الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

هو الله ، فكيف ينكرون إحياءهم بعد موتهم وهو أولى من الأولى وأحجى؟ (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ككل لأنه الله الخالق المسخّر المنزل المحيي (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ان الدار الآخرة لهي الحيوان ، فهم رغم عقل الفطرة المفطور فيها ، وعقل العقل وسائر العقل والدرك «لا يعقلون» أخذا للمعقول مأخذ القبول.

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)٦٤.

(الْحَياةُ الدُّنْيا) وهي أدنى الحياة دنوا ودناءة ، هي محصورة في (لَهْوٌ وَلَعِبٌ) لمن أبصر إليها واخلد عليها فانها تعميه ، ولكنها لمن ابصر بها مبصرة فذريعة للدار الآخرة الحيوان.

وهذه آية ثانية تختص الحيوان بالدار الآخرة أولاها آية الفجر : (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي)(٢٤) مما يبرهن أنها اصل الحياة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لكنهم (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣٠ : ٧).

وفي مقابلة حيوان الدار الآخرة بلهو الحياة الدنيا ولعبها تلميحة مليحة ان حياة اللهو واللعب موت ، وهي في الحق موت للإنسانية السامية وفوت لمحاصيلها العالية ، المقصودة بالحياة الدنيا ، وهي التذرع بها للأخرى.

فمن التهى فيها بلهوها ولعبها فهو الميت حقا ومن ورائه (جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (٢٠ : ٧٤) ومن تركهما فيها وابتغي مرضات الله فهو الحي حقا ومن وراءه الجنة خالدا فيها أبدا و (لَهِيَ الْحَيَوانُ) الحياة الدائبة المتحركة دوما نحو الجمال والكمال بما قدمته أيديهم من جمال المعرفة وكمال العبودية. حيث «الفعلان» تلمح إلى حركة ، فكما اصل الحياة حركة ، كذلك حركة الحياة حركة فوق حركة ، وهي الكافلة كل مزاياها

١٠١

الكاملة بكل زواياها ، الحافلة كل الغايات المسرودة لها ، المترقبة المرغوبة منها ، دائبة الارتقاء إلى كمالاتها دون أية وقفة في تلك الحيوية الأخروية العالية ، وترى كيف تحصر الحياة الدنيا في لهو ولعب وهي مدرسة الصالحين والسابقين والمقربين؟ وحين تحصر هي فيها كما خلق الله فما هو تقصير الملتهين بها اللّاعبين فيها؟

«هذه» هنا المشيرة إلى حياة المشركين وسائر الكافرين ، تخصهما بهم بسوء اختيارهم ، فهي ـ إذا ـ الدنيا الدنية ، ولكنها الدنيا الدانية ـ وهي اقرب حياة إلينا ـ والعالية الزاكية للصالحين الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، إذا فهم دنياهم آخرة ، والطالحون هم آخرتهم دنياهم ، واين دني من دنيا وآخرة من آخرة!

فأهل الآخرة هم في الدنيا : «جزناها وهي خامدة» فنار الآخرة لهم خامدة هامدة ، وأهل الدنيا هم في الآخرة ليست لهم خامدة ، بل هي زائدة مايدة.

اجل والحياة الآخرة هي الفائضة بالحيوية الفائقة التصور ، دون حجب وزحامات وموتات واصطدامات ، مهما كانت الحياة الدنيا حياة إيمانية محضرة لها فضلا عن الملهية ، فبين الحياتين بون بعيد ، والله من وراءنا رقيب عتيد ، ف «يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الحيوان وهو يسعى لدار الغرور» (١) ، وكما ان الحياة الجنينية هي حياة التحضير للدنيا ، كذلك الحياة الدنيا هي حياة التحضير للأخرى ، وكما ان هذه الأدنى هي الحيوان

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٤٩ ـ اخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الايمان عن أبي جعفر رضى الله عنه قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا عجبا ..

١٠٢

للأجنّة ، كذلك تلك الأخرى العليا هي الحيوان لولائد الدنيا ، وهي خير مدرسة بأفضل المدرسين ليستكمل فيها المكلفون حتى يحصلوا على محاصيل الحياة العليا ف (الْحَياةُ الدُّنْيا) هي الدانية إلينا دنوا أكثر من كل حياة عقلية ، لولاها لما كانت الحياة الآخرة هي الحيوان ، كما وهي الدانية دناءة أكثر من كل دانية في الحياة لمن اخلد إليها واتبع هواه وكان أمره فرطا.

فلا هي ذميمة دميمة في حد ذاتها لأنها مدرسة الصالحين ، ولا هي خيّرة في حد ذاتها لأنها ـ فقط ـ ذريعة للدار الحيوان ، فهي حين تتخذ أصلا يبصر إليها ذميمة دميمة ، وهي نفسها حين تتخذ فرعا يبصر بها صالحة مبصرة.

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ٦٥ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ٦٦.

انهم يعيشون تناقض العقيدة ، أو تناقض الفطرة والعقلية والعملية (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) كمثال على ظرف تقطّع الأسباب إلّا الله (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) مهما كانوا به كافرين (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) عقيديا ام ـ لأقل تقدير ـ عمليا ، ان ينسبوا نجاتهم إلى غير الله من الأسباب التي ضلت عنهم وتقطعت وهم في خضمّ البحر على الفلك!

وهذه التناقضة هي طبيعة الحال لكل من لم يكمل إيمانه مهما كان مؤمنا فضلا عن المشرك والملحد ، فجرس الفطرة يسمعه أن لا إله إلّا هو ، ثم شرس الغفلة والانجذاب الى الطبيعة يصمّه ف (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) ولما ذا؟ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا) اشراكا قاصدا للكفر بالنعمة ، ولكي يأخذوا حرياتهم في التمتع بمتع الحياة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ما ذا قدمت أنفسهم وبه يعذبون.

١٠٣

واللام هنا قد تعني الغاية ، بيانا للغاية من إشراكهم تقصدا ، حيث الإشراك خلاف الفطرة فلا بد من التخلف عنها من غاية.

واخرى تعني امر التهديد ك (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤١ : ٤٠) (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ) (١١ : ٩٣) والجمع بينهما اجمع وأجمل.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) ٦٧.

ألم يروا آيات الله ونعمه في الآفاق وفي أنفسهم؟ فان لم يروها (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ..)؟ جعلا تكوينيا وتشريعيا مهما حصل فيه أو يحصل من اللّاأمن واقعيا خلاف الشرعة الإلهية ، حيث واقع الأمن فيه ـ على أية حال ـ أكثر مما سواه ، وشرعة الأمن فيه لا تقاس بما سواه!

(حَرَماً آمِناً) نفسه عن الهجمات والتهديمات ، وآمنا فيه كل عاكف وباد «و» الحال انه (يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) تخطفا دونما أي تعطّف في أموالهم وأعراضهم وأنفسهم ، فلقد كان أهل الحرم المكي ـ ويكونون ـ يعيشون آمنين ، يعظمهم الناس من أجل الحرم المحترم ، ومن حولهم القبائل تتناحر وتتخطف ، فلا تجد الأمان إلّا لجأ إلى الحرم ، فيا عجبا أن يجعلوا من بيت الله مسرحا ومأمنا لباطل الأصنام إيمانا بها «أفبالباطل» معبودا سوى الله أيا كان «يؤمنون» ثم (وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) والكفر بنعمته هو الذي أدخلهم جحيم الكفر بوحدته افتراء عليه كذبا :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) ٦٨.

اللهم لا أظلم (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ)

١٠٤

وهم افتروا عليه شركاء وأندادا ، ثم إذا جاءهم الحق التوحيد بوحي منه كذبوا به «أليس» إذا (فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) ومأوى ومقاما «للكافرين» كما كانوا آوين إلى جهنم الكذب والتكذيب ، ثاوين في كفرهم بالله العظيم! وهنا خير ختام في السورة بخير الأنام وهم المجاهدون في الله ، المحسنون :

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) ٦٩.

وقد يختلف (جاهَدُوا فِينا) عن «جاهدوا في سبيلنا» حيث الأول أخص ، والجهد في جهاده امسّ ، وعبارة أخرى عن (جاهَدُوا فِينا) : جاهدوا في الله كما (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) المخاطب فيها أهل الله الخصوص حيث تتلوها ـ (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ..) (٢٢ : ٧٨)(١).

ففي (٣٠) موضعا من القرآن المذكور فيها المجاهدة بصيغها المختلفة لا نجدها في الله إلّا في هاتين ، ثم البقية بين في سبيل الله ام مطلقها بالأموال والأنفس أماذا؟ مما يدل على أن المجاهدة في الله هي القمة المرموقة منها بين درجاتها.

فهنا جهاد في سبيل الله يؤمر به كل من يؤمن بالله ، ثم جهاد في الله يؤمر به أهل الله الخصوص ، فيعدهم هنا (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) وهي غير سبيل الله الواضحة لكل من يجاهد فيها.

فالسبل الربانية الغامضة التي لا يهتدي إليها إلّا بالجهاد في الله ، وهي عدة حسب عدّات الجهاد في الله عدّاته ، إنها ليست سبيل الله المعروفة لكافة

__________________

(١) في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : هذه الآية لآل محمد عليهم السلام ولأشياعهم.

١٠٥

المكلفين المأمورين بالجهاد فيها.

إذا فللجهاد ترتيب ثلاثي : في سبيل الله ـ في الله ـ ثم الاهتداء إلى سبل الله ، والمحسنون هنا هم (الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ... وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) معية الرحمة الواصبة التي فيها هداية سبل الله معرفية وعلمية وعملية أماهيه ، وهي بصيغة أخرى جنّة معرفية.

ثم «في الله» و «فينا» كما تختلفان رتبة عن (فِي سَبِيلِ اللهِ) كذلك بينهما ، فقد يفوق الجهاد في الله ـ كما في آية الحج للوسطاء الشهداء بين الرسول والأمة ـ يفوق الجهاد فينا كما هنا.

فهو في الله لا يعني إلّا الله لأنه الله ، جهادا معرفيا أو عمليا ، وهو فينا قد يعني صفات الله كما وأسماؤه الحسنى حيث الجمع في «فينا» كاضرابها يعني جمعية الصفات ، ثم هو في سبيل الله أدنى الجهاد مهما عم التكليف به لكافة المكلفين.

ف (الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) هم الوسط بين الذين جاهدوا في الله والذين جاهدوا في سبيل الله ، والجهاد في الله بجمعية صفاته ، ألّا ينحو فيه المجاهد إلّا منحاه ، تغافلا عن نفسه ومناها إلّا إياه ، متدينا إلى الله متدليا بالله ، وعند ذلك (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ككل ، لأنه استخدم جهاده «فينا» ككل ، وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى.

وهكذا يعدنا ربنا ـ ومن احسن من الله وعدا ـ ان الجهاد في الله يخلّف الاهتداء إلى سبل الله ، وهي سبل السلام على ضوء نوره وكتابه المبين ، بتبيين رسوله الأمين : (... قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥ : ١٦).

١٠٦

فالجهاد في الله هكذا سبيل إلى «سبلنا» وهي سبيل إلى «صراط مستقيم» وهو الغاية المرموقة المقصود للسالك إلى الله ، والطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق! فهناك سبل المرسلين : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (١٤ : ١٢).

وهنا سبلهم وكافة المجاهدين (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ، ثم : (أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٦ : ١٥٣). فالمجاهدات والارتياضات غير الموافقة لشرعة القرآن هي كلها هباء وخواء ، قالة أم حالة أم فعالة ، ف «لا قول إلا بعمل ، ولا قول ولا عمل إلا بنية ، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة» وهي سنة الله على ضوء القرآن والسنّة.

١٠٧
١٠٨

سورة الرّوم مكيّة

وآياتها ستّون

١٠٩
١١٠

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ

١١١

يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ)(١٨)

١١٢

سورة «الروم» هي المنقطعة النظير بين سائر السور القرآنية تسمّيا باسم قطر من أقطار الأرض ، في حين لم تسمّ سورة بقطري الوحي القرآني مكة والمدينة ، وعلّ ذلك الإختصاص لملابسة خاصة وقت نزولها تقتضي تلك التسمية ، هي ان غلب الروم الموحدين في أدنى الأرض من المشركين الإيرانيين كان قد قوى ساعد المشركين في الجزيرة أن غلبوا إخوانهم ، وكسر ساعد المسلمين ان غلب إخوانهم من أهل الكتاب ، فليسمّ الروم غالبا ومغلوبا جبرا لذلك الكسر في نفوس المسلمين ، وزيادة تحمل ملحمة غلب الروم على الفرس في بضع سنين.

وليست لتقف السورة ـ بعد ـ على تلك الغلبة الموعودة في حدود ذلك الحادث الجلل ، فانما هو مناسبة وقتية لينطلق بهم فيها إلى آماد أوسع من غلب المسلمين مشركي الجزيرة ، ويا له ولغلب الروم من قران عجيب إذ غلبوا في بدر وهم أذلة ، وغلب معهم الروم بعد تسع من ذلك الوعد على الفرس ، وهم أذلة و (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ).

ويا له من غزير النصر الموعود والمسلمون في مكة مهدّدون مستضعفون ، تتواتر عليهم النوازل السوء في كل الحقول ، وليسوا يعتمدون إلّا على نصر من الله وروح ورضوان!

(الم) ١.

هي الثانية في المكيات الأربع حسب ترتيب التأليف ، والثالثة بعد الأولى منها وهي البقرة المدنية الوحيدة في «الم» والمجموع خمس رمزا إلى ما يعرفه من خوطب بها فانها من مفاتيح كنوز القرآن.

(غُلِبَتِ الرُّومُ ٢ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) ٣.

١١٣

«الأرض» هنا هي أرض الحجاز بقرينة الروم ، وهم قوم كانوا يسكنون ساحل البحر الأبيض المتوسط بالمغرب ، لهم امبراطورية شاسعة إلى اعماق الشامات وهي سوريا والأردن والقدس ولبنان والعراق الحالية.

ف (أَدْنَى الْأَرْضِ) هي الأدنى من الروم الى الحجاز ، فقد غلب الروم في عقر بلادهم بأبعد الأعماق ، أن حلّقت حرب الفرس على الروم كله فغلبت عليهم في أدناها إلى الحجاز وهي أبعدها من الفرس ، مما يدل على آماد الانكسار الشامل كل بلادهم : و «غلبهم» هنا مصدر بمعنى المفعول إذ احتفت ب (غُلِبَتِ الرُّومُ ... سَيَغْلِبُونَ) ، وغلبهم عليهم بعد ما غلبوا ، في أصلها وفي الوقت المحدد (بِضْعِ سِنِينَ) تحمل ملحمتين اثنتين ، أن يقوم هؤلاء المكسورون المحطّمون عن بكرتهم على سوقهم لحدّ سيغلبون كما غلبوا ، وذلك في أقل من عشر سنين وهي التسع الموافي لغلب المسلمين في بدر ، قرانا منقطع النظير في غلب الضعفاء المؤمنين على الأقوياء الأغوياء المشركين ، وهذان لا يلائمان التقويمات العسكرية في نفس الوقت الذي غلبت الروم انهم (سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ).

(فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ٤ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ٥.

«بضع» هي مادون العشرة ، من ثلاثة إلى تسعة ، كما في السنة (١) وفي اللغة ، وهذه نبوءة صادقة بائقة تبشر بتلك الغلبة الفائقة ، يعرف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مداها ، مهما لم يحد في (بِضْعِ سِنِينَ) إلا تقريبا قريبا ، وعلّه كيلا يفاجأ الوحي بتكذيب في عجالة عارمة ، فلقد

__________________

(١) في الدر المنثور ٥ : ١٥١ ـ اخرج في أحاديث عدة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان البضع ما بين الثلاث إلى العشر ، رواه عنه نيار بن مكرم وقتادة.

١١٤

كانت فارس ظاهرة على الروم مما كان يحبه المشركون ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم على الفارس لأنهم اهل كتاب يشاركونهم في التوحيد والايمان الكتابي ، فلما أنزلت (غُلِبَتِ الرُّومُ ..) قالوا ـ فيما قالوا ـ : يا أبا بكر إن صاحبك يقول : ان الروم تظهر على فارس في بضع سنين؟ قال : صدق ، قالوا : هل لك ان نقامرك؟ فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين فمضت السبع ولم يكن شيء ففرح المشركون بذلك فشق على المسلمين فذكر ذلك للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : ما بضع سنين عندكم؟ قالوا : دون العشر ـ قال : اذهب وازدد سنتين في الأجل ، قال فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس (١) وقد غلب المسلمون حينه ببدر ففرح بذلك المؤمنون فرحتين»(٢).

__________________

(٢). المصدر أورد بهذا المضمون أو ما يقرب منه أحاديث عدة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم.

(٣) المصدر ومما أخرجه فيه بهذا الصدد ما عن ابن عباس في الآية قال : قد مضى كان ذلك في أهل فارس والروم وكانت فارس قد غلبتهم ثم غلب الروم بعد ذلك والتقى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع مشركي العرب والتقى الروم مع فارس فنصر الله النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن معه من المسلمين على مشركي العرب ونصر اهل الكتاب على العجم ، قال عطية وسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك فقال : التقينا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومشركي العرب والتقت الروم وفارس فنصرنا على مشركي العرب ونصر أهل الكتاب على المجوس فذلك قوله : ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. وفيه (١٥٢) اخرج ابن جرير عن عكرمة ان الروم وفارس اقتتلوا في ادنى الأرض ـ قال : وادنى الأرض يومئذ أذرعات بها التقوا فهزمت الروم فبلغ ذلك النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يكره ان يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم وفرح الكفار بمكة وشتموا فلقوا اصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا انكم اهل ـ

١١٥

وذلك مما يوحي بترابط وثيق عميق بين الكفر والشر أيا كان وأيان ، وكذلك الترابط بين كتلة التوحيد والايمان.

وهكذا انتبه المؤمنون على عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على ضوء دعوته الشاملة أن ليس الايمان محصورا بحصار زمان أو مكان كما الشرك ، فالكفر ملة واحدة كما الايمان ، فهما خارجان عن كافة الحدود التاريخية والجغرافية والجنسية والقومية أماهيه؟

فالمعركة في صميمها هي معركة الايمان والكفر بين حزب الله وحزب الشيطان أيا كانوا وأيان ، والمسلمون يد واحدة على من سواهم تسعى بذمتهم أدناهم ، دون ان تفصل بينهم حدود الزمان والمكان وسائر الابعاد والألوان ، حيث تجمعهم كلمة التوحيد ، فلهم إذا توحيد الكلمة في كافة الأعصار والأمصار.

وما أحوج المسلمين اليوم أن يدركوا طبيعة المعركة المتواصلة بين الكتلتين ، فلا تلهيهم أعلام مزخرفة زائفة من الضفة الكافرة ، المخيّلة إليهم أنهم أحزاب متفرقة ، فإنهم ككلّ يحاربون الموحدين على العقيدة مهما تنوعت ألوان العلل وقضايا الأسباب.

هنا (يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللهِ) إياهم في الحربين المقارنتين ، كما (بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ) الله «من يشاء» فقد حصل بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حرب المسلمين الفرس فتغلبوا عليهم وهذا من تأويل

__________________

ـ كتاب والنصارى اهل كتاب وقد ظهر إخواننا من اهل فارس على إخوانكم ان قاتلتمونا لنظهرن عليكم فانزل الله (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ) فخرج ابو بكر الى الكفار فقال : فرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ـ إلى آخر القصة ـ».

١١٦

آية النصر (١) ثم نصر متواصل للمسلمين ما قاموا بشرائط الإسلام : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (٣ : ١١١).

(يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) الله فيشاءه الله ، ومن يشاء منهم النصر بتقديم أسبابه فيشاء الله له النصر بأسباب غيبية ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب «الرحيم» بكتلة الايمان القائمة بشرائطه ، فهناك ـ إذا ـ على طول الخط انتصارات متصلة

__________________

(٤) نور الثقلين ٤ : ١٦٨ في روضة الكافي ابن محبوب عن جميل بن صالح عن أبي عبيدة قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الآية فقال : يا أبا عبيدة ان لهذا تأويلا لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العلم من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لما هاجر إلى المدينة واظهر الإسلام كتب الى ملك الروم كتابا وبعث به مع رسوله يدعوه إلى الإسلام وكتب إلى ملك فارس كتابا يدعوه إلى الإسلام وبعثه اليه مع رسوله فاما ملك الروم فعظم كتاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأكرم رسوله واما ملك فارس فانه استخف بكتاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومزقه واستخف برسوله وكان ملك فارس يومئذ يقاتل ملك الروم وكان المسلمون يهوون ان يغلب ملك الروم فارس وكانوا لناحيته أرجى منهم لملك فارس فلما غلب ملك فارس ملك الروم كره ذلك المسلمون واغتموا به فانزل الله بذلك كتابا قرآنا : «الم. غُلِبَتِ الرُّومُ ..» يعني غلبتها فارس في ادنى الأرض وهي الشامات وما حولها و «هم» يعني فارس يغلبهم المسلمون (فِي بِضْعِ سِنِينَ ..) فلما غزى المسلمون فارس وافتتحوها فرح المسلمون بنصر الله عز وجل.

قال : قلت : أليس الله عزّ وجل يقول : في بضع سنين «وقد مضى للمؤمنين سنون كثيرة مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفي امارة أبي بكر وانما غلب المؤمنون فارسا في امارة عمر؟ فقال : الم اقل لك ان لهذا تأويلا وتفسيرا ، والقرآن يا با عبيدة ناسخ ومنسوخ اما تسمع لقول الله عز وجل (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) يعني اليه المشية في القول ان يؤخر ما قدم ويقدم ما أخر في القول الى يوم يحتم القضاء بنزول النصر على المؤمنين وذلك قوله (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) اي يوم يحتم القضاء بالنصر».

١١٧

الجهات ، متشابهة في شروطات حسب القابليات والفاعليات ثم (الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

وعلى أية حال ف (لِلَّهِ الْأَمْرُ) في النصر (مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) لا سواه ، كما

«له الأمر من قبل أن يأمر به وله الأمر من بعد ان يأمر به بما يشاء» (١) تكوينيا أو تشريعيا.

(وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ٦.

(وَعْدَ اللهِ) قد يكون مفعولا مطلقا ل (وَعْدَ اللهِ) ام مفعولا لمثل «صدقوا» وهو على اية حال تأكيد أن : «سيغلبون» وعد من الله محتوم و (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) حيث الخلف ليس إلّا عن جهل أو عجز أو بخل أو ظلم أو نسيان إمّا ذا من نقص فيمن وعد ، والله بريء عن كل ذلك فلا خلف لوعده ، فانه صادر عن علمه وإرادته الطليقة وحكمته العميقة ، قادرا على تحقيقه ، ولا رادّ لإرادته ، ولا معقّب لحكمه ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وعد الله ، ولا أنه لا يخلف الميعاد ، وهم غير المؤمنين بالله ، انهم لا يعلمون كناس منقطعين عن الأيمان ووحيه وعد الله وإنجازه ، فحقا إنهم لا يعلمون ، وإنما :

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ٧.

هنا «يعلمون» بديلا عن «لا يعلمون» إعلان صارخ أن علمهم هذا جهل أمام العلم الحق الحقيق بالإنسان ، ثم هي استثناء عن «لا يعلمون» تستثني ضئيلا من العلم يختص ظاهرا من الحياة الدنيا ، فأصل العلم هو العلم

__________________

(٥). نور الثقلين ٤ : ١٧٠ في الخرائج والجرائح في أعلام الحسن العسكري (عليه السلام) ومنها ما قال أبوها سأل محمد بن صالح أبا محمد (عليه السلام) عن قوله تعالى «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» فقال : ...

١١٨

الإيمان الإيقان بالمبدء والمعاد وما بين المبدء والمعاد ، من الواجب معرفته أخذا من المبدء وحيا وسواه ، وانتهاء إلى المعاد لقاء للرب.

ثم العلم بالحياة الدنيا إذا كان ذريعة إلى الشعور الكامل بزوالها ، ومنظارا للنظر إلى عواقبها ، ومعيارا للعمل الصالح فيها لأخراها ، فهو علم بباطنها إبصارا بها حيث تبصر أصحابها ، دون الإبصار إليها كمنتهى وغاية فانها ـ إذا ـ تعميهم.

هؤلاء الأغبياء إنما (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فقد يعلم باطنها بملكوتها ويركن ـ رغم ذلك العلم ـ إليها ، أو يعلم كل ظواهرها ومظاهرها دون باطنها فأجهل بالحق وأنكى ، ذرهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، ألم يعلموا أن لها مبدء ومعادا؟.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) ٨.

فقضية تكوينهم ان يفكروا كيف كوّنوا ومن كوّنهم ولما ذا؟ وان يتفكروا في أنفسهم ـ دون اقتصار على ظاهر من الحياة الدنيا ـ يتفكروا أنه (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) : بسبب الحق وغايته ومصلحته ومصاحبته ، وإلّا ب (أَجَلٍ مُسَمًّى) حيث الكون بنفسه دليل على ضرورة نهايته كما يدل على بدايته للفقر الذاتي فيه ، «و» لكن (إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) وهم النسناس منهم (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) في ربوبية الجزاء يوم الآخرة «لكافرون» كفرا مصلحا عامدا ، ام تجاهلا وتغافلا.

ويكأنهم منفصلون عن نفوسهم الإنسانية إذ انقطعت عن أنفسها وانجذبت إلى ظاهر من الحياة الدنيا ، فلا تسمح لهم أن يبصروا بها حتى يتبصّروا وإنما يبصرون إليها فيعمهون كل عاقل ذي نفس إنسانية لمّا يسبر

١١٩

أغوار نفسه وهو يرى خلق الكون ، لا بد وأن يرى له غاية مقصودة ترجع إلى الكون نفسه وأنفس نفيسه وهو الإنسان ، فلو لم تكن حياة أخرى بعد الدنيا لكان الخلق لغوا ، ام لغاية جاهلة قاحلة هي الحياة الدنيا! فكيف إذا هم (يَعْلَمُونَ ظاهِراً) دون كل ظواهرها ، ظاهرا من حيونة الحياة ضئيلا زهيدا قليلا هزيلا ، متبهّجين بها ، مخلدين إليها ، متمتعين بها ، مستزيدين متزايدين بشهواتها وزهواتها ، ملتهين بلهواتها ، كأنها هي الحياة لا سواها (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ).

«هم» الثانية هنا تأكيد أنهم لا سواهم غافلون عن الآخرة ، حيث العالم بكل ظواهرها ، والعالم بباطن لها ام كل باطن لها ، لا بد وان يذكر الآخرة المتلمعة منها.

ولأن الغفلة ليست إلّا عن أمر حاصل ، فلا بد أن العلم بالدنيا كما يحق يضم العلم بحق الأخرى ، فالحياة الآخرة علما بها وتحقيقا لها هي من محاصيل الحياة الدنيا ، حيث النظر الصائب إليها يذكّر الناظر الحياة الأخرى ، والعمل الصالح فيها يحضّر حياة الحيوان في الأخرى.

كل ظواهر الحياة الدنيا محدودة معدودة ، فضلا عن (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) مهما بدا لأهلها شاسعا ناصعا ، والآخرة هي الحلقة الأخيرة الدائبة في سلسلة النشآت الحيوية ، فكلما بعدت آماد العلوم والأنظار في هذه الحياة ، طليقة عنها إلى حقيقتها الحاضرة والمستقبلة ، واتسعت الآفاق في تلك المطلّعات والنظرات ، كانت حصيلة العلم بالآخرة أزهى وأضحى ، وأصحابها أبصر بالحق الطليق وأبعد عن العمى ، وعلى حدّ

قول الامام علي (عليه السلام) في وصفها : «من أبصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته».

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

١٢٠