الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

ثم الإفراد في ريح العذاب قد يلمح بالعذاب ، كما الأكثرية الواردة في القرآن تعنيه ، بخلاف الجمع في رياح الرحمة فإنها لم تأت في عشرتها الكاملة إلّا للرحمة (٣٨).

وعلّ وجه الجمع في رياح الرحمة ، أنها خليطة من مختلف الرياح ، ام ريحا متكررا متواتر لكي يصلح لما يبشر به ، وريح العذاب أحياني ، وأما ريحا الرحمة فدائبة ، فهذه جمع يحلّق على كل زمان ومكان ، وذلك مفرد حيث لا يأتي إلّا الأحيان.

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ٥٢ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) ٥٣.

«الموتى» هنا هم موتى القلوب فالصمّ الأسماع والعمي الأبصار ، حيث لا يعون ولا يسمعون ولا يبصرون (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ...) (٢ : ٧) وذلك ختم الجزاء يوم الدنيا دون الجزاء الختم فانه في الأخرى.

إن إسماع آيات الله ليس يؤثر إلّا في (مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) فإن سجيّته الايمان بها حين تواجهه ، وهو يتحرى عنها ، ولأقل تقدير لا يتجرأ عليها (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) لها ، مؤمنون بها.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ

__________________

(٣٨) في آيات عشر الرياح كلها للرحمة وفي (١٨) آية ريح أو ريحا لا تجد الا مرة يتيمة «وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» (١٠ : ٢٢) ام وريح سليمان «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ» (٢١ : ٨١) وهي ريح القوة وليست ريح الرحمة العامة.

٢٠١

مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) ٥٤.

تعريف آخر بالله وجاء مختلف حالات الإنسان من ضعف إلى قوة إلى ضعف وشيبة ، ومن القوة الحياة ومن الضعف الممات ، والإنسان كما هو بين مختلف حالات سائر الضعف والقوة كذلك هو بين الموت والحياة (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) لا كما نشاء «وهو العلي القدير» بما يخلق.

(خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) هو منّي فإنه ضعف في كيانه وضعف في دفقه ، ف «ضعف» مصدرا تلمح إلى مدى ضعف النطفة كأنها الضعف نفسه.

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) أمنذ العلقة إلى المضغة إلى العظام إلى كسوتها لحما إلى إنشاءه خلقا آخر وإلى ...؟ وكل ذلك ضعف بعد ضعف! وقد تعني «قوة» بداية القوة والقيام على ساق للولائد ، و (مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ) قد تعني الضعف فيما بين الضعف الأوّل والقوة الأولى.

فان «من ضعف في خلقكم» هو النطفة المخلوق منها الجنين ، ف (مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ) تعني ضعف الجنين المخلوق من ضعف ، ومن ثم ف «ثم» هنا تفصل بين خلقه من ضعف وجعل قوة له بعد ضعف ، فذلك الفاصل ضعف بعد ضعف.

فضعف المصدر ممثّل في تلك الخليّة الصغيرة الدقيقة التي ينشأ منها الجنين ، وضعف الصادر بينه وبين قوة هو الجنين بأطواره ، ثم الطفل حتى يقوم على ساقه من ضلاعة التكوين.

وقوته بادئة من ذلك القيام كاستقلالية مّا في بعض الحاجيات مشربا ومأكلا وملبسا ، وقياما في حاجيات أخرى.

وهذه القوة باقية لحد الأربعين متزايدة ، ثم تبدّل الى ضعف ثم شيبة ، فالشيخوخة انحدارة إلى الطفولة بكل مظاهرها الضعيفة ولحد لا تعلمون شيئا ولا تقدرون على شيء وهو أرذل العمر : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ

٢٠٢

لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) (٢٢ : ٥).

(يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) من ضعف وقوة وشيبة (وَهُوَ الْعَلِيمُ) ما ذا يخلق وفق الحكمة العالية «القدير» بكل خلق.

فليس خلقكم «من ضعف» لضعفه قدرة وعلما ، ولا (جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) لقوته علما وقدرة ، بل إنها تحويلات إلى حالات حسب الحكمة العملية القديرة كما يشاء ، ولا يفلت منها أحد من أبناء الفناء حيث تتعاور تلك الخليقة البشرية لتشهد انها مدبّرة كما يشاء الله العليم القدير.

أو ليس لهذه النشأة الحكيمة القاصدة استمرارية في نشأة أخرى هي مزرعة الأولى؟ :

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) ٥٥.

اللبث هنا هو لبث البرزخ ، فانه الذي يسبق (يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) لا لبث الدنيا ، ام هو مجموع اللبثين؟ استقلالا لحياة التكليف والتي بعدها قبل قيامة الساعة.

وإقسام المجرمين هناك (ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) إفك مبين كما هم في حياة التكليف (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) صرفا عن وجه الحق الى غير وجهه ، على طول خط الحياة الى قيام الساعة ولمّا يفيقوا عن غفوتهم وهم محشورون ليوم الدين! (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ٥٦.

(كِتابِ اللهِ) علّه كتاب التكوين التقدير الى جنب كتاب التشريع التدوين ، فقد قدر الله وقرر لبثا برزخيا لكل من الأموات وإن ماتوا في قيامة

٢٠٣

الإماتة ، كما أن آيات من القرآن تتحدث عن هذه الحياة الفاصلة بين الحياتين (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

ف (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بالكتاب «والايمان» بما في الكتاب ، هناك يكذبون المجرمين القائلين (ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) كما هنا ، ام (عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٧٩ : ٤٦) (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) (٢٣ : ١١٦) أو «عشرا» (٢٠ : ١٠٤) يكذبونهم بقولهم (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) وقد يعني (كِتابِ اللهِ) ما كتبه الله من الحياتين قبل الأخرى وهي (يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي كنتم به تكذبون (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ) قبله «لا تعلمون».

أتراهم كانوا لا يعلمون انهم سوف يبعثون وهم في البرزخ وقد ظهر لهم ما كان خفيا عليهم؟

هنا (كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ماض بعيد يضرب الى بعيد هو بالطبع حياة التكليف لا والبرزخية ايضا.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ٥٧.

الاستعتاب هو طلب العتبى وهي العتاب وإزالته ، فهم كما لا ينفعهم معذرتهم إن اعتذروا ، لا يطلب منهم ان يعتبوا أنفسهم ام يزيلوا عتابهم ، مهانة لهم وهوانا كأنهم جماد لا يشعرون.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) ٥٨.

إن الآية المثبتة للحق أصبحت عندهم مبطلة والجائي بها مبطل ، وهكذا يرتكس الظالمون في حمأة الغباوة الخانقة ان تنقلب آية الحق عندهم آية الباطل.

٢٠٤

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ٥٩.

لقد طبع الله على قلوب هؤلاء الظالمين وأزاغها كما زاغت بتجاهل عارم قاحل لحد تقلّب الحق عندهم باطلا والباطل حقا ، حياة منكوسة مركوسة أرذل من الدواب وأضل.

ف (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) هنا هم الجاهلون المقصرون ، لا القاصرون المستضعفون ، ولا يطبع الله إلّا على قلوب خالية عن الهدى خاوية عن التقوى ، مليئة من الطغوى (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ).

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) ٦٠.

«فاصبر» يا رسول الهدى على قولتهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) وعلى فعلتهم المضادة لدعوتك فما أنت إلا نذير (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) في نصرتك : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وفي عذابهم كما يشاء ويصلح (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) استخفافا عن ثابت الإيمان الإسلام والدعوة الصارمة.

هنا «فاصبر» توطين لخاطر الرسول وقلبه القريح الجريح ، ثم وفي تأويله قد يكون توهينا لسواه تهويلا بمستقبل العذاب كما فعله الإمام امير المؤمنين (عليه السلام) جوابا عن ابن الكوا (٣٩).

وقاله ابو جعفر الباقر (عليه السلام) جوابا عن امره بالخروج المبكّر ولمّا

__________________

(٣٩) نور الثقلين ٤ : ١٩٢ عن تفسير القمي كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) يصلي وابن الكوا خلفه وامير المؤمنين (عليه السلام) يقرء فقال ابن الكوّا (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) «فسكت امير المؤمنين (عليه السلام) حتى سكت ابن الكوا ثم عاد في قراءته حتى فعل ابن الكوا ثلاث مرات فلما كان في الثالثة قال امير المؤمنين (عليه السلام): (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).

٢٠٥

عن حينه ترحما على زيد (٤٠). فهذا تنزيل وذلك تأويل ولكلّ مجاله.

فالصبر أمام العراقيل في الطريق الشاق الطويل هو زاد المؤمنين ، أن يثبتوا على الحق دون زعزعة ولا تلكع ، صبرا يكون سبرا لأغوار الحوادث والمصائب التي قد تنقص من الإيمان بوعد الله فتنقض وثاق الله ، لا صبر التخاذل والتنازل ، وإنما صبر جميل يعني الاستقامة على الطريقة.

وهكذا تختم السورة كما بدأت بوعد النصر ، تختم بالصبر انتظارا لانتصار بنصر الوعد وتحققه كما يراه الله.

__________________

(٤٠) المصدر عن الكافي ان زيد بن علي بن الحسين دخل على أبي جعفر (عليه السلام) ومعه كتب من أهل الكوفة يدعونه فيها الى أنفسهم ويخبرونه باجتماعهم ويأمرونه بالخروج فقال له ابو جعفر : هذه الكتب ابتداء منهم او جواب ما كتبت به إليهم ودعوتهم اليه؟ فقال : بل ابتداء من القوم لمعرفتهم بحقنا وبقرابتنا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ولما يجدون في كتاب الله عز وجل من وجوب مودتنا وفرض طاعتنا ولما نحن فيه من الضيق والضنك والبلاء ، فقال له ابو جعفر (عليه السلام) ان الطاعة مفروضة من الله عزّ وجل وسنة أمضاها في الأولين وكذلك يجريها في الآخرين والطاعة لواحد منا والمودة للجميع وامر الله يجري لأوليائه بحكم موصول وقضاء مفصول وحتم مقضي وقدر مقدور واجل مسمى لوقت معلوم (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) فلا تعجل فإن الله لا يعجل لعجلة العباد ولا تسبقن الله فتعجلك البلية فتصرعك».

٢٠٦

سورة لقمان مكيّة

وآياتها اربع وثلاثون

٢٠٧
٢٠٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها

٢٠٩

وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١١)

سورة لقمان تحمل ثورة لقمان العقائدية والخلقية بصورة العظة لابنه ، وفيها ككلّ جولات ثلاث وجاه القلب البشرى بفطرته إذ يعلم الله مداخلها ومساربها ومآربها ، وما تغشى عليها غواش من دخان الأرض.

تبدأ الجولة الأولى من خلال النفس الإنسانية بأسلوب شيّق ومؤثّرات جادّة جديدة : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ..) نموذجا عاليا من العظات الرسالية مهما لم يكن لقمان رسولا.

والجولة الثانية بادئة بعرض كائنات من السماوات والأرض : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ...).

والجولة الثالثة هي مشهد الليل والنهار والشمس والقمر : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ...) وفي هذه الجولات الثلاث وما بينهما جلوات عقلية وفطرية وعلمية وحسية تتبنى الأصول الثلاثة كما هي طبيعة الحال في القرآن كله ولا سيما في السور المكية.

٢١٠

(الم ١ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ٢.

«تلك» البعيدة الأغوار ، النازلة في الزمن الرسولي ، كهذه وما مضت وتستقبل (آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) : حكيما عند الله قبل نزوله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤٣ : ٤) حكيما بنازله ليلة القدر ، وحكيما في تفصيله : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١١ : ١).

والحكمة في كلّ من الثلاث كما تناسبه ، كالإجمال في الأوّلين ام ثالث التفصيل ، والإتقان في الكلّ عن اي تدخل وتسرّب من سواه ، والحكمة البلاغية لفظية ومعنوية في كل الحقول ، محلقة على كلّ العقول ، بعيدة عن الذبول والأفول ، حاكمة حكيمة محكمة كأنها الحكيم نفسه ، إذ برزت وركزت فيها حكمة الرب الممكنة البروز ككلّ ودون إبقاء.

(هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) ٣

(الْكِتابِ الْحَكِيمِ) حالكونه «هدى» نفسها «ورحمة» نفسها حيث تجسدتا فيه حاملا كل الهدايات والرحمات الإلهية للكلّ كفاعلية مطلقة ، و «للمحسنين» كقابلية بفعلية الاهتداء والرحمة ، والتنوين فيهما يعني التعظيم البعيد عن الأفهام.

و «المحسنين» هم الذين يحسنون الايمان وعمل الايمان على ضوء (الْكِتابِ الْحَكِيمِ) :

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ٤.

فإقام الصلاة عمودا للدين مثال لكافة الصلات الربانية بينهم وبين الله فانها معراج المؤمن ، وإيتاء الزكاة من كل الوهبات الربانية لعباد الله ، يحلّق على كل الصلات الخلقية ، ثم (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) تؤصّل صلتهم بالله

٢١١

وبخلق الله وتربطها من المبدء إلى المعاد ، فقد أحسنوا كل الصّلات العقائدية والعملية ، المتمثلة في إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ناحية منحى مرضات الله والى يوم الله.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ٥.

«على» هنا تسيطرهم «على هدى» عظيمة واسعة ناصعة «من ربهم» لا ضلال فيها ولا كلال ، وبطبيعة الحال «وأولئك» دون سواهم (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) إذ يفلحون ويشقّون طريق الهدى في البحر الملتطم بسفن النجاة ، ويفلجون عمّال الردى وعواملها في هذه الطريقة الشاقة الطويلة.

هؤلاء الأكارم هم من (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) (٤ : ٧٤) ف (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (٩ : ١١١) ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ...) (٢ : ٢٠٧) كما :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ٦.

«الحديث» هنا هو كل ما حدث من قول أو فعل أو مزيج منهما ، فقد يكون ذكرا لله ، أو لهوا عن الله ، ام عوانا بين ذلك خلوا عن اي ذكر أو لهو ، ولهو الحديث ، المضلّ عن سبيل الله وهو ذكره ، بأن يتخذ هزوا ، ذلك هو الضلال البعيد.

«اللهو» حرام في كل حقوله وألوانه ، فانه ككلّ ما يشغل الإنسان عما يهمه ويعنيه ، كما اللهوة هي ما يشغل الرحى مما يطرح فيه.

إذا فاللهو دركات حسب درجات ما يهم الإنسان ويعنيه ، وأسفلها اللهو عن الله وعن ذكر الله ، وعن يوم الله ، وعما يتوجب على العبد او يحرم عليه وجاه الله.

٢١٢

وله اسباب عدّة من معدّة وغير معدّة ، فالأولى كالتكاثر : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) (١٠٢ : ١) والأمل : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (١٥ : ٣) ومنه لهو الحديث ككل ، فانها من المعدة ، ومن غير المعدة الأموال والأولاد : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) (٦٣ : ٩) والتجارة والبيع : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) (٢٤ : ٣٧) والحياة الدنيا ككل : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) (٦ : ٣٢).

فالمعدّة من اللهو محرمة على أية حال ، وغير المعدة كالحياة الدنيا بوسائلها غير محرمة إلّا أن تلهي ، فإنما الأصل هو الإلهاء ـ بالفعل ـ عما يعنى للإنسان كإنسان وما يعنيه كمؤمن بالله.

والمفروض في لهو الحديث أن يرفض بكل أساليبه وألوانه كمفتاح أوّل لرفض المحرمات كلها (١) وفرض الواجبات كلها ، حيث الملاهي بجوارح وجوانح تتخطى إلى القلوب ، فإذا ألهت القلوب الغت كل ما تعني الإنسان ويعنيها الإنسان من إيجابيات وسلبيات تتبنى الإنسان كإنسان وبأحرى كحامل إيمان : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٢١ : ٣).

وأنحس بلهو يشترى ، وأنحس منه : (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ثم ثالث : (وَيَتَّخِذَها هُزُواً)(٢) فذلك مربع من النحوسة الواصلة إلى

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٥٩ ـ اخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أبي عثمان الليثي قال قال يزيد بن الوليد يا بني امية إياكم والغناء فانه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وانه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل المسكر فان كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فان الغناء داعية الزنا.

(٢) في المجمع روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال ـ في الآية ـ هو الطعن في ـ

٢١٣

(عَذابٌ مُهِينٌ).

فليست حرمة اللهو لتختص بما يشترى ويضل ويهزء ، وإنما ذلك أسفل دركات الحرمة فيه ، وكل ما يلهي ، او ما شأنه ان يلهي ، فهو محرم في شرعة الله من غناء تلهي أو رقص يلهي أماذا من الملهيات ، وأما ما يذكّر الله من أصوات حسنة أو أعمال فراجحة ، وما لا يذكّر ولا يلهي فعوان يباح ، إلّا ألّا يعني غرضا عاقلا فلغو لا يباح إلّا للأطفال.

فالغناء المفسر به قول الزور (١) واللهو (٢) ليس محرما ككل حيث التغني

__________________

ـ الحق والاستهزاء به وما كان ابو جهل وأصحابه يجيئون به إذ قال : يا معاشر قريش ألا أطعمكم من الزقوم الذي يخوفكم به صاحبكم؟ ثم أرسل الى زبد وتمر فقال : هذا هو الزقوم الذي يخوفكم به ، قال : ومنه الغناء.

(١) كما في صحيحه الشحام وموثقه أبي بصير ومرسله ابن أبي عمر المرويات عن فروع الكافي ، وحسنة هشام المحكية عن تفسير القمي ورواية عبد الأعلى المحكية عن معاني الأخبار والثلاثة الأولى في الوسائل الباب ٩٩ ح ٢ ـ ٩ ـ ٨ والرابعة نفس الباب ح ٢٦ والخامسة فيه ح ٢٠ وفي الدر المنثور ٥ : ١٥٩ ـ اخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ، وفيه اخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن أبي امامة ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ما رفع احد صوته بغناء إلا بعث الله اليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك ، أقول : يعني الغناء الملهي.

(٢) كما في صحيحة ابن مسلم ورواية مهران بن محمد والوشاء ورواية عبد الأعلى السابقة ، والثلاثة الأول في الوسائل ب ٩٩ ح ٦ ـ ١١ و ١٦ وفي نور الثقلين ٤ : ١٩٣ عن معاني الأخبار بسند متصل عن يحيى ابن عيادة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قلت قوله عز وجل : (وَمِنَ النَّاسِ ..)» قال : منه الغناء.

وفيه عن الكافي بسند متصل عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهما السلام قال سمعته يقول : الغناء مما أوعد الله عز وجل عليه النار وتلا هذه الآية ومثله عن أبي عبد ـ

٢١٤

بالقرآن محبور ، وسائر التغني بذكر الله مشكور ، كما يروى عن رسول الهدى «تغنوا بالقرآن فانه من لم يتغن بالقرآن فليس منا».

فصرف الوقت في التعرف الى معنى الغناء ، المختلف فيه اللغة والأقوال ، قد يكون نفسه من لهو الحديث ، حيث الأصل المحرم في الغناء وغيره هو اللهو ، فقد يحل الغناء كما في القرآن ، وقد يحرم غير الغناء كما في الرقص الملهي وما أشبهه ، فبين اللهو والغناء ـ إذا ـ عموم من وجه.

فمن لهو الحديث ما يلهي بنفس الحديث دون غناءه كالقصص الأسطورة المزخرفة المقصوصة في المقاهي وسائر النوادي المناسبة لها وهي من شئون نزول الآية (١) ومنه ما يلهى بغنائه سواء أكان معناه ملهيا مثله أم لم يكن ، كما من الغناء ما لا يلهي ، ككل ما لا يحمل المعاني او الحالات الملهية ، أمّا يحمل المعاني المذكّرة كالغناء بالقرآن وسائر المعارف الإلهية من مواعظ شعرية أو منثورة أمّاهيه.

واشتراء لهو الحديث يعم اشتراء القينات (٢) وآلاتها (٧) واشتراء نفس

__________________

ـ الله : الغناء مما قال الله : ... وفيه عن الحسن بن هارون قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : الغناء مجلس لا ينظر الله الى اهله وهو مما قال الله عز وجل : ومن الناس.

(١) نور الثقلين ٤ : ١٩٤ عن تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليهما السلام في الآية فهو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة من بني عبد الدار بن قصي وكان النضر ذا رواية لأحاديث الناس وأشعارهم يقول الله عز وجل : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

(٢) الدر المنثور ٥ : ١٥٩ اخرج جماعة عن أبي امامة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : لا تبيعوا القينات ولا تشروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ..) وفيه عن ـ

٢١٥

اللهو كأن يستأجر الملهي بحديثه أو غناءه ويدفع له ثمن (١).

و «سبيل الله» هنا هي القرآن ونبي القرآن وكل ما منهما وإليهما من ذكرى ، فإنهما الأصل في ذكر الله بما يذكّران الله ، فكل ما يلهي عن «سبيل الله» ويضل في اى حقل من حقولها ، كان محظورا ، ولا سيما إذا كان مأخذا لاتخاذها هزوا.

ف «أولئك» الذين يشترون لهو الحديث إضلالا عن سبيل الله واتخاذها هزوا (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) هنا ويوم الدين ، كما أهانوا سبيل الله ان فضّلوا عليها لهو الحديث. (٢)

واشتراء لهو الحديث قد لا يختص بالنقود وسائر الأثمان المعروفة ، فقد يشتريه بماله ، أو يشتريه بوقته وبحياته ، يبذل تلك الأثمان الغالية لهذا الرخيص البخيس ، ولما ذا يشتريه «ليضل» نفسه وسواه (عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ

__________________

ـ عائشة قالت قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان الله حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها ثم قرأ الآية.

(١) المصدر ١٦٠ ـ اخرج ابن أبي الدنيا عن علي بن الحسين عليهما السلام قال : ما قدست امة فيها الربط.

(٢) المصدر ١٦٠ ـ اخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن عوف ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : انما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان وصوت عند مصيبة خشن وجوه وشق جيوب ورنة شيطان ، وفيه اخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن نافع قال : كنت أسير مع عبد الله بن عمر في طريق فسمع زمارة راع فوضع إصبعيه في أذنيه ثم عدل عن الطريق فلم يزل يقول يا نافع أتسمع؟ قلت : لا ـ فاخرج إصبعيه من أذنيه وقال : هكذا رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صنع ، وفيه اخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عمر انه سمع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال في هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ ..) انما ذلك شراء الرجل اللعب والباطل.

٢١٦

علم) منه وممن يضل بإضلاله ، جهل التجاهل بالقيم والموازين ، (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) كما كان يفعله المنافقون والمكذبون بآيات الله (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) كما أهانوا الضمير الإنساني وأهانوا الحق.

وليست الآية لتحمل ـ فقط ـ تصويرا لحادث مضى في الجماعة الإسلامية الأولى وهو ان النضر بن الحارث كان يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) محاولا لجذبهم إلى لهو الحديث ، انصرافا عن القرآن ورسوله وهما سبيل الله ، حيث النص أعم ، و «يشتري» مستقبل يضرب الى اعماق الزمن منذ نزول القرآن الى يوم الدين ، في كل عصر ومصر يصبح لهو الحديث أيا كان معارضا لمدارسة القرآن كأصل ، ودراسة الشرعة الإلهية ككل على ضوء القرآن ، والاستماع الى حملة رسالة القرآن.

فكما ان التسبّل بسبيل الله فرض طول الحياة الايمانية ، كذلك لهو الحديث المضل عنها محرّم على أية حال ، وهذه الآية تحمل أسفل دركاته اضلالا عن أفضل درجاتها.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ٧.

وانها لقسمة ضيزى بين (لَهْوَ الْحَدِيثِ) و «آياتنا» معاملة معهما معاكسة ، منكوسة منحوسة مركوسة ، ان يشتري لهو الحديث اضلالا عن آيات الله ، ثم يولي عنها كأن لم يسمعها حين تتلى عليه (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وكما يستبشر بلهو الحديث المضل الهازئ.

وهنا نتأكد تماما ان ليس كل لهو تشمله الآية بهكذا تنديد شديد ، مهما

٢١٧

كان محرما على أية حال ، فانما المعروف من آيات اللهو حرمته في المعدّ له ، وحرمة الالتهاء بغير المعدّ له ، فباختلاف الأشخاص والحالات والظروف واختلاف المجالات يختلف اللهو في واقعه وحكمه ، ودركات الحرمة فيما يلهي عن فرض ام في محظور ، حيث اللهو مفتاح كل شرّ ايجابيا وسلبيا.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ٨ خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ٩.

هنا نتأكد ان الايمان وعمل الصالحات يناحران لهو الحديث بكل التصرفات فيه ، التهاء والهاء ، بيعا واشتراء ، فالمؤمنون يعيشون سبيل الله دون ان يلهيهم عنها أية زخرفة من زخارف الدنيا ، ومن أخطر اللهو هو لهو الإمرة والرئاسة أعاذنا الله من شرها.

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) ١٠.

لقد فصلنا القول في آية الرعد : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ..)(٣) حول (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) فلا نعيد ، وكذلك الرواسي الملقاة في الأرض في آياتها ، وانها تعم الملقاة من البركانات جو الأرضية ، والأمواج سطح الأرضية ، والأحجار فوق الأرضية الساقطة عليها من كرات سماوية.

و (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) مما يدل على سبح الأرض في خضمّ الفضاء ، فهي سفينة جوية بحاجة لاستقرارها الى رواس تربطها عن الميدان ، ف «وتد بالصخور ميدان ارضه».

ثم (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) فيها لمحتان ، إحداهما أن أرضنا تحمل

٢١٨

من كل دابة في الكون نماذج ، والأخرى ان هناك في غير أرضنا دواب كما فيها ، وقد دلت على التعميم آية الشورى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ).

كما (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) تدل على أن الأزواج النابتة هنا نماذج عن كل الأزواج النابتة في غيرها من كرات عامرة.

فالسماوات على علوّها محبوكة مربوطة بالأرض بعمد لا ترونها ، ومن احتباكها نزول مائها إليها ، ومنه وجود النماذج من كل دوابها وأزواج النباتات فيها ، مما يدل على تعميم قاصد واحد يربط كل الكائنات بعضها ببعض دون تفاوت وتهافت.

(هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)١١.

«فأروني» أمر تعجيز في مسرح خلق الله ، فهل من خالق غير الله (بَلِ الظَّالِمُونَ) المشركون بالله هم غارقون (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يبين ضلاله بهدي خلق الله فانها آيات بينات تبين أنها ـ فقط ـ لله.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ

٢١٩

حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(١٩)

٢٢٠