الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ٩.

وإذا لم يعلموا هم في أنفسهم إلّا ظاهرا من الحياة الدنيا إذ لم يتفكرا فيها فغفلوا عن الأخرى (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) سيرا آفاقيا بعد التغافل عن السير الأنفسي «فينظروا» نظر التعقل والتفكير والإعتبار (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من المشركين أضرابهم ، أن أخذهم عذاب الهون بما كانوا يكسبون وقد (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) عدّة وعدّة (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) إثارة الزرع والعمار «وعمروها» بمختلف العمار (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) وهم كما أنتم (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) فجحدوا بها (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أن يعذبهم دون حجة (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بما كذبوا وما عذّبوا.

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) ١٠.

«عاقبة» خبر مقدم ل «كان» فقد يكون اسمها «السوأى» ام «ان كذبوا» و «السوأى» مفعول أساءوا ، وهي كالحسنى وضدها في المعنى ، مؤنث الأسوء : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤١ : ٢٧) (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) (٣٩ : ٣٥).

فالمعنى على كونها الاسم المؤخر أن عاقبتهم أسوء من حاضرتهم ، فحياتهم الحاضرة سيئة بكفرهم وعذاب الاستئصال ، والحياة العاقبة لهم من الرجعة والبرزخ والقيامة هي السوأى ، أن كذبوا بآيات الله ، فقد كان السوأى عاقبتهم بما كذبوا ، وليست السوأى هي الأسوء من سوئهم لأنه خلاف (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) بل هي الأسوء من دنياهم ، رغم انها دار الحيوان.

١٢١

وعلى الثاني ، ثم كان التكذيب بآيات الله عاقبة الذين أسئوا السوأى ، ان خلّفت سوآهم في سيئاتهم أن كذبوا بآيات الله.

ولكن «السوأى» لا تصلح مفعولا ل «أساءوا» فانها لا تساء إلّا تحصيلا للحاصل بل الأحصل ، ثم التأنيث لا يناسب المقام ، بل هو ـ إن صح ـ أساء الأسوء ، اي : عملوا الأسوء ، كما (لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ).

فالتعبير الصحيح الفصيح عن مفعولية «السوأى» هو «عملوا الأسوء» تبديلا لكل من الفعل والمفعول ، ثم يبقى ـ إذا ـ (وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) عطفا لا يناسب السبب «ان كذبوا» لأنه مع «السوأى» ردفا مفعوليا ، لا مع «كذبوا» ردفا سببيا.

إذا فالاسمية لها هي المتعينة ، ان الحياة السوأى هي عاقبتهم في رجعة ثم برزخ ثم القيامة الكبرى ، رغم ان الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ، وقد بدلوها بسوأى الحياة بما كانوا يعملون.

ان التكذيب بآيات الله والاستهزاء بها هما الحياة الجهنمية في الأولى ، حيث يخلّفان أسوء الأعمال بأسوء الأحوال ، فعاقبتهم هنا عذاب الاستئصال ، وهي الجهنمية الأولى ، (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا) هكذا وابتلوا باستئصال هي «السوأى» التي تعقبهم بعد الموت ، برزخا ورجعة وقيامة كبرى ، خلاف ما (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ).

و «ان كذبوا ..» قد تكون بيانا ل «أساءوا» دون حاجة إلى تقدير ام سببا ل «السوأى» ام هما معنيان جمعا بينهما ، ان إساءتهم هي تكذيبهم واستهزاءهم ، وهي هي السبب ان كان عاقبتهم السوأى ، وهي أسوء العواقب على الإطلاق دون مفضل عليه هو السوء في الدنيا ، ام بمفضل عليه

١٢٢

هو عذاب الاستئصال بتكذيبهم ، وعلّهما معا معنيّان ، ولمعرفة العاقبة السوءى للذين أسئوا وكذبوا بآيات الله ، يؤمرون ان يسيروا في الأرض ، دون انعزالية عن ذلك السير المبصر المذكر ، ساكنين في أمكنتهم كالقوقعة ، ام سائرين في الأرض حيوانيا وشهوانيا ، وانما هو السير الإنساني العاقل الكافل بالإبصار لهؤلاء الغافلين عن المساير والمصاير.

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ١١.

منه البداية ومنه الإعادة والرجوع اليه في النهاية ، إعادة إلى حياة في الأخرى ، ثم رجوعا إلى الله جزاء حسابا ، ثوابا وعقابا ، والبداية هنا هي أعم من الإعادة حين يعنى منها الإعادة للحساب كما تؤيده (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أم هما سيان ، حيث يبدأ كل خلق ثم تقوم قيامة الإماتة والتدمير ، الشاملة لكل خلق ، ثم يعيد الله كل الخلق قسما للرجوع إليه حسابا ، وقسما بلا حساب ، بل هو أمكنة السكنى لهم كما في الحياة الدنيا ، مهما كانت أوسع كما الآخرة هي أحيا منها.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ١٢ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) ١٣.

الإبلاس هو الإياس مع حيرة ، وتراه كيف يختص ب (يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) وهم آيسون في البرزخ كما عند الساعة؟ علّ الساعة هنا هي ساعة الموت مستمرة إلى ساعة الساعة فهم فيها ككل مبلسون! ام ان إبلاسهم في البرزخ برزخ من الإبلاس وهو إياس مع رجاء ، إذ لم يجزوا بعد جزاءهم الأوفى ، فقد يبقى لهم رجاء إلى رحمة الله حيث يرون خفيف العذاب ، ويوم تقوم الساعة يتم إبلاسهم بما يرون من شديد العذاب ومديده ، فاليوم إذا هو يوم الإبلاس الإفلاس وقد فات رجاء الخلاص ولات حين مناص ، ولم يكن في

١٢٣

البرزخ كامل الإبلاس ، ولم يكن إياسه ـ إذا ـ إبلاسا ، إذ كان معه رجاء! واضافة إلى ذلك الإبلاس الإياس (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) وقد كانوا يرجون شفاعتهم فانقطع الرجاء ، إياسا بعد إياس.

وقد تعني «يبلس» كلا الإبلاسين ، من الله ومن شفعائهم (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) أتراهم كانوا بهم كافرين يوم الدين؟ وصحيح التعبير وفصحيه «كفروا بشركائهم» أو «يكفر بعضهم ببعض»!

ام «كانوا» قبل الساعة» يوم الدنيا؟ وقد كانوا بهم مؤمنين يرونهم شفعاءهم عند الله! قد تعني «كانوا» بين النشأتين وهم في البرزخ حيث يكفرون هناك بشركائهم ، ولكن كفر معه رجاء حيث الشفاعة سلبية وإيجابية لا تظهر إلّا يوم القيامة ، ففيه (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) والحال أنهم «كانوا» قبله بشركائهم كافرين.

ام ان «كانوا» تعبير ماض عن مستقبل متحقق الوقوع ، عناية إلى كفرهم بهم يوم الدين ، ام هي تشمل كفرهم بهم في البرزخ والأخرى.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) ١٤.

هؤلاء المجرمون يتفرقون عن المؤمنين : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (٣٦ : ٥٩) خلاف ما كانوا يحسبون : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٤٥ : ٢١).

كما هم يتفرقون فيما بينهم وبين شركائهم ، وبينهم وبين أنفسهم ، تفرقا عن الحب يوم الدنيا ، حيث (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٤٣ : ٦٧) فتفرق الفرار بعضهم عن بعض (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (٨٠ : ٣٦) وتفرقا في دركاتهم هناك حسب

١٢٤

دركاتهم في الأولى ومن التفرق الأول :

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) ١٥.

الروضة هي مستنقع الماء والخضرة وهي في الجنة : (... وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٤٤ : ٢٢) و (رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) هي محاسنها وملاذها بمياهها وخضرها وسائر مشتهياتها مادية وسواها.

و «يحبرون» من الحبر : الأثر المستحسن ، فقد تعني انهم يظهر عليهم حبار نعيمهم ككلّ من ملاذ سمعية وبصرية وذوقية ولمسية وشمية أمّاهيه من مادية أو روحية دون إبقاء ، فإنهم هناك ضيوف الله وفي دار كرامة الله ، فلا حدّ لحظوتهم.

ليس انهم يلتذون بما كان محرما عليهم يوم الدنيا ، بل بالحلّ المستدام بكل وئام وإكرام وقد «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا كان يوم القيامة قال الله : اين الذين كانوا ينزهون أسماعهم وأبصارهم عن مزامير الشيطان ميزوهم في كثب المسك والعنبر ثم يقول للملائكة أسمعوهم من تسبيحي وتحميدي وتهليلي ، قال : فيسبحون بأصوات لم يسمع السامعون بمثلها قط» (٦).

__________________

(٦) الدر المنثور ٥ : ١٥٣ ـ اخرج الديلمي عن جابر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ... وفيه اخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة قال قال رجل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اني رجل حببت إلى الصوت الحسن فهل في الجنة صوت حسن؟ فقال : اي والذي نفسي بيده ان الله يوحي الى شجرة في الجنة ان اسمعي عبادي الذين اشتغلوا بعبادتي وذكرى عن عزف البرابط والمزامير فترفع بصوت لم يسمع الخلائق بمثله من تسبيح الرب وتقديسه ، وفيه اخرج الحكيم الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من استمع إلى صوت ـ

١٢٥

اجل وليس الصوت الحسن محرما هنا لحسنه ، وانما هو الملهي حسنا وسواه ، وهو مزمار الشيطان (٧) دون ذكر الرحمن في قرآن وسواه حيث التحسين فيه مرغوب مرحوب ، وتلك هي ضفة الايمان :

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) ١٦.

واين محضرون في العذاب ومحبرون في روضة الثواب؟ رحمة على رحمة وعذابا فوق العذاب؟

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ١٧ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) ١٨.

«سبحان» اسم مصدر وهو التسبيح وقد جعل علما له ويستعمل استعماله ، ولكن حاصل المصدر ملحوظ معه على أية حال ، وهو هنا مفعول محذوف هو طبعا سبّحوا أو أسبح ام هما ، ان الله يسبح نفسه تنزيها عما لا

__________________

ـ غناء لم يؤذن له ان يسمع الروحانيين في الجنة ، قيل ومن الروحانيون يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : قراء أهل الجنة.

(٧) نور الثقلين ٤ : ١٧١ عن المجمع بسند متصل عن أبي امامة الباهلي ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ما من عبد يدخل الجنة إلا ويجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتان من الحور العين تغنيانه بأحسن صوت سمعه الانس والجن وليس بمزمار الشيطان ، ولكن بتمجيد الله وتقديسه». وفيه عن أبي الدرداء قال كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يذكر الناس فذكر الجنة وما فيها من الأزواج والنعيم وفي القوم اعرابي فجثا لركبته وقال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هل في الجنة من سماع؟ قال : نعم يا اعرابي ، ان في الجنة نهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعم الجنة ، قال الراوي سألت أبا الدرداء بم يتغنين؟ قال : بالتسبيح.

١٢٦

يناسب ساحته ، ويأمرنا كذلك ان نسبحه كما سبح هو نفسه ، ولكن (حِينَ تُمْسُونَ) تؤصّل تسبيحنا له إذ هو تعالى لا يسبح نفسه ـ فقط ـ في هذه الأوقات ، وإنما نحن نسبحه فيها كما هو يسبح نفسه دوما ودونما انقطاع بآياته الآفاقية والأنفسية إمّا هيه من خلقه تسبيحا منفصلا ، كما وان ذاته وصفاته ذاتية وفعلية تسبيحات لنفسه المقدسة.

«فسبحان» هنا تفريع على ما قدّم من مشاهد الدنيا والآخرة لضفّتي الايمان والكفر ، بفوز المؤمنين أنهم (فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) وخوض الكافرين في الجحيم انهم (فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) ، إذا كانت عاقبة الذين أسئوا السوأى وعاقبة المؤمنين الحسنى (فَسُبْحانَ اللهِ) ايها المؤمنون ...

(فَسُبْحانَ اللهِ) هنا يحلّق على الأوقات الرئيسية المؤقتة للمفروضات الخمس الرئيسية ، وعلى هوامشها سائر الأوقات حيث تتبعها.

(وَلَهُ الْحَمْدُ) تختص الحمد لله بالله في كل مكان المعبر عنه بالسماوات والأرض ، وقد توسطت (لَهُ الْحَمْدُ) لأمكنتها بين سبحان الله في أزمنتها ، تحليقا للحمد له على كل زمان ومكان دون إبقاء ، فهي جملة معترضة في أدب اللفظ ، وصحيحة بدورها في حدب المعنى.

ولأن (فَسُبْحانَ اللهِ) هي بإمكان المكلفين بها ككلّ ، تاتي هنا بظاهرة الأمر ، ولكن الحمد لله ليست هي بإمكان الكل لأنها وصف له ايجابي ف (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٣٧ : ١٥٩) تأتي هنا الظاهر الخبر (وَلَهُ الْحَمْدُ) وما أجملها في صيغة التعبير ، وما ارتبهما في ترتيب الذكر العبير ، مهما دلت آيات اخرى على فرض التسبيح بالحمد ، وقد تعني هذه الأوقات الأربع الخمس من أوقات الفرائض الخمس بضم العشائين مع بعض في «عشيا» الشامل لطول الليل ، الحاوي لفرضيه ، دون «تعشون»

١٢٧

المختص ببداية الليل الخاصة بفرضه الأوّل : المغرب ، وهذا هو السبب لاختلاف «عشيا» اسما عن الثلاثة الأخرى «تمسون ـ تصبحون ـ تظهرون» أفعالا.

ف (حِينَ تُمْسُونَ) هي العصر المحدّد في النهاية بغروب الشمس ، كما (حِينَ تُصْبِحُونَ) هي الفجر المحدد بطلوعها : «وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومنءانائ الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى» (٢٠ : ١٣٠) ـ (.. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (٥٠ : ٤٠).

هنا وهناك نؤمر بالتسبيح بالحمد ، حيث التسبيح وهو الأصل في ذكر الله في صلاة وسواها ، انه يستكمل بالحمد ، ان نحمده مسبحين إياه عما لا يحمد حمده به من صفات زائدة على الذات ، أو محدودة بحدود أفكارنا وعقولنا ، فحين نقول «لا يجهل» فقد سبحناه مجردا ، وحين نقول «هو العالم» علينا ان نحوله إلى أنه لا يجهل ، فالأصل الشامل في حمدنا له هو تسبيح بالحمد ، الراجع إلى سلب ، كما التسبيح المجرد سلب ، فلا نملك تجاه الله إلّا معرفة السلبيات ولا سبيل لنا إلى تفهم ايجابيات الصفات لا الذاتية منها ولا الفعلية ، اللهم إلّا طرفا منها سطحيا حين نسبر اغوار الكون في آياته الآفاقية والأنفسية.

(حِينَ تُمْسُونَ) هنا هي وقت العصر ، وعلّه يتقدم هنا على سائرها حيث الإنسان خالص ـ في الأكثر ـ عن أشغاله فيه ، فعليه أن يسبح الله فيما حصل وما هو حصّل ، أن ليس من الله في أيّ منهما قصور أو تقصير.

ثم (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) علينا أن نسبّحه حين ندخل في الصباح وهو الفجر الصادق ، ونتبنى الفجر الى العصر وإلى فجر آخر تسبيحا لله.

١٢٨

ثم بينهما وهما ركنا الأوقات الخمسة «وعشيا» بالعشائين المفصول بينهما بقدر وهو ساعة أو سويعات كما يستفاد من آية النور (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ..) ، ثم بين الفجر والعصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) والإنسان غارق في خضمّ الأشغال ، مارق عن عبادة ربه بطبيعة الحال ، فليحلّق التسبيح بحمد الرب هذه الأوقات الرئيسية على مختلف درجاتها ودرجات الصلوات فيها ، وأفضلها حسب آية الأسرى قرآن الفجر ، وضمن آية الصلاة الوسطى صلاة الظهر ، ام صلاة الجمعة الوافية للظهر ، وعلى حد المروي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الآية هي الصلوات التي امرني ربي بها (٨).

كما يحلق حمده على كل الكائنات (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ

١٢٩

وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ

١٣٠

الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٢٩)

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ١٩.

سنة دائبة ربانية لا تني وتفشل لحظة واحدة ، خارقة مكرورة على اية حال قد لا نحسبها خارقة لطول الألفة ، وهي إخراج الحي ـ نباتيا أو حيوانيا أو انسانيا ـ من الميت ، وإخراج الميت كذلك من الحي ، بصورة عامة في كل

__________________

(٨) نور الثقلين ٤ : ١٧٢ في من لا يحضره الفقيه وروى عن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام انه جاء نفر من اليهود إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسأله أعلمهم عن مسائل فكان فيما سأل قال : اخبرني عن الله عزّ وجل لأي شيء فرض هذه الخمس الصلوات في خمسة مواقيت على أمتك في ساعات الليل والنهار ـ الى ان قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : فوعدني ربي ان يستجيب لمن دعاه فيها وهي الصلات التي امرني ربي بها في قوله : فسبحان الله .. «.

وفي الدر المنثور ٥ : ١٥٤ جاء نافع بن الأزرق الى ابن عباس فقال : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال : نعم فقرأ هذه الآية ـ واخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة.

١٣١

كائن ميت وحي ، ثم بصورة خاصة : (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) حسب اختلاف الفصول «وكذلك» الذي يخرج الحي ويحيى الأرض أنتم «تخرجون» من أجداثكم أحياء ، ثم وكما أنه يحيي الأرض هنا لصالح الحيوية الدنيوية بصورة عامة ، ثم خاصة هي إحياءها بالعدل (٩) ، كذلك يحييها بعد قيامتها لصالح الحيوية الأخروية بكل عدل (إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

فإحياء الأرض بمن عليها بالحياة الحيوان أحرى من إحياءها بالحياة الدنيا (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) عند إحياءها بعد إماتتها ، إخراجا لكم أحياء عن أرض تحيى بعد موتها.

إذا فليس الإحياء بعد الموت بدعا من الإحياء غريبا يستغربه الناكرون ، بل هو قريب لكل من ألقي السمع وهو شهيد ، فيستقر به المؤمنون انكم : (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) ٢٠.

ومن آيات إخراجكم كذلك بعد ما تموتون (أَنْ خَلَقَكُمْ ..) فمن الذي يقدر ان ينكر خلقه من تراب ، إخراجا له حيا من ميت التراب «ثم إذا» بمفاجأة تعيشونها على مدار الحياة (أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) لحاجياتكم الحيوية.

و «ثم» هنا كما في (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (٢٣ : ١٤) تراخي بين خلقه من تراب ونفخ الروح فيه ، والمفاجأة هي حصول أمر غير مترقب :

__________________

(٩) نور الثقلين ٤ : ١٧٣ في الكافي عن أبي ابراهيم (عليه السلام) في (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) قال : ليس يحييها بالقطر ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل فتحيي الأرض لأحياء العدل ولإقامة العدل فيه انفع في الأرض من القطر أربعين صباحا.

١٣٢

انتشار البشر الحي من التراب الميت ، ولكنها متواترة طول الحياة وكذلك تخرجون ، و «خلقكم» هنا الخلق الأوّل وهو آدم حيث خلق طفرة دون تحولات من تراب ، وكذلك خلق بنيه فإنهم ككلّ مخلوقون من عناصر ترجع إلى التراب بتحولات ، بل وهو القدر المعلوم هنا من «خلقكم» لمكان (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ)! ـ

ترى أن أصل الإنسان ـ فقط ـ التراب؟ ولزامه في خلقه في كل أطواره السالفة ـ لإنشائه خلقا آخر ـ الماء ، وكما في آية أخرى (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ)؟

علّه لأن التراب هو الأصل بينه وبين الماء ، ولا تعني «من تراب» انحصار أصله فيه ، وانما كأصل ميت كما الماء ميت مثله ، ثم انتشر البشر بين الميتين حيّا.

ثم التراب يعم رطبه ـ وهو الطين ـ ويابسه وهو غير المبتلّ ، فلا يخص الثاني حتى يكون نصا في غير المزيج بالماء.

أو ليس بأحرى ان يخلقكم بعد موتكم وأرواحكم حية ، رجعا لها إلى اصول أبدانكم فإذا أنتم إلى ربكم تحشرون لتحصلوا على محاصيل حياة التحصيل : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى)؟!

فهذه الخارقة الربانية المتواترة المتلاحقة آية من آيات القدرة البارعة كأصل ، وآية انكم (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) لأنه فرع تلك القدرة.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ٢١.

هذه آية للقدرة الرحيمية الإلهية وانكم تخرجون ، تحمل آيات لقوم يتفكرون ، وهذا تعبير رفيق رقيق عن أعمق العلاقات بين الزوجين بما جعل الله ، التقاطا لصورتهما من أعماق القلب وأغوار الحس كما ألقاها الله ، إلفاتا

١٣٣

إلى أعظم النعم الحيوية المعيشية لقبيل الإنسان أيا كان وأيان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟

(أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) و «كم» هنا تعني كل البشر من انثي وذكر ، فقد خلق لكلّ من نفسه زوجا ، فللذكر زوج الأنثى وللأنثى زوج الذكر ، حيث الزوج هو القرين وأقرن القرناء للحياة الإنسانية هم الأزواج ، تأسيسا للحياة البيتية العائلية ، التي تنشأ منها كل المجتمعات الإنسانية الأخرى.

واللام في «لكم» للانتفاع حيث ينتفع كل زوج من زوجه مختلف منافع الزوجية ، دون اختصاص بالذكور من الأناث ، كما ان «كم» تشملهما دون اختصاص ، فقد جهز كلّ بجهاز لا يتم فاعليته إلّا بقرنه بالآخر ، لواقع اللذة المرغوبة جنسيا ، وحاصل الولائد التي هي استمرارية لحياتهما وأنس لهما وعضد في حاجيات الحياة ، ويا لكل منهما من تركيب نفسي وعصبي وعضوي ، لوحظت فيه رغائب كلّ بتلبياتها ، ائتلافا وامتزاجا على طول الخط ، ولإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد يستمر به الوالدان.

وذلك الافتقار لكلّ إلى الآخر جنسيا وولاديا هو الذي يحرّك كلا إلى الآخر ، ويحمّل كلّا عبء الحياة الزوجية للآخر وهما يتقبلانها بكل إقبال وإجمال.

و «من» هنا جنسية تعني المجانسة بين الزوجين ، لا النشوية إذ لم ينشأ كلّ من الآخر ، والزواج محرم بين ناشئ من آخر وهو الولادة قريبة ام بعيدة.

ولماذا (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً)؟ (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) حيث الزوج لا يسكن إلى زوجه من غير جنسه ، مهما انفلت اليه أحيانا كما في زواج بين

١٣٤

الإنس والجن ، فانها فلتة لا تدوم ، والحياة الزوجية هي حياة السكن الدائبة.

فقد «خلق» : لتسكنوا «لكم» : لتسكنوا» ـ «من أنفسكم» ـ «لتسكنوا» فالسكن الحيوي عن ضربات الحياة الدنيوية واضطراباتها هو ـ بالفعل ـ الغاية المقصودة من (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) مثلث من الآيات الرحمات تنحو منحى سكون الحياة عن اضطرابات ، ولأن مجرد الخلق لكم لتسكنوا لا يكفي وئاما تاما بين الزوجين تاما ، والرابطة الجنسية غير كافلة بتحمّل مشاق الحياة العائلية ، لذلك :

(وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) تحكيما لتلك العلاقة الوطيدة بين الزوجين ، فالمودة ـ كما يتلمح من آياتها ـ هي المحبة الظاهرة في العمل ، وكصراح لهذه اللمحة (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (١١ : ٩٠) حيث الودّ بعد الرحمة ليس رحمة مجردة ، إذا فهو الرحمة البارزة واقعيا.

والمودة المجعولة بين الزوجين ظاهرة في عشرتهما إن لم يحصل مانع في البين ، فالحياة الزوجية الودية تشغل ـ لو لا الموانع ـ مشاعرهم وأعصابهم ، قالاتهم وفعالاتهم وكل اتصالاتهم وانفصالاتهم ، وحقا يروى عن رسول الهدى انه «ما يعدل الزوج عند المرأة شيء» (١٠) ، ثم «ورحمة» قد تعني

__________________

(١٠) نور الثقلين ٤ : ١٧٤ في الكافي احمد بن محمد عن معمر بن خلاد قال سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لابنة جحش : قتل خالك حمزة ، قال : فاسترجعت وقالت : احتسبه عند الله ثم قال لها : قتل أخوك فاسترجعت وقالت احتسبه عند الله ثم قال لها : قتل زوجك فوضعت يدها على رأسها وصرخت فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ما يعدل الزوج عند المرأة شيء» وفيه عن الكافي محمد بن يحيى عن احمد بن محمد بن علي بن الحكم عن معاوية بن وهب قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : انصرف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من سرية قد كان أصيب فيها ناس كثير من المسلمين فاستقبلته النساء يسألن عن قتلاهن فدنت منه امرأة فقالت يا رسول الله ما فعل فلان؟ قال : وما هو ـ

١٣٥

بعد «مودة» الرحمة الزائدة بعد الولادة بالولائد وبين الوالدين ، أم هي تأثر نفساني إيجابيا بمودة ، وسلبيا حين يرى الزوج زوجه بحاجة مدقعة أمّاهيه من حرمانات ، فيحاول في جبرها قدر المستطاع ، كما بالنسبة للولائد الصغار ولافتقارهم وصغارهم.

ومن ناحية اخرى كلما ولّى الشباب توارى معه الجمال ، وضعفت القوة الجنسية ، والذرية تجبر ذلك التواري والانكسار حيث تظهر أنوار الرحمة المتوارية وراء ظلمة الشبق والشهوة فلا تزال الرحمة تزداد عطفا بينهما بشأن الذرية وبشأنهما كمنشأين للذرية ، وهذه هي الرحمة بعد المودة.

ثم (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ ..) هي آية الرحمة الرحمانية خلقا لنا ، وآية الرحمة الرحيمية أن جعل لنا أزواجا من أنفسنا ، وأخرى هيه (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) وثالثة ان خلق لنا بزواجنا مواليد ، إخراجا لأحياء من ميتات المياه المنوية ، وهذه الأخيرة هي من آيات المعاد انكم (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ).

فالخلق العجيب الإنساني بكل حذافيره فردية وجماعية ، جسمية وروحية أماهيه ، إنه آية تحوي آيات آفاقية وأنفسية بشتات رحمات الله (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيها ، ثم بعد هذه الآيات القريبة في أعماقنا ، التي نعيشها في ذواتنا وذاتياتنا وصفاتنا وكل حيوياتنا ، هنا نقلة إلى واسع الكون ككل :

__________________

ـ منك؟ قالت : أبي ، قال : احمدي الله واسترجعي فقد استشهد ، ففعلت ذلك ، فقالت يا رسول الله وما فعل فلان؟ فقال : وما هو منك؟ فقالت : اخي فقال : احمدي الله واسترجعي فقد استشهد ففعلت ذلك ثم قالت يا رسول الله ما فعل فلان؟ فقال : وما هو منك؟ قالت : زوجي ـ قال : احمدي الله واسترجعي فقد استشهد فقالت : وا ويلا فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما كنت أظن ان المرأة تجد بزوجها هذا كله حتى رأيت هذه المرأة!.

١٣٦

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) ٢٢.

اختلافات ثلاث كلّ تدل بدورها على تخليق قاصد ، دونما صدفة عمياء ، ام ارادة محصورة بلون واحد من الخلق ، ف (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بمختلف أشكالهما وأحوالهما ، (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) وأنتم كلكم مخلوقون من تراب ، كل ذلك دليل التصميم الحكيم في كل خلق (إِنَّ فِي ذلِكَ) الخلق المختلف المؤتلف (لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) فطريا وعقليا وفكريا ، فلسفيا وتجريبيا ، أم أي حقل من حقول العلم الإنساني ، فانه أيا كان يستخدم لهذه المعرفة الغالية نظرا إلى الخلق ككل بمختلف أطواره وتطوراته ، ونظرا إلى اختلاف الإنسان في الألسنة والألوان (١١) وكما ان اختلاف الألسنة والألوان آية القدرة الحكيمة الرحيمية «للعالمين» المفكرين فيها ، كذلك هو آية للتعرف إلى أصحابها ، فقد تشير الألوان والقالات إلى الحالات «للعالمين» (١٢) كما وان في معرفة الألوان والألسن المختلفة «لآيات

__________________

(١١) نور الثقلين ٤ : ١٧٣ في علل الشرايع باسناده الى عبد الله بن يزيد بن سلام انه سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال اخبرني عن آدم لم سمي آدم؟ قال : لأنه خلق من طين الأرض وأديمها ، قال : فآدم خلق من الطين كله أو من طين واحد؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : بل من الطين كله ، ولو خلق من طين واحد لما عرف الناس بعضهم بعضا وكانوا على صورة واحدة ، قال : فلهم في الدنيا مثل؟ قال : التراب فيه ابيض وفيه اخضر وفيه أشقر وفيه اغبر وفيه احمر وفيه أزرق وفيه عذب وفيه مالح وفيه خشن وفيه لين وفيه اصهب ، فلذلك صار الناس فيهم لين وفيهم خشن وفيه ابيض وفيهم اصفر واحمر واصهب وأسود على ألوان التراب.

(١٢) نور الثقلين ٤ : ١٧٤ في أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال : ان الإمام إذا ابصر الى الرجل عرفه وعرف لونه وإن سمع كلامه من خلف حائط عرفه وعرف ما هو ان الله يقول (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَ ـ

١٣٧

للعالمين» بها (١٣) وقد يعرف العارف بها وحدتها في أصلها.

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ٢٣.

هنا (مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) يعم النوم لهما ، كما (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) يعني بهما تعميما آخر ، وآيات اخرى تختص الليل بالمنام والنهار بابتغاء فضل

__________________

ـ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ» وهم العلماء فليس يسمع شيئا من الأمر ينطق به الا عرفه : ناج أو هالك فلذلك يجيبهم بالذي يجيبهم» وفيه عن توحيد المفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) في الرد على الدهرية : تأمل يا مفضل ما أنعم الله تقدست أسماؤه به على الإنسان من هذا النطق الذي يعبر عما في ضميره وما يخطر بقلبه ونتيجة فكره ، به يفهم غيره ما في نفسه ولو لا ذلك لكان بمنزلة البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشيء ولا تفهم عن مخبر شيئا ... ان الإنسان وان كان له في الأمرين ـ الكتابة واللغة ـ جميعا فعل او حيلة فان الشيء الذي يبلغ به ذلك الفعل والحيلة عطية وهبة من الله عز وجل في خلقه فانه لو لم يكن له لسان مهيأ للكلام وذهن يهتدي به للأمور لم يكن ليتكلم ابدا .. فاصل ذلك فطرة الباري جل وعز وما تفضل به على خلقه فمن شكر أثبت ومن كفر فان الله غني عن العالمين.

(١٣) المصدر في بصائر الدرجات احمد بن محمد بن علي بن الحكم عن حماد بن عبد الله الغرا عن معتب انه أخبره ان أبا الحسن الأول لم يكن يرى له ولد فأتاه يوما اسحق ومحمد أخواه وابو الحسن يتكلم بلسان ليس بعربي فجاء غلام سقلابي فكلمه بلسانه فذهب فجاء بعلي ابنه فقال لأخوته : هذا علي ابني فضموه اليه واحدا بعد واحد فقبلوه ثم كلم الغلام بلسانه فذهب به ثم تكلم بلسان غير ذلك اللسان فجاء غلام اسود فكلمه بلسانه فذهب فجاء بإبراهيم فقال : هذا ابراهيم ابني فكلمه بكلام فحمله فذهب به فلم يزل يدعو بغلام بعد غلام ويكلمهم حتى جاء بخمسة أولاد والغلمان مختلفون في أجناسهم وألسنتهم! «وفيه عن عمار الساباطي قال قال لي ابو عبد الله (عليه السلام) يا عمار! : «ابو مسلم وظلله وكسا فكسحه مسطورا» قلت : جعلت فداك ما رأيت نبطيا أفصح منك ، فقال : يا عمار وبكل لسان.

١٣٨

الله (أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) (٢٧ : ٨٦) (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (٧٨ : ١١) ومن الأولى خلطا بينهما (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (٢٨ : ٧٣).

والجمع يلمح بأصالة الليل سكنا والنهار مبصرا ، وفرعية المعاكسة عند الحاجة ، وطبعا إبصارا بالليل بضياء ، وإظلاما بالنهار بستر ، حيث النور تمانع الرياحة كما الظلمة تمانع السعي للمعيشة ، (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) في النهار ظاهر تكسّبا للمعيشة التي هي على أية حالة من فضل الله ، فليست المساعي لتحصيلها إلّا أسبابا قرّرها الله لإدرار فضله كما يشاء ، فقد يكون السبب طلب المعيشة ، وأخرى هو التقوى لمن يترك طلب المال إلى طلب العلم تعلما وتعليما وتطبيقا يجمعها علم التقوى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (٦٥ : ٢ ـ ٣).

كما ابتغاء فضله بالليل يعمهما ، ولا سيما صلاة الليل التي هي ابتغاء لفضله روحيا وماديا ، إذا فلا يختص ابتغاء فضله بليل أو نهار بالمادي المعيشي ، بل والروحي ، فليعش الإنسان دوما ليل نهار ابتغاء من فضل الله في يقظته ، ورياحة عن ابتغاءه بنومه ، بل والنوم ايضا من فضل الله حيث يريح الإنسان عن عبء الطلب ويعده لمواصلته ابتغاء لفضل الله أيا كان.

وليس النوم مما يبتغي إذ قد يهمل فيه فينهل الجسم وتنحلّ القوى ، ف «فيه راحة البدن وإجمام قواه .. ولو كان إنما يصير إلى النوم بالتفكر في حاجته إلى راحة البدن وإجمام قواه كان عسى أن يتثاقل عن ذلك فيدفعه حتى ينهل بدنه» (١٤).

__________________

(١٤) نور الثقلين ٤ : ١٧٧ في توحيد المفضل عن الصادق (عليه السلام) والكرى يقتضي النوم الذي فيه راحة البدن ...

١٣٩

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ٢٤.

هنا «يريكم» هي من آياته ، حيث الفعل الآية من الآية ، كما ومنتوجه البرق آية ، وتقدير «أن» خلاف الفصيح حيث ذكرت قبل في أفعال «ان خلقكم ـ أن خلق لكم» فتركها هنا ترك مقصود دون حذف ، وقد تكون «يريكم» نازلة منزلة المصدر كما «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» ولكن الأوّل ـ علّه ـ أولى أن «يريكم» نفسها كفعل بمفعولها ، هما من آياته ، فهناك «أن خلقكم ـ أن خلق لكم» ليستا بأنفسهما مرئيتين ، كما (أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) حيث الخلق يسبقنا فكيف نتمكن من رؤيته ، وقيام السماء والأرض بأمره امر يدرك بإمعان ولا يرى ، ولكن البرق يرى ، و «يريكم» نفسها هي من آياته.

وظاهرة البرق هي من نشأت النظام الكوني بما يكوّنها الله ، انتشاء من شرارة كهربائية بين سحابتين محمّلتين بالكهرباء أو بين سحابة وجسم أرضي كقمة جبل أم شجرة أمّاهيه ، ينشأ عن هذه الشرارة تفريغ في الهواء متمثلا في الرعد الذي يعقب البرق ، ويصاحبه في الغالبية تساقط المطر نتيجة لذلك التصادم.

ورؤية البرق تطمع كما تخوّف ، طمعا في (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً) وتخوفا عن تحريقات وتخريقات أرضية بصدام البرق ، فإماتة لأهلها ، فنحن إذا أمام البرق بين خوف الموت وطمع الحياة (فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) على طول خط الحياة (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإراءة والتنزيل والإحياء (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أنكم (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ).

فللعقل مجالات في هذه الآيات تدليلا على رحمات منها الحياة بعد

١٤٠