كما يصلح وأمكن ، من الله العليم الحكيم القدير العلي الكبير.

ف (كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (١٣ : ٨) ومعيار صالح لنظام الكون

٢٧٧

ككلّ ، دون إفراط ولا تفريط ، من كل ذرة صغيرة إلى أكبر الأجرام ، من خليّة ساذجة إلى أعقد الأجسام ، ففي كلّ يتجلى كل إتقان وإحسان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)!

ومن الحسن المزدوج خلقا وهدى أن كلا مصنوع ليؤدي دوره المقسوم في رواية الوجود ، مزودا بمعدات صالحة ليؤدي دوره الآهل له تمام التأهيل ، بتعجيل أو تأجيل ، ولا خائن أخون في حمل الأمانة من الإنسان (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)! ثم سائر الكائنات تؤدي دوراتها المقررة لها حسب مراتبها وإمكانياتها إلّا أن يعرقل المسير ويصد المصير من قبل شرير ليست عرقلته من خلق الله ، بل هي اختلاقة منه قضية الإختيار.

العين المعاينة في غير عمى وعمه ، والعقل الخبير والقلب البصير يتحلى من جمال الكون الكثير الكثير ، ممنوحة برصيد ضخم من ذخائر الحسن والجمال ، مسكوبة في القلب بكل جلال ودلال ، عائشة في ذلك المهرجان العظيم البديع ، متملية آيات الإحسان والإتقان في كل ما يدرك أو يحس ويلمس بالحواس من الخمس.

(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ٧ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ٨.

بداية خلق الإنسان من طين ، تقضي على نظرية أو فرضية النشوء والارتقاء الداروينية أن الأنواع تسلسلت من الخلية الواحدة في أطوار متتالية إلى الإنسان ، وأن هناك حلقات نشوء وارتقاء متواصلة تجعل الإنسان في أصله المباشر الأوّل حيوانا بين القردة والإنسان.

وهذا التطور المزعوم ضرب من المستحيل في سنة التكوين ، فهناك

٢٧٨

عوامل وراثة كامنة في كل خلية تحتفظ بخصائص نوعها دون تفلّت وتبعثر ، محتمّة أن تظل في دائرة النوع الذي نشأت منه دون تطوّر إلى نوع جديد ، كما الاستقراء في حالات الخليّات تؤكد ذلك الحفاظ الصارم لنوعياتها في ذواتها.

فالقطّ أصله قط وسيظل ـ قط ـ قطاّ على طول الخط ، وكذلك الكلب والثور والحصان والقرد والإنسان ، ولا يملك دارون في فرضيته القاحلة الجاهلة إلّا نفسه وأتباعه أنهم هم ـ فقط ـ من القرد ، كما هم عاشوا في صورتهم الإنسانية قردا ، وحتى إذا صح تبدل نوع إلى آخر أم وكان واقعا ، فواقع خلق الإنسان الأوّل حسب النصوص القرآنية ـ وهذه منها ـ إنه بادى من طين ، ولو كان تطورا من حيوان آخر أم من الخلية البسيطة الأولى لكان حقّ التعبير ذكره ، وآيات خلقه صريحة أن بدءه من طين دون حيوان آخر أم شيء سوى طين.

كما وأن خالجة خلق آدم كنسله هو من إنسان قبله ، هذه خارجة عن صراح الآيات ، وما آية اصطفاءه آية انتساله من آخرين : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣ : ٣٣) إذ يكتفى لاصطفائه أن كانت معه زوجه وولده ، ثم «العالمين» الشامل لهم منذ خلق آدم إلى يوم الدين يوسع نطاق اصطفاءه كزملاءه ، فقد اصطفى الله منذ البداية إلى النهاية آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين» وهم النبيون والمعصومون أجمعون ، طيّا لأدوار الزمان وأنحاء المكان ، جمعا بين العالمين ككل ، وجمعا بني المصطفين عليهم ككل.

هنا «الإنسان» يعم أصله ونسله ، والفصل بين أصله ونسله أن أصله ـ وهو آدم الأول ـ بدء من طين (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ).

٢٧٩

(ماءٍ مَهِينٍ) هو المني ، و «سلالة» منه هي النطفة ، وهي الدودة المنوية التي تتحول الى جنين ، فليس الماء المهين بكله نسل الإنسان ، بل سلالة منه هي النطفة الجرثومية.

و «نسله» هنا هو الانتسالات والتطورات الجنينية التي تخطوها سلالته إلى جنين كامل ، المدلول عليها ب «سوّاه» :

(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ٩

«ثم» هنا تراخي اكتمال الجنين جسديا من سلالته ، فإنها تتحول إلى علقة إلى مضغة إلى عظام وإلى كسو العظام لحما ـ (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) هنا هو (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) هناك ، وقد تعم «سوّاه» الإنسان ككل ، أصله ونسله مهما اختلفت التسويتان ، قفزة من طين في الأولى ، وتطورات الجنين في الأخرى.

ولا تعني «من روحه» بعضا من روح الله نفسه ، إذ ليس له روح وسواه من أجزاء كونية مخلوقة كخلقه ، وذلك النفخ ولادة وليس خلقا!

فإضافة الروح إلى نفسه المقدسة هي إضافة تشريفية ، حيث الأرواح المخلوقة درجات ، من نباتية إلى حيوانية إلى جنينية أما هيه إلى إنسانية ، وهذه أعلاها وأرقاها ، لحدّ تستحق الانتساب الخاص إلى الله ، كأنها ـ فقط ـ هي الأرواح التي خلقها الله.

ثم ولا تقتضي الإضافة أدبيا كون المضاف جزء من المضاف إليه إلّا في زاوية واحدة من الأربع في الإضافات ، من إضافة الشيء إلى نفسه ك «نفسي» والى كله ك «يدي» وإلى مغايره مخلوقا كنفسه ك «غلام زيد» أم خالقا له ك «روحه» فكيف تقدم زاوية إضافة الجزء إلى كله بين هذه

٢٨٠