الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

الأربع ، والبراهين الساطعة عقليا ونقليا تثبت أن : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وأنه (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) وأنه «ليس هو في خلقه ولا خلقه فيه» فلا تجانس ولا تماثل بينه وبين خلقه أيا كان ، روحا وسواه.

(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) .. «لكم» هناك «سواه» هناك تعم الإنسان ككل ، حيث الإنسان أيا كان ، هو قبل نفخ الروح ليست له هذه الثلاث إلّا وسائلها أذنا وعينا وقلبا ، فلما (نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) جعل به هذه الثلاث : السمع والأبصار والأفئدة ـ فالأولان هما من أهم النماذج في الإدراكات الحسية الخمس ، والأفئدة وهي القلوب المتفئدة ، هي أهم الإدراكات الروحية ، وهذه الثلاث هي التي تتبنّى إنسانية الإنسان الكاملة الكافلة لعروجه في درجاته ، وخروجه عن دركاته ، وأنتم مع كل هذه النعم السابغة : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) مهما كان من قصور أو تقصير.

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ١٠ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) ١١.

«وقالوا» هؤلاء المشركون ، الناكرون للوحي والحشر (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ...)؟ هنا ضمير المتكلم مع الغير «نا ـ نا» و «هم» تعني شيئا واحدا وهو الإنسان بجزئيه روحا وجسما ، فهم يستبعدون (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وجدا كما كانوا تحولا عن ضلالهم في الأرض ، كأنهم حين يضلّون عن أبصار الناضرين وعلمهم ، يضلون كذلك عن رب العالمين.

«ضللنا» هنا تعم كل الضلالات الحاصلة للموتى في جزئيهم بأجزائهما ، عامة كتناثر الأجسام ورفات العظام ، ضلالا عن البنية الإنسانية والماهية الجسدانية ، وضلال الأرواح عن الأبدان انفصالها عنها ، أم وفناءها كما

٢٨١

يزعمون.

وخاصة أن تتبدل أجزاء للنباتات والحيوانات ومن طريقها إلى أجزاء أناسي آخرين ، فقد يضلّ كلّ أجزاء الإنسان في أجزاء الآخرين فلا يحشر ـ إذا ـ بشخصه إلّا ضمن الآخرين ، أم يضل بعض أجزاءه فيهم فلا حشر ـ لو كان ـ إلّا لبعضه ، وقد يعبر عن الأخير بشبهة الآكل والمأكول : (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وقد ضلت أجزاءنا أم نفدت في آخرين ، فالضلال العام يقضي على الحشر العام ، وحتى لو صح العام فالضلال الخاص يحرم البعض عن حشرهم فكيف إذا (خَلْقٍ جَدِيدٍ)؟

والجواب أولا (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) حيث الإيمان بلقاء الرب ، إيمانا بالقدرة الخلاقة فالإعادة له أهون من البدء ، وبالحكمة العالية فالعود أوجب من البدء ، وبتواتر الحياة والموت في الأحياء والميتات نباتية وحيوانية وإنسانية أما هيه من حجج الإيمان ، كل ذلك برهان لا مرد له على إمكانية وضرورة الحياة بعد الموت.

وجواب ثان : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ..) لا فحسب أن (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ..) (٣٩ : ٤٢) بل و (مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ..) ثم الملائكة الأعوان ، فمنهم من يتوفون الطيبين (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) (١٦ : ٣٢) وآخرون يتوفون الظالمين : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) (١٦ : ٢٨).

وليس التوفّي هو الإماتة فحسب ، بل هو الأخذ وافيا دون إبقاء بعلم وقدرة ، في إماتة أم إنامة ، أم رفع إلى السماء كما في المسيح (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ) (٣ : ٥٥).

٢٨٢

ففي توفي الموت إزهاق الأرواح عن الأبدان ، دون أن تتفلت عن المتوفّين أو تضل عنهم بضلال عام أم خاص ، فكل الأجزاء للكيان الإنساني محفوظة في علم ملك الموت وهي في قبضته أينما حلت وضلت ، ولا سيما الأجزاء الأصلية لكل إنسان التي فيها يحشرون ، فإنها مهما ضلت في الأرض أو أصبحت أجزاء لآخرين ، ليست لتضل عن ملك الموت ، ولا لتصبح أجزاء اصلية لآخرين.

كل الأجزاء الإنسانية نفسية وجسمانية هي محفوظة محفوفة بعلم رب العالمين ، مقبوضة بقدرته ، فلا تعزب عن علمه ولا عن قدرته في النشآت الثلاث : دنيا وبرزخا وعقبى ، بل و (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) وكالة ربانية أن يتوفاكم : أخذا وافيا دون عزوب ولا غروب لكل أجزاءكم ، فمهما ضلت عامة أو خاصة عنكم وعن الآخرين ، ليست لتضلّ عن رب العالمين ، بل ولا عن (مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) ولا عن الملائكة الأعوان ، فالله هو المتوفي أصليا ، وملك الموت يتوفاكم فرعيا ، والملائكة الأعوان بفريقيهم يتوفونكم كأعوان لوكيل الأموات :

و «هل يحس به أحد إذا دخل منزلا أم هل تراه إذا توفى أحدا ، بل كيف يتوفى الجنين في بطن أمه ، أيلج عليه من بعض جوارحها ، أم الروح أجابته بإذن ربها ، أم هو ساكن معه في أحشائها ، كيف يصف إليه من يعجز عن صنعة مخلوق مثله»؟ (١)

ولقد يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله) قوله «الأمراض والأوجاع كلها بريد الموت ورسل الموت ، فإذا حان الأجل أتى ملك الموت

__________________

(١) نهج البلاغة عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام).

٢٨٣

بنفسه فقال : يا أيها العبد كم خبر بعد خبر ، وكم رسول بعد رسول ، وكم بريد بعد بريد؟ أنا الخبر الذي ليس بعدي خبر ، وأنا الرسول أجب ربك طائعا أو مكرها ، فإذا قبض روحه وتصارخوا عليه قال : على من تصرخون وعلى من تبكون ، فو الله ما ظلمت له أجلا ولا أكلت له رزقا ، بل دعاه ربه ، فليبك الباكي على نفسه ، وإن لي فيكم عودات وعودات حتى لا أبقي منكم أحدا» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٢٥ عن المجمع روى عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : و

فيه عن الفقيه سئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كيف يتوفى ملك الموت المؤمن؟ فقال : إن ملك الموت ليقف من المؤمن عند موته موقف العبد الذليل من المولى فيقوم هو وأصحابه لا يدنو منه حتى يبدأ بالتسليم ويبشره بالجنة» وفيه عن عوالي اللآلى ـ في الحديث ان ابراهيم (عليه السلام) لقى ملكا فقال له من أنت؟ قال : أنا ملك الموت ، فقال : أتستطيع أن تريني الصورة التي تقبض فيها روح المؤمن؟ قال : نعم أعرض عني فأعرض عنه فإذا شاب حسن الصورة حسن الثياب حسن الشمائل طيب الرائحة فقال : يا ملك الموت لو لم يلق المؤمن إلّا حسن صورتك لكان حسبه ثم قال : هل تستطيع ان تريني الصورة التي تقبض فيها روح الفاجر؟ فقال : لا تطيق فقال : بلى ، قال : أعرض عني فأعرض عنه ثم التفت اليه فإذا هو رجل أسود قائم الشعر منتن الرائحة اسود الثياب يخرج من فيه ومن مناخره النيران والدخان فغشي على إبراهيم ثم أفاق وقد عاد ملك الموت إلى حالته الأولى فقال : يا ملك الموت لو لم يلق الفاجر إلّا صورتك هذه لكفته.

وفي الدر المنثور ٥ : ١٧٣ ـ أخرج الطبراني وأبو نعيم وابن منده كلاهما في الصحابة عن الخزرج سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : ونظر إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال يا ملك الموت أرفق بصاحبي فإنه مؤمن ، فقال ملك الموت طب نفسا وقر عينا واعلم بأني بكل مؤمن رفيق ، واعلم يا محمد إني لأقبض روح ابن آدم فإذا صرخ صارخ قمت في الدار ومعي روحه فقلت ما هذا الصارخ والله ما ظلمناه ولا سبقنا أجله ولا استعجلنا قدره وما لنا في قبضته من ذنب فإن ترضوا بما صنع الله تؤجروا ـ

٢٨٤

ومن النفوس ما لا يقبضها إلّا الله ومنها ما يقبضها ملك الموت نفسه ، ومنها ما يقبضها الملائكة الأعوان وإذا كان الله هو الذي يقبض أرواح بعض الشهداء فالرسول (صلّى الله عليه وآله) وذووه أحرى بذلك وأولى (١).

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ) هكذا فلا مفلت ـ إذا ـ عن حيطته ، ولا مغلط في علمه وقدرته ، ولا ضلة أو زلة في توفيه ، «ثم» بعد اكتمال النشأة البرزخية «إلى ربكم» الذي رباكم وتوفاكم «ترجعون» في خلق جديد كما الأوّل «بل (هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) لو كان عنده هين وأهون.

والرجوع إلى الرب هنا رجوعان ، رجوع الحياة ، ورجوع للحساب فالثواب أو العقاب ، و «ربكم» تعني هنا ربوبيته الجزاء الحساب قضية عدله ، كماله ربوبية النشأة الأولى قضية فضله.

ليست هناك مشكلة شائكة تحول دون الحشر إلى الله (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) فإنما الدافع الأصيل لاختلاق هذه الشبهات والاستبعادات هو الكفر بلقاء ربهم ، حيث يلقي على أنفسهم ظلّ الشك والاعتراض على الأمر الواضح الذي وقع مرة في خلقهم ، ويقع ما هو قريب منه في كل لحظة ،

__________________

ـ وان تسخطوا تأثموا وتؤزروا وأن لنا عندكم عودة بعد عودة فالحذر الحذر وما من اهل بيت شعر ولا مدر بر ولا فاجر سهل ولا جبل إلا أنا أتصفحهم في كل يوم وليلة حتى أنا اعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم والله لو أردت ان اقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو يأذن بقبضها.

(١) الدر المنثور ٥ : ١٧٣ ـ أخرج ابن ماجة عن أبي أمامة سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : إن الله وكل ملك الموت يقبض الأرواح إلّا شهداء البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم.

٢٨٥

ومن ضرورة العدل والحكمة الربانية وقوعه مرة أخرى هي أحرى من كل ما وقع.

(ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ)؟!

وفي رجعة أخرى إلى هذه الشبهة وبصورة أوسع ، قد يتصور الضلال في الأرض ، الذي يستبعد معه أو يستحيل (خَلْقٍ جَدِيدٍ) كالتالية :

١ ـ ضلال الانعدام؟ وإعادة المعدوم ممتنعة! ولكن الموت ليس انعداما ، إنما هو انفصال الروح عن البدن الدنيوي باستمرار اتصاله بالبدن البرزخي ، ثم تحول الأكثرية الساحقة من أبدانها رفاتا ورمادا ، وليس المعاد إلّا الروح حيث يعاد إلى البدن بعد خلقه جديدا مرة أخرى.

٢ ـ ضلال الأبدان في أبدان أخرى تحولا إلى نباتات وحيوانات وأطعمة لأناسي آخرين ، ثم ضلال الأرواح في أبدان أخرى تناسخا ، كعملية مستمرة في الأموات والأحياء؟

لكن الأرواح لن تضل في أبدان اخرى بل تظل أرواحا لأبدانها التي انفصلت عنها قضية الحكمة العادلة الربانية ، ثم الأبدان لها مختلف الأجزاء ، الجزء الجرثومي الأم وهي النطفة التي خلقت منها ، ثم الأجزاء المكتملة له العائشة معه طول العمر ولا سيما في دور التكليف ، ثم الأجزاء غير الأصيلة التي لها دور التغذية والتنمية ، سواء أكانت من أجزاء الأموات ، أصلية أو فرعية ، أماهيه من أجزاء غير إنسانية.

فالأجزاء التي لا بد أن تخلق في المعاد مرة أخرى لتجزى بالأرواح جزاءها الأوفى ، هي التي تعيش مع الأرواح في دور التكليف ، لتذوق الأرواح وبال تخلفاتها ، وتنال منال تعبداتها ، سواء في أفعالها بواسطة الأعضاء أم سواها كالنيات والاعتقادات.

٢٨٦

فهذه الأجزاء الأصلية مهما ضلّت عندنا في أبدان وسواها ، لن تصبح أجزاء أصيلة لأبدان آخرين ، ولن تضل عن علم الله وقدرته ، فهي تخلق مرة أخرى فتعاد الأرواح فيها (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ..) (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ..) أخذا وافيا لما يعاد من أرواح وأجساد دونما تفلّت لها ولا تلفّت عنها ، فالمعاد في المعاد اثنان : عود الصورة الماثلة للأجزاء الأصلية البدنية ثم عود الأرواح بأبدانها البرزخية إليها.

ثم لا ضرورة في إعادة سائر الأجزاء غير الأصيلة ، بل هي مستحيلة في هذه التي كانت أصيلة لآخرين حيث يظل أصحابها بلا أبدان إذا ضلت في أبدان آخرين.

فالمعاد حسب ما يرسمه القرآن وتقبله الفطرة والعقلية الانسانية والإيمانية ، ليس فيه ضلال للأجزاء الأصيلة للإنسان أرواحا وأبدانا ، ولا ترد الشبهات حول هذا المعاد عن بكرتها ، وليست الأقاويل المشركة ، أو الفلسفية الطائلة إلّا حول معاد خيّل إليهم فاضطروا إما إلى نكرانه أم تأويله ، أم تورطا في قاله وقيله ، ومعاد القرآن في غنى عن كل قال فيه وقيله ، إذ لا تروّي غليلا ولا تشفي عليلا!.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) ١٢.

«لو» هنا في موقف الترجّي أن يرى رسول الهدي (صلّى الله عليه وآله) (إِذِ الْمُجْرِمُونَ) وهم الناكرون ليوم الحساب (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) إطراقة وطأطأة في ذلّ وانكسار (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في يوم الرب وموقف حسابه بهول المطّلع ، قائلين (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) آياتك في الآفاق وفي أنفسنا بعد إذ عمينا وصممنا يوم الدنيا ، فلم يبق لنا بعد صالح الإيمان إلّا صالح

٢٨٧

أعمال الإيمان «فارجعنا» الى الحياة الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً) لما أبصرنا وسمعنا ف (إِنَّا مُوقِنُونَ) لا نحتاج بعد إلى تحصيل اليقين ، ولكن لات حين مناص وقد فات يوم خلاص (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٦ : ٢٨) ف (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) (٢٣ : ١٠٠) وحتى إذا صدقوا في وعدهم فلا رجوع بعد تمام الحجة ووضوح المحجة : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٥ : ٣٧).

ويا له من مشهد خزي ، إقرارا بالحق الذي جحدوه ، وإعلان اليقين بالذي أنكروه ، فطلبا للعودة حتى يجبروه ، ولكنه كلّه بعد فوات الأوان حيث لا يفيد إيقان بإعلان وغير إعلان! وقد تعذر موقفهم المخزي يوم الدين (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) إذ تمت عليهم الحجة فتركوا المحجة ، وهم أولاء ليسوا إلّا أنفسهم لو رجعوا (١).

وذلك من خلفيات الإختيار ، والدنيا على ضوءه هي دار الإختيار وليس الإجبار بمشية الملك الجبار :

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ١٣.

«لو» تحيل هذه المشية المسيّرة إلى الهدى قضية الحكمة في الاختبار

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٧٤ ـ أخرج الحكيم الترمذي عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول ـ إن الله يعتذر إلى آدم يوم القيامة بثلاثة معاذير يقول ... ويقول : يا آدم إني لا أدخل أحدا من ذريتك النار ولا اعذب أحدا بالنار إلّا من قد علمت في سابق علمي إني لو رددته إلى الدنيا لعاد إلى شر ما كان فيه لم يراجع ولم يعتب ...

٢٨٨

وبالاختيار ، و «لآتينا ..» تبيين لمشيئته الطليقة بالنسبة لكل ممكن ذاتي ، ولكن في ذلك الإيتاء خلاف الحكمة اللائقة بشأن الربوبية للمربوبين ، و «هداها» هي الهدى المطلوبة لكل نفس ، فحين تؤتى هداها دون سعي منها بطل التكليف والإختيار ، مهما ظل الاختيار باقيا على الهدى المؤتاة لكل نفس أم لم يظل : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (١٠ : ٩٩) وليس في ترك هذه المشية المسيّرة ترك لبالغ الحجة (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٦ : ١٤٩).

وترى أنه تعالى لم يؤت كل نفس هداها؟ وقد هداها بمثلث الفطرة والعقل والشرعة! إنها ليست إلّا دلالات الهدى دون واقعها الحاصل بالاستدلال بها واقتفاء آثارها ، فالهدى الدلالية شاملة كاملة ، وواقع الهدى ليس إلّا لمن اهتدى ، و «هداها» إنما هي واقعها الذي لا يضل عنها مهديها.

«ولكن» لم نشاء ولن ، بل (هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ـ (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ولأن الأكثرية الساحقة من المكلفين كافرون ، لذلك (حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

وتراه قولا يستغرق كل الجنة والناس؟ ومنهم مؤمنون! أم يخص الكافرين؟ فلما ذا «أجمعين»! قد يعني «أجمعين» ملأ ورودها (إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (١٩ : ٧١).

ام يعني ملأهم ورد العذاب كما وعد (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٨ : ٨٥) وذلك بعد ما هددهم الشيطان إذ : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٨٣).

٢٨٩

صحيح أن الله آتى غير النفوس المكلفة من حيوان وسواها هداها ، التي تهتدي إليها ، ولكن المختار لهذا الكائن المختار أن يختار طريقه هدى أو ضلالة ، وهو مهدي بالفطرة والعقل وهدي الشرعة ، ليؤدي دوره الكامل الكافل لكل أدوار الكمال بين الخليقة ، حيث الوصول الى الكمال في عرقلة السبل آصل وأوصل إلى المآل وكما أصبح رسول الهدى (أَوَّلُ الْعابِدِينَ) وأفضل العارفين ، وحتى من الملائكة الكروبيين :

(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ١٤.

«فذوقوا» عذاب الخزي «بما نسيتم» نسيان التغافل التجاهل التناسي (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) الذي كنتم به تكذبون ف (إِنَّا نَسِيناكُمْ) كما نسيتمونا : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (٧ : ٥١) ف (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٣٨ : ٢٦).

نسيان بنسيان جزاء وفاقا وأين نسيان من نسيان ، فكما أن هذا النسيان تناس عامد دون المرفوع من النسيان ، كذلك الله يتناساهم في عالم رحمته ، وإذ لا رحمة فهو العذاب (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إخلادا إلى الحياة الدنيا واطمئنانا بها.

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا

٢٩٠

رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ

٢٩١

أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)(٣٠)

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) ١٥.

«خروا سجدوا» لها مرحلتان ، عامة (إِذا ذُكِّرُوا بِها) كلكل سماعا أو استماعا للقرآن ، والسجود هنا هو غاية الخضوع تذكرا بالقرآن ، وأدناه الاستماع له والإنصات إليه كما في آية (٧ : ٢٠٤) وآية الأسرى : (.. إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧).

ومرحلة خاصة هي السجود بالأركان إضافة إلى الجنان حين استماع أو سماع القرآن ، وهذه من آياته كآية الحج والعلق والنمل إجماعا ، وآيات أخرى دلالة كما الأسرى وأضرابها ، بل ولا فرق دلاليا بينها وبين آية الأسرى ، فكل الآيات الآمرة بالسجود هي في الحق من العزائم الواجبة السجود لاستماعها أو سماعها على الأقوى.

٢٩٢

«إنما» هنا حصر بصادق الإيمان ، أن التفكير بآيات الله يخرّرهم سجدا لله مسبحين بحمد ربهم دونما استكبار ، مما يدل ـ لأقل تقدير ـ على وجوب استماع القرآن ككلّ ، فإنه أقل سجود له وخضوع ، وتركه ـ إذا ـ خلاف واجب الإيمان.

وإنها صورة ووضيئة للأرواح المؤمنة الشفيفة الحساسة اللطيفة المرتجفة من خشية الله وتقواه حين تذكّر بآيات الله ، حيث تتلقاها بتوفّز الحس واستيقاظ القلب واستنارة الضمير.

و «سجدا» عرض لحالتهم الخاضعة : الخاشعة في سمع وعقل وقلب أمام ذكريات القرآن ، بل هم بكل جوارحهم وجوانحهم يسجدون له صاغين إليه ، حاصرين حواسهم وإحساساتهم وإدراكاتهم فيه.

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ١٦.

«المضاجع» هنا هي فراشات ومكانات النوم ، وتجافي الجنوب عنها هو تنحّي الشقق عن مضاجعهم ، لا أنهم يأخذون مضاجعهم متجافين فيها ، وإنما «عن مضاجعهم» كيلا يأخذهم النوم عن الصلاة الأخرى عشاء أو عصرا ، أم وبعد العشاء عن صلاة الليل (١) حيطة على فرض الأوليين ونفل

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٢٢٦ عن تفسير القمي حدثني أبي عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ما من عمل يعمله العبد إلا وله ثواب في القرآن إلا صلاة الليل فإن الله عز وجل لم يبين ثوابها لعظيم خطره عنده فقال جل ذكره : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) ـ إلى قوله ـ (نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وفيه عن العلل بأسناده إلى أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال في الآية : لعلك ترى ان القوم لم يكونوا ينامون ، قال قلت : الله ورسوله وابن رسوله ـ

٢٩٣

الأخرى كيلا تفوت أو تتأخر عن أوقاتها.

فعن بعض الأصحاب قال : ما رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) راقدا قبل العشاء ولا متحدثا بعدها فإن هذه الآية نزلت في ذلك (١) وكما يروى عنه (صلّى الله عليه وآله) فيها قال : هم الذين لا ينامون قبل العشاء فأثنى عليهم ..» (٢).

__________________

ـ اعلم ، قال فقال : لا بد لهذا البدن ان تريحه حتى يخرج نفسه فإذا خرج النفس استراح البدن ورجع الروح قوة على العمل فإنما ذكرهم (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ ..) أنزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام) وأتباعه من شيعتنا ينامون في أوّل الليل فإذا ذهب ثلثا الليل أو ما شاء الله فزعوا إلى ربهم راغبين مرهبين طامعين فيما عنده فذكر الله في كتابه فأخبرك بما أعطاهم أنه أسكنهم في جواره وأدخلهم جنته وآمنهم خوفه وأذهب رعبهم ، قال قلت : جعلت فداك إن أنا قمت في آخر الليل أي شيء أقول إذا قمت؟ قال : قل الحمد لله رب العالمين وإله المرسلين والحمد لله الذي يحيي الموتى ويبعث من في القبور فإنك إذا قلته ذهب عنك رجز الشيطان ووسواسه إنشاء الله تعالى أقول : ورواية أهل البيت متظافرة في تفسير الآية بصلاة الليل وهذا من باب التفسير بالمصداق الخفي ، وإلا فكيف ينحصر الإيمان الصحيح بصلاة الليل وليست إلّا مندوبة؟.

وقد يروى في تفسير الآية عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة.

(١) الدر المنثور ٥ : ١٧٤ ـ أخرج عبد الرزاق في المصنف وابن مردويه عن أنس قال : ... وفيه عن أنس قال : نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي (صلّى الله عليه وآله) فنزلت فينا : تتجافى جنوبهم عن المضاجع ..

(٢) المصدر ـ أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : تتجافى ... فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه فوقتها قبل أن ينام الصغير ويكسل الكبير.

٢٩٤

وقد تعني (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) إضافة إلى ترك النوم تداوم الصلاة وذكر الله بين الصلاتين ، كما تلمح له (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) وكذلك خدمة خلق الله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

وعلى أية حال فهي من آيات الفصل بين العشائين ، أم والظهرين كما دلت عليه آية النور.

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ١٧.

هذا! وفي حديث قدسي قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .. (١).

و «نفس» هنا هي النفس المؤمنة المراعية حق الله غير المرائية في جاهرة الأعمال لله ، كما «هو العبد يعمل سرا أسره إلى الله لم يعلم به الناس فأسر الله له يوم القيامة قرة أعين»(٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٧٦ ـ أخرج جماعة عن أبي هريرة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال قال الله تعالى: ... وروى مثله عنه (صلّى الله عليه وآله) سهل بن سعد وأضاف : ثم قرأ «تتجافى جنوبهم ـ الآيتين.

وفيه عنه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : والذي نفسي بيده لو أن آخر أهل الجنة رجلا أضاف آدم فمن دونه ووضع لهم طعاما وشرابا حتى يخرجوا من عنده لا ينقص ذلك مما أعطاه الله.

(٢) المصدر أخرج جماعة عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) عن الروح الأمين قال : يؤتى بحسنات العبد وسيئاته .. فقلت : أفرأيت قوله : فلا تعلم نفس ..» قال : هو العبد ...

وفيه أخرج جماعة عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) أن موسى (عليه السلام) سأل ربه فقال : رب أي أهل الجنة أدنى منزلة؟ فقال : رجل ـ

٢٩٥

ثم «نفس» نكرة في سوق النفي تستغرق كل نفس ، و «أخفي» ماضيا دليل صارم أن «قرة أعين» لهم كائنة معهم في ملكوت أعمالهم يوم الدنيا ، وإلّا فكيف «أخفي» غير الموجود؟ وذلك من براهين أن الجزاء هو نفس العمل بملكوته ، إن خيرا فبفضل الله مزيد ، وإن شرا فبعدل الله على قدره ولا يزيد.

و «ما» المجهول لكل نفس تعم كلا الكيف والكم (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) و «أعين» دون «عينيها» تقرر أن المخفي لكل نفس هو قرة أعين كلّ نفس (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أن زاد الله في ملكوت أعمالهم الصالحة مزيدات ومزيدات.

وإنه تعبير عجيب يشي بمدى الحفاوة الربانية لهؤلاء الأكارم حيث يتولى الله ما يخفيه لهم بنفسه المقدسة إعداد المذخور لهم عنده ، الذي لا مطلع لأحد فيه إلّا له ، فيظل مستورا لهم عنده حتى يوم القيامة ، ثم يكشف عنه عند لقاءه هناك.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) ١٨.

استفهام إنكاري عن هذه التسوية الظالمة بين من كان مؤمنا ، ومن كان فاسقا عن الإيمان ، لا كل فاسق إذ يجتمع الفسق العملي مع الايمان ، أم في

__________________

ـ يجيء بعد ما دخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل فيقول كيف ادخل وقد نزلوا منازلهم وأخذوا اخذاتهم فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا فيقول : نعم أي رب قد رضيت ، فيقال له : فإن لك هذا وعشرة أمثاله معه ، فيقول : ـ أي رب رضيت فيقال له : فإن لك مع هذا ما اشتهت نفسك ولذت عينك ، فقال موسى (عليه السلام) أي رب فأي اهل الجنة أرفع منزلة؟ قال : أياها أردت وسأحدثك عنهم إني غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على ـ

٢٩٦

تسوية الجزاء عند البعث (١) ، بل «لا يستوون» فليكن هناك بعث فيه يحاسبون (٢)(لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) :

(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ١٩.

«النزل» ما يعدّ للنازل ، وهو يوم الحساب بين ثواب وعذاب ، فنزل الثواب هو للذين آمنوا وعملوا الصالحات (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (٨ : ١٠٧) ونزل العذاب للذين كفروا وعملوا الطالحات : (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ

__________________

ـ قلب بشر قال ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ.)

(١) الدر المنثور ٥ : ١٧٨ عن قتادة في الآية قال : «لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة.

(٢) المصدر أخرج أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني والواحدي وابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال : قال الوليد بن عتبة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) أنا أحدّ منك سنانا وابسط منك لسانا وأملأ للكتيبة منك فقال علي (عليه السلام) : أسكت فإنما أنت فاسق فنزلت (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً ...) يعني بالمؤمن عليا وبالفاسق الوليد بن عقبة بن أبي معيط.

وأخرج مثله ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار ، وابن أبي حاتم عن السدي وعن عبد الرحمن ابن أبي ليلي» أقول : اتفقت كلمة المخرجين حول هذه الآية على ما نقلناه عنهم قولا واحدا ، كما اتفقت روايات أصحابنا في ذلك قولا واحدا ، وقد أنشأ حسان في ذلك شعره :

انزل الله والكتاب عزيز

في علي وفي الوليد قرآنا

فتبوء الوليد من ذاك فسقا

وعلى مبوّء إيمانا

ليس من كان مؤمنا عرف الله

كمن كان فاسقا خوانا

سوف يجزى الوليد خزيا ونارا

وعلي لا شك يجزى جنانا

٢٩٧

لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) (١٨ : ١٠٢) (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) (٣٧ : ٦٢).

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ٢٠.

«فسقوا» هنا فسق عن كلا الإيمان وعمل الصالحات ، فلا تشمل فساق المؤمنين إذ ليسوا من الخالدين أبدا مهما دخلو النار.

و «كلما ..» هنا بيان لأمد الخلود في مأوى النار أنه ما دامت النار : (.. فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ. كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٢٢ : ٢٢).

صحيح أن المؤمن العادل لا يسوّى بالمؤمن الفاسق في أية نشأة من النشآت ولكن الفاسق هنا يقابل المؤمن ككلّ ، فهو الفاسق عن الإيمان ، وكما يؤكده (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ ..) وليست النار مأوى فساق المسلمين خلودا فيها مهما دخلها من يستحقها.

أفهم يستوون هنا ويوم الدين في ميزان الحق والعدل المطلق ، كلا «لا يستوون» سواء في عدم البعث لو لم يكن ، أم في شرعة الحق يوم الدنيا.

ولا تعني «كلما» هنا وهناك الكل الأبدي اللانهائي ، وإنما هو ما دامت النار ، فإذا فنت النار بمن فيها فلا دور للآية في نفي الخروج وإيجاب الإعادة لمكان نفي الموضوع نارا وأهل نار.

نعم لو دلت دلالة قاطعة على الأبدية اللانهائية للنار ، لصدق الخلود اللانهائي بهذه الصيغة ، ولكنما الأدلة عقلية ونقلية تثبت فناء النار بمن فيها ، وتصدق على غرارها هذه الشرطية (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها)

٢٩٨

وهي بطبيعة الحال ما دام الموضوع.

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ٢١.

«هم» هنا الفاسقون ، أوعدهم الله أن يذيقهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ، فالعذاب الأكبر هو عذاب القيامة دون ريب ، فما هو العذاب الأدنى؟

هل هو عذاب القبر (١)؟ ورجاء الرجوع عن فسقهم فيه غير وارد! أم عذاب في الرجعة؟ (٢) والمعذبون فيها هم من محض الكفر محضا ولا رجاء لرجوعه ، إلّا اشتداد كفره! وعديد من الآيات تحيل الرجوع إلى الحياة الدنيا (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ)!

أم هو عذاب الاستئصال لمن يستحقه؟ ولا مجال للرجوع ـ إذا ـ إلى الإيمان فإنه الموت بالعذاب فكيف يرجعون؟!

إنه «هي المصائب والأسقام والأنصاب عذاب للمسرف في الدنيا» (٣) و «هي لنا زكاة وطهور» (٤) وقد يكون من العذاب الأدنى الدابة

__________________

(١) المجمع وقيل هو عذاب القبر عن مجاهد وروي أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام).

(٢) نور الثقلين ٤ : ٢٣١ عن تفسير القمي قال في الآية العذاب الأدنى عذاب الرجعة بالسيف ، معنى قوله : لعلهم يرجعون ـ يعني فإنهم يرجعون في الرجعة حتى يعذبوا ـ أقول (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) هي نتيجة ذوق العذاب المترجاة دون العكس المختلق هنا.

(٣ ، ٤) الدر المنثور ٥ : ١٧٨ ـ أخرج ابن مردوية عن أبي إدريس الخولاني قال سألت عبادة بن الصامت عن هذه الآية فقال سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عنها فقال : هي .. قلت : يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فما هي لنا؟ قال : زكاة وطهور.

٢٩٩

والدجال. (١).

فكل عذاب يبقى بعده المعذّب ويرجى رجوعه عن فسقه فهو العذاب الأدنى ، ونفس ذلك العذاب حين يشمل المؤمن هو له زكاة وطهور ، فأما عذاب الرجعة وعذاب الاستئصال فهما عوان بين العذاب الأدنى والأكبر.

وفي الحق إن العذاب الأدنى رحمة لمن يرجعون عن فسقهم ، وللمؤمنين ترفيعا لدرجاتهم ، وزحمة على من لا يرجعون.

وهكذا يتراءى ظلال الرحمة من وراء العذاب الأدنى ، قارعة توقظهم وتستيقظ فطرهم وفكرهم حيث يردهم من أكبر العذاب إلى الصواب والثواب.

كما ويتراءى ذل العذاب الأكبر من وراء العذاب الأدنى لمن ظلم وأعرض :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) ٢٢.

ذلك المجرم اللّدود الذي لا ينفعه التبشير ، ولا ينذره التنذير ، ولا يوقظه العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ، بل ويعرض عن آيات ربه إذا ذكّر بها ، (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) قد نجمع له العذاب الأدنى هنا ، إلى الأوسط كعذاب الاستئصال في الرجعة أو قبلها ، وفي البرزخ ، والأكبر في الأخرى ، لأنه بالغ في الظلم بآيات الله أسفل دركاته.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) ٢٣.

__________________

(١) المجمع في الآية : والأكثر في الرواية عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) أن العذاب الأدنى الدابة والدجال.

٣٠٠