الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

الموات ، فانها تعقل وتؤخذ من أمثالها في تواتر الموت والحياة.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) ٢٥.

قيام السماء والأرض ـ وهما الكون المخلوق كله ـ هو قيامهما على حالتهما الحيوية كما هيه منذ خلقتا وأكملتا بما خلق فيهما وما بينهما ، و (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ) تراخ بين قيامهما وهذه الدعوة المحيية بقيامة الإماتة الشاملة للسماء والأرض.

وكما أنهما تقومان بأمره ، كذلك تنفطران بأمره ، وأنتم ـ كذلك ـ تخرجون بأمره ، وهو كلمة «كن» التكوينية ، وبالنسبة للمكلفين اضافة إليها «كن» التشريعية.

فكما السماء والأرض من آياته ، كذلك قيامهما بأمره وخرابهما بأمره ، فلتكن هذه القدرة الشاملة شاهدة صدق ل (أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ).

وبما ذا تتعلق «من الأرض»؟ ب «دعاكم»؟ وليس الله الداعي في الأرض حتى (إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ)! ام ب «تخرجون»؟ فلما ذا قدمت على متعلقها؟

التقدم في المحتمل الثاني لغاية الحصر ، انكم تخرجون ـ فقط ـ من الأرض التي فيها تدخلون ، وعلّ الأوّل معنيّ ضمنه لا بمعنى ان الداعي هو في الأرض ، وانما دعوته لإخراجنا من أجداثنا صادرة منه من الأرض ، كموضع لتجلي الدعوة ونفاذها حيث ينفخ في الصور والناقور فيصل فيما يصل إلى المدفونين في الأرض فيحيون ، ولا ضير أن يعنى ضمن المعنى دونما استقلال والأصل هو الآخر.

و «إذا» الثانية للمفاجأة قائمة مقام فاء الجزاء لشرط «إذا» الأولى ،

١٤١

فالخروج من الأرض حيا بعد موت مفاجأة في متاه ومداه ، وليس بدعا من الحياة بعد الموت المتواترين المتلاحقين على مر الزمن دون إبقاء ، كيف لا؟ :

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) ٢٦.

«له» ملكية وملكية حقيقية ذاتية دونما زوال ولا انتقال (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فضلا عنهما ، «كلّ» منهما ومن فيهما ، «له» لا لسواه «قانتون» خاضعون لإرادته ، فالقنوت هنا ـ ككل ـ هو الطاعة الخاضعة الخاشعة التكوينية ، مهما كان المؤمنون له «قانتون» تشريعيا كما هو تكوينيا.

ف (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ككل ـ عصاة ومؤمنين ، هم له قانتون في كل كونهم وكيانهم مهما عصت عقول بعضهم وأعمالهم ، وليست النقلة إلى الحياة الأخرى فعلة لهم مختارة حتى يتمكنوا من عصيانها ، فكما أحياهم دون اختيار لهم إذ لم يكونوا أحياء ، كذلك يحييهم بعد موتهم (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى).

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ٢٧.

ولأن (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) و (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) دونما استقلال لشيء وتمنّع عن إرادته ، ف (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أيا كان البدء وأيّان ، بدء لا من شيء كالخلق الأول ، وبدء من شيء هو الخلق الأوّل وسائر الخلق في المراحل الأخرى ، وبدء لخلق الإنسان ، وإذا كان البدء منه فالإعادة اولى (ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).

فالبدء أيا كان هو إنشاء من غير مثال سبق ، والإعادة إنشاء سبق مثاله في البدء ، سواء أكانت الإعادة بعد الإعدام المطلق كما قبل مطلق الخلق ، أو الإعادة بعد مطلق الإعدام ، كما قبل الإعدام ، فالإعادة لما بدء ثم أعدم هي

١٤٢

على أية حال أهون من البدء قياسا بينهما ، وقياسا إلى القدرة المحدودة ، واما بالنسبة للقدرة غير المحدودة فلا مراحل في الهون كما الصعب ، فلا صعب لها ولا أصعب ، ولا هين ولا أهون ، فكلّ هين تجاه القدرة الطليقة الإلهية على سواء كما (قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (١٩ : ٩).

والخلق الثاني أهون من الأوّل في نفس الذات وبالنسبة للقدرة المحدودة ، ولكنه هنا (عَلَيَّ هَيِّنٌ) لا أهون ، ثم (قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) تعطى اولوية لهذا المنيّ هنا ، ويعبر عنها في آيتنا ب (هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ولا تعني إلّا تنازلا في التفضيل ، وليس في الحق عنده في قدرته تفضيل.

إذا (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) قد تعني الأهون في نفس الذات وبالنسبة لقدراتكم؟ ولكن «عليه» قد تمانع عنايتها لخصوص هذين الأهونين!

أم (هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) تنازلا في التفضيل في حقل القدرة : (وَهُوَ الْعَزِيزُ) وحقيقة في التفضيل في حقل العدالة «وهو (الْحَكِيمُ).

فالبدء للخلق ـ أيا كان ـ هو قضية الفضل ، وأما الإعادة ـ للمعاد الحساب ـ فهي قضية العدل ، والعدل أهون من الفضل وأوجب في مثلث المقاييس : بينهما ، وبالنسبة للعزة والحكمة المحدودتين ، وبالنسبة للعزة الطليقة والحكمة اللّامحدودة.

أضف إلى كل ذلك كهامش في المعنى المعنيين الأوّلين للأهون حقيقيا ، والثالث تنازلا في الحوار.

فقد تعني (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) سداسية المعاني ، والأصل في الثلاثة الأول التنازل في التفاضل : لو كان له هين وأهون ف (هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ، ثم

١٤٣

الأصل في الثلاثة الأخرى ان العدل أهون على الله من الفضل من حيث الحكمة ، لا القدرة.

إذا (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قد تشيران إلى تنازل التفاضل بجنب القدرة العزة ، وحقيقة التفاضل في مقياس الحكمة ، حيث العدل أوجب على الله من الفضل ، كما الفرض اولى من الندب ، اولوية حقيقية دونما تأويل ، خلاف الأولوية التنازلية في حقل القدرة.

وهنا يتبين المعني من (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حيث المثل في الأصل هو الصفة ، فعلية كما هنا حيث السماوات والأرض وما فيهما هي فعليات صفات الله ، ام وذاتية كما في النحل (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦٠).

فمثله المطلق كما هنا يعم صفات ذاته إلى صفات فعله ، ومثله في السماوات والأرض يخص صفات فعله.

فأمثال الله في السماوات والأرض بدء وإعادة كلها عالية ، ولكن الإعادة هي من المثل الأعلى وهو العدل فانه أعلى من الفضل وأهون ، وكما أولياءه المقربون السابقون وقد يروي عن أسبقهم وأقربهم إلى الله محمد (ص) قوله : نحن كلمة التقوى وسبيل الهدى والمثل الأعلى والحجة العظمى والعروة الوثقى» (١٥) ، فهم مثل أعلى ممن دونهم من المؤمنين ، والعدول من

__________________

(١٥) نور الثقلين ٤ : ١٨٠ في عيون الأخبار باسناده الى ياسر الخادم عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعلي (عليه السلام) يا علي! أنت حجة الله وأنت باب الله وأنت الطريق إلى الله وأنت النبأ العظيم وأنت الصراط المستقيم وأنت المثل الأعلى ، وفي العيون في الزيارة الجامعة السلام على الأئمة الهدى ... وورثة الأنبياء والمثل الأعلى ، ـ

١٤٤

هؤلاء مثل أعلى ممن لا يعدل تماما وهكذا ، ثم المثل يعم من ناحية أخرى صفات الفعل التشريعية إلى صفات فعله التكوينية ، فالشرعة التوراتية مثل أعلى من الشرعة الإبراهيمية ، كما الشرعة القرآنية هي مثل أعلى من كل شرعة إلهية.

وكما الإنسان ككل هو مثل أعلى من الناحية التكوينية (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ومن الناحية التشريعية إذ شرع له أحسن الشرائع بين كافة العقلاء ، وحين يشاركه بعضهم كالجن وسواه في شرعته فهو الأصل فيها رسالة ومرسلا إليه.

ثم «الأعلى» في (الْمَثَلُ الْأَعْلى) قد تكون كما هنا ، الأفضل بين أمثاله تعالى ، كما الإعادة مثل أعلى من البدء ، ام الأعلى من مثل غيره ، فصفاته الفعلية ـ وهي كل خلقه بمختلف أمثاله الأدنى والوسطى والعليا ـ هي أعلى من صفات خلقه ، وكما ان صفات ذاته وذاته أعلى ممن سواه.

وأمثال الله تعالى بكل مراتبها حسنة وفق طليق العزة والحكمة ، وأمثال غيره بين سيئة وحسنة هي طبعا دون أمثال الله : ف (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) إذ يرجحون البدء الفاني وهو من فضله ، على الإعادة الباقية وهي من عدله ، ترجيحا للفضل المؤقت في ذلك الخلق العظيم دونما غاية مقصودة إلّا حياة ضئيلة هزيلة هي في الحق خلاف الفضل ، ترجيحا على العدل في الإعادة وهي الغاية المقصودة من البدء (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) عدلا وفضلا بواقعهما الطليق العميق.

__________________

ـ وفيه (٨١) عن العيون عن عبد الله بن العباس قال قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فينا خطيبا فقال في آخر خطبته : ...

١٤٥

وكما انه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) كذلك ليس كمثله مثل ، «وله» السابقة على (الْمَثَلُ الْأَعْلى) تفيد الحصر ، فهو «رب المثل الأعلى عما به مثلوه ـ ولله المثل الأعلى ـ الذي لا يشبهه شيء ولا يوصف ولا يتوهم ، فذلك المثل الأعلى» (١٦).

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ٢٨.

(ضَرَبَ لَكُمْ) المتخذين لله شركاء (مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) مثل قريب وهل هناك مثل أقرب من أنفسكم ، دون حاجة إلى رحلة قريبة أو بعيدة أم تفكير عميق فإنه مثل كأبسطه وأقربه إليكم بين كافة الأمثال وهو :

(هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) يشاركونكم فيما تملكون ، رغم أنهم أنفسهم مما تملكون (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) كشركاء سواء فيما يتصرفون ، ثم «تخافونهم» في المزيد من التصرف فيما تملكون (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أنتم المالكين في أموال مشتركة بينكم؟

وذلك سئوال التنديد التجهيل عمن يشركون بالله خلقه فيما يختص بالله من ربوبية ، لهم ما لله من التصرف في ملكه ، فيخافهم الله كما يخاف من شريك ، رغم ان الشركة بين المالكين والمماليك امر ممكن ، وبالنسبة لله

__________________

(١٦) نور الثقلين ٤ : ١٨٠ في كتاب التوحيد باسناده الى حنان بن سدير عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه : وقوم وصفوه بيدين فقالوا : يد الله مغلولة ـ وقوم وصفوه بالرجلين فقالوا : وضع رجله على صخرة بيت المقدس فمنها ارتقى الى السماء ووصفوه بالأنامل فقالوا : ان محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : اني وجدت برد أنامله على قلبي ، فلمثل هذه الصفات قال : رب العرش عما يصفون ـ يقول : رب المثل الأعلى ...

١٤٦

مستحيل ذاتيا وصفاتيا.

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) الدالة على التوحيد (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) آياته تعالى ويتدبرون.

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ٢٩.

ليس انهم اتبعوا عقولهم في اتخاذهم لله شركاء (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) في هذه القسمة الضيزى ألّا يرتضوا لأنفسهم شركاء من مماليك ، ثم يفرضون لله شركاء.

اتبعوا هؤلاء «أهواءهم» دون عقولهم ، اتّباعا (بِغَيْرِ عِلْمٍ) فحتى لو اتبعوا أهواءهم بعلم ما كانوا مشركين ، وذلك هو الضلال البعيد.

إذا (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) فإنهم زاغوا باتباعهم أهواءهم بغير علم مقصرين (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) واضلها أن ختم عليها بكفرهم فهم لا يهتدون «وما لهم» حين يضلهم الله «من ناصرين» يهدونهم الى الحق.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً

١٤٧

كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ

١٤٨

مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٤٥)

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ٣٠.

تأتي «فطر» بمشتقات لها في آياتها العشرين ، وما أتت (فِطْرَتَ اللهِ) إلّا في هذه اليتيمة المنقطعة النظير ، مهما نجد الكثير من احكام الفطرة كما هنا في الآية (٣٣) ثم وأشباهها في سائر القرآن.

لذلك فحق لها ان تنفرد ببحث فذّ وقول فصل ، تحوم حولها كافة

١٤٩

البحوث حول الفطرة وميزاتها وأحكامها ، حيث تظهر في مسارح البراهين كاقوى برهان يصدع به القرآن ، حيث لا تقف له القلوب ، ولا تملك رده النفوس ، تلك الحجة البالغة التي تتبناها الفكر والعقول ، ومن ثم كافة الرسالات الإلهية في كل الحقول ، ولولاها لسقطت الحجج عن بكرتها ، وتساقطت البراهين عن برهنتها ، ولأنها أعمق الآيات الأنفسية واعرقها ، حيث تتبناها سائر آياتها ، كما تتبناها الآيات الآفاقية كلها.

فالفطرة هي رأس الزاوية من مثلث الإنسانية بدرجاتها ، ثم الزاوية العاقلة تتبناها وتتكامل على أسها وأساسها ، ومن ثم الثالثة : الشرعة الإلهية هي صبغتها الكاملة السابغة.

الإنسان أيا كان حين يفقد العقل ـ وبطبيعة الحال يفقد الشرعة المتبنّية للعقل ـ ليس ليفقد الفطرة على أية حال ، حال أن العاقل قد يفقد الشرعة ويضل عنها ، فالفطرة حجة ذاتية لا تتخلف ولا تختلف في أصحابها ، ثم العقل تستبطنها وتستنبطها وتوسّع مدلولها ، ومن ثم الشرعة الإلهية ترشدهما إلى تفاصيل مجهولة لديهما وتكملهما جملة وتفصيلا ، فالفطرة حجة اجمالية بسيطة ، والعقل حجة متوسطة وسيطة ، والشرع حجة موسّعة محيطة ، تصل بهما إلى أعلى معاليهما (١٧).

__________________

(١٧) الدين واحد والشرعة هي عدة متشرعة عن الدين الواحد ، ثم الدين أصله دين الفطرة ومن عمالها العقل ، ثم أقوى منهما دين الوحي المخطئ للعقل والمكمل لأحكام الفطرة وقد زوّد به آدم (عليه السلام) إذ لم تشرع له شرعة تفصيلية.

ثم المرحلة الثالثة من الدين هو دين الشرعة ، المحتفظ بأحكام الفطرة ، المقررة بإثبات الواجبات والمحرمات ، والمفرع لكلّ شرعة ومنها بها حسب الحاجيات الوقتية حتى الشرعة الأخيرة التي هي الدين كله بكل التفاصيل الخالدة.

١٥٠

هنا (فِطْرَتَ اللهِ) ذات نسبتين واربع صفات ، نسبة إلى الله : (فِطْرَتَ اللهِ) وأخرى إلى الناس : (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) وقد احتفتها اربع صفات : (لِلدِّينِ حَنِيفاً) قبلها و (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) بعدها.

فنسبة الفطرة الى الله توحي بأنها ليست إلّا من صنع الله ، لا صنع ولا تأثير ولا تبديل فيها لغير الله ، كيف وهي ـ فقط ـ خلق الله و (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) فهي وحي تكويني إلى اعمق اعماق ذوات الناس ، كظرف صالح للوحي التشريعي ، وهنا التطابق التام بين كتابي التكوين والتشريع بحق الناس ، فالتشاريع الإلهية كلها تفاسير وتفاصيل لها أجمل في الفطرة ، لذلك فالحق يقال : إن دين الله فطري إذ يتبنّى الفطرة ، ومؤلف الكتابين خلقة وشرعة هو الله الواحد القهار!

ومن ثم نسبة الفطرة الى الناس وبهذه الصيغة السائغة (فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) توحي أنها الأصل والناس فرع عليها ، فكما النطفة هي أصله في البعد الجسماني ، كذلك الفطرة هي أصله في بعده الروحي الانساني.

إم إنّ «عليها» ايحاء بان الفطرة ليست مجعولة بجعل ثان بعد الروح ، بل هي مجعولة بجعل الروح ، وعلّ الأول أوحى حيث يتضمن أصالتها والروح فرع لها وإن كانا مجعولين بجعل واحد ، بل هما أصلا وفرعا واحد إذ لا يتفارقان.

وقد أمرنا بإقامة الوجه لها رخاء ولا نكون من المشركين هنا ، وبصيغ اخرى كما في غيرها : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ

__________________

ـ فأول نبي بعث بشرعة من الدين هو نوح وآخرهم الرسول الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

١٥١

اللهِ)(٣٠) (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠ : ١٠٥) (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٢ : ٤٠).

وهنا عرفات سبع تصد عن جهالات سبع ، تحملها آية الفطرة بمواصفاتها الست ، فرضا لمنطلق الدعوة : الرسول الأعظم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) (فَأَقِمْ وَجْهَكَ ..) وإلى الناس أجمعين كضابطة سارية تعم كافة المكلفين : (فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها).

والصاروخ الركوب ، المنطلق به بينها في هذه الرحلة للطائر القدسي الإنساني هو (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) وسائر السبع زاده في طريقه الشاقة الطويلة المليئة بالأشلاء والدماء.

وهذه الست المستفادة بسابعها من آية الفطرة هي : ١ ـ معرفة النفس ، ٢ ـ وحبها ، ٣ ـ ومعرفة الوجه ٤ ـ ودينه ، ٥ ـ وحنافته ، ٦ ـ وإقامته ، ٧ وسابعها هي الفطرة.

فما لم تعرف نفسك كما هي حسب إمكانيتك لم تحبّها كما يصح ويحق ، ومن ثم تتعرف إلى الدين القيم ، وإلى الوجه وإقامته ، وإلى الحنافة نفسا ودينا ووجها وإقامة أماهيه ، فتكمل سفرتك إلى الله بمنطلق الفطرة التي فطر الله ، فإلى التنقيب عن آيتها جملة وتفصيلا ، ابتداء بجملتها :

«فأقم» يا رسول الهدى في معترك العقائد والآراء بين هابطة حابطة خابطة ، وبين صالحة عاقلة رائعة بما لها من حجج بالغة ، فانه (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٢٧ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ٢٨ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ

١٥٢

فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ٢٩ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ...) كأوّل قيام وأولاه وأعلاه فانك (أَوَّلُ الْعابِدِينَ) وأولى القائمين : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ ..) ـ (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ..) فقيامك هو الذي يقوّم الجماهير ويقيّمهم ..

(فَأَقِمْ .. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) واقامة تجعلك أول القائمين ، ومن ثم الى الناس أجمعين ..

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ) ايها الإنسان السالك إلى ربك «للدين» الذي ارتضاه لك «حنيفا» : مائلا عن الضلالة إلى الاستقامة ، فانه الحنف خلاف الجنف ميلا عن الاستقامة إلى الضلالة ، «حنيفا» في نفسك وفي وجهك وفي إقامتها وفي الدين الذي تدين به ، فانها مربع الحنافة في هذه الإقامة البارعة ، ومن الدين الحنيف :

(فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) فالدين الحنيف الذي هو الغاية القصوى في هذه السفرة الإلهية ، هو التوحيد ، وأفضل ركوب في تلك الرحلة هو (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) لا أنها ـ فقط ـ الدين الحنيف ، لذلك (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) لا «إلى الدين» وانما إقامته «إلى» تنطلق من (فِطْرَتَ اللهِ).

وعلّ النصب في (فِطْرَتَ اللهِ) خلاف الجر في «للدين» للتدليل على أنها ليست هي ـ فقط ـ الدين حنيفا ، وإنما هي من الدين ومنطلقه الأوّل ، كآية أنفسية أولى ، ليست قبلها ولا معها أيّة آية أنفسية يبتدء السالك منها ، وينطلق عنها إلى الدين القيم الحنيف ، الشرعة الإلهية الكاملة ، والتوحيد الخالص الناصع.

فقد يعني نصبه نصبه المنصب الأوّل في إقامة الوجه للدين : أعني

١٥٣

فطرت الله ـ الزم فطرت الله ـ أخصّ من الدين الحنيف فطرت الله ، أمّاذا من ناصبات مناسبات؟

(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) ـ «خلق الله» هنا ليس كل خلق الله فان منها ما يبدّل بحق أو باطل كما هدد الشيطان : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ..). فما هو إلّا دين الفطرة حيث الدين الشرعة هو من الأمر وليس الخلق (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فمهما كان في سائر الدين تبدّل أو تبديل ، كدين العقل والشرعة من الدين ، في حق أو باطل ، كالعقل الضائع أو الذي تصيبه جنة قاصدة أو قاصرة ، وكالشرعة المحرفة أو المنسوخة ، ولكن دين الفطرة لا تبدّل فيه ولا تبديل ، لأنه المنطلق الأصيل الدائب لدين العقل والشرعة.

(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ) الإقامة بوسيط الفطرة هو (الدِّينُ الْقَيِّمُ) الذي لا زوال له ولا اضمحلال ، إذ لا ريب فيه ولا نقصان أو بطلان يعتريه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) مثلث الدين ، فطرة وعقلية وشرعة ، ولا وجها ولا إقامة ولا حنافة ولا قيمومة ، متورطين في مسبّع الجهالات ، ولذلك لا ينجون في الحياة مهما شرّقوا أو غرّبوا ، حيث غربت عقولهم وحجبت فطرهم.

هذا إجمال عن مغزى الآية ومن ثم التفصيل ، ولنبدء برأس الزاوية في مسبع العرفات : (فِطْرَتَ اللهِ) وهي كلها رءوس الكمالات الإنسانية وجماع فضائلها وفواضلها :

الفطرة هي حالة خاصة من الفطر ، وهو الشق (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٦٧ : ٣) والفطور هو الفروج

١٥٤

والشقوق والفتوق والخروق ، انفصالات متهافتة متفاوتة في خلق الرحمن تحيلها آية الفطور ، والفطر بين شق صالح فوصله صالح ، وبين شق صالح عن فصل طالح ، وخلق الرحمن كله شق صالح ك (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) وقد فلق حب الإنسان ونواه فطرا صالحا بفطرة هي الدين الحنيف القيم.

ثم ذلك الشق في الفطر له ميّز الابتداء الابتداع (١٨) دون مجرد الخلق الأعم من مبتدء مبتدع ، ففيه ـ إذا ـ أوّليتان اثنتان بدء وبدعا ، خلاف سائر الخلق بعد الأولية وغير المبدعة إذ تخلق على مثال ما خلق مثله أوّل مرة ، ولمحة صارحة صارخة لهذه الميّزة في الفطر : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١٧ : ٥١) حيث الفطر المقابل للإعادة يناسبه البداية ، وليست الإعادة فطرا كما (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣٦ : ٢٢) حيث الرجوع العود يقابل الفطر فهو البدء (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٢١ : ١٠٤) ، ثم الفطرة هي هيئة وحالة خاصة من ذلك الفطر خصت في آيتها بالناس كما اختصت بالله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها).

إذا فللفطرة في خلق الناس الأولية المتينة المكينة ، المبدئة المبدعة المزيجة بأصل ذاته ، المدغمة في إنّياته لمكان (فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) دون «فطرها على الناس» أو «فطر معها الناس» أمّاذا من تعابير تجعلها فرعا على ذوات الناس ، ام موازية في فطر الناس ، وانما (فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) مما يبرهن انها رأس الزاوية من كون الناس وكيانهم ، القاعدة الأصيلة من الإنسان أيا كان بقلبه وقالبه.

فكما أن للإنسان كيانا حيوانيا أصيلا تتبناه أجزاءه وأعضاءه ، وهي

__________________

(١٨) لسان العرب عن ابن الأثير الفطر الابتداء والاختراع والفطرة منه الحالة.

١٥٥

النطفة التي خلق منها ، كذلك ـ وباحرى ـ له كيان إنساني اصيل تتبناه روحه وعقله وصدره وقلبه ولبه وفؤاده ، ألا وهي (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها).

وهذان البعدان هما جوهر إنسانية الإنسان كمزيج من حيوان وإنسان ، والبعد الأصيل بينهما هو بعد الفطرة ، ومن ثم بعد النطفة ، وقد تعنيها آية الذر في «ذريتهم» : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (٧ : ١٧٣) فذريتهم هي فطرتهم تعبيران عن حقيقة واحدة كما في روايات متظافرة (١٩) وتلمح لذلك كصراحة آية الذرية ، وقد نأتي على بحثها كما يناسب بحثنا حول آية الفطرة.

وانها ذرية الأرواح ، أعمق أعماقها وهي الفطر ، فكما للأجسام ذريات هي النطف التي خلقت منها ، كذلك للأرواح ذريات هي الفطر التي فطر الناس عليها ، ومن الفارق بين الذريتين ان ذرية الفطرة لا تتبدل وذرية النطف تتبدل ، وقد فطر الله الأجسام على ذريات النطف ، وفطر الأرواح على ذريات الفطر ، والذريتان هما أصل الإنسان في بعدية ، وسائر أجزاءه الروحية والبدنية فروع ، مهما تأصلت في فترة التكليف.

وميثاق : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) بإجابته : (قالُوا بَلى) هو ميثاق تكويني

__________________

(١٩) نور الثقلين ٤ : ١٨٤ ح ٥٣ عن اصول الكافي باسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن قول الله عز وجل : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) ما تلك الفطرة؟ قال : هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد قال الست بربكم وفيه المؤمن والكافر.

١٥٦

على فطرة الله التي فطر الناس عليها حيث «فطرهم على التوحيد عند الميثاق» (٢٠) ، وهو رؤيته تعالى بالقلب (٢١).

فطرة الإنسان باقية ما دامت له باقية مهما فقد جسمه وعقله ، فانها لزام الروح الإنساني حيث (فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) ولولاها لم يكن ناس ، فهي تلازم حياته الإنسانية تعيشها وتعيّشها كإنسان ، ولذلك تجب إقامة الوجه لها بكل وجوهه ، فانها أصل الدين الحنيف القيم وجذره (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

__________________

(٢٠) المصدر ٣ : ٩٦ ح ٣٥٢ في كتاب التوحيد باسناده المتصل عن زرارة قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) أصلحك الله قول الله عز وجل في كتابه (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)؟ قال : فطرهم على التوحيد عند الميثاق وعلى معرفة انه ربهم قلت : وخاطبوه؟ قال : فطأطأ رأسه ثم قال : لو لا ذلك لم يعلموا من ربهم ولا من رازقهم.

أقول : لو لا ذلك يعني فطرهم على التوحيد ، فليس مقاولة ومسائلة فانها لا تضمن المعرفة ، وانما تبني الذات على المعرفة هو الذي يضمن المعرفة.

(٢١) المصدر ٩٧ في كتاب التوحيد باسناده الى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له اخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمن يوم القيامة؟ قال : نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة فقلت متى؟ قال : حين قال لهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ثم سكت ساعة ثم قال : وان المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة الست تراه في وقتك هذا؟ قال ابو بصير فقلت له جعلت فداك فأحدث بهذا عنك؟ فقال : لا فانك إذا حدثت به فأنكر منكر جاهل بمعنى ما تقول ثم قدر ان ذلك تشبيه كفر وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون.

أقول : وليست الرؤية المعرفة القلبية بصرف المسائلة.

وفيه ج ٣٦٢ عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) قالوا بألسنتهم؟ قال : نعم وقالوا بقلوبهم فقلت واي شيء كانوا يومئذ؟ قال : صنع منهم ما اكتفى به.

١٥٧

والدين الحنيف القيم الذي لا تبدّل له ولا تبديل هو كلمة التوحيد «لا إله لا الله» كما وآية الفطرة وآيات اقامة الوجه للدين الحنيف القيم ، فيها كلا السلب والإيجاب التوحيدي ، فهنا (حَنِيفاً .. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هما سلب : لا إله ـ و (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) هما الإيجاب : إلّا الله.

اجل ـ إن (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) هي (دِينِ اللهِ)(٢٢) الحنيف القيم الذي لا بديل عنه ولا تبديل له ، وهي المعرفة (٢٣) وهي التوحيد (٢٤) وهي الإسلام (٢٥) وهي الولاية (٢٦) وهي كلها واحدة :

عباراتنا شتى وحسنك واحد

وكل إلى ذاك الجمال يشير

ف (دِينِ اللهِ) هو معرفة الله ، وهي ولاية الله ، وهي الإسلام لله ،

__________________

(٢٢) الدر المنثور ٥ : ١٥٥ ـ اخرج عن جماعة قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فطرة الله التي فطر الناس عليها قال : دين الله.

(٢٣) نور الثقلين ٤ : ١٨٤ ـ القمي باسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله عز وجل : حنفاء لله غير مشركين به قال : الحنيفة من الفطرة التي فطر الله عليها لا تبديل لخلق الله ـ قال : فطرهم على المعرفة به ..

(٢٤) المصدر ١٨٣ ـ اصول الكافي باسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في آية الفطرة قال : فطرهم على التوحيد ورواه مثله عنه هشام بن سالم وعبد الله بن سنان والعلاء بن فضيل ، وفيه عن زرارة عنه (عليه السلام) مثله باضافة «جميعا».

(٢٥) المصدر باسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن الآية ما تلك الفطرة؟ قال : هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد قال : الست بربكم وفيه المؤمن والكافر.

(٢٦) المصدر ـ اصول الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : هي الولاية.

١٥٨

وهي توحيد الله ، فلا تعني خماسية العبارة إلّا أنه (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ)(١) ثم المعاد والرسالة ومن ثم ولاية الأئمة (٢) و «إلى هاهنا التوحيد» (٢٩) كلها تحور

__________________

(٢٧ ، ٢٨) المصدر الكافي عن القمي حدثنا الحسين بن علي بن زكريا قال حدثنا الهيثم بن عبد الله الرماني قال حدثنا علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن أبيه عن جده عن أبيه محمد بن علي (عليه السلام) في الآية قال : هو لا إله إلا الله محمد رسول الله علي امير المؤمنين ولي الله الى هاهنا التوحيد ورواه مثله في بصائر الدرجات عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية فقال «على التوحيد ومحمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي أمير المؤمنين (عليه السلام) وفي التوحيد رواه مثله عن عبد الرحمن مولى أبي جعفر عن أبي عبد الله (عليه السلام).

(٢٩) الدر المنثور عن جماعة عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء قالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال (ص) : ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء.

وفي تفسير الطبري بإسناده عن الأوسد بن سريع من بني سعد قال : غزوت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاشتد عليه ثم قال : ما بال أقوام يتناولون الذرية فقال رجل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أليسوا أبناء المشركين؟ فقال : أن خياركم أبناء المشركين إلا أنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها» قال الحسن : لقد قال في كتابه (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ).

ولقد روى حديث الفطرة باختلاف يسير كما هنا في صيغها ووحدة في سوقها جماعة كما في المعجم المفهرس للحديث النبوي ج ٥ : ١٨٠ : «ما جاء في» كل مولود يولد ، ولد على الفطرة ، كل نسمة تولد على الفطرة في جنائز ٩٤ دسنة ١٤ ـ ت قدره ، ط جنائز ٥٢ ، حم ٣ ، ٢٣٣ ، ٢٧٥ ، ٣٩٣ ، ٤١٠ ، ٤٨١ ، ٣ ، ٣٥٣ ،

١٥٩

على محور ولاية التوحيد ومعرفته ، منه تصدر وإليه تعود ، فنكران سائر الأصول ليس إلّا حصيلة نقصان أصلها الأصيل : معرفة الله بتوحيده بولاية الله في الإسلام له ، وجماعها (دِينِ اللهِ) كما تدل عليه فطرت الله ، كأصيل ، والعقل كوسيط ، والشرعة تفصيل.

ولقد أجملها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : في قوله «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ..» وهذه ثالوث الشرك بمختلف صوره ، تجسيدا لله وتبنيا منه تهويدا ، وتثليثا معهما تنصيرا ، وتثنية له انه والنار إلهان اثنان تمجيسا ، فكافة الخرافات الشركية لاصقة لاحقة على أهلها ، والأصل الثابت والدين الحنيف القيم لها هو التوحيد قضية (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها).

وقد تعني «الولاية» هنا ولاية التوحيد والعبودية وولاية التكوين والإعادة وولاية التشريع ، فهي تجمع الأصول الثلاثة ، ثم ولاية الأئمة كفرع من ولاية الشرعة الرسالية ، و «إلى هاهنا التوحيد» كما مضت في رواية.

فآية الفطرة تأمرنا بمطالعة كتابها ، ومن ثم الآيات التي تستجيش العقول ان تعقل ، تأمرنا بمطالعة كتاب العقل ، والوجه الروحي المأمور بإقامته للدين حنيفا هو وجه الروح والعقل والصدر والقلب واللب والفؤاد ، وعلى هامشها وجه الحس ، وهذه السبع تقام للدين حنيفا ابتداء بكتاب الفطرة وإنهاء الى كتاب الشرعة ، والعقل هو الوسيط في هذه الرحلة ، مهما كان وجها من الوجوه السبعة.

نحن نجد أصول المعارف الإلهية في كتاب الفطرة ، كما ونجد كل صغيرة وكبيرة من عقائد وأقوال واعمال خيرة وشريرة ، مرتسمة في كتاب

١٦٠